الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

ذوات المخلوقين ، فهو أقرب إليهم منهم إلى أنفسهم (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٠ : ١٦).

وإن هناك حجبا عن الرب ، عن ربوبيته ومعرفته ، وليست إلا من الخلق لا من الرب ، سواء حجب الظلمة وحجب النور ، وقد تخرق هذه الحجب بما يسعى السالك في سبيل المعرفة حسب الشرع ، وما يؤيده الله تعالى ويجذبه إليه وعلى حدّ تعبير الأمير عليه الصلاة والسلام : «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق حجب النور فتصل إلى معدن العظمة» وقد خرقت هذه الحجب كلها لمعراج الرسول الأقدس في مقام (أَوْ أَدْنى)! والطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.

فما بقي في قلب الإنسان نور ، فبقدر هذا النور ينظر إلى معدن العظمة يوم الدنيا وبالأحرى يوم الدين.

فليس حجاب الفجار هو عن الرؤية لكي يعني أن المؤمنين سوف يرون الله ، ف «إن الله تعالى لا يوصف بمكان يحل فيه فيحجب عنه فيه عباده ، ولكنه يعني أنهم عن ثواب ربهم محجوبون» (١) ثواب الزلفي والمعرفة والرحمة ، كلّ حسب سعيه.

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ. ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) :

هؤلاء المجرمون سوف يصلون الجحيم : يوقدونها بأعمالهم المرقومة ، فلقد كان كتابهم سجينا وفي سجين ، وهذا هو وقود الجحيم ، هم بأنفسهم المجرمة وأفكارهم وأعمالهم ، أولئك هم وقود النار ، وكما كانوا يوم الدنيا وقود النار.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٣٢ عيون الأخبار عن الامام الرضا (ع) وفي التوحيد روى عن علي عليه السّلام مثله.

٢٢١

فهذا جحيمهم الناتج عن أفكارهم وأعمالهم ، يحرقون به ، ثم مع الجحيم التأنيب مع ما شاهدوا من سوء أعمالهم وعله أمرّ من الجحيم وأدهى ، يؤنبون بأمور عدة ، منها (.. هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) .. كنتم تكذبون بيوم القيامة ، قيامة الأموات وقيام الحساب والجزاء الوفاق ، وإن النار تصلى بالأعمال والأفكار النارية فهي وقودها ، ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

* * *

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤)

(كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) :

كلا! ليس كما يزعمه الأشرار أن لهم عقبى الدار إن كانت لها عقبى ، كما لهم دنيا الدار ، فإن كتابهم لفي سجين طوال الحياتين على عكس كتاب الأبرار.

وأما عليّون فقد قيل إنه اسم أشرف الجنان كما أن سجينا اسم لأشر النيران ، وقيل : إن مفرده «علي» * كثير العلو ، وعليون هم الأعلون المقربون.

هذا ، ولكنما القرآن نفسه يفسر «عليين» ب (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) ف «عليون» على أية حال يوحي بالعلو العال ، كما سجين يوحي بالسفال ، فكتاب الأبرار إذا هو عليون وفي عليين ، وكما أن الأبرار هم عليون ، علو الذات المنحدر إلى علو الأعمال والصفات ، المسجلة في مختلف السجلات عالية

٢٢٢

رفيعة ، ثم ظاهرة يوم القيامة في جنات عاليات ونعم خالدات ، عكس ما كان كتاب الفجار.

فالأبرار هم عليون يدخلون بعليين الأفكار والأعمال في عليين الجنات ، فمن هم الأبرار ومن هم المقرّبون الذين يشهدون كتابهم المرقوم؟

الأبرار جمع البرّ مقابل البحر ، استعير منه التوسع في الخير ، فالأخيار كلهم هم الأبرار ، من خالق البر والأبرار ، ف (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٥٢ : ٢٨) ومن سفرته (كِرامٍ بَرَرَةٍ) (٨٠ : ١٦) ثم سائر المتقين المقربين ومن دونهم.

وآية الأبرار هنا إنما تعني المتقين غير المقربين من الخلق أجمعين ، فإن المقربين هم يشهدون كتابهم المرقوم ، ثم الله ليس له كتاب مرقوم له أو عليه.

