الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

الكل ، ولو أريد منها جماهر الخير والتقى ، لم يكن فيها منقبة للرسول ، إلا كمالا منفصلا عن ذاته ، وبين ما هو توضيح للواضحات : «إن مبغضك رجل كافر» ثم لا تحمل هذه الهذيانات من بشارات الغيب وإنذاراتها ما تحمله سورة الكوثر ، فكوثر الرسول بشارة ، وبتر شانئه إنذار ، وكلاهما من ملاحم الغيب ، والقرآن يتحدى ـ فيما يتحدى ـ بسورة واحدة منه ، وأقصرها الكوثر ، وطالما حاول الحاقدون المعاندون للرسالة المحمدية وقرآنها أن يعارضوه فخابت مساعيهم ، ولو كان لبان.

٤٨١

سورة الكافرون ـ مكية ـ وآياتها ست

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

* * *

ندرس في هذه السورة كيف يجب أن نعامل الكفار الذين : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، فهل نبذل من عقيدة الإيمان أو أعمال الإيمان لكي نسايرهم علّهم يؤمنون ، أم هذه خطوة ماكرة وشيطنة مدروسة منهم ، يريدون أن نصبح كأمثالهم لقاء أن يؤمنوا بما نؤمن كما يدعون ، وإن هم إلا كاذبين؟ ..

إن الإيمان لا يقبل المخادعة والمسايرة ، وليست هذه المبادلة تجارة رابحة ولو وفوا بعهدهم ، فكيف وهم كاذبون!.

٤٨٢

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) :

الكافرون الذين لا يؤمنون ، ولا يرجى منهم أن ينسلكوا في سلك المؤمنين ، بل هم يريدون من المؤمنين مسايرتهم ، علهم يخرجونهم عن الإيمان كأمثالهم ، ولذلك يستحقون هكذا خطاب قارع ، يقرع أسماعهم وقلوبهم المقلوبة علهم ينتهون.

.. يلقى الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية خلف ، يلقون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلين : يا محمد! هلمّ فلتعبد ما نعبد ، ونعبد ما تعبد ، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه ، كنت قد أخذت منه حظا ، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه ، كنا قد أخذنا منه حظا ، فأنزل الله هذه السورة.

وفي رواية أخرى : أن قريشا قالت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فأجابهم الله بمثل ما قالوا : فقال فيما قالوا : تعبد آلهتنا سنة : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ، وفيما قالوا : نعبد إلهك سنة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ، وفيما قالوا : تعبد آلهتنا سنة : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) ، وفيما قالوا : نعبد إلهك سنة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

نستوحي من الروايتين أنه كان هناك اقتراحان : الإشراك المتصل والمنفصل ، فالثاني أن يشرك النبي بالله منفصلا : يعبد أوثانهم سنة ويعبد ربه سنة أخرى ، مقدما لأربابهم على ربّه! يوحّد كلا بالعبودية منفصلا عن الآخر ، ويردّ هذا الاقتراح بالآيتين الأوليين (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ولا لآن ، فكيف بسنة (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) لآن فكيف بسنة ، فما أنتم بتاركي آلهتكم وإن أنتم إلا كاذبون تمكروننا من ناحيتين :

٤٨٣

١ ـ أن نبتدئ بعبادة آلهتكم وأنتم على حالكم.

٢ ـ أن تخالفوا وعدكم فتتركوا بعبادة إلهي في السنة الثانية.

وفي الأول ـ وكأنه خيّل إليهم أنه أقرب إلى الحيلة ـ يصدون على أنفسهم باب المكر إذ يبتدئون مع الرسول في الشرك المتصل ، ولكنه يصدهم عن ذلك أيضا : أن ماهية عبادتي تتناقض تماما مع عبادتكم ، فعبادتي توحيدية محضة لا تقبل الإشراك أبدا ، وعبادتكم شركية لا تقبل التوحيد إطلاقا.

ف (لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) : ليست عبادتي كعبادتكم (١) : تلائم كل عبادة لكل معبود (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ليست عبادتكم كعبادتي : (٢) تختص بالله الواحد القهار.

فهذه السورة تستأصل كل عبادة وكل معبود من دون الله ، شركا متصلا أو منفصلا ، وتختص العبودية بالله دون أن تشرك به سواه.

