الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٠

١
٢

٣
٤

(١٨) سُورَة الكهف مَكيَّة

وآيَاتها عَشرُ وَمَائة

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥)

٧

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٨)

المحور الرئيسى في الكهف هو تصحيح العقيدة وتثبيتها وإصلاح المنهج الفكري والنظري واقامة القيم القيّمة بميزان الله ، فيها ابتداء بالحمد لله منزل الكتاب القيم الحاوي تلكم القيم ، وانتهاء بالعمل الصالح ونفي الشرك ، وبينهما قصص منقطعة النظير في سائر القرآن ترأسها الكهف وتختمها قصة ذي القرنين وبينهما قصة الجنتين ، وقصة موسى مع خضر ، وإشارة الى قصة آدم وإبليس ، وهذه القصص تستغرق احدى وسبعين من عشر ومائة من آي السورة ، ثم وما تتبقّى منها تعقيبات على قصصها وإلى بعض مشاهد القيامة وسائر الحياة ام ماذا من مذكرات هذه القصص ، فإنها ليست مجرد قصص تروى ، بل هي حقائق تاريخية تلقى كدروس منضجة للعقول منتجة في كل الحقول لمن القى السمع وهو شهيد.

٨

ولماذا قصة الكهف بين قصصها تختص اسم السورة بنفسها؟ لأنها كهف لمن يفر بدينه ، كهف للمتمسكين بالتوحيد ، المستقيمين فيه ، المحافظين عليه ، والتوحيد هو حجر الأساس فيما يتبناه القرآن في سوره كلها ، فلتكن هذه كهفا بينها.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تستغرق كل حمد من كل حامد ولكل محمود فتحصره في الله ، لأنه الله ، وتحسره عمن سوى الله لأنه سوى الله ، ثم لأنه (رَبِّ الْعالَمِينَ) كما في فاتحة الكتاب ، ربوبية تكوينية وتشريعية للعالمين ككل ، وهنا لأنه (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) فانه كأنه هو ربوبيته كلها ، فانه الغاية القصوى من خلق الكون بمن فيه العالمون ، فالحمد لله لأنه (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) كالحمد لله لأنه (رَبِّ الْعالَمِينَ)!

و «انزل» اللّامحة بنزول دفعي كما التنزيل هو التدريجي ـ لا يعني هنا نزوله في ليلة القدر حيث الغاية المعنية هنا (لِيُنْذِرَ .. وَيُبَشِّرَ) لا تناسب إلّا تفصيل الكتاب المنزل ، اللهم إلّا اعتبارا للكتاب المفصل أمرا واحدا طيّا عن طول الزمان وعديد النزول ، بل «الكتاب» ككل.

ولماذا «على عبده» لا محمد ولا الرسول؟ علّه للتدليل على الشرط الأصيل في ذلك الإنزال التنزيل وهو العبودية القمة ، فبإنزال الكتاب على عبده تحصل الرسالة!.

٩

ثم و «عبده» مفردا كأنه هو عبده لا سواه ، دون عبد من عباده؟ تلميحا لأنه في قمة العبودية ، لا يساوى ولا يسامى (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ).

فمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «عبده» كأنه فقط لا سواه ، فلا نجد «عبده» في اشرف المواقف إلّا إياه (نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ) (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) اللهم إلّا (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا)(١) ولكن «زكريا» هنا تبين انه لولاه لما عرف ب «عبده».

وكذلك القرآن كتابه «الكتاب» كل الكتاب كأن لا كتاب سواه ، كتاب في القمة ينزل على (عبد) في القمة ولأنه يحوي كل كتابات الوحي وزيادة!

ثم (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً) حالان وصفيتان ، أولاهما سالبة تسلب عنه كل نقص وانحراف ، وأخراهما ايجابية تثبت له كل كمال ، وهذه طريقة مثلي في كل تعريف كامل وكما في أسس الإسلام (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) تخلية ثم تجلية.

والعوج فتحا هو ما يدرك بالبصر سهلا ، وكسرا ما يدرك بالبصيرة ، فلا يرى ارباب البصيرة في القرآن ونبيه انحرافا واعوجاجا وفطورا : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٦٧ : ٤) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (٣٩ : ٢٨) وحقيقته ان يكون فيما يصح عليه ان ينتصب ، ويميل ويضطرب ويستقيم ،

__________________

(١) على الترتيب ٢٥ : ١ ـ ٥٢ : ١ ـ ٥٧ : ٩ ـ ٢٩ : ٢٦ و ١٩ : ٢.

١٠

فقد يجعل الله ما يتوارد عليه الحالتان فهو غير معصوم ، أم لا يتوارد له الا حالة واحدة كما القرآن ونبي القرآن ، فالعصمة لزامهما دون نكوب عن المنهاج ولا هوة الاعوجاج.