فالمقربون هم المصطفون من الأبرار الذين قربهم الله تعالى إليه زلفى : (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٥٦ : ١٠ ـ ١٣) ولو كانوا هم كلّ المتقين لما كانوا قلة من الآخرين ، وثلّة من الأولين ، لأن شريعة الآخرين هي الخالدة إلى يوم الدين ، فليكونوا هم الثلّة والأولون القلة ، كلا ـ وإنما أصحاب اليمين من الآخرين هم الثلة ، والمقربون وهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعترته المعصومون هم القلة عددا وجاه النبيين والوصيين السابقين (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (٥٦ : ٨٥ ـ ٨٨ .. فالأنبياء من المقربين وكما المسيح عليه السّلام (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٣ : ٤٥) ومن الملائكة أيضا مقربون (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٤ : ١٧٢).

ومن الشواهد على أن المقربين أعلى منزلة من الأبرار ، أنهم : يسقون (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).

ثم كتاب الأبرار ، المرقوم ، يشهده المقربون ، فإنهم شهداء الأعمال ،

٢٢٣

ف «عليون الأبرار» هو كتاب مرقوم يشهده المقربون ، شهودا يوم الدنيا وشهود ، يوم الدين ، فشهادتهم في الأولى شهادة تلقّ ، وفي الآخرة شهادة إلقاء يوم يقوم الأشهاد ، والكتاب المرقوم هنا ـ كما في كتاب الأشرار ـ هو الأعمال التي ترقم بصورها وأضوائها وعلى حدّ قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : صلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب مرقوم في عليين (١).

الطينة العليينية والسجينية :

قد يشمل عليّون الأبرار طيناتهم كما السجين طينات الأشرار ، كما في أحاديث عدّة ، ولكن هل يا ترى أن الله يخلق الأبرار ـ حين يخلق ـ أبرارا ، والأشرار أشرارا؟ فما هذا إلا تسييرا في البر والشر ينافي التخيير ، اللهم إلا أن يعنى من الطينة الروحانية منها ، الحاصلة من الأعمال الصالحة للأبرار ، والطالحة للأشرار ، على توفيق من الله للأبرار نتيجة برهم ، وختم على قلوب الأشرار نتيجة شرهم ، ولذلك نرى باقر العلوم عليه السّلام يقول : «إن الله خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا وخلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا» ثم يقرأ الآية (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ..)(٢) ،

وعن الإمام الصادق عليه السّلام قوله : «إن الله تبارك وتعالى خلقنا من نور مبتدع من نور سنخ ذلك النور في طينة من أعلى عليين» اه (٣).

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) :

وهو عليّون الجنة بعليين الأعمال ، وتنكير «نعيم» * هنا يوحي إلى تفخيمه ، فكما هم كانوا أبرارا : متوسعين في الخير ، فليكن نعيمهم واسعا ، ثم وأوسع

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٧ أخرج ابن مردويه عن أبي إمامة قال : قال رسول الله (ص) :

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٣٣ ح ٣١ الكافي بالإسناد إلى أبي حمزة الثمالي عنه (ع).

(٣) المصدر ح ٣٢ علل الشرائع بإسناده عن زيد الشحام عنه (ع).

٢٢٤

مما عملوا بفضل الله ، جزاء فضلا فوق الوفاق ، طالما كان جزاء المجرمين الجزاء الوفاق.

وكما الجحيم هي نار شديدة التأجج للفجار ، فليكن النعيم رحمة كثيرة التبهج للأبرار.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) :

والأرائك جمع أريكة ، وهي سرير السلطان ، فارسية قديمة وكما في «أوستا زرادشت» نرى «أرائك» * بمعنى سرر السلاطين.

فالأبرار الذين كانوا ـ على الأكثر ـ فقراء منكوبين محجورين مهجورين يوم الدنيا ، لم تكن أصحاب الأرائك تعتني بشؤونهم ولا تعتبر لهم وجودا ، هؤلاء سوف يجلسون في الجنة على الأرائك ينظرون : ينظرون إلى رحمات الله وما وعدهم ربهم ، وينظرون إلى خدامهم والحواجب فيها ، وينظرون كذلك إلى أصحاب النار محتقرين إياهم.

