الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

والحل أن الألف هنا ألف عام وخاص يكافح التاريخ بأكمله ، بخيره وشره ، فهي الألف : الكثرة الكثيرة من الزمن التي حدثت فيها خيرات التاريخ بأجمعها ، فحدث هذه الليلة المباركة يربو عليها بأسرها.

وهي أيضا الألف التي حكم فيها بنو أمية ضد الإسلام بكل الطاقات والإمكانيات ، فما استطاعوا أن يزيلوا الأثر الهام الثابت في ليلة القدر : شريعة القرآن ودعوته.

إن زمن الحكم الأموي هو أشرّ الأزمنة التي مرت على التاريخ الإسلامي ، والتي تستقبل الإسلام إلى يوم القيامة ، وإذا كانت الطغمة الحاكمة الأموية لا تستطيع القضاء على ليلة القدر ، على القرآن النازل فيه ، وعلى نبي القرآن ودعوته ، فأحرى ألا تستطيع الطغم الحاكمة الأخرى أن تمس من كرامتها ، إلا جولات دعائية وادعائية ، فإن للحق دولة وللباطل جولة (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).

إن قوة الدعوة القرآنية أكثر بكثير من القوات المضادة ، طالما الكفر يكرس كافة طاقاته وإمكانياته ، لكنه لا يملك شيئا مما يملكه الحق من براهين ومن دوافع الخلود وسناد الخلود.

ورواياتنا متضافرة بين الفريقين في خيريّة هذه الليلة بالمعنيين عن النبي الأقدس (ص) وأئمة أهل بيته الكرام (ع) (١).

__________________

(١) ففي المعني الأول : أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال ذكر رسول الله (ص) يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقل بن العجرز ويوشع بن نون. فعجب رسول الله (ص) من ذلك فأتاه جبريل فقال يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله خيرا من ذلك فقرء عليه سورة القدر قائلا. هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك فسر بذلك رسول الله (ص) والناس معه» (الدر المنثور ج ص ٣٨١). ومن طريق أصحابنا مثله كما في نور الثقلين ح ١٦ و ٤٥ عنه (ص) ـ

٣٨١

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) :

.. الملائكة ـ كل الملائكة ـ دون استثناء ، لمكان «ال» * الاستغراق ، فإن الجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق.

والروح هو عظيم الملائكة وزعيمهم وليس منهم بدليل المقابلة ، وتخصيصه بالذكر من بين العموم بحاجة إلى دليل ، وقد يتأيد ويؤيده نظرات أهل الوحي والعصمة المحمدية (ع) (١).

__________________

ـ أقول : وهكذا كل أحداث التاريخ ـ الجليلة الخيرة ـ فليلة القدر خير منها ، والألف هنا إشارة إلى حده لبيان بعض المصاديق كما في الحديث ، واشارة إلى زمن الخير كله دون حد.

وفي المعنى الثاني أخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس قال رأى رسول الله (ص) بني أمية على منبره فساءه ذلك فأوحى الله إليه : انما هو ملك بصيبونه ونزلت : إنا أنزلناه .. وأخرجه أيضا عن ابن المسيب مثله ، وأخرجه الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن يوسف بن مازن الرواسي عن الامام الحسن (ع) مثله بزيادات منها : من ألف شهر يملكها بنو أمية يا محمد! قال القاسم فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما (المصدر) وفي المستفيض من طريق أصحابنا مع تفاصيل أخرى كما في ح ٤٢ و ٤٣ عن الامام الصادق (ع) عنه (ص) وح ٤٤ عن علي (ع) عنه (ص) وح ٤٥ عنه (ص) وح ٤٦ عن الامام الحسن المجتبي (ع) عنه (ص).

(١) أبو بصير قال قلت للإمام جعفر الصادق (ع) : جعلت فداك الروح ليس هو جبرائيل؟ قال : الروح أعظم من جبرائيل ، ان جبرائيل من الملائكة ، وإن الروح هو خلق أعظم من الملائكة ، أليس يقول الله تبارك وتعالى : تنزل الملائكة والروح؟ (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٣٨ ح ١٠٤).

وعن الامام الباقر (ع) مثله كما في ح ١١٠ ـ المصدر ، وعن الصادق (ع) مثله كما في تفسير البرهان ح ٤ ص ٤٨١ ح ١ ويلمح إليه ح ١٠٨ ج ٥ نور الثقلين ص ٦٣٩. وفيه : يستوجب الامام زيادة الروح ليلة القدر ، ويلوح أن الروح هذه روح قدسية منفصلة عن الملائكة وسائر المعصومين ، وهي تفاض عليهم بإذن ربهم ليالي القدر.

٣٨٢

وهذا هو الروح القائم مع الملائكة يوم القيامة أيضا : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٧٨ : ٣٨) (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٧٠ : ٤).