والقيم هو مؤكد القيام والقوام ، تعنيهما «قيّما» أيا كان ، قواما في نفسه إذ يهدي للتي هي أقوم ، وقياما في دعوته إذ يقوّم القاعدين ويستيقظ النائمين ،

في سائر القرآن لا نجد قيوما إلّا الله ولا قيما إلّا القرآن وقد يقرنان : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) (٣ : ٢) فمن قيموميته نزل ذلك الكتاب القيّم ، فهو قيّم كما الله منزله قيوم ، باق يدوم ما بقي الدهر دون تحرّف او نسخ.

فالقرآن قيّم كما نبي القرآن ، والدين منهما وبينهما قيّم (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) (٣٠ : ٤٣) (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً. فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (٩٨ : ٣) (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٩٨ : ٥) وأقوم القيّم في هذا الدين والكتاب قمة التوحيد القيمة (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١٢ : ٤٠) وكما ينبو من الفطرة التي فطر الناس عليها ، (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠).

ثم «له» في الحال الاولى تعني «عبده» و «الكتاب» على البدل ، كما الجملة حال عن الإنزال ، فتعني : انزل (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) : إنزال دون عوج ، كما ومنزل دون عوج : الكتاب ، ومنزل دون عوج «عبده» حال مثلثة عن ثلاث : إنزالا ومنزلا ومنزلا!

و «قيما» حال مربعة ، هذه ، والله ، فانه قيّم وإنزاله قيّم وكتابه قيّم وعبده قيم!

١١

ومن العوج في إنزال الكتاب الوحي ان يشتبه بوحي الشيطان او ينسى ، ومن العوج في «عبده» نقصان في مثلث العصمة : تلقيا وإلقاء وتطبيقا لوحي الكتاب ، ومن العوج في الكتاب ، تعرضه لتحريف او نسخ ، او عوج له في دلالة او مدلول أما ذا (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ).

وكما الله قيم ، فانزاله «الكتاب» قيم وكتابه قيم ورسوله قيم بقمة العبودية وقوامتها أمّاذا من لزامات الرسالة بالوحي.

فكل عوج من العوج عن الثلاث منفية ، وكل قوامة وقيام للأربع مثبتة.

ولماذا «لم يجعل» والعبد دون اتصال بالوحي اعوج دون ان يجعل له عوج ، وهو متصلا بالوحي ليس له عوج؟

وهكذا الأمر في الكتاب ، وأما الأنزال فطالما العبد متصلا بالوحي ليس له عوج؟

علّ جعل العوج في «عبده» ان ينقص من كماله الرسالي كما في الكتاب من كماله في الوحي ، فلان الوحي والرسالة يقتضيان كمالا دون عوج ، فلا يتصور لهما عوج إلّا ان

يجعل لهما عوجا.

وما هو الهدف في ذلك الإرسال مختصرا لا محتصرا؟ : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً).

وترى ما هو البأس الشديد؟ ومن لدن من هو؟ انه بأس شديد من الله عذابا في الدنيا وأشد منه في الاخرى ، وبأس شديد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حربا منه ومحاربا هو من لدنه كعلي (عليه السلام) فانه من رسول الله وحربه منه فمن لدنه : الله ، يعم عذابات الله ، ومن لدن رسول الله : يعم لدنه متصلا : حربه ، ومنفصلا محاربه الذي هو من لدنه (١).

__________________

(١) فضمير الغائب راجع الى الله اصالة ، والى الرسول رسالة ، رجوعا بدليا الى كل ـ

١٢

«من لدنه» تتعلق بالمستقر المحذوف «كائنا» لينذر بأسا كائنا من لدنه ، لا لينذر من لدنه لأنه من توضيح الواضح!

فنتيجة عدم القوام بهذا القيّم ، بأس في الحياة الدنيا ومعيشة ضنك : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (٥٩ : ١٤) ثم بأس أشد في الأخرى : (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) (٤ : ٨٤).

(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) فغير المؤمنين التاركين الصالحات ينذرون بأسا شديدا ، والمؤمنون العاملون الصالحات يبشرون أجرا حسنا ، فأين هم المؤمنون التاركون الصالحات؟ طبعا هم عوان بين ذلك ، لا الى بأس شديد ولا أجر حسن. لهم بأس قدر ترك الصالحات ، ولهم أجر قدر الإيمان والحسنات (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً).

هؤلاء في بأس شديد وأولاء في أجر حسن.

ومن بين المنذرين من هم من انحسهم وأسوئهم أدبا لرب العالمين :

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)(٥).

(اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ولادة او تشريفا (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) جنس العلم أيا كان (وَلا لِآبائِهِمْ) الذين هم على آثارهم مقتدون ، مقلد جاهل ومقلّد جاهل في قوله جاهلة قاحلة (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) ولا ترتبط

__________________

ـ على حدّه ، ومن بأسهم في الاولى في التأويل ام عموم الدلالة كمصداق جلي وفي بأس الحرب الامام علي (عليه السّلام) وهو من لدن رسول الله كما في تفسير العياشي عن البرقي عمن رواه رفعه عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) لينذر بأسا شديدا من لدنه قال : البأس الشديد علي وهو لدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قاتل معه عدوه فذلك قوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ).

١٣

بعقولهم وأفكارهم فلا تتجاوز الأفواه ، فالكلمات العاقلة العالمة تخرج من نبعة العلم ومصدر العقل ثم تصل الى الفم ، ف (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ذا بعدين ، حيث تناحر كلمتهم تلك لا فقط الواقع بل وعقولهم إذ (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)!

فهناك صدق مطلق : قول يوافق مثلث العقيدة والعمل والواقع مسنودا الى دليل بارع ، وكذب مطلق : لا يستند الى علم نفسي ولا علم تقليدي ولا يوافق الواقع ، ومن أكذبه ما يستحيل دليلا وواقعا كالقول (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ف (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) تحصر قولتهم تلك في كذب على كل ابعاده ، عريقا في الكذب حيث يستحيل صدقه لاستحالة واقعه والدليل عليه.

وبينهما صدق وكذب نسبيان ، كمن يقول ما لا يعتقده ولا يعمل وفقه رغم انه واقع كقولة المنافقين (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فانها صادقة بجنب الواقع وكاذبه في نفسه إذ لا يعتقده.

او يقول ما يعتقده ويخالف الواقع ، وافقه عمليا او خالفه ، وهو يعاكس قول المنافقين ، فأردء دركات الكذب هو المطلق المستحيل ، ثم المطلق الممكن ، ثم ما يخالف العقيدة ثم المخالف للواقع ، ثم ما خالفه عمله.

كما واصدق الصدق هو المطلق الواجب ثم ما بعده نازلا فنازلا.

والقائلون اتخذ الله ولدا ، كاذبون في ابعاده كله : ١ لا علم لهم شخصيا ٢ ولا تقليديا ٣ فلا يعتقدون ما يقولون ٤ ولا يوافق الواقع ٥ ولن يوافقه ٦ ولن يجدوا له ولدا ٧ ولن يجدوا لقولهم برهانا ، فهم في دركاتهم السبعة الجهنمية من كذبهم ف (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)!

وإنها كلمة خاوية المدلول لا تحوي معنى بأي معنى ، إذ لا تدل على

١٤

واقع معتمد ولا الواقع المطلق ، إذا فهي «كبرت» في الأكاذيب إذ ليس فيها إلّا كذب ، معناها فظيع ، وفحواها عظيم ، فكبرت الكلمة كلمة تخرصا في ذات الله دون تحرّس.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ٣) (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) (٣٥ : ٨) وبخوع النفس هو قتلها غما وهما ، وكان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) يتحسر على تركهم الايمان كأنه باخع نفسه ، فنهاه الله تعالى عن ذلك تحننا عليه وتلطفا ، وما «لعل» هنا إلّا موضع ترج لموقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) من دعوته لو خلي وطبعه والله ينهاه تحننا وتعطفا عليه لا انه تعالى يترجّاه وحاشاه!.

و (بِهذَا الْحَدِيثِ) هو القرآن كما ونبي القرآن حديث (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ١٨٥) وكما الله ثالث اثنين حديث : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٤٥ : ٦) والقرآن ونبيه من آياته ، أحاديث ثلاثة لا تعني حدثا ولا سيما في الله ، وإنما ما يتحدث عنه ناصعا مبرهنا لاخفاء فيه ، إلّا في القرآن ونبيه فإنهما من حديث حادث اضافة ناقصة عن حديث الله غير الحادث ، ومن الطريف الظريف ان هذا الحديث القرآن يعم الثلاثة في بعدين ، ثانيهما انه أهم حديث في القرآن حيث يتحدث عن الله ، ويتحدث عن نفسه وعن رسول الله ، تعريفات ثلاث بمثلث الحديث!

و «آثارهم» هي الأثرات السيئة في الحياتين فهي من مخلّفات (لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، ولا تبخع على آثارهم أسفا! .. أو ان آثارهم خلفهم ، تلاحقهم لتلحقهم قاتلا نفسك

١٥

خلفهم (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ..) ألا يا صاحب الرسالة السامية؟ أنت تؤدي واجبك ثم وما عليك الا يهتدوا ف (لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٦ : ١٢٧) (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ).