إنهم ينظرون حيث يشاءون دون غضّ ولا غضاضة من مهانة أو مشقة ، وظاهرهم يوحي عن باطنهم.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) :

الظاهر هو عنوان الباطن ، فكل نظرة إليهم تكشف عن نضرة النعيم دون أن يظهر منهم شيء بلفظة قول أو إشارة ، فهم نعيم بكيانهم ككل ، لا بؤس فيهم ولا عبس.

* * *

٢٢٥

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨)

خمر الدنيا والآخرة :

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) :

يسقون من رحيق ، وما أدراك ما الرحيق ، إنه الخمرة الصاخبة الخالصة من كل غش ، وليست كخمر الدنيا التي هي غش للعقل وغش للجسم ، غش للفرد وغش للمجتمع ، وكلها غش ، وإن كان فيها نفع فإثمها أكبر من نفعها بكثير.

لنأخذ مثالا على الخمرين ، إنسانين ، أحدهما أبو لهب عم النبي ، وثانيهما هو النبي الأقدس ، فهل يا ترى أن اشتراكهما في الاسم وفي الهيكل الإنساني يجعلهما في مستوى واحد؟

كذلك البون بين خمر الدنيا التي يستر ويخمر عقل الإنسان وإنسانيته ، ويستر عليه صحته ، وخمر الآخرة التي تستره عما سوى الله وترفعه إلى درجات من معرفة الله ما كان ينالها لولاها ، وتصلح وتصحح جسمه ، والقرآن يصف خمر الجنة بما يخرجها عن كل غول وتأثيم (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) (٤٧ : ١٥) لذة في العقل والروح ، ولذة في الجسم ، ولذة في المنظر ، ولذة في الطعم ، وخمرة الدنيا مرة في طعمها ، مرة إذ تنقص العقل وتنقضه ، ومرة إذ تضر بصحته ، وإن كان الجاهلون يحسبونها لذة ، فلأنهم يتحللون بسكرها عن أحكام عقولهم وعما يقيّدهم في الحياة ، لذة حيوانية عابرة تخلّف ذلة كيانية لهم.

٢٢٦

(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (٥٢ : ٢٣) وخمر الدنيا فيها كل لغو وكل تأثيم (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) (٢ : ٢١٩) والإثم ما يبطئ عن الخيرات ، فخمر الدنيا تبطئ عن الخيرات ، وخمر الآخرة تعجل له الخيرات وتفتح له أبوابها.

ولقد وصفت الرحيق بصفات عدة تميّزها عن خمر الدنيا ولحدّ عبّر عنها بالرحيق كما في سواها من آياتها الواصفة لها في الجنة ، اللهم إلا واحدة تقرنها بما يخرجها عن شرها (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) (٤٧ : ١٥).

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٣٧ : ٤٥ ـ ٤٧) «بيضاء» * وليست خمر الدنيا بيضاء ، «لذة» * وليست هي لذة وإنما مرة تعقّب لذة خيالية نتيجة التحلّل عن العقل (لا فِيها غَوْلٌ) وهو إهلاك الشيء من حيث لا يحسّ ، وخمر الدنيا تهلك العقل والجسم من حيث لا يحس ، (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) لا ينزعون عن عقولهم ولا يفرغون (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) (٥٦ : ١٨ ـ ١٩) لا فيها صداع الرأس ولا فراغ العقل ونزفه.

فأين الخمر التي هي بيضاء لذة للشاربين لا غول فيها ولا لغو ولا تأثيم ولا صداع ولا نزف وهي صاخبة خالصة من كل غش ، أين هي من خمر الدنيا : حمراء نقمة للشاربين ، فيها كل غول وكل لغو وتأثيم ، وكلها صداع ونزف وهي شائبة مغشوشة؟

نجد بينهما بونا شاسعا لحد يحق تفريقهما في الاسم أيضا ، ولذلك لا تسمى خمرا إلا في آية واحدة ولتوحي أن في خمر الآخرة ما في خمر الدنيا من لذتها ـ إن كانت لها لذة ـ وزيادة فوق الوصف ، دون أن تحمل إثمها وغولها ونزفها وشرها وضرها!

