الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

سورة البلد ـ مكية ـ وآياتها عشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠)

* * *

٣٢١

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ)(١) :

هذا البلد هو مكة المكرمة ، البلد الحرام الآمن ، حسب الشرع والتكوين الإلهي ، أكثر من سواه ، ورغم مكانته الروحية لا يقسم الله به هنا ، وعلّه فقد حرمته بما استحل أهلوه حرمة الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم.

(وَأَنْتَ حِلٌّ) : حلال ـ بهذا البلد (٢) ، وإنما حرمته لأنه البلد الحرام الآمن ، مطاف الموحدين ، ومحرم الرسالة القدسية المحمدية ، فإذا أصبح مطاف المشركين ، ومزار الأوثان ، والرسول حلال فيه : ماله ودمه ، أرضه وعرضه ، إذا لا أقسم به ولا أحترمه ، في حين أقسم به لأنه بلد أمين : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٩٥ : ٣) أقسم ولا أقسم من جهتين ، دون تنافر بينهما ولا تناحر.

أو : لا أقسم به ، تعظيما له فوق العادة ، لا لأنه البيت الحرام ، إنما لأنك حلّ : حال ـ بهذا البلد (٣). فقد كان المشركون يحترمون البيت لحدّ اللاقسم ـ احتراما ـ أو القسم كذلك ، ثم يهتكون حرمتك ، وأنت الأصل في حرمته ، فأنا لا أقسم احتراما لهذا البلد لأنك حلّ : حال ـ بهذا البلد ، ولا أقسم هتكا له لأنك حلّ : حلال فيه مهتوك. فأنت أنت الحرمة كل الحرمة

__________________

(١) لا أقسم هنا كما في أشباهه ، لنفي القسم ، وعدم إعادة (لا) في والد وما ولد ـ وهو قسم ـ فيه دلالة زائدة على نفي القسم.

(٢) عن الصادق (ع) في تفسير الآية : «وأنت حلال منتهك الحرمة ، مستباح العرض لا تحترم ، فلا يبقى للبلد حرمته حيث هتكت.

أقول : وفي معناه روايات متضافرة تفسر الحل بالحلال ، ولا أقسم ، بنفي القسم.

(٣) يبعد معنى الحال للحل ـ لو عني بخصوصه ـ ، فان الحال هو النازل في مكان ، والرسول ما نزل مكة ، وإنما كانت مولده وموطنه ، وان الحلول يعبر عنه بما هو أخصر ، ك (وأنت في هذا البلد).

٣٢٢

لهذا البيت ، وكثير هؤلاء الحهال الذين يحترمون الزمان ولا يحترمون صاحب الزمان ، ويكرمون المكان ولا يكرمون من به كرامة المكان!.

صحيح أن مكة لها حرمتها فوق البلاد كلها ، لكنها ليست إلا لأن يعبد فيها ربها ويكرم رسوله ، وتحل مقامة فيها رسالته ، وأما إذا كانت مهتوكا فيها حرمة الله ورسوله ، فهل يا ترى تبقى حرمته ، لأحجار وضعت فيها فوق بعض ، وأوثان علّقت عليها ، ومكاء وتصدية وأمثالها من فضائح!.

أو : وأنت حلّ : حرّ ـ بهذا البلد ، تفعل فيه ما تشاء بالمشركين ، الذين استحلوا حرمته وحرمتك ، وقد تكون الثلاثة مرادة (١) وما أجمعها وألطفها كما هو دأب القرآن ، ويعني من حلّه عليه السّلام حريته بما يفعل بالمشركين بعد فتح مكة ، فلا أقسم به : لا أحترمه ، وأنت خارج عن عقدك الماضية ، حرّ فيما تريد بأهله (٢).

