الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

مخيّر في مشيئته الاستقامة كمفوّض إليه أمره (١) ، ولا هو مسيّر في أمره ، وإنما هو بين مشيئتين : من الله ومن نفسه : فمن نفسه : أنه يختار ويشاء الاستقامة بما جعله الله مختارا ، ومن الله ان وفقه للوصول إلى ما يشاء من الاستقامة ، فلو لا توفيق من الله لم تكن مشيئة الإنسان ـ أيا كان ـ لتوصله إلى واقع الاستقامة فالتذكر بذكر القرآن ، ف (اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) و (ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

إلى صراط مستقيم فإذا لم يكن واقع الهداية بمشيئة الرسول ، وإنما له وعليه الدلالة فحسب ، فأولى بمن سواه ألّا يقدروا على واقع الهداية لأنفسهم ، وإنما يملكون ـ هم ـ مشيئة الاهتداء والاستقامة فالذكر ، ثم الرسول دليلهم في مسير الهداية تشريعيا ، ثم الله من وراء القصد يهديهم إلى واقع الهداية تكوينيا ، ف «ما تشاؤون : (تحقق الهداية مشيئة تحقيق توصلكم إلى حق الهداية) إلا ان يشاء الله (أيضا لكم إياها تشريعيا وتكوينيا ، ولأنه) رب العالمين».

إذا فتحقق الاستقامة والهداية ، بحاجة أولا إلى مشيئة من المستقيم تكوينيا ، ثم مشيئة من الله تشريعيا للدلالة على كيفية الاستقامة والهداية ، ثم مشيئة منه

__________________

(١) ويشهد له ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قالوا : الأمر إلينا إن شئنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فهبط جبريل على رسول الله (ص) فقال : كذبوا يا محمد! (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ففرح بذلك رسول الله (ص).

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن القاسم بن محيمر قال : لما نزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل أرى الأمر إلينا فنزلت الآية ، الدر المنثور ٦ ـ ٢٢.

أقول فالآية كما حققناه تعني نفي التفويض في الأمر كما الأولى تدل على نفي الجبر ، فليس إلا أمر بين أمرين.

١٨١

تعالى تكوينيا أن يوفقه ويسهل له الوصول إلى واقع الهداية والاستقامة فلما تحققت المشيئتان الإلهيتان تبعتهما مشيئة العبد الأخيرة الملامسة لواقع الهداية والاستقامة ، وكل هذه نجدها في الآيتين : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) : مشيئة أولى للمستقيم (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : مشيئة ثانية ، وهي مع واقع الهداية والاستقامة ، ومشيئة تشريعية وتكوينية من الله تتوسطان مشيئتي العبد المستقيم ـ إذا ـ فلا جبر في الهداية ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، أمر من الله وأمر من العبد ، لذلك فلتنسب الهداية إلى الله ـ وأحرى له ـ وإلى العبد أيضا لاختياره ، وهذه في الحسنات أن الله يشاء ويدبّر ويوفق : «يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني» ذلك لأن الله تعالى لا يشاء السيئة لا تشريعيا ولا تكوينيا ، وإنما لا يجبر العبد على فعل السيئة ولا على تركها ، وله المشيئة التشريعية ألا يعصى ، فإذا خالف أمر الله وشاء المعصية يذره الله تعالى في طغيانه يعمه وفي غيّه يتردد ، إذ لا جبر في ترك المعصية كما لا جبر في فعلها.

وبما أن المخاطبين هنا هم المستقيمون ، ومن أصدق مصاديقهم هم الرسل والأئمة المعصومون ، لذلك وردت عن الصادقين أنهم هم المعنيون بالآية كما عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال : إن الله جعل قلوب الأئمة موردا لإرادته فإذا شاء الله شيئا شاءوه وهو قوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(١) ،

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٩ ح ٣٠ القمي حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا محمد بن أحمد عن أحمد بن محمد اليساري عن فلان عنه (ع).

١٨٢

وعن أمير المؤمنين علي عليه السّلام : وإن فعل أمنائه فعله كما قال : وما تشاؤون إلا أن يشاء الله (١).

__________________

(١) المصدر ح ٣١ في كتاب الاحتجاج للطبرسي حديث طويل عنه (ع) يذكر فيه جواب بعض الزنادقة عما اعترض به على التنزيل ..