وهذه الخمرة الطيبة إنما يشربها من ترك خمرة الدنيا الخبيثة وكما في وصية

٢٢٧

الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي عليه السّلام : يا علي! من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم ، فقال علي صلّى الله عليه وآله وسلّم : لغير الله؟ قال : نعم والله صيانة لنفسه فيشكره الله تعالى على ذلك (١).

فالرحيق (خمر الجنة) كما أزيل عنها اسم الخمر ، كذلك أوصافها بما وصفت بصفات طيبة هي «مختوم ختامه مسك ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون».

(رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) : فالرحيق المختوم ، وكل طعام وشراب مختوم ، إنه أصلح للشرب والتناول لسلامته عن تصرف الهواء وتدخل الجراثيم ، فإنه مختوم عن التفاعلات الخارجية وتأثيراتها.

ثم هي مختومة في الخيرات كما هي مختومة عن الشرور ، لا خير إلا وقد جعله الله فيها ، ولا شر إلّا أنها مختومة عنها ، رحيق مختوم عما يرهق من أضرار ومختوم فيما يرغب فيه الأبرار.

هذه الخمرة هي أشرف أصناف الخمر في الجنة ، ولأنها مختومة بالمعنيين وليست كذلك خمر النهر (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وأن لها مزاجا من عين المقرّبين من تسنيم.

فهذه معدّة في أوانيها مقفلة مختومة تفضّ عند الشراب ، فما هو ختامها؟

(خِتامُهُ مِسْكٌ) :

ختم بالمسك ، دون الوحل المختوم به خمر الدنيا ، وختامه : عاقبته ، مسك عطر في الروح وعطر في العقل وعطر في الجسم ، كما أن بدايته مسك ،

__________________

(١). نور الثقلين ٥ : ٥٣٤ من لا يحضره الفقيه عنه (ص) والقمي عن الصادق (ع) مثله.

٢٢٨

خلاف خمر الدنيا إذ هي عفنة بدايتها ، وشريرة نتن ختامها ، لا تأتي إلا بكل شرّ ورذيلة.

ففي مسك الخمرة وختمها بالمسك ، فيه إناقة ورفاهية ، صورة لا يدركها البشر إلا في حدود المعهود من الدنيا.

(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) :

من المفروض أن يتنافس العقلاء في الختام المسك عاجلا وآجلا ، لا في الشهوات العاجلة الفانية النتنة ، فليتنافسوا في عليين وفي النعيم المقيم ، وفي نضرة النعيم ، وفي رحيق مختوم بالمسك ، وكلّ نعيم الجنة مسك.

فالتنافس هو تمنّي كل نفس مثل النفيس الذي يكون لغيره ، ولا نفيس في الدنيا إلا ما يقدّم للأخرى ، فإنما الأولى بئيسة تعيسة إلّا ما حوّل منها إلى مزرعة الآخرة ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

إن التنافس في نعيم الآخرة يرتفع بأرواح متنافسيها جميعا ، بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا ، إلا أن يكون لدنيا الآخرة ، فدنيا المتقين آخرة ، ولأنها مزرعة الآخرة ، لا يبصرون إليها فتعميهم ، وإنما يبصرون بها فتبصّرهم وتقربهم إلى الله زلفى.

فعلى المؤمن التنافس في ذلك ، تاركا تنافسات الهوى والردى ، وإنه توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمّرونها ويقومون بالخلافة فيها ، عمران المدرسة للدراسة ، لا المستنقع الآسن والطويلة العالفة لحيونة الحياة والإخلاد إلى أرضها وسجينها.

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) :

إن لهذا الرحيق مزاج من تسنيم : عين المقربين ، ولأنه يقرب شاربيه إلى الله ، فإنه خمرة تخمر عن العقول ظلمها ، وتزيد الإنسان معرفة وسكرة بالله.

٢٢٩

والتسنيم ضد التسطيح ، ماء بالجنة يجري فوق الغرف يتسنم عليهم من الأعالي إلى الأسافل ، عين فوقانية المصدر والنبع ، تنحدر مسنّمة العليين ، وإنما يشرب بها المقربون ، وللأبرار مزاج منها للرحيق المختوم ، وإن للمتقين عيونا دون التسنيم : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٥١ : ١٥) (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) (٧٦ : ٦).