إذا فلا تكرار في الجواب ، وإن كان في صورة التكرار ، فجاءت السورة حاسمة قارعة عليهم ما يمكرون.

إنهم كانوا يزعمون أنهم على دين إبراهيم ، وانهم أهدى من أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة ، فمن اليهود من كانوا يقولون : عزير ابن الله ، ومن النصارى من كانوا يقولون : المسيح ابن الله ، بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن ، زعم قرابتهم من الله ، فكانوا يزعمونهم أهدى ، لأن نسبة الملائكة والجن إلى الله أقرب منها إلى عزير والمسيح.

__________________

(١ ، ٢). «ما» * في الآيتين الأخيرتين مصدرية ، وفي الأوليين موصولة ـ تفيد أولا رفض كل معبود من دون الله ، وثانيا ترفض كل عبادة شركية ـ فماهية الشرك تتناقض وماهية التوحيد معبودا وعبادة ، نستوحي هذا الفرق بين الآيتين من مضي الفعل في الثانية «وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ» : عبادتكم ، فلو كان المعني منها هو المعني من الاولى لم يكن وجه لاختلاف زمن الفعل.

٤٨٤

فلما جاءهم الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلا : ملة أبيكم إبراهيم ، إن دينه دين إبراهيم : حنيفا مسلما وما كان من المشركين .. قالوا : ونحن على دين ابراهيم فما هي الحاجة إلى دين محمد .. ثم راحوا يحاولون مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويحتالون عليه طريقة وسطى .. وعرضوا عليه ما عرضوه فاعترضتهم قوارع الآيات أن لا طريقة وسطى ، فإما التوحيد وإما الإشراك.

فعلّهم ماكروه فهذا العرض الكافر ، وعلّهم زعموا قرب المسافة ، فبإمكانهم التفاهم عليها : بقسمة البلد بلدين والالتقاء في منتصف الطريق .. إلا أن مكرهم أظهر ، فلو كانوا جاهلين غير عامدين لم يكن القرآن يحسم الخلاف بترك الدعوة بعدئذ : لا نحن إليكم ولا أنتم إلينا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). إنهم ماكروه : أرادوا أن يخرجوه عن التوحيد وهم باقون على الشرك ، فيخسروهم رابحون ، وهكذا محاولة الشياطين في خطواتهم تجاه المؤمنين ، إنهم يجنّدون كافة طاقاتهم ، ويعملون كل دعاياتهم ليضلوا المؤمنين ، كما هم ضالون ، دون أن يهتدوا ولا قيد شعرة : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٩ : ١٢ ـ ١٣).

أجل ، وإن هناك : بين المؤمنين وهكذا كافرين ، إن بينهم انفصالا لا يرجى معه أي اتصال ، فلا التقاء إذن بينهما في طريق .. فهنا آخر المطاف في الدعوة ثم لا دعوة إذ لا رجاء.

لا بد للدعاة إلى الله أن يصرفوا طاقاتهم لإثبات الحجة ولكي يدلوا ويهدوا الضالين إلى الله ، وأما أن يتاجروا بإيمانهم أيضا ، زعم أن الكافرين الماكرين علهم يهتدون .. أما إذا وصلت الدعوة إلى خسارة الدعوة والداعي هكذا

٤٨٥

فلا .. وإنما كلمة واحدة آخر المطاف : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أنا هنا وأنتم هناك ، فلا معبر ولا جسر عليه يعبر ، وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذا الموقف الحاسم والبراءة التامة عما ينافي الإسلام ، وإنه ليس هناك أنصاف حلول ، ولا التقاء في منتصف الطريق ، ولا إصلاح عيوب ، ولا ترقيع مناهج ، إنما هي الدعوة إلى الإسلام كما بدأت بالصادع الأول.

وبغير هذه الفاصلة الحاسمة سيبقى الغبش واللبس والترقيع والخداع ، وليس الإسلام بالذي يقوم على هذه الأسس المدخولة!