أقول : وهذا استيحاء لطيف إذ يربط مشيئة أمناء الله بمشيئة الله ، وهذه هي العصمة في المشيئة تعصمهم وحتى عن أية مشيئة قبل أن يشاء الله ، المشيئة التشريعية والتكوينية سواء ، وإن كانوا يشاءون دائما الاستقامة والهداية ، ولذلك نجد الله يعصمهم ويهديهم لأفضل درجات الهداية ، وهنا بحث فصل نوافيكم به في طيات التفسير.

١٨٣

سورة الانفطار ـ وآياتها تسعة عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) ..

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) :

علمت نفس ـ بعد قيامة الإماتة بانفطار السماء وانتثار الكواكب وتفجّر البحار ، وبعد قيامة الإحياء ببعثرة القبور ـ علمت نفس ما قدمت وأخرت؟

إن الانفطار هو قبول الفطر ، وأصل الفطر الشق طولا ، وذلك قد يكون على وجه التعمير : (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ..) (٢١ : ٥٦) ، وقد يكون على وجه التدمير : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (١٩ : ٩٠) (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً)(٧٣ : ١٨).

فالأول شق إلى البناء حيث انشقت السماء عن الدخان : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ .. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) كما الثاني شق إلى الغناء : (يَوْمَ

١٨٤

تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) وذلك يوم تدميرها ورجعها إلى ما كانت من دخانها : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) ، وكما شرحناه مسبقا في سورة التكوير والإنشقاق عن كشط السماء وقشطها ، أنها سوف تنمحي عن كيانها السماوي وتنحّى عنها جلدها وتنشق ، فهي يومئذ واهية ووردة كالدهان وتمور مورا وتصبح كالمهل.

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) :

هنا شبهت الكواكب بلآلئ منظومة انخرط سلكها فانتثرت وتفرقت ، إنها تنتثر بعد تماسكها في أفلاكها جارية بسرعات هائلة ، ممسكة في داخل مداراتها ، مرفوعة في أجوائها بعمد لا ترونها : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فثم عمد ولكن لا ترونها ، أعمدة القوة الجاذبية وسواها التي نجهلها حتى اليوم ، فلما ذهبت هذه القوى التي تشدها وتربطها في سماواتها ومداراتها ، ذهبت ـ إذا ـ في الفضاء بددا كما تذهب الذرة التي تنفلت من عقالها.

فهل إنها ـ وكما يزعمها السذج ـ تتناثر على أرضنا؟ كلا ؛ فإن أرضنا ـ وهي من أصغر الكواكب ـ تنتثر معها إلى أعماق الجو وتنطمس وتنمحي وترجع ـ كأمها السماء ـ إلى حالتها الأولى «دخان» * وعلّها ـ ومعها الكائنات كلها ـ ترجع إلى «الماء» * المادة الفردة الأولى.

أجل ـ وإن الكواكب تنتثر كما النجوم تنطمس وتنكدر وتندحر : حادثات جلل تقضي على المملكة السماوية بأمر الملك العلام.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) :

وكما عرفناه مسبقا في التكوير ، سوف يعم البحار ـ كل البحار ـ تفجير يتلوه تسجير ، فتصبح نارا هائجة ملتهبة بالتفجرات ، فالحرارات التي تتحكمها

١٨٥

فترجعها إلى ما بدأت ، رجعا إلى النار وإلى المادة الفردة ، وكما جاء عن الصادق عليه السّلام : «تتحول البحار التي حول الدنيا كلها نيرانا» (١).

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) :

وهذه قيامة الإحياء ، تبعثر القبور وتخرج الأجساد من الأجداث : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) (٧٠ : ٤٣) (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣٦ : ٥١).

ولنعرف هنا ما هي القبور وبعثرتها؟ إن القبور هي مخابئ الأبدان وأجداثها ، فالقبر ـ لغويا ـ مقر الميت أيا كان : جوف البر أو البحر ، في جسد حيوان يأكل إنسانا ، أم في جدث التراب ، أم على وجه الأرض ، أم أيّا من الأماكن ، فإن الأبدان لا تضل عن علم الله كما الأرواح لا تضل ، مهما ضلت عن علمنا.

و «بعثر» كلمة مركبة من «بعث أثير» وآيته أنها تشمل المعنيين : فبإثارة القبور تبعث ما في القبور ، إثارة القبور وما في القبور ، دون أن يضل شيء من الأجزاء الأصيلة لكل جسد وفي كل جدث : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١٠ ـ ١١) ترجعون إلى من : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (٣٤ : ٣).