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) :

لا أقسم بهذا البلد ، وإنما أقسم بمن به حرمة البلد : (والِدٍ وَما وَلَدَ) : آدم ومن ولدهم من النبيين (٣) ، ابراهيم وولده المعصومين ، محمد وولده الطيبين من صلبه : فاطمة والأئمة الأحد عشر ، من الحسن عليه السّلام إلى القائم عليه السّلام ،

__________________

(١) وعلى الثالث : فالواو استئنافية ، بخلاف الأولين إذ كانت فيهما حالية ، وهنا روايات مستفيضة تؤيد الثالث.

(٢) كما عن سعيد بن جبريل قال : لما فتح النبي (ص) الكعبة أخذ أبو برزة الأسلمي سعيد بن عبد الله بن خطل فضرب عنقه وهو متعلق بأستار الكعبة ، فأنزل الله : «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» وهو أحد الأربعة الذين لم يؤمنهم النبي (ص) ، وروي مثله في معنى الحل عن مجاهد وأبي صالح وقتادة وعطية والحسن والضحاك وعطاء وابن زيد وابن عباس.

(٣) رواه في مجمع البيان عن الصادق (ع).

٣٢٣

أو من هو وليد عقله الرسالي : علي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكما قال : ولّدني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وبمناسبة الحال ، وأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هو مجمع معاني الوالد الروحي ، وولده مجامع فضائل الولادة الروحانية ، قد يكونان هما المعنيان من : (والِدٍ وَما وَلَدَ) ويجري في غيرهما من المعصومين جريا على ضوئهما ، فقسما بمحمد وعترته الطاهرين المكابدين الكادحين :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) :

«كبد» : مشقة ، فالإنسان مخلوق في كبد وكدح وكدّ (١) وهو لزامه حتى الموت ، فإذا رأيت كبدا في هذا البلد ، ما لم يره أحد في تاريخ الرسالات ، فلك الراحة إذ كان في سبيل الطاعة. دون المكابدين الكادحين الذين يعيشون حياتهم كبدا على كبد ، وكدّا على كدّ : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤).

هؤلاء هم! وأما أنت فمهما بلغ بك الكبد ، ومهما تكبدت اتعابا : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ، ولا يبدل كبدك يسرا ما لم تقتحم العقبة والعقبات عبر الرسالات» ، على حدّ قول الإمام الحسن عليه السّلام : لا أعلم خليقة يكابد من الأمر ما يكابد من الأمر ما يكابد من الإنسان ، يكابد مضايق الدنيا والآخرة (٢) ، إن انفصال النطفة من الصلب والترائب يخلف

__________________

(١). الكبد معروفة ، والكبد والكباد توجعها ، والكبد أصابتها.

(٢). تفسير البرهان ٤ : ٤٦٣ نقلا عن الزمخشري في ربيع الأبرار ، وفي الدر المنثور ٦ : ٣٥٣ ، أخرجه ابن المبارك في الزهد ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه (ع) إلى قوله : «الإنسان».

٣٢٤

كبدا للزوجين رغم اللذة حاله ، ثم الخلية الأولى لا تستقر في الرحم إلا بمكابدتها لخلق ظروف ملائمة لحياتها وغذائها ، ولا تزال تمارس كبدها في منازلها حتى تنتهي إلى المخرج فتذوق من المخاض ما تذوقه أمها ، وقد تصل لحد الاختناق في مخرجها من مكابد الرحم إلى مكابد الدنيا ، ثم الكبد لزام الولد بينه وبين الموت ، وبعده الراحة لمن كابد في سبيل الله ، والعاهة لمن كابد في سبيل اللهو.

والكبد هو العظم ـ أيضا ـ فكبد كل شيء عظم وسطه وغلظه ، فالإنسان ـ إذا ـ مخلوق وسط الخلق وكبده عظيما غليظا ، فهو مجبول على شعور العظمة والكبرياء (١) ، كما هو مخلوق في كبد المشقة ، كبد على كبد ، فكلما كانت العظمة أكثر فالمكابدة على قياسها أكثر.

