الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

١
٢

٣
٤

(٣) سورة آل عمران مَدنيَة

وآياتها مائتانِ

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ

٧

زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١١)

سميت هذه السورة ب «آل عمران» لأنهم من أبرز السمات المستعرضة فيها بين عرض الرسل والرسالات في مختلف المجالات المعرقلة عجلتها ، المكدرة أجواءها.

تستحضر هذه السورة صورة وضيئة من ردح زمني مدني للحياة الإسلامية قويت فيها شوكة المسلمين ، وبطبيعة الحال عارضتها الشائكة ضد الإسلامية من

٨

ثالوث الإشراك والتهود والتنصر ، فهي تحمل عرضا للشكات والاشتباكات والملابسات والعقبات التي أحاطت بهذه الحياة لحدّ كأن قارئيها يعيشون الحياة نفسها بحذافيرها وأظافيرها.

وقضية الهيمنة القرآنية ـ الكاملة ـ هي مواجهة كل عرقلة وشائكة ليقود المسلمين في خطواتهم بين كل الأشواك والمصائد والأحابيل والعقابيل.

ففي عرض الحالة الحاضرة لنزول القرآن في عهديه وما عرضتها من معارضات ضدها ، وحلول ربانية لمسكتها ، عرض لكل الحلول بمعارضاتها في كل مستقبل للحياة الإسلامية ، حيث الدعوة القرآنية خالدة على مر الزمن بمدار الضمانات الوقائية للكتلة المسلمة ما تمسكوا بها.

وقد تكون هذه السورة نازلة كترتيبها الآن ، حيث الرباط الوطيد بين آياتها ينادي بذلك الواقع ، إضافة الى كون الأصل في آي السور كلها نزولها كما رتبت إلا بدليل يدل على خلافه ، ولم يرد في الأثر أن آيات عمران نزلت في غير جوها ام غير ما هي الآن من ترتيبها ، فقد توافق وتجاوب تنزيلها وتأليفها.

(الم (١)).

هي كما في البقرة وعديدة سواها من المفتتحات بها وبأضرابها ، هي من مفاتيح كنوز القرآن ، فصلنا طرفا طريفا من فصل القول حولها في البقرة وسواها فلا نعيد.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ٢.

تجد تفصيل البحث عنها في آية الكرسي هناك فلا نعيده هنا.

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٣).

٩

«نزل» بالحق «عليك» بالحق (الْكِتابَ بِالْحَقِّ) «مصدقا» بالحق (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) بالحق ، فهو مخمس من الحق تنزيلا ومنزلا ومنزلا وتصديقا ومصدّقا : مصاحبا الحق وبسبب الحق ، معان عشرة كلها معنية على درجاتها دونما خليط من باطل ، ولا زوال لحقه خلاف سائر الحق قبله ، فهو الحق المستمر الخالد دونما نسخ أو تحوير خلافا لكل حق قبله.

والكتاب المنزّل هنا هو القرآن المفصل النازل نجوما قضية مختلف الحالات المقتضية والحاجيات.

و «مصدقا» حال أنها حال للكتاب ، كذلك هي حال للرسول المخاطب في «عليك» فكما : (آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) (٢ : ٤١) كذلك : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) (٢ : ٨٩).

ف (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لا تختص ـ فقط ـ بكتب الوحي ، بل وتعم رسل الوحي بآياتهم الرسولية والرسالية ، فكما القرآن يصدق ما بين يديه من كتابات الوحي بآياتها الرسالية ، كذلك رسول القرآن مصدقا لما بين يديه من رسل الوحي بآياتهم الرسولية ، كما وكل من الرسول والقرآن يصدقان كلّا من رسل الوحي وكتابات الوحي.

ودور تصديق القرآن لما بين يديه من كتابات الوحي هو واقع التجاوب بين وحيه ووحيها ، فلو لم يكن القرآن وحيا لم يكن ليصدق سائر الوحي لواقع الاختلاف بين وحي السماء ووحي الأرض.

وكيف (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) دون «ما خلفه»؟ وكل الرسل والكتب هي خلف القرآن ورسوله! ، لأن قرآن محمد ومحمد القرآن هما استمراران لما قبلهما من رسول وكتاب ، مكملان لهما ومهيمنان عليهما ، فليساهما خلف القرآن ونبيه في الكيان مهما كانا خلفهما في الزمان ، فحق التعبير ـ إذا ـ كما هو : (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)

١٠

كقارئ لهما وقال ومصدق إياهما ، فهما ـ إذا ـ أمامهما في الاتجاه ، مهما كان القرآن ورسوله إمامهما في التوجيه.