والكوثر ـ علّه ـ العين أو النهر أو الحوض الخاص بأقرب المقربين ، محمد وآله الأنجبين صلّى الله عليه وآله وسلّم ، عيون ثلاث لكل أهل خاص ، وإن كان الكل له نصيب من العين الأعلى مزاجا في شرابه كما في رحيق الأبرار.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)

. أصل الجرم هو قطع الثمرة سواء عن نفسه أم عمن سواه أيضا ، فالمجرمون هم الذين قطعوا عن فطرهم متطلباتها ، وعن عقولهم حاجياتها ، وعن حياتهم أهدافها اللائقة بها ، ثم هم يعيشون حياة الإجرام لمجتمعهم ، فهم رؤوس الضلالة

٢٣٠

طوال التاريخ : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) (٢٦ : ٩٩) وهم أعداء النبيين : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥ : ٣١) وهم قطّاع سبل الخير في البلاد : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٦ : ١٢٣).

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) :

قطعوا ثمرة الهدى عن شجرة الإنسانية ، وانقطعوا عن الله إلى سواه ، هؤلاء المنقطعون عن ثمار الحياة :

(كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) :

يضحكون منهم ساخرين ناقمين أن آمنوا بربهم وانقطعوا إليه (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) (٥ : ٥٩) وغريب في نوعه كيف يضحك المنقطع عن كل خير من المتصل الواصل إلى كل خير؟ هل لفقرهم؟ وليسوا كلهم فقراء ، وليس الفقر دافعا عقليا إلى الضحك ، أم لضعفهم عن رد الأذى ، وليسوا دوما ولا كلهم ضعفاء ، وليس الضعف مادة للسخرية ، أم لإيمانهم؟ إذ زعموا الإيمان رجعية وانعزالية عن الحياة ، وهو الحياة كلها! وإذا كان الإيمان رجعية سوداء والإجرام تقدمية بيضاء فليحاول هؤلاء القدامى في إقناع المرتجعين دون أن يضحكوا عليهم ، فما الضحك والهزء إلا عجزا عن العلاج ، وجهلا وسوء أدب ، ثم (ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) إلا رسالة شيطانية مجرمة!.

تقول الروايات «إن أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي ابن وائل السهمي كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم ، وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاء في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم

٢٣١

الأصلع فضحكنا منه ، فنزلت الآية قبل أن يصل علي وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (١).

وهكذا يكون دور الإجرام طوال التاريخ ألا يكتفي المجرمون بعملياتهم الإجرامية ، بل ويحاولون بشتى الأساليب أن يجتثوا جذور الإيمان ، ومن أخريات الوسائل وأشنعها عادة الاستهزاء علّ المؤمنين ينضموا إلى صفوفهم وكلا ، إذا كانوا مؤمنين حقّا.

(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) :

مرور التنابز والتغامز ، هؤلاء المجرمون الأوغاد يواصلون دورهم الإجرامي إذ يمرون على المؤمنين الأوتاد ، مرورا ساخرا مائرا علّهم يرتبكون وينكسرون ، تغامزا بالعيون والأيدي ، وتنابزا بالألقاب الساخرة المرذولة قائلين : انظروا إلى هؤلاء الرجعيين كيف يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها الحاضرة لوعود كاذبة وأوهام لا أصل لها ، ويخاطرون بأنفسهم طلب الثواب!

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) :

مرحين بطرين مما فعلوا بالمؤمنين ، آخذين ذلك فكاهة لأهلهم لعلهم يفرحون ويمرحون ، كأنهم انقلبوا عن أفلام ممرحة ومسرحيات مفرحة ، راضين عن أنفسهم الحقيرة الرديئة ، مبتهجين بما فعلوا دون أن يتلوموا أو يندموا ويشعروا بحقارة ما صنعوا ، فويل لهم مما كسبت أيديهم ، وويل لهم مما يصنعون.

__________________

(١). التفسير الكبير لفخر الدين الرازي ج ٣١ ص ١٠١ ونور الثقلين ٥ : ٥٣٥ عن علي ابن ابراهيم قال : نزلت في علي بن أبي طالب (ع.