هذا ـ ومع أنه مخلوق من ضعف : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (٣٠ : ٥٤) : من مني يمنى حالة الضعف ، وعلى ضعف : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٤ : ٢٨) ، فهو حكيم الخلق وعظيمه بين الخلق ، وهو ضعيف تجاه التقادير الإلهية ، مهما كان عظيم الخلق!

وقد ينسى الإنسان أو يتناسى كبد المشقة والضعف ، ويعيش كبد العظمة والترف ، فيضل عن واقعه ، فيحسب أن لن يقدر عليه أحد ، وأنه يتغلب المقادير بما له اللّبد :

__________________

(١). ومن هذا الكبد انتصاب قامته بخلاف سائر الحيوان ، كما عن حماد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : إنا نرى الدواب في بطون أمهاتها أيديها الرقعتين مثل الكي فمن أي شيء ذلك؟ فقال : ذلك موضع منخريه في بطن أمه ، وابن آدم منتصب في بطن أمه ، وذلك قول الله عز وجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) وما سوى ابن آدم فرأسه في دبره ويداه بين يديه (نور الثقلين ٥ : ٥٨٠).

٣٢٥

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً ، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) :

واللّبد هو المال الكثير الذي قد تراكب بعضه على بعض ، من لبد الأسد ، وكما تتلبد طرائق الشعر وسبائخ القطن ، أو بمعنى اللزام الدائب ، كأنه من كثرته لا يزول.

فقد يتمنع من الإيمان ، ولأنه أهلك ماله اللّبد في الصدّ عن الإيمان ، وعلى حدّ ما يروى عن علي عليه السّلام بشأن عمرو بن عبدود (١) ، أو مؤمن يمنّ على الله أنه أنفق مالا غزيرا في سبيله ، والإنفاق الحق بلا حساب هو من العقبات التي على المؤمن اقتحامها ولكي يعقّب راحة طويلة.

أيحسب هذا المتفاخر المتكاثر : (أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) إذ أعطى ما أعطى ومنع ما منع ، وصدّ ما صدّ ، بلى إن ربه كان به خبيرا ، بصيرا به وقادرا عليه.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) :

عينان ، علّهما البصر والبصيرة ، فبعين البصر يبصر الآفاق فيحوّل نتائجها إلى منظار البصيرة ، أو هما عينان ظاهران ، وآخران سواهما : عين العقل والفطرة ، وهذا قياس الشفتين ، وبهذه الأجهزة الأنيقة : (هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) :

__________________

(١) نور الثقلين عن الباقر (ع) في : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) قال : هو عمرو بن عبدود حين عرض عليه علي بن أبي طالب (ع) الإسلام يوم الخندق ، وقال : فأين ما أنفقت فيكم مالا لبدا ، وكان أنفق مالا في الصد عن سبيل الله ، فقتله علي (ع): «أيحسب أن لم يره أحد ـ قال : في فساد كان في نفسه ..».

٣٢٦

نجدي التقوى والطغوى ، الخير والشر (١) : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) والنجد هو المرتفع العالي ، فإلهام الفجور والتقوى ليس بالأمر المخفي ، وإنما كالنار على المنار ، والشمس في رايعة النهار ، فكأنه تعالى بفرط البيان لهما قد رفعهما ونصبهما للناظرين ، لمن له عينان يبصر بهما ويتبصّر.

فهذه هي الهداية التامة : الاهتداء إلى الخير لنطلبه ، وإلى الشر لنخالفه ، وهذا السلب والإيجاب للوصول إلى نجد الصواب ، بحاجة ملمة إلى اقتحام العقبة :

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ) :

العقبة هي المرقى الصعب الملتوي من الجبال ، القمم التي عليها النجدان ، فلا بد للإنسان المخلوق في كبد ، أن يكابد في اقتحام العقبة : رميا بنفسه فيها مهما كانت شديدة مخيفة ، فإن أمامها أخوف وأشدّ ، وهي بعد اقتحامها حياة سليمة قاضية على كل كبد وإلى الأبد ، والقمة العليا من هذه العقبة ، هي فكّ رقبة : أن تفك رقبتك من حبائل الشيطان ، ثم تربطها بحبل الرحمان ، معتصما به حياتك : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).