واعتبار أن الروح هو ما به الحياة ، نستوحي أن الروح هذا من به حياة ملائكية الملائكة ، على أنهم أيضا أرواح ، وفيهم من سمي روحا ـ لا مطلقا ـ وإنما : (بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢ : ٨٧ و ٢٥٣ و ٥ : ١١٠) و (رُوحٌ مِنْهُ) (٤ : ١٧١) و (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) (٤٠ : ١٥ و ١٦ : ٢) و (الرُّوحُ الْأَمِينُ) (٦ : ١٩٣) و (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٤٢ : ٥٢).

هذه هي الأرواح المذكورة في القرآن ، بين ما هو روح القدس النازل على النبيين ، وما هو الوحي النازل عليهم ، ومن هو ملك الوحي : جبرائيل أم أعوانه.

ولم يذكر الروح دون قيد في القرآن إلا ثلاثا فيمن قوبل به الملائكة ، وهو روح الملائكة وزعيمهم ، وإلا مرة واحدة كذلك في الروح القدسية المحمدية : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٨٥).

من هنا وهناك نستوحي الوفاق بين الروحين ، النازل والمنزل عليه ، فالروح النازل هو روح الملائكة ، والمنزل عليه هو روح النبيين ، الروح القدسية المحمدية ، روح محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في وحي القرآن ليله ، وفي نزول كل أمر طوال البعثة ، وأرواح محمدية بعد ارتحاله إلى جوار رحمة ربه ، أرواح المعصومين من عترته ، الحاملين روحه القدسية وعصمته الإلهية.

ونستوحي استمرارية ليلة القدر من قوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) دون «تنزل» * فالفعل مضارع يدل على استمرارية نزول الملائكة والروح ، إذا فليلة القدر بهذا الاعتبار مستمرة طوال الزمن ومنذ البعثة ، وإن كانت

٣٨٣

باعتبار نزول القرآن ليلة واحدة بداية البعثة ، أو كانت ثلاثة وعشرين ليلة طوال البعثة بالاعتبارين ، لكنها مستمرة بنزول الملائكة والروح ، وعلى حد تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : هي إلى يوم القيامة (١).

فهل تتنزل الملائكة والروح من كلّ أمر على بقاع الأرض ، كلا ، إنما على قلب واع ، قلب محمد أو قلب محمدي لا سواه ، قلب واع مّا يتنزل عليه من كل أمر ، لا القلوب المقلوبة ، أو غير المستعدة لهكذا نزول هامّ في كل سنة.

إنها القلوب الطاهرة من أهل بيت العصمة المحمدية ، محمد أم سواه ، ممن رعاهم

__________________

(١) في مجمع البيان : جاءت الرواية عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله (ص)؟ ليلة القدر هي شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل فيها فإذا قبضوا رفعت؟ قال (ص) : لا بل هي إلى يوم القيامة (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٢٠).

وأخرج أبو داود والطبراني عن ابن عمر قال سئل رسول الله (ص) وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال : هي في كل رمضان ، ومثله ما أخرجه محمد بن نصر عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب أم هي في كل عام فقال : بل هي لامة محمد ما بقي منهم اثنان. (الدر المنثور ج ٦ ص ٣٧١).

وما رواه أبو جعفر الجواد (ع) «أن أمير المؤمنين علي (ع) قال لابن عباس أن ليلة القدر في كل سنة وأنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله (ص) فقال ابن عباس : من هم؟ قال : أنا وأحد عشر من صلبي» وعن أبي جعفر الباقر (ع) مثله (ح ٤٠) وعن الامام الصادق (ع) في استنكار رفعها : لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن (ح ٤١). أقول : لأن الأمور النازلة ليلة القدر هي شروح لما أجمل في القرآن.

وفي أحاديث عدة أنها منذ بداية الخلق إلى يوم القيامة ، وتعني بداية خلقة المكلفين أو لعله أعم ـ تأمل.

٣٨٤

ورباهم بالوحي ، من علي أمير المؤمنين عليه السّلام إلى المهدي القائم محمد بن الحسن العسكري عليهم أزكى التحية والسلام (١).

وبهذه المنزلة السامية تصبح سورة القدر حاكية عن منزلة أهل بيت العصمة المحمدية ، وهي نسبتهم الروحانية ما أعلاها.

(.. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) :

من كل أمر : بعضا من كل الأوامر والأمور ، لا كلّها ، فمن الأمور والأوامر ما هي مختصة بالله تعالى ، ومنها ما يتنزل على الناس أجمع ، ومنها ما لا يتنزّل إلا على المعصومين الطاهرين ، قادة العباد وساسة البلاد وأركان الإيمان وأمناء الرحمان.