٢٣٢

(وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) :

هنا يوحّد المجرمون ثالوثهم بحق المؤمنين : (إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) ضلّوا سبيل الحياة ومتطلباتها فعاشوا كأنهم أموات ، تركوا لذة الحياة ونضارة الحياة وحبسوا أنفسهم عن الشهوات ، إن هذا إلا ضلال مبين! ولا أعجب من هذا الحمق العميق أن تحسب الهدى ضلالا والضلال هدى ، فالفجور لا يقف لحدّ ، وكلمتهم هذه من أفجر ما يتصور ، ولذلك لا تستحق الجواب إلّا كسخرية نزيهة عالية من هؤلاء الأغبياء الذين يتدخلون فيما ليس لهم :

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) :

فمن هذا الذي وكّلهم للحفاظ على المؤمنين؟ فهذا فضول على فضول : أن تسمّى الهدى ضلالا ، وأن يتدخل في شؤون المؤمنين بلا رسالة ممن له أمرهم ، اللهم إلا رسالة الشيطان!

ثم وفي الآخرة ، إذا المؤمنون في الجنة والمجرمون في النار نرى معاكسة بين الفريقين:

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) :

المؤمنون يضحكون عليهم جزاء وفاقا بما كانوا هم عليهم يضحكون ، كما ويضحك عليهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب وتضحك عليهم الجنة والنار بما كانوا يصنعون ، (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إلى مقاماتهم العليا ونعيمهم المقيم ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، وينظرون إلى دركات المجرمين ، إلى وجوههم الباسرة التي رهقها قترة وذلة.

٢٣٣

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) :

فقد كانوا يزعمونهم حافظين على المؤمنين موكّلين ، يحاولون إخراجهم من الإيمان إلى الكفر ، من الرجعية السوداء إلى التقدمية البيضاء! فهل ثوّبوا؟ ومن ذا الذي يثيبهم إلا الذي عاشوا عمالته : الشيطان الرجيم ، فهل بإمكان الشيطان أن يثيب حزبه كما وعدهم؟: (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ (١) وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٤ : ٢٢).

فطالما المجرمون يوجعون قلوب المؤمنين المضطهدين لأنهم مؤمنون ، فهم إذا بحاجة إلى بلاسم لقلوبهم المجروحة يوم الدنيا ولكي يواصلوا نضالهم ، فالله هو الذي يراهم كيف يتفكه بآلامهم المتفكهون ، إذن فهو الذي يبلسم قلوبهم إذ يفنّد آراء المجرمين ، وإذ يسخر منهم سخرية رفيعة فيها تلميح موجع ، طالما لا تحسّه قلوب المجرمين المقلوبة ، ولكن قلوب المؤمنين تستنيمها وتستريح إليها.

ثم هو الذي يذكرهم مشاهدهم معهم يوم القيامة ، ولكي يعدّوا لها عدتهم ، ولا يفشلوا فيما هم فيه من حياة إيمانية طيبة ، رغم آلامها الجسدانية ، فهم ليسوا ممن يعيش حياة الجسد ، إلا كمزرعة ووسيلة للحياة الروحانية.

٢٣٤

سورة الإنشقاق ـ وآياتها خمس وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما

٢٣٥

يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥)

سورة تحمل عرضا عن البعض من مشاهد الانقلاب الكوني عند الساعة وكما سبقت بصور أخرى في سور : «النبأ ـ الانفطار ـ التكوير ..» ولكنما طابع الانقلاب هنا يظهر في مطلع الاستسلام والذلّ لإرادة الرب ، طالما كان فيما قبلها في جوّ عاصف قاصف ، ولكي يتنبّه الإنسان النسيان عن غفوته وبطشه.

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) :

بما أن الشقّ هو الخرم الواقع في الشيء ، فانشقاق السماء هو اخترامها وافتراقها عن التئامها ، وانشقاق السماء ـ وليست كواكبها ـ يدلنا على أنها جرم متراكم وليست جوا خاليا فيها كواكبها ، إنها جرم وإن كانت تختلف خفة وثقلا ، ومن أثقل أثقالها كواكبها التي خلقت من تجمّع أجزائها وأجرامها ، والمملكة السماوية دوما في التوسع : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٥١ : ٤٧).