ثم التصديق لما بين يديه منحصر بما أنزل بوحي الله ، منحسر عما سواه لمكان سابق الذكر للكتاب ، والنبي ليس ليصدق إلا النبي ، ولا كتاب الوحي إلّا مثله دون ما يناقضه ام ليس بمحتواه من حيث الوحي ، الا تصديقا لصادق الواقع ولكنه ليس تصديقا رساليا ، و «مصدقا» هنا تعني الرسالي والرسولي ، ف (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) رسولا وكتابا ليس إلّا خالص الوحي مثله ، فان في تصديق المختلق تكذيبا لنفسه وتصديقا للمتضادين! ، ولا يعارض تصديقه لما بين يديه نسخه لقسم من أحكامه حيث النسخ بيان لأمد الحكم السابق وليس تكذيبا لوحيه ، ولا يعني تصديق القرآن لما بين يديه إلّا تصديق وحيه دون تطبيقه المطبق المطلق ، قضية ضرورة النسخ لقسم من الأحكام السالفة حتى في شرعة واحدة فضلا عن شرائع عدة.

وقد بين نطاق التصديق في قسم من آية ك (قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) (٤٢ : ١٥) و (قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (٢٩ : ٤٦) كما والقرآن بيان لما اختلف فيه أهل الكتاب من الكتاب دسا وتحريفا وتجديفا : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (١٦ : ٦٤) (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). (٢٧ : ٧٦)

وكما يصرح في عشرات من آياته أن اهل الكتاب حرفوا من كتبهم قسما من جهات أشراعها ومن أهمها البشائر الواردة فيها بحق هذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٧ : ١٥٦) فقد حرفوا بشائره لفظيا ومعنويّا كما حرفوا منها أحكاما وقصصا تحمل أحكاما أخرى : (... يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ

١١

مَواضِعِهِ ...) (٥ : ١٤) و (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ...) (١٦) (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢ : ٢٦) (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٢ : ٧٤).

وقد يعني تكرار التصديق لما بين يديه أنه ليس بدعا من الرسل ، ولا أن كتابه بدع من الكتب ، تقريبا وتشويقا لأهل الكتاب ان يصغوا إلى ذلك الجديد الذي هو استمرار للقديم ، سلسلة موصولة بين الله وخلقه على مر الزمن الرسالي.

ذلك ، ولكي يقارنوا بين الكتابين فيعرفوا ان القرآن وحي ـ وبأحرى مما عندهم ـ او ينظروا الى البشارات الموودوعة في كتبهم بحق هذه الرسالة الأخيرة ، متحللين عن كل تحريف وتجديف.

ذلك (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) بوجه يعم كافة الرسل بكتبهم ، ثم (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) خاص بعد عام لاختصاصهما بينها بأهمية خاصة ، وأنهما المعروفان منها في الحقل الكتابي دون ما سواهما من كتاب غابر لم يبق له على أثر إلّا فيما شذ وندر.

و «الإنجيل» مفردا (١٢) مرة في القرآن لمحة لامعة على تحرّفه إذ أصبح أناجيل لا تنسب الى السيد المسيح (عليه السلام) اللهم إلّا ما لا خبر عنه حيث دفن في مقبرة التاريخ المسيحي.

والقرآن لا يصدق إلا الإنجيل النازل على السيد المسيح (عليه السلام) دون الأناجيل التي ألفها جماعة آخرون وهي متعارضة مع بعضها البعض ،

١٢

وأخرى مع صادق الوحي ، وثالثة مع الفطرة والعقلية والواقعية السليمة (١)!.

(... مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) كل ذلك رسولا ورسالة :

(مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ٤.

فكل ما انزل من قبل (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) و (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) كيانه هدى للناس ، كما (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ).

والفرقان ـ ككل ـ هو الفارق بين الحق والباطل بواقعه المبرهن وأصدق مصاديقه هو القرآن ، فقد ذكر أولا بلفظ «الكتاب» وأخيرا «الفرقان» مما يدل انه هو الأول والأخير ، فكل كتابات السماء تقدمات لذلك الكتاب ، كما أن كل رسل السماء تقدمات لذلك الرسول.