فالنازل على العباد ليس إلّا من بعض أمر ، لا من كل أمر ، والله تعالى عنده وله كل أمر ، تكوينيا وتشريعيا ، علميا وتنفيذيا.

ثم ينزل على أمنائه المصطفين المخلصين ، من كل أمر ، فما هو الأمر؟ وما هو كل أمر؟.

هنا ندرس الأمر بكيانه ونزوله من «حم» : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا

__________________

(١) الكافي عن الإمام الصادق (ع) قال : كان على (ع) كثيرا ما يقول : اجتمع التيمي والعدي عند رسول الله (ص) وهو يقرأ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) بتخشع وبكاء ، فيقولان : ما أشد دقتك لهذه السورة؟ فيقول رسول الله (ص) لما رأت عيني ووعى قلبي ، ولما يرى قلب هذا من بعدي ، فيقولان : ما الذي رأيت؟ قال فيكتب لهما في التراب : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ـ قال : ثم يقول : هل بقي شيء بعد قوله عز وجل (لِّ أَمْرٍ) فيقولان : لا ـ فيقول : هل تعلمان من المنزل إليه بذلك؟ فيقولان : أنت يا رسول الله (ص) فيقول : نعم ، هل تكون ليلة القدر من بعدي؟ فيقولان : نعم ـ قال : فيقول : فهل ينزل ذلك الأمر فيها؟ فيقولان نعم ـ قال : فيقول : إلى من؟ فيقولان : لا ندري ـ فيأخذ براسي ويقول : إن لم تدريا فادريا ، هو هذا من بعدي ـ قال : فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول الله (ص) من شدة ما يداخلهما من الرعب» (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٣٣ ح ٩٠).

٣٨٥

أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٤٤ : ١ ـ ٨).

فليلة القدر هي ليلة الفرق والفصل لكل أمر حكيم ، حكيم عند الله العزيز الحكيم ، وكما كان القرآن في ام الكتاب لدى الله عليّا حكيما : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ثم فصّله ليلة القدر ، وأنزله على قلب الرسول البشير النذير ، أنزله من علوّه الإلهي ، وفصّله من حكمته الإلهية ، ولكي يدركه الرسول ، ثم فصّله تفصيلا ثانيا طوال البعثة كما شرحناه مسبّقا.

هذا تفريق أول للرسول ، ثم تفريق ثان بالنسبة للأقدار والأقضية الإلهية طوال السنة ، يفرقها الله تعالى لرسوله : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

ويشاركه في التفريق الثاني الأئمة من أهل بيته المعصومين ، كلّ في زمنه ، لمكان الاستمرارية المستفادة لهذه الليلة المباركة من : «تنزل» * (فِيها يُفْرَقُ) لا «تنزل» * أو «فرق» *.

ثم (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) لا يخص أمور وأوامر الكرة الأرضية ، وإنما الكونية تماما : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) فهذه الربوبية الشاملة توحي أن هذه الرحمة أيضا شاملة : (رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) تشمل الكون أجمع ، فإن محمدا والخلفاء المعصومين المحمديين هم خلفاء الله في الكون أجمع ، والكرة الأرضية على صغرها هي المركز الرئيسي للتشريعات والأحكام ومعرفة الأقضية والأقدار الإلهية (١).

__________________

(١) عن الإمام الصادق (ع) قال : قال علي (ع) في صبيحة أول ليلة القدر التي كانت بعد ـ

٣٨٦

وليس معنى القضاء والقدر والإنشاء ليلة القدر ، خروج الأمور عن خيرة الإنسان ، وإنما قدر وقضاء وإبرام على ضوء المساعي التي يقدمها الإنسان ، فرب خير يؤخّر ، أو يبدّل إلى شر ، لتأخر الإنسان عن معداته أو تركه لها إلى أضداده.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) :

ومما توحيه سورة القدر أن الأمور المقدرة فيها ليست إلا الخيّرة لا الشريرة ، وإنما حوادث الشر هي حصائل فشل الإنسان في التماسه الخير ومزيد الخير ليلة القدر ، ثم توانيه في السعي نحو الخير ، أو تركه إياه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

هنا نعرف مدى علوم المعصومين من أهل بيت الرسالة المحمدية صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنهم يعرفون من الغيب كما يعلّمهم الله تعالى ، لا كل الغيب : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى

__________________

ـ رسول الله (ص): «سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم بما يكون إلى ثلاثمائة وستين يوما من الذر فما دونها وما فوقها ، ثم لا خبرتكم بشيء من ذلك لا بتكلف ولا برأي ولا بادعاء في علم إلا من علم الله تبارك وتعالى وتعليمه ، والله لا يسألني أهل التوراة ولا أهل الإنجيل ولا أهل الزبور ولا أهل الفرقان إلا فرقت بين أهل كل كتاب بحكم ما في كتابهم»

وعنه (ع) أنه سئل : أرأيت ما تعلمونه في ليلة القدر هل تمضي السنة وبقي منه شيء لم تتكلموا به؟ قال : لا والذي نفسي بيده لو أنه فيما علمنا في تلك الليلة أن أنصتوا لإعدائكم فنصتنا فالنصت أشد من الكلام.