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) :

علمت نفس : خيّرة أم شريرة ـ دون استثناء ـ علمت علما شاملا كما الجزاء هناك كامل ، علمت بعد جهل تام يوم الدنيا ، وبعد علم غير تام يوم البرزخ ، كما

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٤ ح ٦.

١٨٦

الجزاء هناك برزخي دون تمام ، فالبرزخ برزخ من كافة الجهات ، ومنها العلم بحقيقة الأعمال كالجزاء بالأعمال .. فما هو المقدم من الأعمال والعقائد والأقوال وما هو المؤخر؟

من الثابت قرآنيا أن كتاب الأعمال لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (٧٥ : ١٤) فالمقدّم أيّا كان والمؤخر أيا كان ، إنهما سوف يحضران يوم القيامة وفي موقف الحساب ، دون مغادرة لشيء منهما ولا مثقال ذرة إلا أتى الله بها وكفى به حفيظا وحاسبا.

علمت نفس ما قدّمت : من الأعمال المنقطعة غير المستمرة خيرا أو شرا ، وما أخرت مما له استمرار يؤثر ، من خير أو شر ، فالثاني من الآثار والأول مقدم وكلاهما مكتوبان يحضران يوم القيامة : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٣٦ : ١٢) فالأعمال وإن كانت كلها مقدمة ليوم الحساب ، إلا أن البعض منها مؤخرة أيضا بعد ما قدّمت ، تبقى دائبة تقدّم دوما ما دامت سنّة يعمل بها طوال زمن التكليف ، سنّة حسنة أو سيئة ، فللعامل المبدع المبتدئ نصيب مما عملوا بها ولا ينقص أولئك من أجورهم في الحسنات ، ولا من أوزارهم في السيئات ، وكما نجدها أصلا ثابتا في الآيات وفي الروايات المأثورة عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة من أهل بيته الكرام عليهم السلام وفي تفسير هذه الآية بالذات (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٠ عن المجمع : جاء في الحديث أن سائلا قام على عهد النبي (ص) فسأل فسكت القوم ، ثم أن رجلا أعطاه فأعطاه القوم ، فقال النبي (ص) : من استن خيرا فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقص من أجورهم ، ومن استن شرا فاستن فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقص من أوزارهم ، قال : فتلا حذيفة بن اليمان (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ..).

أقول : وفي الدر المنثور ٦ : ٣٢٢ ، أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة عنه (ص) من قوله «من استن ـ إلى ـ وأخرت ..» وهي من المتواتر معنويا.

١٨٧

و : علمت نفس ما قدمت من خير وما أخرت من شر ، فإن الخير تقدّم للإنسان والشر تؤخر ، كما ويشير إليه القرآن : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) (٢ : ٢٢٣) (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٧٨ : ٤٠) (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى. يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٨٩ : ٢٤) ، (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ. نَذِيراً لِلْبَشَرِ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٧٤ : ٢٩ ـ ٣١) : تقدّم في الحياة بتقديم الصالحات ، وتأخر عن الحياة تأخرا عن الصالحات وتورّطا في الطالحات ، فالحري للإنسان كإنسان ، والذي يحيى يوم الحساب للحساب ، حري له أن يقدم لحياته الأخرى من الصالحات ، فإن الطالحات تسبّب التأخر عن الحياة السعيدة ، وإن كانت الأعمال كلها ـ خيرها وشرها ـ تقدم ليوم الحساب ، ف (لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (٥٩ : ١٨).

والآية : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) تتحمل المعنيين ، أن الإنسان سوف يعلم خيره وشره ، ما قدمه وأثاره (١).

وهناك نفوس قدسية علمت حقائق أعمالها قبل موتها وقبل قيامتها ، هي

نفوس المعصومين ، فلا تشملهم «نفس»

لأنها منكرة لا تستغرق النفوس ،

وعلها ـ أيضا ـ تشير بتنكيرها إلى النفوس العادية غير البالغة درجة العصمة ، فها هو أمير المؤمنين علي عليه السّلام يقول : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا»!

__________________

(١) كما أخرج الدر المنثور عن عكرمة وقتادة ومجاهد ، قولهم في الآية : ما أدت إلى الله مما أمرها به وما ضيعت (٦ : ٣٢٢).