ومهما كان كل رسول فرقانا بنفسه وبآيات رسالته ، ولكنه لم يكن فرقانا بكتابه ، فهذا الرسول فرقان بكتابه كأفضله ، فإنه آية خالدة رسالية ورسولية على مدار الزمن الرسالي ، وما هكذا اي كتاب بين يديه!.

ومهما شمل «الفرقان» المنزل هنا كل فرقان مع الرسل دون كتاباتهم ، فالمصداق الأعلى والأجلى للفرقان هو القرآن ، كما وهو الرسول فانه من المنزل كما القرآن : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) (٦٥ : ١١).

وطالما القرآن المفصل منزّل تدريجيا ، ولكن المحكم منه ـ النازل ليلة

__________________

(١) للاطلاع على حال الأناجيل راجع كتابنا (المقارنات) وقد جاء شطر من عديد الأناجيل في الفرقان ٢٧ : ١٧٦ ـ ١٧٧.

١٣

القدر ـ منزل دفعيا فهو : فرقان أول ، ثم المفصل منه فرقان ثان منزل ، لأن كل نازل منه في نجمه فرقان ، فهو ـ إذا ـ فرقان جملة وتفصيلا ، انزالا وتنزيلا ، لا مثيل له في كتابات الوحي عن بكرتها.

فذكر الفرقان هنا بعد القرآن تعظيم للقرآن وتعميم للفرقان لكل رسول انه لا يأتي الا بفرقان ، وفرقان القرآن يمتاز عن سائر الفرقان بما يفرّق بين أصيل الوحي فيما بين يديه عن دخيله ، وانه برهان لرسوله رسوليا ورساليا ، خالدا على مرّ الزمن ، بل لا يزداد إلّا ظهورا وبهورا ، وأنه المقياس الأصيل لما يروى عن المعصومين (عليهم السلام) تصديقا لما وافقه وردا لما خالفه.

ذلك! وما أشبه من ميزاته المنقطعة النظير بين كل فرقان لكل بشير ونذير ، فانه شرعة بأكملها وآية رسالية ورسولية بأكملها ، قضية خلود الشرعة بآيتها (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).

إذا ف (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) وهي مجموعة في ذلك الفرقان ، ومنجّمة في سائر الفرقان : انفسية وآفاقية : رسلا ورسالية ورسولية ، كفرا عن تصديقها ، وسترا مكذبا او متجاهلا عن دلالاتها الصادقة (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) وفاقا لشد الكفر وعدّه وجزره ومدّه (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغلب (ذُو انْتِقامٍ) ممن يتألب او يتغلب على رسالات الله وفرقانه.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ٥.

«شيء» هنا في سياق النفي تشمل كل ما يستحق اسم الشيء ، واقعا ـ وهو حق الشيء في مثلث الزمان ـ بإمكان وقوعي ومصلحي ، ام ممكنا ذاتيا لا يستحق التكوين حسب الحكمة العالية ، واما المستحيل فليس شيئا باي معنى حتى تشمله «شيء» فانما الله يعلم استحالته حقه ونحن نعلمها على هامش علمه.

١٤

ثم (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) تعبير مكرور في القرآن عن كل كائن على طول خط التكوين ، ظرفا لواقع «شيء» ومظروفه ، دون إبقاء لكائن إلا وهو شامله.

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ٦.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨٢ : ٨) (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (٦٤ : ٣) ولا أنتم الناس فحسب ، بل و (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (٥٩ : ٢٤) لكل صورة ، ولا يخلو أي خلق من صورة هي منه تعالى كخلقه سواء.

«هو» لا سواه (الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) بالصورة الإنسانية بجزئيها الروحية والبدنية ، روحية عامة هي الروحية الانسانية ككل ، المشتركة بين الكل ، وأخرى خاصة حيث تختلف الأرواح من جهات عدة قابلية وفاعلية واستعدادا أماهيه ، وبدنية عامة مشتركة وهي الهيكل الإنساني المشترك بين الكل ، واخرى خاصة هي مختلف الصور والشاكلة ظاهرة وباطنة ، وكل هذه الأربع داخلة في نطاق «يصوركم» هنا وفي سواه : (صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث (خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) في جزئيه فلا أفضل منه نوعيا اللهم إلا فضيلا مثله وهو القليل : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً).

وأرحام النساء ، مهما كانت خلقية ، ام مصطنعة ان أمكنت (كَيْفَ يَشاءُ) لا ما يشاءه سواه (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ).