فاقتحم بنفسك ونفسك هذه العقبة القمّة ، لكي تسهل لك سائر العقبات ، وتهون عليك تبعات دنيا الحياة ... تفك رقبتك عن أسر الهوى التي ألهمك الله إياها في نجد البشر ، ثم تواصل في سبيلك إلى الهدى التي ألهمتها في نجد

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٨١ والدر المنثور ٦ : ٣٥٣ عن رسول الله (ص) أنه قال : أيها الناس هما نجدان ، نجد الخير ونجد الشر ، فما جعل نجد الشر أحد إليكم من نجد الخير ، والدر المنثور عن علي (ع) مثله ، والكافي عن الصادق (ع) مثله.

٣٢٧

الخير ، ومن الخير أن تحاول في فك رقاب الآخرين أيضا ، فتعيش الفكّ لنفسك ومن سواك ، ولتخلق جوّا حرّا عن أسر الشيطان.

أجل : وإن فك رقبة عما سوى الله وعمن سواه ، هو العقبة ، أو أنه اقتحامها ، فكّ بالاقتحام ، أو فك هو الاقتحام.

فك رقبة ، لا عتقها ، فعتقها عمل فردي لا يطيقه إلا الأقلون ، والفك أعم من الفردي والجماعي ، فالذي يقتحم العقبة بغية هذا الفك ، إذ رآه كافيا لنفسه وسواه فهو ، وإلا كان عليه لزام أن يضم إليه الآخرين ، وإلى طاقاته طاقات الآخرين ، لتحقيق الفك أخيرا ، وفك الرقاب هكذا ، ومن أيسرها عتق الرقيق ، ينتج عن فكها عن النار في دار القرار (١) .. عقبة لو تخطاها لوصل ، ولو تخلفها فشل ، فالإنسان أمام العقبة ، بين مقتحم واصل ، ونائم فاشل ، وأين واصل من فاشل؟ وأين مجاهد مكابد من متساهل قاعد ، ألا فخففوا عن عقبة الآخرة باقتحام عقبة الدنيا ، وعلى حد تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إن أمامكم عقبة كئودا لا يجوزها المثقلون ، فأنا أريد أن أتخفف لتلك العقبة» (٢) وليست العقبات هنا إلا في طريق السالكين ، وعليها يكون بهر الأنفاس ، وشدة الضغاط والمراس ، ثم العقبات في العقبى هي للواقفين عن الحراك ، والسالكين سبل الهلاك ، الذين لم يقتحموا العقبة هناك.

__________________

(١) نور الثقلين عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له جعلت فداك قوله : «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» قال : من أكرمه الله بولايتنا فقد جاز العقبة ، ونحن تلك العقبة التي من اقتحمها نجا ، قال : فسكت (ع) فقال لي : فهلا أفيدك حرفا خيرا لك من الدنيا وما فيها؟ قلت : بلى جعلت فداك ، قال : قوله (فَكُّ رَقَبَةٍ) ثم قال : الناس كلهم عبيد النار غيرك وأصحابك ، فإن الله فك رقابهم من النار بولايتنا أهل البيت.

(٢). الدر المنثور ٦ : ٣٥٥ عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (ص) يقول : ..

٣٢٨

(أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) :

(أَوْ إِطْعامٌ) : قد تكون «أو» * هنا للجمع ، في المعنى الجامع للرقبة ، المسبق ، وهي ـ في نفس الوقت ـ للتخير المتدرج : أن غير القادر على فك رقبة يطعم ، فيحسب له حساب الفك (١).