ومن حديث له عليه السلام قال فيه : ينزل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من موت أو مولود ، قيل له : إلى من؟ قال : إلى من عسى أن يكون؟ أن الناس في تلك الليلة في صلاة ودعاء ومسألة وصاحب هذا الأمر في شغل نزول الملائكة إليه بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها ، من كل أمر سلام هي له إلى أن يطلع الفجر» (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٤١ ح ١١١ ـ ١١٣).

٣٨٧

غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٧٢ : ٢٧) : من رسول وممن يحذو حذو الرسول في الارتضاء الإلهي ، وهم الذين يحملون العصمة الرسالية وإن لم يكونوا رسلا.

متى هي ليلة القدر؟

إنها مجهولة في القرآن والحديث ، وإنما المعلوم أنها من رمضان ، فأين هي من رمضان؟

قد وردت روايات تفوق المائة من طرق أصحابنا حول سورة القدر ، وتحاول عشرات منها تعيين موقع ليلة القدر بين ليال عشر (١) : وأغلب الظن حسب أغلب الروايات أنها بين الثلاث «١٩ ـ ٢١ ـ ٢٣» والأغلب بينها الأخيرتان ، ثم الأغلب بينهما ٢٣.

ومن البديهي أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة من عترته كانوا على علم واضح منها ، فكيف يجهل ليلة القدر من تتنزل الملائكة والروح فيها على قلبه المنير؟ إلا أنهم كانوا يجملون عن تعيينها لمصالح عدة كما تجدها في الروايات.

__________________

(١) في تفسير نور الثقلين روايتان أنها الليلة الأولى وهي ح ٢٨ و ٥٤ ثلاثة عشر أنها ٢٣ وهي ح ٢٢ ، ٣٢ ، ٤٩ ، ٥٣ ، ٦١ ، ٦٥ ، ٦٩ ، ٧٩ ، ٧١ ، ٧٩ وواحدة أنها «٢١» وهي ٧٧ واثنتان أنها ٢٧ وهي ٧٣ ، ٧٤ ، هذه هي المعينة ، ثم هنا روايات مشككة بين ليال ، فبين ٢١ ، ٢٣ ست روايات هي ٣٣ ، ٥٧ ، ٥٨ ، ٨٨ ، ٦٠ وبين ١٩ ، ٢١ و ٢٣ سبع روايات هي ٦١ ، ٦٢ ، ٦٤ ، ٦٦ ، ٦٧ ، ٧٢ ، ٥٧. وروايات ثلاث انها بين ٢١ ، ٢٣ ، ٢٥ ، ٢٧ وهي ٧٦ ، ٧٨ ، ٨٤. وهنا روايات انها في العشر الأواخر وهي ٤٠ ، ٥١ ، ٥٢ ، ٥٦ (نور الثقلين ج ٥).

وفي الدر المنثور عن النبي (ص) إضافة الليلة ٩ و ١١ ، ٢٩ ، ٣٠ أيضا (ج ٦ ص ٣٧٢). فالليالي المعدودة من القدر هي «١ ـ ٩ ـ ١١ ـ ١٩ ـ ٢١ ـ ٢٣ ـ ٢٥ ـ ٢٧ ـ ٢٩ ـ ٣٠» وهي ثلث ليالي الشهر.

٣٨٨

وهنا روايات مختلقة أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نسيها فأمر أن يطلبوها في العشر الأواخر ، وليضرب بها عرض الحائط لاختلافها عن واقع علم الرسول وعن الأحاديث المستفيضة المصرحة أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة من عترته كانوا يعلمونها (١).

وقد نستوحيها متى هي؟ من علائمها على حد تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) :

إنها لا تنفي السلام عن سائر الليالي ، لواقع السلام فيها بعضا ، وإنما تخصّ السلام التام بهذه الليلة المباركة ، كرامة تخصّها بين ليالي السنة ـ فما هي؟

إنها ـ على حد تعبير زين العابدين علي بن الحسين عليه السّلام : «سلام دائم البركة إلى طلوع الفجر على ما يشاء من عباده بما أحكم من قضائه» (٣) ، وعلى حد تعبير

__________________

(١) أخرج ابن أبي شيبة عن الفلتان بن عاصم قال : قال رسول الله (ص) إني رأيت ليلة القدر ثم نسيتها فاطلبوها في العشر الأواخر وترا.