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في ايّ من اختصاصات الألوهية كالخلق والتصوير والتدبير والتقدير «العزيز» في ألوهيته «الحكيم» فيها ، فلا يغلب ولا يخطأ او يجهل او يغفل.

١٥

هنا (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) كما هناك (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) تحمل مختلف الصورة الروحية والبدنية للإنسان ، فليست هي بمشيئة الوالدين ـ اختيارا ام دون اختيار ـ او علم الأجنة ، انما هي بمشيئة الله وحده لا شريك له.

هنا نتحدث قليلا عن الصورة الجسدانية الملموسة ، فقد قضت الحكمة الربانية في خلقه أن يركّب كل شخص إنسانا وسواه بصورة مختلفة عن الآخر رغم التشابه الواقع بين شخص وآخر.

ولقد بين علماء الوراثة قريبا أن احتمال التشابه التام بين شخصين هو بنسبة واحد من الرقم عشرة مسبوقا بأربعين صفرا (١ / ١٠٤٠) وهذه حقا استحالة حسابية منطقية!.

ذلك! لأنه ـ حسب تقديرنا ـ عند ما ينصهر الحيوان المنوي مع البويضة ـ وكل منهما يحمل ربع مليون «ناسلة مورثة» تقريبا ـ لا يقدر أحد إلّا الله أن يتنبأ بالشكل الذي سيكون عليه مستقبل الجنين البيولوجي ، والتي تحكمها هذه المورثات ، وقد يرجع الجنين في نسبه ـ أي ميزاته البيولوجية ـ إلى أبعد الحدود ، وربما إلى جدنا الأول وكما في حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند ما سأل رجلا ما ولد لك؟ : ما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية ، قال : فمن يشبه؟ قال الرجل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه ، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لا تقولن هكذا ، ان النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم ، أما قرأت هذه الآية في كتاب الله (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قال : شكّلك.

ذلك! ورغم أن علم الوراثة باستطاعته نفي الأبوة عن طفل إذا تعارضت

١٦

فئة دمه مع فئة دم والده ـ وهذه حالات نادرة ـ كأن تكون فئة دم الوالدين من فئة (A) وفئة دم الطفل من فئة (B).

رغم ذلك لا يستطيع التأكد بأبوة الوالد لطفله ، فعلم الوراثة لا يستطيع الجزم بذلك أبدا ، ومن هنا نعرف طرفا من البعد العلمي العظيم في التشريع الإسلامي من خلال قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الولد للفراش وللعاهر الحجر» حيث يحصر المعول عليه في اثبات نسب الطفل لوالده كما بينه علم الوراثة اليوم.

ذلك ، وأما أنصار الانتخاب الطبيعي وتطور المخلوقات الحية بعوامل البيئة والمناخ ، من الذين أرجعوا اختلاف الألوان في الجنس البشري والمخلوقات الحية للمناخ والطبيعة ، أما هؤلاء فسقطت هرطقتهم هذه الخواء أمام اكتشافات المورثات التي تحكم اختلاف الألوان في المخلوقات.

فلما ذا سكان الولايات المتحدة الأمركية من الزنوج لم يتغير ألوان بشراتهم بفعل المناخ وهم في مناخ مختلف عن افريقيا منذ مئات السنين؟ وكذلك بالنسبة لسكان جنوب أفريقيا من البيض.

أجل لا ننكر أن للبيئة والمناخ تأثيرا بحول الله وقوته ، ولكننا ننكر أن يكونا هما الأصل الأصيل في اختلاف الصور والألوان ، فانما (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ)! وإليكم مثالا ماثلا بين أعيننا «بصمات الأصابع» كما تبدو في أواخر الشهر الثالث من حياة الجنين (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) حيث لا تتشابه البصمات إلا في التوأم التام الصحيح المتأتي من بويضة ملقحة واحدة ، سبحان الخلاق العظيم!.

وتلك هي الصورة المختلفة بين الناس ، ثم المتحدة بينهم تشتمل على ثلاثة عشر هي:

١٧

الطبائع ـ الأركان ـ الأخلاط ـ الجواهر ـ الطبقات ـ الأعمدة ـ الحبال ـ الخزائن ـ المسالك ـ الأنهار ـ الأبواب ـ الحراس ـ العمودان ، فكل شخص من الإنسان هو بمفرده كمدينة سبحان الخلاق العظيم!.

١ فالطبائع هي الحرارة ـ البرودة ـ الرطوبة ـ اليبوسة.