والمسبغة هي شدة الحاجة والرغبة إلى الطعام ، فإن السغب هو الجوع مع التعب فإطعام اليتيم ذي المقربة : القرابة ، والمسكين : الذي أسكنه العدم ، ذا متربة : أسكنه على التراب ، هذا الإطعام هو من العقبة الواجب اقتحامها للوصول إلى نجد الخير.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) :

صبرا عن الشر على نجده ، وصبرا على الخير في اقتحام عقبته ، تواصيا به كعمل جماعي ـ لا فردي ـ به وبالمرحمة : مرحمة الخير على نجده ، وهاتان الطاقتان مع الإيمان ، هي التي يتطلبه اقتحام العقبة ، ومحاولة دائبة في تقدم ، ولكي يصل السالك إلى قمة الخير ..

__________________

(١) نور الثقلين عن الإمام الرضا (ع) في الآية : علم الله عز وجل أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة.

أقول : لحديث السابق دليلنا على الأول ، وهذا يدل على الثاني ، والجمع أجمل فيما يتحمل ، أو أن «أو» * هنا للجمع جمعا بينهما ـ تأمل.

٣٢٩

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) :

الذين عاشوا من الحياة يمينها.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) :

مؤصدة تقصدهم وتأصدهم.

٣٣٠

سورة الشمس ـ مكية ـ وآياتها خمس عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥)

* * *

أقسام ثمانية ، ابتداء بمشاهد الكون ، الآفاقية : سماوية وأرضية ، وانتهاء بنفس الإنسان والذي سواها ، تتقدم على حقيقة ناصعة هي المقصود

٣٣١

بالأقسام : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) إيحاء بأن الإنسان نسخة كاملة عن كتاب التكوين ، بإمكانه أن يعتبر في نفسه بما يشاهده في الآفاق ، (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

قسما بالشمس : عامة ، وحين تضحى : ترتفع عن أفقها ، وهي أروق ما تكون في هذه الفترة وأحلى ، وبالقمر إذا تلاها : في طلوعه بعد غروبها ، تلوّا في الإشراق منذ هلاله إلى تبدّره وقبيل انمحائه ، أم في اكتساب النور ، حالا دائبة لا تختص بحال دون حال ، فهو يتلو الشمس بنور طفيف شفيف صاف.

وقسما بالنهار إذا جلّى الشمس كما الشمس تجليه ، حين تصل إلى وسطه فلا تخفى على الناظرين .. وبالليل إذا يغشى الشمس بنهارها ، والسماء والقدرة الخلاقة البانية ، التي بنتها ، والأرض وما حركها وأزالها عن مقرها ، ونفس إنسانية وسواها من أمثالها ، وما سوّاها ، فألهمها : ـ أبلعها وأدغم فيها وعرّفها ـ فجورها وتقواها.

وهل يا ترى إن هذه الكونيات لا تعني ـ في الأقسام بها ـ إلا ظواهرها؟ أجل إنها تعنيها وما يناسب النفس المسوّاة وإلهام فجورها وتقواها ، وعلى حدّ تأويل الإمام الصادق عليه السّلام إذ سئل عن (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) قال : الشمس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم به أوضح الناس عز وجل للناس دينهم (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) : أمير المؤمنين عليه السّلام تلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونفثه رسول الله بالعلم نفثا (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) ذلك أئمة الجور الذين استبدوا بالأمر دون آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وجلسوا مجلسا كان آل الرسول أولى به منهم فغشوا دين الله بالظلم والجور فحكى الله فعلهم فقال : والليل إذا يغشاها (وَالنَّهارِ إِذا

٣٣٢

جَلَّاها) : الإمام من ذرية فاطمة صلّى الله عليه وآله وسلّم يسأل عن دين رسول الله فيجليه لمن سأله فحكى الله عز وجل قوله فقال : (النَّهارِ إِذا جَلَّاها)(١).