فانقلاب السماء يومه هو انشقاقها ، كما انقلاب نجومها وكواكبها هو انطماسها وانكدارها وانتثارها دون انشقاقها ، حيث القرآن يختص السماء بالانكشاط والإنشقاق ، ويختص كواكبها بالانطماس والانكدار والانتثار.

وعلى أية حال فلا مجال للانشقاق إلا في جرم متصل ملتئم ، وعلى أثر انشقاقها تنقلب عن صلابتها وتوهى : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٦٩ : ١٦) وهيا لحدّ الدّهان : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٥٥ : ٣٧) وكلّ شيء استرخى رباطه فقد وهي ، ومن رباط السماء الجاذبية العامة ، فالسماء

٢٣٦

مرفوعة يوم الدنيا (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فإذا انفلت رباط العمد غير المرئي واسترخى ، فهي إذا تنشق ، كما الكواكب تنطمس وتنكدر.

وعلى أثر انشقاقها تكشط : انخلاعا عن جلدها وجلدها : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) (٨٤ : ١١) وتفرج : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٧٧ : ٨) وتفتح : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (٧٨ : ٢٠) وتطوى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (٢١ : ١٠٤) يطوى طومارها ، فهي يومئذ واهية تمور مورا ، ووردة كالدهان ، وأخيرا تنقلب إلى ما كانت : دخانا : غازا متسانخ الأجزاء : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (٨٦ : ٩) (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (٤٤ : ١١).

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) :

سمعت لربها في انشقاقها لحد شكت من وقعة سماعها ، سماعا تكوينيا إذ أجابت ربها في انشقاقها ، كما أجابته مع زميلتها (الأرض) عند تكوينها : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ..) كناية عن نهاية طوعها لربها وعدم تمنّعها عن إرادته تعالى.

«وحقت» * : جعل حق الطاعة والسماع في ذاتها ، المفتقرة جوهريا إلى ربها ، الذي : «بيده ناصة كل شيء» و (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ).

أجل إنها «حقت» * لا أنها «حق لها» فحقّ الطاعة ليس لها منفصلا عن كيانها ، وإنما في جوهر ذاتها ، فلتأذن لربها وتشكو من وقع أذنها ، إذ لا تملك لنفسها إلا أن تأذن ، كما الكائنات كلها «أذن» * لربها ، في تعميرها وتدميرها.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) :

مدّ التدمير في النهاية ، كما مدّت مد التعمير في البداية ، وبمدّها ألقيت فيها

٢٣٧

وعمّرت رواسيها وجرت أنهارها : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) (١٥ : ١٩) ثم بمد التدمير تلقي ما فيها وتتخلى :

(وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) :

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) : انقلبت ظهر بطن على أثر زلزالها ومدها العنيف ورجفتها الأولى المدمّرة.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) :

كزميلتها السماء على سواء في الأولى والآخرة ، فكما البداية لم تكن صدفة وفوضى ، أو تدخلا من غير الله أيا كان ، كذلك النهاية ليست إلا بإرادته تعالى (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٥٣ : ٢٥).

(إِذَا السَّماءُ .. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) .. وهنا نسأل : أين جواب «إذا» *؟ هل إنه محذوف ليذهب ذهن السامع إلى أيّ مذهب ممكن فيكون أدخل في التهويل؟ أو أن آية الكدح جملة معترضة لتزوّد الإنسان بذكرى ما تتطلبه حياة الحساب ، ثم بعدها آية الجواب : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ ..)؟ أو إن «إذا» * ظرف لدور الكدح إلى الرب ولقائه ، كدحا يختص بأهوال القيامة وأحوالها ، قيامة الإماتة والإحياء؟ كلّ محتمل ، وخيرها أوسطها ، إذ لا يحصر كدح الإنسان بأهوال القيامة رغم الأخير ، ولا يهمل «إذا» * بلا جواب ، رغم الأول ، فالقرآن جواب عن غير سؤال ، فكيف لا يجيب عما يطرحه من سؤال! (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) :

وكما الكائنات كلها من أرضها وسماواتها كادحة إلى ربها فتلاقيه.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) : الإنسان ، لا الناس ولا الأناسي ، خطاب شخصي مع كل

٢٣٨

إنسان إنسان ، وليدل أن الكدح للجميع لا المجموع ، فكلّ كادح ، وعلى كلّ أن يكون كادحا.