أجل : الدعوة إلى الإسلام كما الإسلام يرام ، وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا ، فبالمقاطعة أو التقويم بالقوة ، علهم يتعرفون إلى الحق ، أو تدميرهم لكي تحسم مادة الفساد وجراثيم الضلالة ، وأول المطاف هنا في آخر الدعوة هو القول : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) .. إعلانا دون إسرار ، ولكي يدرس الأحرار درسهم في مواقفهم هذه مع المتعصبين ، كيف يلتقوا معهم ، نداء بحقيقتهم ووضعهم الذي أصبح لزاما لذواتهم : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) : تريدون مني حدثا في العبادة وأنا لا أعبد معبوداتكم من الآن ومدى الحياة ، كما لم أكن أعبدها منذ الولادة وحتى الآن.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) : قطعت رجائي عنكم ، فلستم ممن يعبدون الله ، فقد أصبح الشرك كأنه لزام ذواتكم فلستم بتاركي آلهتكم من الآن ، كما لم تكونوا بتاركيه حتى الآن .. وهذه من الملاحم القرآنية ، تخبر عن غيب مستقبل : أنهم ليسوا بمؤمنين حتى الموت .. وكان بإمكان أحدهم أن يؤمن في ظاهر الحال ، ولكي يثبت كذب هذه الملحمة القرآنية ، ولكنهم لم يقدموا وحتى على ظاهر الإيمان : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ).

٤٨٦

هنا حسمت الآيتان اقتراح الشرك المنفصل «تعبد آلهتنا سنة ، نعبد إلهك سنة».

ثم الأخيرتان حسمتا اقتراح الشرك المتصل أيضا :

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) .. لست بالذي يعبد كعبادتكم ... (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) كذلك لستم ممن يعبد كعبادتي ، تتركون آلهتكم وتعبدون ربي موحدين .. وحتى في حين تعبدون ربي سنة كما تزعمون ، أو حين تجمعون بين العبادتين وأحرى ، إذا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ...

وهكذا يدرس المسلم القرآن ، كيف يجب عليه الصمود في الإيمان دون أن ينسحب عنه كثيرا أو قليلا بغية إيمان الكافرين ، فعليه أن يقاوم الكافرين ، لا أن يساومهم ويتنازل عن إيمانه.

فإذا سمع ممن تعوّد على بيوت القمار والدعارة ، شاركنا ليلة هكذا وعلينا التكليف ، ثم نشاركك في عبادة الله .. فاعرف أنه داعية الضلال ، وإلا فلما ذا يقدم لك الضلال ، فهل في ضلالك دافع أن يهتدي هو؟ كلا! إن هذا إلا مكر يمكرونه.

فالجواب إذا ، لا أشارككم في معصية ربي ، ولا تشاركوني في عبادته ، (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) .. لكم شهواتكم ولي عباداتي ، لكم الراقصات ولي الصلوات ، لكم الدعارات ولي العبادات ، وفي آخر المطاف لكم جحيم النار ولي الجنة التي وعدها المتقون الأبرار.

ومن الشياطين من يخفف الوطأة في المماكرة ، يشاركونك في الخير فترة من الزمن كأنهم من المؤمنين ، ثم يتركونك إلى ضلالهم القديم كأنهم فتشوا هنا ولم يجدوا خيرا فانتقلوا إلى ما كانوا ، ثم يحاولون أن تشاركوهم فيما هم : (وَقالَتْ طائِفَةٌ

٤٨٧

مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ ..) (٣ : ٧٣) ، .. هكذا يمكرون (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، فليكن المؤمن عاقلا فتنا لبقا كيّسا لا يماكر ولا يغادر أو يضرر به ، إذا يريد الحفاظ على إيمانه ، وعليه أن يدرس طرق الضلال وألوان الشيطنات ، بجنب ما يدرس طرق الهدى ، وكما هداه الله (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) طريق الخير والشر واضحا على المنار ، فليدرسهما لكي يثبت على الهدى ويجتنب مزالق الردى.

٤٨٨

سورة النصر ـ مدنية ـ وآياتها ثلاث

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

* * *

آيات ثلاث تحمل بشارة النصر والفتح ، وقد سبقتها بشارات عدة ، وهنا مزيد فيه مدى الفتح : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) وفيه ما يتطلبه الفتح : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

بشارات تتضافر وتتواصل ، في حين أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هاجر مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، وملاحقات المشركين دائبة ، وأذاهم دائم ، ورجاء الرجوع إلى مكة بعيد ، وحتى لأداء فريضة الحج .. وأن فتح مكة وتقاطر الوفود للدخول في دين الله من أهم الأهداف للرسالة المحمدية ، ولأنها ام القرى ، المركز الرئيسي للدعوة الإسلامية.