أقول : ومن هنا يظهر الوجه في اختلاف الماضي (إِذا جَلَّاها) عن المضارع (إِذا (٢) يَغْشاها) : فإن ضحى الشمس المحمدي غشيّ في مستقبل عتيد ، ويستمر : بالليالي الظلماء من دويلات الجور ، وإلى أن يسفر صبح الدولة المحمدية من جديد في زمن القائم المهدي عليه السّلام فإن نهار دولته سوف يجلى شمس الرسالة المحمدية بعد غروبها ، ويجعلها أكثر مما كان وأوسع مما كان «أين محيى معالم الدين وأهله. أين قاصم شوكة المعتدين. أين هادم أبنية الشرك والنفاق!».

قسما بهذه الآيات الكونية ، والمحاولات الإيمانية واللاإيمانية ، وبالسماء معدن الرحمة ، والأرض قابلها : كسماء الوحي وأراضي القلوب الواعية ، وقسما بالنفس والذي سواها ، كنموذج شامل كامل عن كائنات الوجود كلها ، الجامع فيها ظلم الليل المغشّي ، ونور النهار المجلّي ـ قسما بهذه وتلك وهؤلاء :

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) :

والمعني من النفس الملهم فجورها وتقواها ـ هنا بين معانيها ـ هو الروح ككلّ ، دون الجسم : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٤ : ١) ولا الأمارة بالسوء : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (١٢ : ٥٣) ولا اللوامة : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٧٥ : ٢) ولا المطمئنة : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٨٩ : ٢٧) وهي كلها من شؤون الروح ، كما القلب والصدر والعقل واللب وأمثالها ، هي

__________________

(١). نور الثقلين ٥ : ٥٨٥ عن روضة الكافي جماعة عن سهل عن محمد عن أبيه عن أبي محمد عنه (ع) ، ورواه القمي عن سليمان الديلمي عن أبي بصير عنه (ع) مثله.

٣٣٣

أيضا من شؤونها ، فقد ألهمت النفس الروح فجورها : «النفس الأمارة» وتقواها (اللوامة والمطمئنة ـ العقل).

فهنا النفس بين تزكية وتدسيس ، ففلاح أو خيبة ، ورغم أن فجورها أقرب إليها من تقواها ، وكما توحي إليه آيتها : (فُجُورَها وَتَقْواها) : قربا جسدانيا حيوانيا ، ولكنما العقل ـ وهو الحيوية الإنسانية ـ إنه أقرب إليها كإنسان ، وإن معركة العقل والنفس لهي من العقبات التي لزام الإنسان أن يجتازها فائرا عاقلا ، لا فاشلا جاهلا.

وواقع الفلاح والإصلاح ليس إلا بتزكيتها ، مستجيرا بالله ، وعلى قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وزكها أنت خير من زكاها» (١).

والمزكي الأول للنفس هو المحاول لأن يتزكى ، ثم الله يؤيده في تزكيها : (مَنْ زَكَّاها) : زكى نفسه ، فزكاها ربه ، وكذلك التدسيس على سواء ، وهو من الله الختم وسلب التوفيق ، وكما عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

والتزكية هي الإنماء ، والتدسيس هو الإدغال وإدخال شيء في شيء بضرب الاحتيال ، فتزويد النفس بتقواها هو تزكيتها ، وإدغالها هو تدسيسها ، وكلاهما من الإنسان ، ثم من الله كما يناسب عدله وفضله.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٥٦ عن ابن عباس وزيد بن أرقم وأنس وأبو هريرة قالوا : كان رسول الله (ص) إذا تلا هذه الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) يقول : ..

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣٥٧ عن ابن عباس سمعت رسول الله (ص) يقول : قد أفلح من زكاها : أفلحت نفس زكاها الله ، وخابت نفس خيبها الله من كل خير.