١٨٨

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)(٦)

خطاب جميل جليل يهز الإنسان في كيانه الإنساني إذ يستيقظ إنسانيته ، ويحرض وجدانه وشعوره ، ويدخل من قلبه شغافه ، وينبّهه أنه كإنسان ، لا يحق له الغرور بربه الكريم ، فما الذي يغره بربه ويلهيه عن خالقه؟!

يقول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «غره جهله» (١) ، ويشرحه عليّ عليه السّلام : «أدحض مسئول حجة ، وأقطع مغتر معذرة ، لقد أبرح جهالة بنفسه إياه ، يا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك وما غرك بربك ، وما آنسك بهلكة نفسك ، أما من دائك بلول ، أم ليس من نومتك يقظة ، أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك ، فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظله ، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له ، فما صبرك على دائك ، وجلدك على مصابك ، وعزاك عن البكاء على نفسك وهي أعز الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة ، وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته» (٢).

أجل ، وإن جهله وجهالته بربه يغره به ، أن يحسب نفسه كأنه يستقل عن الله أم يترفع عنه أو يفسق عن طاعته.

ومن الجهل غرور بعض الناس بكرم الله ، قائلين : ـ حينما يسأل أحدهم عما قصر ـ «الله كريم»! جاهلين أو متجاهلين أنه كريم عادل ، ومن عدله ثواب الصالحين وعذاب الطالحين : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) .. فأي فرق بين من يعصيه ناكرا كرمه ، ومن يعصيه جاهلا

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٣ ، أخرجه عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال : بلغني أن النبي (ص) تلا هذه الآية (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ثم قال : جهله.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٢١ ، عن نهج البلاغة.

١٨٩

موقفه في كرمه؟ فكلاهما غرور بالرب الكريم! أجل وكما سبق عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم «غره جهله» : بكرم الرب أو بمقام الكرم.

إن واقع الكرم الربوبي ، الذي نلمسه ونعيشه دائبا ، إنه يستتبع العلم به ، وهو يقتضي العلم بموقف الكرم هنا وفي الآخرة ، ففي الأولى وسعت رحمته كلّ شيء ، وفي الآخرة يصيب بعذابه الناكبين عن صراطه المستقيم ، وهو أيضا من عدله ومن رحمته لمن يستحقها : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (٧ : ١٥٦).

فكرمه ورحمته الواسعة يوم الدنيا يدفع العقلاء النابهين إلى طاعته وشكره ، ورحمته المكتوبة يوم الآخرة للمتقين تمنعهم عن التورط في عصيانه وحرماته ، وكرمه للعاصين يحرضهم على التوبة والإنابة إليه ، وألّا يعتبروا عصيانه غنما لموقف كرمه ، ولا سيما في المعاصي الكبيرة التي لا تكفّر : (.. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) ..

فإنما الغرور بالرب ، الدافع إلى التساهل في طاعة الله ، وإلى التورط في حرمات الله ، هذا الغرور ليس إلّا بدافع الجهل بكرمه والجهل بمعنى كرمه وموقفه تعالى في كرمه ورحمته : (.. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٢٧ : ٤٠) إذا فليس يقتضي كرمه العفو عمن كفر ، فإنما يراد هنا أنه لا تضره معصية من عصاه كما لا تنفعه طاعة من أطاعه ، إنه غني كريم.

إن أوّل الكرم الرباني للإنسان هو إنسانيته (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم ، في بنيته وروحه ومهيئاته للبلوغ إلى ذروة الكمال.

١٩٠

فهذا الخطاب المنبّه العتاب ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه : «إنسانيته» المتجلي فيها كرمه وتكريمه : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١٧ : ٧٠).

فما هذا الغرور بربك الذي أغدق عليك من كرمه هذا الإغداق ، وأغلق عليك أبواب الجهل والغرور هكذا إغلاق ، بما بصرك في فطرتك وعقلك وأنبيائه وبيناته!

وهناك مغريات ومغرّات عدة منبثقة كلها عن الجهل والجهالة بالله ، وأما العلماء بالله فلا يغترون بما يغترّ به الجاهلون : من غرور الأماني : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥٧ : ١٤) ومن الحياة الدنيا : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) (٤٥ : ٣٥) .. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣١ : ٣٣) .. ومن الافتراء بالله : (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣ : ٢٤) .. افتراء الظلم : أنه كريم بالمتخلفين المتورطين في اللامبالاة ، وافتراء الكذب : أنه لا يدخلهم النار بل ويجمعهم مع الأبرار .. ومن تقلّب الذين كفروا في البلاد : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (٣ : ١٩٧).