قال ابن كثير في التفسير : «المراد هنا فتح مكة قولا واحدا ، فإن أحياء العرب كانت تتلوم (تنتظر) بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى

٤٨٩

استوثقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر الإسلام ولله الحمد والمنة».

هذه الرواية تتلاءم مع ظاهر النص في السورة «إذا جاء ..» فلم يقل «قد جاء» .. إنها بشارة بمستقبل الفتح والنصر لا واقعه ، فلقد كانت في هذه البشارات المتلاحقة حجة للرسالة المحمدية ، إذ تحمل ملاحم الغيب ، وتقوية لقلوب المؤمنين بهذه الرسالة السامية ، إذ تبشرهم بمستقبل العز والإنتصار ، وفيها تبكيت وتسكيت للكافرين إذ يسمعون الوحي يقرع أسماعهم بقوارع الفتح ، وكما تضافرت به الروايات عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

__________________

(١) أخرج الطبراني عن ابن عباس قال : لما أقبل رسول الله (ص) من غزوة حنين أنزل عليه (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلخ .. قال رسول الله (ص) : يا علي بن أبي طالب ويا فاطمة بنت محمد! جاء نصر الله والفتح .. سبحان ربي وبحمده واستغفره إنه كان توابا ، ويا علي انه يكون بعدي في المؤمنين الجهاد ، قال : علام نجاهد المؤمنين الذين يقولون آمنا؟ قال : على الأحداث في الدين إذا عملوا بالرأي ولا رأي في الدين ، إنما الدين من الرب أمره ونهيه ، قال علي : يا رسول الله أرأيت إن عرض علينا أمر لم ينزل فيه قرآن ولم يقض فيه سنة منك؟ قال : تجعلونه شورى بين العابدين المؤمنين ولا تقضونه برأي خاصة ، فلو كنت مستخلفا أحدا لم يكن أحد أحق منك لقربك في الإسلام وقرابتك من رسول الله (ص) وصهرك ، وعندك سيدة نساء المؤمنين ، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب إياي ، ونزل القرآن وأنا حريص على أن أرعى له في ولده (الدر المنثور ٦ : ٤٠٧).

أقول : لا تخفى دلالة هذا الحديث على أحقية الإمام علي (ع) بالإمرة على القولين : انه (ص) استخلف أو لم يستخلف ، إذ أبدى رأيه فيمن هو أولى ، فهل يا ترى ان لو كان للسقيفة حق الاستمارة في الإمرة ، فمن هو أولى بالاتباع؟ الرسول (ص) أم أصحاب الشورى ، وبعد أن أبدى الرسول رأيه!

وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله (ص) يكثر من قول : سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها : إذا جاء نصر الله والفتح ـ فتح مكة ـ ورأيت الناس ، إلخ ..

وفي تفسير علي بن إبراهيم القمي قال : نزلت بمنى في حجة الوداع وإذا جاء نصر الله والفتح ، فلما نزلت قال رسول الله (ص) : نعيت إلي نفسي ، فجاء إلى مسجد الخيف فجمع الناس ثم قال : ـ

٤٩٠

هذه ـ ومن قبل كانت الآيات تتواصل في بشرى الفتح إعلانا وإسرارا ، يقظة ورؤيا ، وإلى حيث كأن الفتح واقع ولمّا يقع : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ..) ماض يعني مستقبلا قاطعا وكأنه أمر مضى ، .. تنزل في السنة السادسة من الهجرة ، قبل الفتح بسنتين ، وفي نفس السورة ذكرى رؤيا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن الله صدقها : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (٤٨ : ٢٨) ، ولقد كانت هامة الفتح من غير المحتمل وحتى في الرؤيا ، ولكن الله حققها وفاء بعهود تترى ... يرى رؤياه هذه في حين كان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة ، حتى في الأشهر الحرم التي كانت العرب تعظّمها في الجاهلية ، وتضع السلاح فيها ، وتتعظم القتال في أيامها ، والصدّ عن المسجد الحرام ، حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة ، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا ، ولا يصده عن البيت المحرم ، ولكنهم خالفوا هذه السنة وصدوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين طوال سنوات.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ..) (٤٨ : ٢٥).