أقول : فالضمير في «زكاها ودساها» راجع إلى النفس وإلى الله ، من زكاها هو ـ من زكاها الله.

٣٣٤

وليؤخذ مثالا لتدسيس النفس قصة ثمود ، في تكذيبها وطغواها والدمدمة الإلهية التي دمرتهم.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها) :

طغوى في قولهم «فكذبوه» * وعمليا (فَعَقَرُوها) والخيبة التي لحقتهم من هذه الطغوى هي الدمدمة الربانية : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ..) (١١ : ٦٨) «إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فكانوا كهشيم المحتضر» (٥٤ : ٣١) وهذه هي الدمدمة ، فجرس اللفظ يوحي بجرس المعنى الواقع.

إن عاقر الناقة كان واحدا هو المنبعث فيهم : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) وصاحبهم الذي نادوه لهذه الجريمة : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) (٥٤ : ٢٩) : أخذ عنهم سيفهم ونحر ، فرغم أنه وحده كان العاقر الناحر ، ينسب العقر إليهم أجمع.

(فَعَقَرُوها)(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) (٧ : ٧٧) (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) (١١ : ٦٥) (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) (٢٦ : ١٥٧).

فلما ذا ينسب العقر إليهم وهم منه براء؟ لأنهم نادوه ، وأعطوه سيفهم ، وبعثوه للجريمة ، فأشركهم الله فيها وعذبهم بها ، وصاحبهم أشدهم عذابا وأنكى ،

٣٣٥

وهو «أشقى الأولين : أحيمر ثمود ، رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة» (١) ، كما أن ابن ملجم أشقى الآخرين على حد قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

__________________

(١) كما في الدر المنثور ٦ : ٣٥٧ عن النبي (ص).

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٨٧ قال رسول الله (ص) لعلي (ع): من أشقى الأولين؟ قال : عاقر الناقة ، قال : صدقت ، فمن أشقى الآخرين؟ قال : قلت : لا أعلم يا رسول الله! قال : الذي يضر بك على هذه ، وأشار إلى يافوخه.

٣٣٦

سورة الليل ـ مكية ـ وآياتها واحد وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)(٢١)

* * *

٣٣٧

أقسام بشتى الخلق ، وخالقه ، الناحي منحى واحدا هو الصلاح والإصلاح ، لتدل الخلق على وجوب تخلقهم بأخلاق الله ، واتجاههم ـ في مساعيهم الشتات ـ جهة الصلاح والإصلاح ، ولكنما النفوس ـ على شتاتها ـ ليست لتلتقي في سعيها على ملتقى واحد ، وإنما هي صفان يتجهان ، إما إلى الخير أو إلى الشر ، ففي شتات السعي ، وشتات المناهج والغايات والاتجاهات ، ليس إلا النجدين ، خيرا وشرا ، نفعا وضرا.

وعلى الإنسان النابه البصير أن يدرس في شتات سعيه ، من كائنات الوجود ، ويوحّد هدفه واتجاهه إلى الوجهة الموحدة لها ، هي السعي إلى مرضاة الله.

فلندرس من الليل ـ إذا يغشى النهار والأفق ، ويخفي ما فيه ـ ندرس درسه الصالح من إخفاء العيوب ، وغشي النهار لصالح الراحة ، لا من غاسقة إذا وقب ، واستغل ظلامه للشرور.

ولندرس من النهار إذا تجلى : أسفر عن ظلم الليل ـ ندرس درسه الصالح من المحاولة في تجلي الفطرة بصفائها ، فتجلي صاحبها في شتات المجالات الحيوية جلواتها الإنسانية.

ولندرس من ربنا الخالق الذكر والأنثى ، الهادف وحدة الحياة الإنسية من هذين المختلفين المتناحرين حسب البنى والطاقات الجسدانية والعقلية.