فهذه المغيرات المغريات المغرّات من الأماني والغرور ومن الحياة الدنيا وقول الزور على الله ومن تقلّب الذين كفروا في البلاد .. هذه وأمثالها لا تغرّ وتغري إلّا الجاهلين بالله ، وعلى حدّ قول الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم : «غره جهله».

فالغرّة هي الجهالة والغفلة ، يقال : غررت فلانا ، أي أصبت غرّته ، ولا يؤتى الإنسان ويصاب إلا من غرّته وغفوته وغفلته عن الله ، وعلى حد قول الإمام الصادق عليه السّلام : «من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع ومن كان

١٩١

غافلا عنه فهو عاص ، والطاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضلالة وأصلها من الذكر والغفلة (١).

فالغرور هو كلما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وأماني وضلال ، وسمي الشيطان غرورا لكثرة ما يغر الإنسان ..

ثم الخطاب نفسه يدلنا أن المخاطبين هم المغرورون المكذبون بالدين من سائر العصاة غير الآئبين وغير التائبين ..

* * *

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)(٨)

إشارة عابرة إلى الكرم المعطوف في إنسانيته ، في خلقه وتسويته وعدله وتركيبه في الصورة الإنسانية الجميلة صورة وسيرة ، علانية وسرا ، وهو في هذه المراحل مخلوق في أحسن تقويم في جسمه وروحه.

خلق وتسوية وتعديل ، كل تلو الآخر ، وإلى تركيبه في صورة إنسانية بمختلف الأشكال والأجناس والحالات على وحدة الصورة الإنسانية فيما به الإنسان إنسان.

ولقد كرّمنا ربنا وأكرم بنا في هذه المنازل كلها ، آخذا بنا من النقص إلى الكمال والأكمل (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

فما هي التسوية بعد الخلق؟ وما هو التعديل

بعد التسوية ، ثم ما هو التركيب في الصورة المقصودة؟

نقول إن تسوية الإنسان هي تكملة الناحية الجسدانية ولكي تصلح لقبول

__________________

(١) مصباح الشريعة أحسن كتاب في المعارف والأخلاق ينسب إلى الامام الصادق (ع).

١٩٢

الروح الإنسانية : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٣٢ : ٧ ـ ٩) (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (١٨ : ٣٧) (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٧٥ : ٣٧ ـ ٣٩) (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٨٤ : ٢) (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٩١ : ٧ ـ ٨).

نستوحي من هذه الآيات البينات أن الخلق هو تكملة الجسم ، وتسويته هي تهيئته لكي يقبل الخلق الآخر وهو الروح ، فخلقه يعم مراتب التكامل الجنيني كلها : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢٣ : ١٢ ـ ١٤) فهذا الخلق الآخر عله تسويته بعد ما سواه جسدانيا ، لقبول هذه التسوية الروحانية.

وأما عدله فعلّه تعديل قواه في الناحيتين الجسدانية والروحية ، كلا بالنسبة لزميله ، أو قرينه ، أو البيئة المنفصلة عنهما ، سواء داخل الرحم أم خارجه ، فهذه الحالات الخمس بحاجة إلى تعديل لكي يصلح الإنسان الجنين أم سواه للحياة وإدمانها :

١ ـ فما لم تتناسب قوى الإنسان وأعضائه لم تتناصر في كيانه الواحد ، ٢ ـ وما لم تتلاءم الطاقات الروحية لم يك بالإمكان أن تتوحد فتوحّد الحياة صالحة ، ٣ ـ وما لم تتوافق جنود الروح والجسم لا تشكل إنسانا واحدا ، ٤ ـ وما لم تلائم حيوية الجنين فضاء الرحم لم تستقم الحياة هناك ، ٥ ـ وما لم تتناسب هذه الكيانات الموحدة الحياة الخارجية استحالت الحياة وإدمانها بعد الولادة .. فهذه كلها تعديلات لجزأي الإنسان بعد الخلق والتسوية.

١٩٣

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) .. إنها ليست صورة ركّبنا فيها ربنا بعد الخلق والتسوية والعدل فحسب ، إذ لم يفرّعها على الثلاثة الأول ، فالنص «في» * لا «ففي» * وعلّ الصورة تشمل صورة الحياة بعد الولادة ، فإن المدبّر الحكيم يفيض علينا الصور الحياتية كما نرسمها ويشاء (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) صورة اختيارية لنا.