بشارات الفتح قبل وقوعها تتلاحق وتتلاصق هنا وهناك ، تثبيتا للمؤمنين ، ودفعا لشكوك المرتابين الذين في قلوبهم مرض : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

__________________

ـ نصر الله امرآ سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم ، أيها الناس إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا ولن تزلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كإصبعي هاتين ـ وجمع بين سبابتيه ـ ولا أقول كهاتين ـ وجمع بين سبابته والوسطى ـ فتفضل هذه على هذه (نور الثقلين ٥ : ٦٩٠ ح ١٠).

٤٩١

يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥ : ٥٢).

ولقد كان المؤمنون يرجون هكذا فتح وانتصار ، يرددون رجاءه وبشراه ليل نهار : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٦١ : ١٣) .. ولقد خص الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم برده إلى معاده : مولده وموطنه ، لأنه فرض عليه القرآن : أم الكتاب الذي يجب أن ينشر من أم القرى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (٢٨ : ٨٥).

بشارات تتخلل في طيات الهجرة ، إلى أن قرب الوعد ونزلت سورة النصر بعد سورة الفتح وآيات الفتح ، ثم تحقق الفتح ونزلت آياته وآيات بعدها تندّد بمن كانوا يعدون أنفسهم الحسنى لو جاء الفتح ، وأن يخرجوا من الشكوك ومن طالح الأعمال ولم يفعلوا : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ. إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (٨ : ١٧ ـ ١٩).

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) :

لقد كانت للنبي الأقدس فتوح بعد الهجرة ، ليست معنيّة هنا إلا أعظمها وأهمها ، كأنه الفتح ليس إلا ، وإنه فتح مكة المكرمة ، إذ لم يكن دخول الناس في دين الله أفواجا إلا عنده لا سواه ، ولذلك سمّي فتح الفتوح ، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حينه : لا هجرة بعد الفتح ولكن

٤٩٢

جهاد ونية (١).

وهذا وعد دائب للذين ينصرون دين الله أن الله هو ناصرهم في دينه من قريب أو من بعيد : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ).

نصرة في الطاقات الحربية والانتصارات المعنوية معا ، وكما نراه في حرب بدر كيف غلبت جنود المسلمين وهم ٣١٣ شخصا على قلة من العدة والعدة ، على ٠٠٠ ، ١٠ شخصا من المشركين على كثرتهما لهم.

نصر وفتح :

نصر يعقبه الفتح ، ليس لأن الله يريدهما دونما شرط ، ولا لأن النبي والمؤمنين يريدونه دونما تأييد إلهي ، إنما هما بينهما : استعداد بشري ، فإعداد إلهي.

نصر الله : لبروز حجته وظهور برهانه ، وفتح الله للقلوب المقلوبة ، فتحها الله بالرسول الأقدس إذ أضاء عليها بأضواء الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولو لا هذا الفتح الأول لم يكن للثاني : ـ دخول الناس في دين الله أفواجا ـ من معنى.

ثم نصر ثان وفتح ثان : أن انتصر المسلمون تحت الراية المحمدية على الوثنيين المحتلين بلد التوحيد ، اضطرهم للإسلام أو الاستسلام ، إسلام عن حجة مسبّقة واستسلام عن حجة دامغة بالغة ، دون أن يكون هناك إكراه في الدين :

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٤٠٦ ، أخرجه الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري قال : .. والأحاديث مستفيضة أن سورة النصر كانت سورة النعي ، وكما أخرج الخطيب وابن عساكر عن علي (ع) قال : نعى الله لنبيه (ص) حين أنزل عليه : إذا جاء نصر الله والفتح ، سنة ثمان بعد مهاجر رسول الله (ص) فلما طعن في سنة تسع من مهاجره تتابع عليه القبائل تسعى فلم يدر متى الأجل ليلا أو نهارا ، فعمل على قدر ذلك ، فوسع السنن وشدد الفرائض ، وأظهر الرخص ، ونسنح كثيرا من الأحاديث وغزا تبوك وفعل فعل مودع (ص ٤٠٧).

٤٩٣

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) وإنما الإكراه في الاستسلام : قبول الإسلام ظاهريا لمن ليس يقبله ، رغم براهينه الساطعة : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).

.. فهذه تهمة ووقاحة من أعداء الإسلام : أنه دين السيف والقوة ، وليس دين الحجة ، لا لشيء إلا أن رسول الإسلام دافع عن نفسه وأنفس المؤمنين بالقوة ، ابتداء من الهجرة ، بعد أن ذاق وذاق المسلمون المهاجرون ألوان الأذى والبلاء طوال ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة.