وفي الحق حقيق لحامل رسالة ودعوة ان يبخع نفسه إذا قصّر في رسالته ، والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما قصر ولن : فلما ذا البخوع أسفا؟.

وغير حقيق له ان يبخع لماذا الله ما حملهم على الهدى وهم مصرون على الردى ، فان الله لا يحمل أحدا لا على هدى ولا ردى ، فلما ذا البخوع أسفا؟؟

وغير صحيح ان يبخع لماذا هم مصرون على الضلالة ، وهو تقصير منهم لا منه فلما ذا البخوع أسفا على آثارهم : خلفهم ـ وعلى آثارهم بأعمالهم ف (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)؟

وقد بلغت وما اهتدوا وليس الله ليهدي قوما يخالفونه الى الردى (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ)!

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٨).

والناس بالنسبة لما على الأرض الزينة منقسمون الى ناس انسان ، ونسناس حيوان : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧).

وهؤلاء يعلمون (إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) (٢٩ : ٦٤) «فمن ابصر إليها أعمته ومن ابصر بها بصرته» (١) ف (ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) لا

__________________

(١) من وصف الامام علي (عليه السلام) للدنيا بين الناظرين إليها.

١٦

هي غاية للحياة عليها ولا باقية وإنما «متاع قليل ثم إلينا يرجعون»!

فلما ذا (زِينَةً لَها) معاصرة للعائشين عليها دائرة؟ (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)! ابصارا لها فإخلادا إليها او ابصارا بها فزهدا فيها! «ليبلوكم أيكم احسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله» (١) حيث العاقل ينظر الى هذه الزينة الفانية إبصارا بها الى ما وراءها ، لا إبصارا إليها كغاية قصوى ، فهو إذا فيها ورع عن محارم الله سرع في طاعة الله! لا هلع ولا هرع في زينتها! ولماذا (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)؟ وهم القلة القليلة ، لا «أسوء عملا» وهم الكثرة الكثيرة؟ لأن الهدف الرئيسي من البلاء بزينة الحياة الدنيا هو التسابق في حسنات الأعمال مهما قل أصحابها ، دون سيئاتهما مهما كثر أصحابها.

ومن آيات اندثارها واندحارها (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً).

الصعيد هو المرتفع الصاعد حيث تصبح الأرض بما عليها يوم قيامتها كتلة مرتفعة كلها ، «جرزا» لا نبات فيها (٢) ، قاحلة لا ماء فيها ولا كلاء : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً)(٢٠ : ١٠٧).

فالجرز مأخوذ من «ناقة جروز» إذا كانت كثيرة الأكل لا يكاد لحياها

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢١١ اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في التاريخ عن ابن عمر قال : تلا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية : «لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ـ فقلت : ما معنى ذلك يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)! قال ..

(٢) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى : «صَعِيداً جُرُزاً» قال : لا نبات فيها.

١٧

يسكنان من قضم الأعلاف ونشط الأعشاب ، ك «سيف جراز» إذا كان يبرى المفاصل ويقطّ الضرائب ، فسميت ارض القيامة جرزا إذ كانت كأنها أكلت نبتها فلم تدع منه نابغة ولا تركت طالعة!.

«لنبلوهم» تلمّح ان افعال الله تعالى مغيّاة لحكم وأغراض ، وهنا (زِينَةً لَها) لغرض الابتلاء ، فالدنيا دار بلاء برخائها وعنائها وأكثرها عناء ، والغرض الأسمى من الابتلاء التسابق في الحسنى ان يتذرعوها الى الله زلفى (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)؟ فليست السوأى أو التسابق فيها من أغراضها.

وترى ان الله يبلو عباده اختبارا واستعلاما وهو علام الغيوب ، فانه يعلم السّر وأخفى؟ كلا! وإنما الابتلاء بالخير والشر كدحا الى ربهم كدحا ليتكاملوا ، وليعلموا هم أنفسهم من هم ، فعند الامتحان يكرم المرء او يهان!

فالله يعلم مسايرهم ومصائرهم ولكنه يبلوهم لكي يزهد من يزهد ، ويزهو من يزهو ، فيجزي على ما يصدر منهم فعلا ، بما يحصل منهم في هذه البلوى عملا ، وهنا يسكت عمن لا يحسنون صنعا حيث الهدف الاسمى (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)؟ فلهذه الزينة نهاية محتومة ، ستعود الأرض عنها جرداء لا ماء فيها ولا كلاء!.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى

١٨

الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ

١٩

الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا

٢٠