وأفضح منها ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود قال سئل رسول الله (ص) عن ليلة القدر قال قد كنت علمتها ثم اختلست مني (الدر المنثور ج ٦).

وهذا الأخير يتنافى والآيات التي تدل على عصمته وأنه ليس للشيطان عليه سبيل ، فمن هذا الذي اختلس ليلة القدر عن النبي الأقدس ، أهو الله وحاشاه ، أم هو الشيطان (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فكيف بالرسول (ص).

وكما عن أبي جعفر الباقر (ع) قال : يا أبا هذيل! إنا لا يخفى علينا ليلة القدر ، إن الملائكة يطوفون بنا فيها.(نور الثقلين ج ٥ ص ٦٣٩ ح ١٠٥).

(٢) كما عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله (ص) عن ليلة القدر ، فقال : في رمضان في العشر الأواخر فانها في ليلة وتر : إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو آخر ليلة من رمضان ، من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن إماراتها أنها ليلة بلجة صافية ساكنة ساجية لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا ساطعا ولا يحل لنجم أن يرمى به تلك الليلة حتى الصباح ، ومن إماراتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها ، مستوية كأنها القمر ليلة البدر ، وحرم الله على الشيطان أن يخرج معها يومئذ(الدر المنثور ٦ : ٣٧٢).

(٣) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٤١ ح ١١٤ عن الصحيفة السجادية في دعائه (ع) إذا دخل شهر رمضان.

٣٨٩

جده الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها ولا يستطيع فيها أن ينال أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد ولا ينفذ فيه سحر ساحر» (١).

ويتأيد هكذا سلام شامل بما نستوحيه من آية السلام : سلام هي ، لا : هي سلام ، فإن تقديم الخبر «سلام» * يفيد حصر المبتدأ «هي : ليلة القدر» في السلام ، فهذه الليلة محصورة بالسلام دون سواها التي فيها سلام ولا سلام.

فليلة القدر سلام إذ أنزل فيها القرآن الحامل للإسلام التام الكافل للسلام الأبد ، وسلام إذ تتنزل فيه الملائكة والروح من السماء إلى الأرض فتندحر الشياطين بوفود الملائكة ، وسلام إذ تتنزل ملائكة السلام بكل أمر ، بكل خير عاجل وآجل ، وسلام لكل دعاء فيها إذ يسلم من الرد لو لا أنه تأتي بالبوار والدمار ، وسلام لكل من في الأرض عفويا وإن لم يكونوا من أهل السلام والإسلام .. وإلى أن يطلع الفجر.

__________________

(١) المصدر ص ٦١٥ ح ١٥.

٣٩٠

سورة البينة ـ مدنية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ

٣٩١

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

* * *

أهل الكتاب هم ـ على الأكثر ـ أتباع التوراة والإنجيل ، حسب اصطلاح القرآن ، وقد قرنوا هنا وفي آيات عدة أخرى ، قرنوا بالمشركين ، مما يبرهن لنا المعني من المشركين حسب القرآن : أنهم هم الوثنيون ، لا كل المنحرفين عن خالص التوحيد.

فأهل الكتاب مهما كان انحرافهم في عقيدة التوحيد من تجسيم وحلول وتثنية وتثليث ـ إنهم على انحرافاتهم الجارفة ـ لا يردفون في صف المشركين الوثنيين ، ولا تشملهم أحكامهم الخاصة ، مهما كانوا يضاهئونهم بعض الشيء في عقائدهم وطقوسهم ما لم تصل إلى عبادة الأصنام من دون الله.

نرى آيات بينات كهذه تؤكد لنا هذه الحقيقة ، بقرنها أهل الكتاب بالمشركين ، بل الإلهيين من غير الكتابيين أيضا ، كالصابئين والمجوس : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٦٢) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢٢ : ١٧).

وإذا لا يعد الصابئون والمجوس ـ الذين لا يعرف لهم كتاب ـ لا يعدون من المشركين ، فأحرى باليهود والنصارى ألّا يعدوا منهم ، طالما كانت لهم عقائد مضاهية للمشركين ، وأن القرآن يندد بهم لهذا الانجراف الطائش في إشراكهم : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

٣٩٢

فعلينا أن نفرق بين الإشراك في العبادة من الذين يعبدون أوثانا وأصناما وطواغيت من دون الله ، وهم المشركون النجس : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (٩ : ٢٨).

وبين الإشراك في الطاعة كاليهود والنصارى الذين (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (٩ : ٢١).

وبين الإشراك في نية العبادة كالرئاء فيها : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢ : ١٠٦) : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١٨ : ١٠).

وبين الإشراك في ذات الإله كمن يثلث الله ويعتقده في ثلاثة أقانيم أو يثنيه في أقنومين .. وبين الإشراك في الخالقية وسواها من شؤون الألوهية ـ الخاصة.