كما وتشمل الصور الجنينية الجسدانية والعقلية ، التي يفيضها الله تعالى على الجنين دون اختيار من الجنين ، من ذكورة وأنوثة ، وجمال وقبح ، ونقص وكمال ومن مختلف الألوان والبنى والقوى ، ومن عقلية قوية ومتوسطة ودانية ، أو جنون وخبل ومن .. كل ذلك حسب الحكمة العالية ووفق مقتضيات الوراثة جسميا وروحيا (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وقد يركز الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم تفسيره للآية حول اختلاف الصور ، على الوراثة (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٣ ، أخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن شاهين وابن قانع والطبراني وابن مردويه من طريق موسى بن علي بن رياح عن أبيه عن جده أن النبي (ص) قال له : ما ولدك؟ قال : يا رسول الله (ص) ما عسى أن يولد لي ، إما غلام وإما جارية ، قال : فمن يشبه؟ قال : يا رسول الله (ص) ما عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه ، فقال النبي (ص) عندها : «مه» * لا تقولن هذا ، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضر الله كل نسب بينها وبين آدم فركب خلقه في صورة من تلك الصور ، أما قرأت هذه الآية في كتاب الله (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) من نسلك ما بينك وبين آدم.

ورواه مجمع البيان عن الامام الرضا (ع) عن آبائه عن النبي (ص) باختلاف يسير.

وفي الدر أيضا : أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه بسند جيد والبيهقي في الأسماء والصفات عن مالك بن حويرث قال : قال رسول الله (ص) : إذا أراد الله أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعصب منها ، فإذا كان اليوم السابع أحضر الله كل عرق بينه وبين آدم ، ثم قرأ (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ).

وفيه أخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن بريدة أن رجلا من الأنصار ولدت له امرأته غلاما أسود ، فأخذ بيد امرأته فأتى بها رسول الله (ص) فقالت : والذي بعثك بالحق لقد تزوجني بكرا وما أقعدت مقعده أحدا ، فقال رسول الله (ص) : صدقت إن لك تسعة وتسعين عرقا وله مثل ذلك ، فإذا كان حين الولد اضطربت العروق كلها ليس منها عرق إلا يسأل الله أن يجعل الشبه له.

١٩٤

إن الرب الكريم يركبنا في صورة من هذه وتلك ، ما شاء من حالة وقوة وما إلى ذلك ، فالصورة هي البنية التي تميل بالتأليف إلى ممايلة الحكاية ، وهي من «صاره» إذا ماله .. فهي تعم صور الخلق والتسوية والتعديل أولا ، وصور الحياة أخيرا.

والتركيب تخليط ، والإنسان خليط منذ البداية إلى النهاية ، فإن نطفته أمشاج : أخلاط (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٧٦ : ٢).

(ما شاءَ رَكَّبَكَ) تركيب أجزاء الجسم بعضها ببعض ، وتركيبه بالروح كالعكس ، وتركيب أجزاء الروح.

فكيان الإنسان هو مشيئة الله وكرمه ، فما هذا الذي يغره بربه الكريم؟ إن خلق الإنسان في صورته الإنسانية ـ أيا كانت ـ السوية المعدلة الجميلة (١) لمما يفرض عليه كإنسان أن يفكر فيه طويلا فيزداد شكرا لربه الكريم ، فقد كان له أن يركبه في صورة مشوهة وسيرة لئيمة ولكنه ما فعل ، وكما عن الصادق عليه السّلام : «لو شاء ركبك على غير هذه الصورة» (٢).

إن دراسات علم الأعضاء والأجزاء والدراسات المعمقة في بيئات الأرواح ، إنها تعجز أن توصل الإنسان إلى جزء من مليارات الدقائق في خلقه وتسويته وتعديله ، التي ندرسها في طيات الآيات التي توحيها لنا.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٢ ، في أمالى الشيخ الطوسي باسناده إلى أبي جعفر الباقر (ع) إن النبي (ص) قال لعلي (ع) قل : ما أول نعمة أبلاك الله عز وجل وأنعم عليك بها؟ قال : أن خلقني جل ثناؤه ولم أك شيئا مذكورا ، قال : صدقت ـ إلى قوله ـ فما الثالثة؟ قال : أنشأني فله الحمد في أحسن صورة وأعدل تركيب ، قال : صدقت.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٢٢.