فما هو الكدح في ذاته؟ وما هو هو إلى ربه؟ وما هو الم؟؟؟ وقى بعد الكدح؟ هل هو الكدح بنتاجه؟ أم هو الرب المكدوح إليه؟

الكدح هو السعي والعناء ، وهو دون الكدم ، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان أيا كان ، وإن اختلف نوعه : نفسيا وجسدانيا ، وإن اختلفت مراتبه حسب اختلاف الكادحين ، وإن اختلفت أهدافه ، فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض ، وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكدح .. فأنت أنت يا إنسان تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا على أية حال.

ثم الكدح أيا كان لا يقف لحده أو يفنى ، إلا أن يجتازه إلى آثاره عاجلا وآجلا ، شئت أم أبيت ، وإلا أن يجتاز بك إلى ربك : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) شئت أم أبيت ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) شئت أم أبيت ، فلا محيد لك ولا محيص عن هذين المصيرين اللذين ينتظرانك بعد الكدح ، في حياة الكدح وبعدها.

وإذا كنت ـ ولا بد ـ مسيّرا إلى هذا المصير ، فأحسن السير تحسن المصير ، كن كادحا إلى ربك عن تقصّد وإخلاص ، وإلى نتائج كدحك عند ربك ، لتخرج يوم العرض والحساب عن الشغب والإفلاس.

فكدحك أيها الإنسان كدحان : كدح نتاجه كدح وأشقى هو للحيوان ، وكدح نتاجه راحة ورضوان من الله وهو كدح الإنسان ، فكن كادحا كإنسان ، تراعي في أعمالك مرضاة الله تكسب الدارين ، والثانية أسعد وأبقى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

٢٣٩

وإذا كان واقع الكدح إلى لقاء نتاجه وإلى لقاء الله ، فالحريّ بمن يحترم عقله أن يتقصد هذين اللقائين ويعمل لهما ، دون أن يتجاهلهما ، كما الكثيرون من من الكادحين يتجاهلون ، كأنهم موقنون ألا لقاء هنا وهناك.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) : متعب نفسك (إِلى رَبِّكَ) الذي رباك كيف تكدح تكوينيا وتشريعيا «فملاقيه» : ملاقي كدحك وملاقي ربك ، فلتكن عاقلا في كدحك لكي يكون اللقاء مشرّفا سعيدا يوم الدنيا ويوم الدين في اللقائين.

الكدح الصالح ـ نفسيا وجسدانيا ـ ينتج لقاء صالحا في الدنيا ، معرفيا عن النفسي منهما ، وحيويا معيشيا عن الآخر .. وينتج ـ وبالأحرى ـ لقاء صالحا وأصلح يوم الآخرة : إذ تلاقي ربك لقاء المعرفة العالية ، ولقاء الزلفى والرضوان ، نتيجة الكدح في سبيل الله ، وتلاقي عملك كذلك : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ..) فاستعدّ ليوم اللقاء ولأيام اللقاء ، ولتعمل عملا صالحا ولا تشرك بعبادة ربك أحدا.

إن الإنسان ـ كائنا من كان ـ إنما يعيش بعمله ، عيشة الإنسان أم عيشة الحيوان ، فليكن إنسانا كما ربّاه ربه ، وليستعد للقاء ربّه بعمله.

شريعة الكادحين :

إن شريعة القرآن وسواهن شرائع إلهية غير محرفة ، إنها شريعة الكدح إلى الله في كافة النشاطات والمجالات ، ولا ترضى لأحد حياة الأريحية ، وأن يجعل كلّه على غيره ، ف «ملعون ملعون من ألقى كله على الناس».

فبإمكان الإنسان أن يعيش الكدح إلى الله حياته في كافة الحقول : عبادية وسياسية واقتصادية وثقافية وحربية ، وأضرابها من حقول الحياة التي تتطلب ـ كلّ حسبها ـ أتعابا فكرية وعضلانية وسواها ؛ فتصبح أعماله وأفكاره

٢٤٠