والقرآن لا يعني من المشركين النجس إلا الفريق الأوّل وهم الوثنيون الذين لا يعبدون الله ، وإنما يعبدون من يزعمونهم شفعاء أو مختصين عند الله.

ومن «إنما» * في الآية : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) نستوحي أنهم الذين ليست عندهم إلا نجاسة العقيدة والعمل ، دون مبدأ إلهي يربطهم.

فالآية تحصر كيان المشركين ـ ككل ـ في النجس ، دون أن تحصر النجس فيهم ، مما يوحي بالمعنيّ منهم أنهم هم الوثنيون فحسب ، إذ إن غيرهم من المنحرفين في عقيدة الإله لا يحصر كيانهم ككل في النجس ، فلأهل الكتاب مبادئ صالحة ، مزيجة بأخرى غير صالحة من تجسيم وتثنية وتثليث ، وكما عند البعض من فلاسفة الإسلام كالمعتنقين عقيدة وحدة الوجود ، فكما ليسوا هم من المشركين النجس ، فكذلك أهل الكتاب ـ على ضلالهم ـ سواء.

والنجس في المشركين يجسم نجاسة أرواحهم ، فيجعلها ماهيتهم وكيانهم ،

٣٩٣

فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس ، يستقذره الحس تباعا للروح ، ويتطهر منه المتطهرون ، وإنه النجس المعنوي لا الحسي ، ولكنها سرت إلى الجسم أيضا كسياسة إسلامية ، لكيلا يعاشرهم المسلمون ، نجاسة سياسية حيادية نشأت عن نجاسة المبدأ الذي يعتنقونه ، وهو تأليه غير الله.

إن القمة التي يهمها القرآن هي قمة التجرد لله والخلوص لدينه ، وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة ، وهذه القمة ليست بالتي تتعايش منهج الجاهلية الرافضة لمبدأ الإله الحق ، مهما تساير الإلهيين الذين يؤمنون بالله ـ كيفما كانت تخلفاتهم عن خالص التوحيد ـ تسايرهم علهم يؤمنون : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٣ : ٦٤).

وبعد كل ذلك فآية المائدة ـ وهي آخر ما نزلت من السور ـ إنها توحي لنا بطهارة أهل الكتاب : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) (٥ : ٥).

ولا يعنى من طعام أهل الكتاب إلا الذي يصنعونه أو يطبخونه ويلمسونه بأيديهم كالعادة ، إلا المحرمات المنصوص عليها في القرآن كالميتة والدم ولحم الخنزير والخمر وأمثالها.

والطعام ـ حسب اللغة (١) والقرآن والحديث ـ لا يخص البر وأمثاله كما زعم ، إنه كل ما يطعم وحتى الماء كما القرآن يصرّح : (.. قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٢ : ٢٤٩) : لم يطعمه : الماء.

__________________

(١) لسان العرب «الطعام اسم جامع لكل ما يؤكل ، وقال ابن الأثير : الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة والشعير وغير ذلك.

٣٩٤

كما ويصرح بشمول الطعام لكل مأكول : (.. لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) (٢ : ٦١) : ولو كان هو البركان واحدا ، فالقيد بالواحد إذا زائد! (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٦٩ : ٣٦) : فيشمل كلّ مشروب أيضا فطعامهم وشرابهم حلّ ، وكذا صيد البحر : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) (٥ : ٩٦) .. فلو صاده كتابي وطبخه كان حلا كما هو حل من المسلم.

وإذ نرى روايات ، كأنها تخص الطعام بالبر والحبوب ، فهي لا تعني إلا إخراج اللحوم ـ كما يقول الإمام جعفر الصادق عليه السّلام : عني بطعامهم ها هنا الحبوب والفاكهة ، غير الذبائح التي يذبحونها فإنهم لا يذكرون اسم الله خالصا على ذبائحهم ، ثم قال عليه السّلام : والله ما استحلوا ذبائحكم فكيف تستحلون ذبائحهم (١).

ثم إن تطهير طعام أهل الكتاب وتحليله ، لو عني به البر وأمثاله من اليابس ، فهو تحليل للحلال وتطهير للطاهر ، وما من أحد يظن أن الطعام اليابس الطاهر ينجس بمجرد أنه للكتابي ، أو يلمسه بيده ، فليعن الطعام الذي تمسه يده برطوبة أو هو مرطوب.

هذا وكما السنة القطعية متضافرة على طهارة أهل الكتاب ، الذاتية (٢) بمعنى أنه لو لم تكن عليه نجاسة عرضية بالفعل ، ولم تسبقه النجاسة ، غير المتأكّد من تطهيرها ، كان محكوما بالطهارة ، فإذا علمنا أن كتابيا تنجس وتطهر ، ولم نعلم

__________________

(١) نور الثقلين ج ١ ص ٤٩٢.

