الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

في كيان الألوهية ، فتراهم يقولون : إلهنا وربنا المسيح ، ديّاننا ومنقذنا و... رغم أنهم كأهل الكتاب نهوا عن هذا وذاك :

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) :

عبادة الله وحده دون أن يعبد سواه أو يعبد معه سواه ، عبادة خالصة تنتج طاعة خالصة : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : الطاعة ، لا أن يعبدوا الله ثم يطيعوا سواه ، كما اتخذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، أربابا في الطاعة ، لا في عقيدة الألوهية والعبادة ، فما قيمة عبادة لا طاعة فيها وكما يتقولون : أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر! فمن هو قيصر ومن فوقه بجنب الله حتى يحسب له حساب في جنبه.

فكما الإشراك في عبادة الله كفر ، كذلك الإشراك في طاعته ، ومن أهم ما يرام في عبادة الله ، هو طاعته فيما يأمر وينهى ، وليس الإله المعبود غير المطاع إلا كجماد!

إنما هي عبادته وطاعته ، ومن أبرز عباداته إقام الصلاة ، ومن أبرز طاعاته إيتاء الزكاة : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) : دين الكتب القيمة ، وحي السماء الخالص عن دنس الأرض وخرافاتها ، فلقد أجمعت كتب الوحي القيّمة على هذه الأركان الأربعة الدينية ، مهما اختلفت في البعض من صورها ، أو البعض مما سواها :

١ ـ عبادة الله خالصة ، ٢ ـ طاعته خالصة .. حنيفا : معرضا عمن سوى الله في العبادة والطاعة ، ٣ ـ إقام الصلاة ، ٤ ـ إيتاء الزكاة .. (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) : ذلك طاعة الكتب القيمة.

٤٠١

لا أن يشرك بالله في عبادته وطاعته ، ويصلّى لغير الله كما المسيحيون أحيانا يصلون للمسيح ، ويطيعون أحبارهم كأنهم أرباب ، وأشرّ منهم اليهود.

ولا أن تدفع الأموال في متاجرات القساوسة ، إذ يشترون الذنوب بالأموال لكي يغفروها هم (١)!

(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) : لا ينسخ ولن ينسخ على مر الزمن وطوال رسالات السماء ، مهما اختلفت في أشكالها ، فالجذور واحدة (٢).

إن الكافر جحيم في الدنيا وجحيم في الآخرة ، كما المؤمن جنة في الدنيا وجنة في الآخرة ، وخلود كلّ من الفريقين إنما هو حسب خلوده في الكفر أو الإيمان ، عقائديا وعمليا ، جزاء وفاقا :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) :

فهل يا ترى كيف يسوى بين الكتابي والمشرك في خلود النار؟ نقول لا تسوية هنا ، رغم المشاركة في أصل الخلود ، إذ الخلود هو البقاء مدة طويلة ، فكلّ من الكتابي والمشرك يبقى في النار مدة طويلة حسب استحقاقه ، قليلا أو كثيرا ، فإنه ليس الخلود كما يزعم : هو البقاء الأبدي الفلسفي اللانهائي ، ولو كان لم يكن لقيد الأبد في خلود المؤمنين من معنى ، وهنا الأبدية في خلود المؤمنين توحي لنا أن الخلود منه أبدي ومنه غيره ، ورغم أن المشركين يخلدون في النار آبدين ، لم يذكر لهم الأبد هنا رعاية لشركائهم في العذاب : أهل الكتاب ، إذ لا يخلدون أبديا ، وليس من العدل تخليدهم كالمشركين.

__________________

(١) راجع كتابنا (عقائدنا) قسم غفران الذنوب عندنا ، وصكوك الغفران المسيحي.

(٢) راجع كتابنا (المقارنات) ص ١١٥.