لندرس دروس الإعطاء والاتقاء والتصديق بالعقيدة الحسنى والحياة الحسنى ، ولكي نتيسر لليسرى ، ولا نكون ممن بخل واستغنى وكذب بالحسنى فنيسّر للعسرى.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) : نفسه ونفيسه (وَاتَّقى) : في هذا العطاء ما يجب إنسانيا أن يتقى (وَصَدَّقَ) : بالعقيدة والحياة (بِالْحُسْنى) : أحسن مراحل الحياة ، وهي الأخرى. (فَسَنُيَسِّرُهُ) : ذاته وكيانه بأعماله وأحواله (لِلْيُسْرى) :

الحياة الطيبة اليسرى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ

٣٣٨

حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦ : ٩٧) ثم ولا أتختص اليسرى بالحياة الأخرى ، فهي تشمل الآخرة والأولى ، ومهما كانت في لأولى مشوبة ، فهي في الأخرى خالصة : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٧ : ٣٢).

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) : العطاء ، (وَاسْتَغْنى) : عن الاتقاء ، وأخذ حريته في حيونة الحياة (وَكَذَّبَ) بالحياة والعقيدة (بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ) : ذاته بماله (لِلْعُسْرى) : حياة قصيرة عسرة ضنك هنا ، ثم حياة دائبة عسيرة ضنك هناك : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ..) (٢٠ : ١٢٤). (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) في تحسين الحياة هنا وهناك (إِذا تَرَدَّى) : سقط من عل في شيطنة الحياة هنا ، وعند العرض والحساب هناك ، فليس المال بمنجّيه من تبعات الأحوال والأعمال ، اللهم إلا الإعطاء والاتقاء والتصديق بالحسنى.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) :

فرض فرضه الله على نفسه : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الرحمة والهدى بوجها النجدين (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) : هدى في العقول والفطر ، وهدى بكائنات العالم ، وهدى بالنبيين والكتب ، وهي كلها هدى الدلالة ، ثم هدى التوفيق لمن آمن واهتدى : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٨ : ١٣).

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) :

فلا يحسبن الذين كفروا أن لهم الأولى يفعلون فيها ما يشاءون ، ف (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (١٧ : ١٨) .. وإنما تختلف عن الأخرى أنها حياة التكليف والابتلاء ، والأخرى حياة الجزاء.

٣٣٩

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها) : لا يوقدها (إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) فله صليها وإيقادها ، وللشقي وردها والاتقاد بها ، فإنهما ليسا على سواء ، فالمتبوع هو الجحيم بذاته ، والتابع يحرق بجحيمه.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) :

لا يقرب إليها عذابا لأنه الأتقى : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) : ماله ، وما ـ له «يتزكى» * فحياته كلها إيتاء وعطاء في سبيل الله ، فحق له أن يجنبها ، ولكنما التقي غير الأتقى ، الذي اقترف ما ينافي التقوى أحيانا ، إنه قد يمسه العذاب تخليصا له عن الدرن ، عذاب الدنيا ، ثم البرزخ ، ثم القيامة ، ثم مصيره إلى الجنة ، فعذاب غير الأتقى درجات ، بقدر ما خالف التقى.

إذا ، فالآيات هنا تقسيم ثنائي إلى من محّض الإيمان محضا : «الأتقى» ومن محض الكفر محضا : «الأشقى» * وبينهما درجات بين الجنة والنار ، ومصيرهم الجنة أخيرا ، وعلى حدّ قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شرد البعير على أهله».

هذا الأتقى يؤتي ماله دون ابتغاء جزاء ممن آتاه ، أو شكور ، فليس لأحد عنده من يد أو نعمة يجزى بها : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) فليس عطاؤه وإيتاؤه ابتغاء شيء من مال الدنيا ومنالها : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى).

ثم الله هو الذي يرضيه بما يجزيه : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) : يرضى بواقع الرضا يوم الجزاء ، بعد ما كان راضيا عن ربه أمل الواقع يوم الدنيا.

٣٤٠