١٩٥

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)(٩)

إن دافع الغرور ـ الأصيل ـ هو الجهالة ، وأجهل الجهالة هو التكذيب بالدين : بطاعة الله والجزاء عليها ، تكذيبا عقيديا أو عمليا ، فقد تتخذون كرمه تعالى ذريعة إلى اللامبالاة بشأن الطاعة ، وهذا تجاهل عن معنى كرمه ومداه ومورده ، وهذا تكذيب بالجزاء العدل الوفاق يوم الجزاء ، ومن لا يفرق بين المسلمين والمجرمين ليس كريما ، وإنه لئيم ظلوم : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (٣٨ : ٣٦) وذلك في معنى تركه تعالى الإنسان سدى هملا ، رغم كرمه بخلقه وعنايته بهم في البداية ، فكيف يتركهم سدى في النهاية : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٧٥ : ٣٦) (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (٢٣ : ١١٥) (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨ : ٢٧).

فالتمسك بكرمه تعالى في عفوه عن المفسدين المجرمين تكذيب بالدين كل الدين : بالدين العقيدة : أنه تعالى ظلوم يلعب بخلقه ، ويعبث بهم ويتركهم سدى عملا ، وبالدين الجزاء : أنه يسوي بين المجرمين والمسلمين إما جهلا أو ظلما أو خلفا لوعده أو خوفا أو لؤما أو ما إلى ذلك من نكران الحق في الله أو نكران الإله الحق وتكذيبه في واقعه وأقواله ووعوده.

إنه ليس التكذيب بالحياة بعد الموت فقط ، بالذي يغر المغرورين ، إنما التكذيب بالجزاء الوفاق يوم الدين ، والتكذيب بما يتطلبه الجزاء الوفاق من صفات الله الحسنى ، أو التكذيب بالله ووعوده ، كل ذلك يغر الإنسان وكما تغره الرحمة الإلهية اللانهائية والشفاعة والمغفرة ، وأخيرا أنه تعالى ليس بحاجة إلى تعذيب العاصين.

فالتصديق بالإله الحق وصفاته الحسنى ، وبالجزاء الحق ، والعرفان بحدود

١٩٦

الشفاعة والغفران ، والتبصّر إلى المعرفة الحقة في أمور الدين ، كل ذلك يصد الإنسان عن الغرور بربه الكريم.

فما يكذب القلب بالحساب العدل ومتطلباته ثم يستقيم على هدى ولا خير وطاعة.

إن ناكر الحساب العدل والجزاء الوفاق لا يندفع إلى أدب ولا طاعة ، ولا يهتدي إلى نور أو كتاب منير ، ولا يستيقظ فيه ضمير ، حتى يعقل الدين عقل وعاية ورعاية كما هو الدين ، وكما ينطق به القرآن المبين ، ودراسة حدود العفو والغفران وظروفهما ، وحدود الشفاعة وتكفير السيئات ، نجدها في طيات الآيات التي توحي لها فصلا واضحا.

* * *

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(١٢)

كما أن الرب الكريم لم يخلقكم لعبا وهملا في بدايتكم وغايتكم ، كذلك لم يترككم وأعمالكم هملا وسدى عابثين ، فقد بعث عليكم حافظين من الملائكة والنبيين ، يحفظونكم من أمر الله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ..) (١٣ : ١١) حفظا صادرا من أمر الله ، حفظا لنفسه عن دوافع الموت والدمار ، وحفظا على أعماله ، رسلا من الله للحفاظ والحفظ الحق : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦ : ٦١) : يحفظونكم وأعمالكم ثم يتوفونكم بأجسادكم وأرواحكم وأعمالكم دون تفريط ولا مثقال ذرة.

إنّ الحافظين قد يكونون لئاما جاهلين فلا يؤبه بحفظهم ، ولا يرسل ربنا

١٩٧

هكذا حافظين ، وإنما يبعث كراما كاتبين عالمين لا تخفى عليهم خافية ولا يعزب عنهم عازب.

إن الأوصاف المسرودة للحافظين هنا تثير في قلوب الناس إحساس الخجل والتجمل بحضرتهم ، إنهم كرام يعلمون كلّ شيء من ظاهر الإنسان وخافيه ، وإنهم كاتبون فلا ينسون ، إذا فالأعمال تبقى ليوم الحساب لتشهد بواقعها في موقف الحساب.

وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «.. فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم ..» (١).

وعلى حدّ قول حفيده الإمام الصادق عليه السّلام في شأن الملائكة الموكلين : «استعبدهم على خلقه ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة وعن معصيته أشد انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصيته فذكر مكانها فارعوى وكف فيقول : ربي يراني وحفظتي علي بذلك تشهد ، وإن الله برأفته ولطفه وكلهم بعباده يذبون عنه مردة الشياطين وهو ام الأرض وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله إلى أن يجيء أمر الله»(٢).

(كِراماً كاتِبِينَ) : والكتابة هي الثبت ، واللائق برسل الله الحافظين ، واللائق بحضرة الربوبية ، واللائق لإثبات الحجة يوم الحساب ، ان يكون ثبت الأعمال كأثبت ما يمكن وأبقاه ، وهو ثبوت الأعمال بأقوالها وأفعالها ، بأصواتها وصورها ، تسجيلها في مسجلات خواطرهم المقدسة ، ومسجلات أعضاء العاملين ،

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٣ ، أخرجه البزاز عن ابن عباس.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٢٢ في الاحتجاج للطبرسي يسأل السائل أبا عبد الله الصادق (ع): ما علة الملكين الموكلين بعباده يكتبون ما عليهم ولهم والله عالم السر وما هو أخفى؟ قال : ..

١٩٨

ومسجلة الأرض وفضائصها ، وأمثالها من مسجلات عارفة عالمة أو سواها (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها).

هذه هي كتابة الأعمال كما يشهد بها الاعتبار وتشهد بها الآيات والروايات ، لا نقش الحبر على الورق إذ لا حجة فيه ، وكما عن الإمام موسى الكاظم عليه السّلام : «.. فإذا فعلها (الحسنة) كان لسانه قلمه وريقه مداده وأثبتها له ..» (١).

أجل ، وإنه كتاب ورقه اللسان القائل ، والأعضاء العاملة ، وريقه نفس القول والعمل ، والكرام الكاتبون ـ الحفظة منهم ـ الملائكة الموكلون بالمكلفين ، يحفظونه من أمر الله ويحفظون له وعليه أعماله بإذن الله.

* * *

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٤ ، أصول الكافي باسناده إلى عبد الله بن موسى بن جعفر عن أبيه (ع) قال : سألته عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة ، فقال (ع) : ريح الكنيف والطيب سواء. قلت : لا ، قال : إن العبد إذا هم بالحسنة خرج نفسه طيب الريح ، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنه قد هم بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده وأثبتها له ، وإذا هم بالسيئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : قف فإنه قد هم بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده وأثبتها عليه.

١٩٩

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) :

لا بعد الموت فحسب ، بل ومنذ كونهم أبرارا ، فإن البرّ هو النعيم بذاته ، لنفسه ولمجتمعه ، مهما كان بروز نعيمه بحقيقته يوم القيامة الكبرى ، فلفظ الآية (لَفِي نَعِيمٍ) يوحي ظرفا فعليا مستمرا لنعيمهم ، لا «سوف ينعمون» لكي يختص نعيمهم بالمستقبل ، فهم نعيم وفي نعيم ، حاضرا ومستقبلا وغابرا ، ما داموا أبرارا.

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) :

كما (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) ما داموا فجارا ، فهم جحيم : نار شديدة التأجج ، يوم الدنيا ويوم الدين ، هم وقود نيران الخلافات والعداءات والويلات يوم الدنيا ـ وعلى أثره ـ هم وقود الجحيم يوم الدين ، يصلون الجحيم بأفكارهم وأعمالهم وذواتهم ، فما الصلي إلا وقودا ، وليس كل أصحاب الجحيم وقودا لها : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٩٢ : ١٥ ـ ١٧).

فهنا شقي وهنا أشقى ، ولا يصلى النار إلا الأشقى ، وإن كان يدخلها كلّ من الشقي والأشقى ، فالأشقى صلاء ووقود ، والشقي يحرق به ، وقد يجنّبها بعد ما ذاق جزاءه الوفاق.

فالصلي هنا ليس دخولا في النار كما يزعم ، وإنما هو إيقاد ، كما الاصطلاء هو الاستيقاد : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٨ : ٢٩).

لذلك لا نرى صلي الجحيم ـ حسب القرآن ـ إلّا للأشقين

٢٠٠