٢ والأركان الأصلية ايضا أربعة هي النار والهواء والماء والأرض ، والعلم الآن جعلها مركبات من عناصر تبلغ زهاء (٧٥) أم وتزيد.

٣ والأخلاط أربعة هي : الصفراء والدم والبلغم والسوداء ، مهما زاد عليها العلم ما زاد.

٤ والجواهر تسعة هي : عظم ـ مخ ـ عصب ـ عرق ـ دم ـ لحم ـ جلد ـ ظفر ـ شعر.

والطبقات عشر هي : رأس ـ رقبة ـ صدر ـ بطن ـ جوف ـ حقو ـ وركان ـ فخذان ـ ساقان ـ قدمان.

٦ والأعمدة هي (٢٤٨) وهي العظام.

٧ والحبال : (٧٥٠) حبلا هي الرباطات الممتدة المشدودة على العظام وهي الأعصاب.

٨ والخزائن الإحدى عشر هي : الدماغ ـ النخاع ـ الرئة ـ القلب ـ الكبد ـ الطحال ـ المرارة ـ المعدة ـ الأمعاء ـ الكليتان ـ الأنثيان.

٩ والمسالك والشوارع والطرقات في العروق الضوارب (٣٦٠).

١٠ والأنهار هي : الأوردة (٣٩٠).

١٨

١١ والأبواب الإثني عشر هي : العينان ـ الأذنان ـ المنخران ـ السبيلان ـ الثديان ـ الفم ـ السرة.

١٢ والحراس هي الحواس الخمس : السمع ـ البصر ـ الشم ـ الذوق ـ اللمس.

١٣ والعمودان هما الرجلان.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧).

آية فريدة في القرآن تقسّم آياته إلى محكمات ومتشابهات ، تنديدا بالذين يتبعون ما تشابه منه ، وتمجيدا بمبتغي محكماته ، والمستفسر لمتشابهاته بها ، وتجهيلا لتأويله ككلّ وعلّه للكلّ ، فيحق لنا ان نسبر أغوارها لنحصل على صراط مستقيم في تفسير آي الذكر الحكيم.

هنا اثني عشر سؤالا تطرح حول آية التقسيم هذه ، للإطاحة بكل تقولة عليها على ضوء أجوبتها الصالحة.

١ هل هذه الآية محكمة يصح التمسك بها في ذلك التقسيم ومعرفة كل قسيم ، أم متشابهة؟.

٢ ثم ذلك التقسيم الثنائي حاصر ، أم هناك قسم أو اقسام أخر من الآيات؟ كالمجملات!.

٣ كيف التوفيق بين آية التقسيم ، وثانية تدل على أن القرآن كله محكم : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (١١ : ٢) وثالثة تدل على انه كله متشابه : (اللهُ نَزَّلَ

١٩

أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ..) (٣٩ : ٢٣).

٤ كيف جمع فيها بين «هن» ضمير الجمع ، وبين «ام الكتاب» مفردة ، فجعل الواحد صفة للجمع؟ وهذا فت في عضد البلاغة وثلمّ جانب الفصاحة!.

٥ ما هو المحكم والمتشابه والفرق بينهما بصورة محكمة غير متشابهة؟.

٦ كيف تكون المحكمات أمّا للكتاب؟.

٧ ما هو اتباع المتشابه المنهي عنه؟.

٨ بماذا تفسّر المتشابهات وكيف تفسّر؟.

٩ ما هو الوجه في اشتمال الكتاب على المتشابهات وهي مسرب الشبهات؟.

١٠ من هم الراسخون في العلم؟ وهل هم يعلمون تأويله أم لا يعلمون؟.

١١ هل التأويل يخص المتشابهات ام يعم المحكمات؟.

١٢ ما هو الفرق بين التأويل وتفسير المتشابه؟.

١ قضية الوحدة في هذه الآية من حيث التقسيم إذ لا ثانية لها ، والتأمل فيها حقها ، أنها محكمة ، وإلّا لفسد التقسيم وأصبح القرآن كله متشابها حيث لا يفهم الفرق بينهما على ضوء آية التقسيم ، فهي قطعا في مقام بيان التقسيم ، فلو كانت متشابهة ـ ولا محكمة غيرها تفسر هي بها ـ لعاد القرآن كله متشابها ، وبطل علاج التشابه المدلول عليه لها ، ولم يصدق : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢ : ٤) وسقط الاحتجاج بواجب التدبر فيه : (أَفَلا

٢٠