إنه دافع كما يجب إنسانيا وفي الشرائع الإلهية ، وكما النبيون أجمع أمروا بالجهاد ، فمنهم من وجد أنصارا كموسى وداود وسليمان وشعيب ويوشع (ع) وأضرابهم ، إذ حاربوا حروبا دامية (١) ، ومنهم من لم يجد أنصارا رغم استعداده للحرب كالسيد المسيح (ع) (٢).

__________________

(١) كما في سفر الاعداد ٣١ : ٧ ـ ١٧ والتثنية ٢ : ٢٤ ـ ٣٤ و ٢٠ : ١ ، ٢ ، ٥ ، ٨ ، ١٠ ـ ١٤ و ٢١ : ٢٤ وسفر الخروج ١٧ : ٨ ـ ١٦ .. وأغلب الفصول من كتاب يوشع وأول تواريخ الأيام الفصل ٢٧ والتكوين ١٥ : ١٨.

(٢) السيد المسيح والحرب : ففي إنجيل متى الفصل ١٠ ، الآية : ٣٤ : «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا».

وفي لوقا (١٢ : ٤٩ ـ ٥٠): «جئت لألقي نارا على الأرض. فما ذا أريد لو اضطرمت. ولي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتى تكمل. أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا! أقول لكم : بل انقساما».

وفي لوقا (٢٢ : ٣٦): «فقال لهم : لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك ، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتري سيفا».

هنا وهناك يأمر المسيح بالحرب والدفاع ، ثم في الآية ٤٩ يأمر بالضرب : «فلما رأى الذين حوله ما يكون قالوا : يا رب! أنضرب بالسيف؟ وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى ..».

وهكذا نرى السيد المسيح كيف استعد للحرب الدفاعية ، وقد فشل إذ فشل أنصاره ، فناموا بدل أن يقوموا بالسيف!.

٤٩٤

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) :

فهل إنهم كل الناس؟ هذا خلاف الواقع الملموس ، وإن كان يوافق عموم اللفظ! أم إنهم الذين عرفوا الدعوة فحقّ لهم أن يصدقوها؟ فكذلك الأمر ، أم إنهم المؤمنون فحسب؟ وهذا لا يلائم عموم اللفظ «الناس»!

أقول : رباط الدخول في الإسلام بالفتح يوحي أنهم الذين عرفوا الإسلام ثم كملت معرفتهم بالفتح ، بما أنه كان من ملاحم الغيب ، وقد صدق به وعد الله ، ثم الذين آمنوا منهم هم الناس ، والذين لم يؤمنوا وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم فهم النسناس ، فقد «سئل الحسن بن علي (ع) من الناس؟ فقال : نحن الناس ، وأشياعنا أشباه الناس ، وأعداؤنا النسناس ، فقبله علي (ع) بين عينيه وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته» :

(فِي دِينِ اللهِ) هل إن سائر الأديان الإلهية ليست دين الله؟ فكيف يعتبر دخول غير المسلم في الإسلام دخولا في دين الله ، الموحي أنه خروج عن غير دين الله ، أو دين غير الله؟.

الجواب : أن الداخلين في الإسلام حينذاك كانوا بين مشرك لم يكن في دين الله ، وبين كتابي لم يكن يلتزم بدين الله ، إذ إن الإسلام لله والتسليم له يقتضي رفض السابق وإن كانت من شريعة الله ، والاعتناق باللاحق بما أمر الله ، ف (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ولا معنى للإسلام بعد نزول شريعة القرآن إلا اعتناقه ورفض ما سواه ، مهما كانت من الشرائع السابقة.

وإضافة إلى كل ذلك فإن الشريعة الأخيرة الخالدة كانت هي الهدف الرئيسي من الرسالات قبلها ، فلم تكن السابقة عليها إلا كتهيئة لها ، فحق لها أن تعتبر كأنها هي الدين لا سواه ، وأن رسوله هو الرسول لا سواه (١).

__________________

(١) راجع كراسنا «وحدة الدين واختلاف الشرائع» وكتابنا «المقارنات».

٤٩٥

«أفواجا» * : جماعات كثيرة تترى متسابقين ، فقد كانت القبيلة تدخل بأسرها ، بعد ما كانوا يدخلون واحدا واحدا واثنين اثنين .. وعن جابر بن عبد الله «أنه بكى ذات يوم فقيل له : ما يبكيك؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : دخل الناس في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا».