(٢) كصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرضا (ع) الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة ، قال (ع) : لا بأس ، تغسل يديها(وسائل الشيعة ج ٢ ص ١٠٢ ح ١١) .. فلقد كان الدافع لهذا السؤال أنها لا تتوضأ ولا تغتسل ، لا إنها نصرانية ، فجاء : إنها تغسل يديها ، والروايات المانعة عن مؤاكلتهم توحي إلى لزوم تجنبهم ما أمكن لا أنهم نجسون كسائر النجس.

٣٩٥

تاريخ المتقدم منهما ، والمتأخر ، حكمنا بطهارته لتعارض استصحابي الطهارة والنجاسة والرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وكذلك إذا علمنا طهارته وشككنا في زواله ، ثم يختلف عن طهارة المسلم فيما إذا تأكدنا من نجاسته وشككنا أنه طهّر أم لا ، فالكتابي إذا محكوم بالنجاسة قطعا ، ولكنما المسلم يحكم بطهارته لو غاب زمنا تؤتى فيه فرض الصلاة ، أو أية عبادة مشروطة بالطهارة ، والتفصيل إلى المفصلات ، وكما شرحناه في كتابا «الفقه على ضوء القرآن».

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) :

فمنهم من كفر بالرسالة المحمدية فعدّ في عداد الكافرين ، ومنهم من آمن فهم المؤمنون ، ولم يكن ليبرز الكفر والإيمان بينهم حتى تأتيهم البينة ، ولم يتمكنوا من التحلل عن كفرهم حتى أتتهم البينة فتمكنوا ، ولكنهم تمنّعوا ـ على مكنتهم ـ عن الإيمان.

إن انفكاكهم عن ضلالهم ـ علميا أو واقعيا ـ لم يكن يتحقق إلا على ضوء البينة : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) : مطهرة من وحي الشيطان ، ومن الدس والتحريف ، رغم كتبهم التي أصيبت بشتى ألوان الاختلاف والاختلاق ، فلم يكن أهل الكتاب ليميزوا وحي الرحمان عن وحي الشيطان في كتبهم ، ولا المشركون بعقولهم المدخولة ، وأما إذا أتتهم البينة : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) ، فكان عليهم الانفكاك عن كفرهم ، ففريق منهم انفكوا فأصبحوا مسلمين ، وفريق تجمدوا على واقع ضلالهم عمليا ، رغم ظهور الحق لهم على ضوء الصحف المطهرة.

وبما أن الانفكاك هو الانفصال عن اتصال شديد ، اتصالهم الشديد بضلالهم القديم ، فقد كان من الواجب أن تأتيهم بينة قوية ناصعة ، لكي يتحللوا عما

٣٩٦

اتصلوا به ، بينة بإمكانها البين فيما بينهم ، وبإمكانهم التبين بها بعد ما لم يكونوا ليتبينوا :

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) :

إن الرسول محمدا كان بيّنة من الله يحمل في دعوته آيات بينات : (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) وإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أقوى ما أتت الإنسان ـ عبر تاريخ الرسالات الإلهية ـ من البينات ، أقواها متنا وأبقاها زمنا بقرآنه المبين وتبيانه الحكيم.

فلقد كان قرآن محمد ومحمد القرآن معجزتين خالدتين عبر الزمن ، الضاربتين في أعماق التاريخ ، لا ترجعان إلى الوراء على تقدم العلم ، وإنما تزيدان نورا وظهورا وبهورا كلما تظاهر العلم وازدهر.

فكما كان القرآن بينة ما في الصحف الأولى وزيادة خالدة : «أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى» (٢٠ : ١٣٣) كذلك رسول القرآن كان بينة الرسل ، وعلى بينة القرآن : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (١١ : ١٧).

فلم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين عن ضلالهم الذي عاشوه منذ زمن بعيد ، إلا بهذه الرسالة السامية الجديدة ، التي تحمل كافة معجزات الرسالات وتوجيهات الرسالات وزيادات خالدات تعيش مع الزمن وتشرق على قلوب وأفكار الإنسان ما أشرقت الشمس على هذه المعمورة.

لقد عاشت الخرافات أفكارهم ، وشربت مياه قلوبهم ، وتصدرت في صدورهم ، أن زعموا الباطل حقا والحق باطلا ، فهم أهل الكتاب ، وهم

٣٩٧

بعيدون عن وحي السماء ، بعد ما بين الأرض والسماء ، منحطين خابطين إلى وحي الأرض قربهم إلى الأرض.

(يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) : يتلو ـ دون أن يكتفي بالقراءة ، فالتلاوة هي المتابعة :(وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٩١ : ٢ ـ ٣) فكما القمر قمر ما دام يتلو الشمس ، كذلك الرسول هو شمس هداية السماء ما دام يتلو القرآن ويتبعه قراءة وإقراء ، تفكيرا واعتناقا ، تطبيقا ونشرا ، وأن تكون حياته حياة التبعية لوحي القرآن أيا كان ، وأن يصبح هو قرآنا ناطقا عاملا موجها هاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ما دام فيهم ، ثم يبقى قرآنه صورة عن هذه الحتمية ، سندا بعده وإلى يوم الدين ، منارا يقاس عليه الغث والسمين ، ومدارا كتابيا لكل كتاب ، وداع إلى كتاب.

(صُحُفاً مُطَهَّرَةً) : جمع الصحيفة ، وهي المبسوط من الشيء دون خفاء وخباء .. «مطهرة» * : هي خالصة الوحي ، دون شوب بوحي الأرض ، مطهرة عن التهافت والاختلاف والاختلاق ، وعن كل ريبة.

والقرآن هو الصحف المطهرة ، إذ إنه يحمل الوحي الصادق النازل على النبيين من قبل ، وفيه زيادات هي خاتمة الوحي ، أجل إنه الكتب كلها وزيادة ، كما محمد هو الرسل كلهم وزيادة.

إنه بينة ما في الصحف الأولى : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (٢٠ : ١٣٣) بلى أتتهم في الوحي الأخير.

أو إن الصحف المطهرة هي صحائف القرآن ، حاملة كل منها كتبا : مكتوبات ، قيمة.

٣٩٨

«قيمة» * : إذ لا تنسخ ، خلاف البعض مما في الصحف الأولى ، قيّمة تحمل كل القيم الحيوية للإنسان ، وقيمة لأنها الأصل في التشريع يقاس إليه ما سواه.

وهذه الصحف المطهرة ـ مهما كانت ـ فهي لم تكن في قرطاس ، إنما في لوح قلبه المنير : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٢٣ : ١٩٤).

فقبل أن توحى إليه لم تكن صحفا قطّ : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) (١١ : ٤٩) وقبل أن يتلوها عليهم ما كانت صحفا للناس ، إنما له إذ أوحيت إليه ، ثم بتلاوته لهم أصبحت صحفا لهم كما كانت له صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ودليلا كتابيا على أن الصحف ليست في قرطاس ، وإنما القرطاس ظرف ضئيل من ظروفه التي تحمله : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (٨١ : ١٠) : صحف الأعمال تنشر ، وليست هي إلا انعكاسات الأعمال والأقوال الموجيّة : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) (٨٠ : ١٦) ومعلوم أن الوحي لم ينزل على رسل السماء (الملائكة) ورسل الأرض (النبيين) لم ينزل عليهم في قرطاس : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦ : ٧).

فهذه الصحف المطهرة ـ وهي بينة ـ قد تلاها محمد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو أيضا بينة.

هذه ليست بالتي تسمح بالتفرق ، وإنما لزامها الوحدة المتماسكة حول الحق الناصع منها.

ولكن أهل الكتاب ، رغم أنهم لم يكونوا ليتفرقوا قبل هذه البينة ، فقد كانوا مجتمعين في الضلالة ، رغم ذاك ، أخذوا يتفرقون بعد ما جاءتهم البينة.

٣٩٩

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) :

تفرقوا في البينة وعن البينة ، تفرقا عامدا ، ففريق آمن وفريق كفر : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢٧ : ١٤).

وهكذا تكون طبيعة الإنسان وسجيته الطائشة المتخلفة : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢ : ٢١٣)(١).

ليس واقع الاختلاف وفكرته من الدّين الحق ، وإنما ممن يدّعون أنهم ديّنون ، ثم يختلقون مواد الخلاف تحت ستار الدين ، وقد عدّ الله تعالى الوحدة في الدين من رحماته الهامة التي يهدفها على ضوء الوحي وخيرة الإنسان دون تسيير (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١١٨). خلقهم للرحمة ، ومن أبرزها الوحدة في الدين ، خلقهم لها ووجههم إليها بالوحي المتواصل ، ناهيا عن الاختلاف : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (٣ : ١٠٥).

وإن أهم ما اختلف فيه أهل الكتاب لهو قصة الإله ، في كيانه وصفاته وأفعاله ، وفي عبادته ، فمن مجسّم ومثلّث ومثنّ ، ومشبه له بخلقه أسخف تشبيه .. وإلى أن أصبح السيد المسيح عند الكثير من المسيحيين ، أصبح موضوع الإيمان ، وإله الآب فرعه ، يذكر في عداد الأقانيم ، ولكنه على الهامش

__________________

(١) راجع كتابنا (المقارنات) من ص ١١٥.

٤٠٠