هكذا دخول في الإسلام دليل قاطع لا مردّ له ، على مدى وضوح البراهين الإسلامية لحدّ تتسابق أفواج الناس لتصديقه ، ثم ليس خروج من يخرج إلا للمغريات التي تغرّهم ، والمضلات التي تضلهم ، أو خروجا عامدا للتضليل وكما كان دخوله للإدغال والتدجيل.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) :

هنا يتحدد شأن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه ، بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم : أن شأنه ومن معه هو الاتجاه إلى الله ، أن يسبحوا الله بحمده ويستغفروه في لحظة الإنتصار.

التسبيح بالحمد على ما أولاهم من منّه : أن جعلهم أمناء على دعوته ، حراسا لدينه ، وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ، ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران القديم.

التسبيح بالحمد ، لا التسبيح والحمد ، كلّ على حدة ، ولا كلّ دون سواه ، لأن التسبيح يعني الناحية السلبية من صفات الله تعالى ، والحمد : الناحية الإيجابية : (الصفات السلبية والثبوتية).

فلو حمدناه دون تسبيح وتنزيه عما هو منزه عنه ، لكنا خاطئين في حمده من جهات عدة ، منها : أن الحمد يحمل الإثبات ، والثابتات من الذوات ومن الصفات حسب إدراكاتنا ليست إلا حسب مقدرتنا من الإدراك ، وهي محدودة من ناحية ،

٤٩٦

وهي مشبهة له تعالى بخلقه من أخرى (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ١٦٠). فإنهم لا يصفونه إلا كما وصف به نفسه.

ولو سبّحناه دون تحميد لخيّل إلينا أنه المنفي الذات والصفات لأنسنا الدائب بالذوات والصفات التي نعيشها ، فإذ نسلبها عن ذاته تعالى فكأننا سلبنا عنه كل كيان موجود.

فبما أنه «خارج عن الحدين : حد الابطال وحد التشبيه» علينا أن نسبحه بحمده :

١ ـ نسبّحه وننزّه عنه تعالى ذوات الكائنات وصفاتهم ، بحمدنا له في ذاته وفي صفاته ، وهنا تصبح كافة الكائنات من صفاته السلبية.

٢ ـ ونسبحه عن تفسير أسمائه الحسنى وصفاته العليا بالمعاني التي نعرفها ونأنسها ونتصف نحن بها ، فلا نعني من أنه تعالى : «عليم قدير حي» ما نعنيه من مفاهيم ومعاني فينا ، بل تسبيحا بحمده : أنه لا يجهل ولا يعجز ولا يموت ، عليم لا كعلمنا ، وقدير لا كقدرتنا ، وحيّ لا كحياتنا.

فنحن ومعنا كافة الخلائق ، حينما نحمد ربنا ونصفه ، لا ندرك جهة ثبوتية له تعالى ، وإنما سلبيات نأنسها ، ولكن السلب قد يكون بلغة السلب ويعني واقع السلب ، كما في الصفات السلبية : «لا مركب ولا جسم ولا مرئي ولا له زمان ولا له مكان ولا له حد ولا له أول ولا له آخر ولا ..».

وقد يكون السلب بلغة الإثبات : «عليم قدير حي ..» ويعني واقع الإثبات (تسبيح بالحمد) دون أن ندرك منه إلا سلب ما يحق سلبه عنه : «اللاعلم واللاقدرة واللاحياة» في حين أننا نسلب عنه صفاتنا هذه أيضا : «ليس له علمنا ولا قدرتنا ولا حياتنا» إذ إنها صفات لا تتناسب وذاته القدسية.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) .. التسبيح بالحمد والاستغفار هما تقديسه والاعتراف بربوبيته كما يحق ، ثم التماس الغفران منه.

٤٩٧

و «استغفره» : فهل هو من العصيان والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معصوم من العصيان ، مطهّر من الأرجاس كلها كما طهّره ربه! (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ... كلا لا عصيان في ساحة النبوة القدسية حتى يكون الاستغفار عنه ، ولا يختص الاستغفار بحالة العصيان لكي نضطر إلى التأويل ، فإنما الاستغفار من الغفر وهو الستر ، فهو التماس الغفر والستر ، إما عن عار وعورة العصيان ، والنبي معصوم عن العصيان! واما عما سواه من ملابسات لا يخلو عنها أي إنسان :

١ ـ من التقصير أو القصور في حمد الله وشكره ، فجهد الإنسان ـ مهما كان ـ ضعيف محدود ، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) .. فمن هذا التقصير يكون الاستغفار ، وإن كان من القصور الذاتي ، دون عصيان الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يقول : «ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك».

٢ ـ والاستغفار من الخلط بالناس الذي يلزمه الغبار على القلب ، وإن كان واجبا رساليا من حيث التوجيه ، ولكنه يلازمه غفلة مّا عن ساحة الربوبية ، ولذلك نراه ليلة المعراج حينما عرج عن الكائنات واستغفل عنها ، أصبح من قرب ربه معنويا (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

٣ ـ والاستغفار طلب الغفر والستر من بأس الأعداء : شياطين الجن والإنس ، وقد غفر الله لنبيه كذلك بما فتح له مدينة التوحيد مكة المكرمة ، كما وعده وجعله من أهداف الفتح : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ..) : ليستر لك الله من ذنبك عند المشركين ، إذ كانوا يتربصون بك الدوائر ليقضوا عليك ، فستر الله وغفر عنه بأسهم بما فتح له أم القرى.

٤ ـ والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقه لطيفة المدخل : من الزهو الذي قد يساور القلب ، أو يتدسس اليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة

٤٩٨

الظفر بعد طول العناء ، وهو مدخل يصعب توقيّه في القلب البشري ... وقد غفر الله له حين الفتح هذا الزهو وستره عليه .. فتراه إذ يدخل مكة فاتحا منتصرا ، مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة .. تراه يدخلها منحنيا لله شاكرا على ظهر دابته ، ناسيا فرحة النصر وزهوته ، عفوّا رحيما لا ينتقم .. فالمغفرة هنا تضمن عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين ، ليرقب المنتصر فيهم ربهم ، فهو الذي سلطه عليهم ، تحقيقا لأمر يريده ، على عجزه (ص) ، فالنصر نصره تعالى ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور.

(وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) : يتوب ويرجع على عباده بالرحمة والمغفرة ، لا يكل عباده المتوكلين عليه إلى أنفسهم ، وكما في دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا».

أجل ، وإن الإنسان ـ أيا كان ـ لا يستغني عن توبة ربه عليه وتأييده له .. فعبثا يحاول الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيّد برغباته ، مثقل بشهواته .. عبثا يحاول ما لم يتحرر عن نفسه ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظّ نفسه ليذكر الله وحده.

وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما ، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما.

(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) : راجعا إلى عبده بالرحمة بعد ما يرجع إليه العبد بالمعذرة ، فتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله : توبة أولى هي أن يوفقه الله للتوبة لكي يتوب (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) وتوبة ثانية من الله هي قبول توبة العبد : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤ : ١٧).

٥ ـ والاستغفار بمعنى الدفع عن حملة العصيان ، لا رفعه بعد وقوعه ، كما المغفر في الحرب لأجل الدفع عما ربما يوجه إلى الجندي من الأخطار ، كذلك

٤٩٩

الرسول الفاتح علّه يحمله ما نقموا منه على الانتقام ، وهو مسموح له اعتداء بالمثل ، إلا أن موقف الرسالة يجب أن يكون موقف الرحمة للعالمين ، فليستغفر الرسول ربه حالة الفتح ، لكي يسدده عن حملة الانتقام ويغفر له ما يحمله على ذلك.

٦ ـ والاستغفار عله هنا للمؤمنين الفاتحين ، إذ النص (وَاسْتَغْفِرْهُ) لا «استغفره لذنبك».

٧ ـ واستغفاره عن ذنبه وغفران الله له عن ذنبه كما في آية الفتح ، لا يعني إلا الحفاظ عليه من بأس المشركين ، فإن الذنب لغويا هو الذي يستفظع عقباه ، فإن كانت عقبى الدنيا فالذنب من أفضل الطاعات ، وإن كانت عقبى الآخرة فالذنب من أشر المعاصي ، ولقد غفر الله تعالى ذنب الرسول : عقبى الدنيا الهاجمة عليه من قبل المشركين ، غفره له بفتح مكة ، إذ لم يجرأ المشركون بعد ذلك أن يؤذوه أو يقاتلوه.

٥٠٠