٤٠٢

ثم الخلود الأبدي أيضا لا يعني إلا خلودا أطول من غيره ، لا الخلود اللانهائي فلسفيا ، فإنه خلاف العقل والعدل والنقل ، قرآنيا وفي السنة ، ومما يوهن صلابة الخلود ـ في زعم اللانهاية ـ أن الخلود لغويا ليس إلا المقام مدة طويلة ، ولا يعني الأبد لخلود النار إلا أبد الحياة ومدى الحياة ، وإن كان الأبد في الجنة لا نهائيا ، إذ إن اللانهاية في الرحمة من فضل الله ، وهي في العذاب ظلم ، والنهاية في العذاب لزام عدله (١).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) :

هناك شر البرية وهنا خير البرية ، وهنا لك المتوسطون بين الفريقين على درجاتهم ، فلا أن أشرارهم يخلّدون في النار ، ولا أن أخيارهم يدخلون الجنة بغير حساب ، ومن خير البرية ـ وعلى حد قول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ هو نفسه وعينه وخليفته في أمته علي أمير المؤمنين عليه السّلام (٢).

__________________

(١) راجع كتابنا (عقائدنا) المخلدون في النار ص ٣٠٦ ـ ٣٢٢ والآية لابثين فيها أحقابا من سورة النبأ في هذا الجزء.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٧٩ ـ أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال كنا عند النبي (ص) فأقبل علي (ع) فقال النبي (ص) والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ونزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) فكان أصحاب النبي (ص) إذ أقبل علي (ع) قالوا : جاء خير البرية ، وأخرجه ابن عساكر عن ابن عباس وابن مردويه عن علي (ع) ، وأخرجه ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري مرفوعا ، وفي كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكافي قال أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل عن علي (ع) مثله.

أقول : وهذا من قبيل الجري والتطبيق في المختلف فيه بين المسلمين ، إذ من الضروري أن الرسول (ص) هو خير البرية قبل علي (ع) كما في اعتقادات الإمامية للصدوق قال النبي (ص) أنا أفضل من جبرائيل ومكائيل وإسرافيل ومن جميع المقربين وأنا خير البرية من ولد آدم (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٤٥ ح ١٥).

وثم بعد الرسول من رباهم بالوحي ، من خلفائه المعصومين ، كما في أصول الكافي عن طاهر قال كنت عند أبي جعفر (ع) فأقبل جعفر (ع) فقال أبو جعفر (ع) هذا خير البرية ، أو «أخير».

٤٠٣

(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) :

جنات عدن ـ أي : استقرار ومقام دون خروج عنها : خلودا أبديا في الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات ـ كل الصالحات ـ وخلودا لكفرة أهل الكتاب والمشركين ، أبديا للآخرين وغير أبدي للأولين ، وأبدية الخلود في النار لا تعني إلا البقاء مدى الحياة ، فسوف تموت النار وتخمد ، ويموت معها من فيها ، قبل أن يخرج منها من يستحق الخروج إلى الجنة.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) : لأنهم سلموا لأمره (وَرَضُوا عَنْهُ) يوم الدنيا ويوم الآخرة ، إذ يرون فضله الدائم فوق التصور والحسبان (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فالخشية هي خوف مع إعظام في القلوب ، كما الخشوع هو هو في القلب ، فالخشية تعمّ الإنسان قلبا وقالبا ، تعم كيان الإنسان ككل ، والنتيجة هي الإيمان عقائديا وعمليا.

هذه هي سورة البينة دون زيادة ولا نقصان ، والزيادات الواردة في بعض الروايات مختلقات تشهد بذواتها ، أو أنها تفسيرات لآياتها (١) كما في مصحف الإمام

__________________

ـ فكل واحد من القادة المعصومين هو خير البرية في زمنه كما هو الواجب للمصطفين الأخيار ، وكذلك أشياع القادة الخيرة هم خير الأشياع.

(١) كما في أصول الكافي بالإسناد إلى محمد ابن أبي نصر قال رفع إلي أبو الحسن (ع) مصحفا وقال : لا تنظر فيه ، ففتحته وقرأت فيه (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فوجدت فيها اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آباءهم فبعث إلي أن ابعث إلي بالمصحف (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٤٢ ح ٤).

٤٠٤

امير المؤمنين عليه السّلام أو أنها مقحمات (١).

__________________

(١) كما في الدر المنثور ج : ٦ ص ٣٧٨ عن أبي بن كعب أن رسول الله (ص) قال : إن الله أمرني أن اقرأ عليك القرآن : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ، فقرأ فيها : ولو أن ابن سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا ، ولو سأل ثانيا ، فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وإن ذات الدين عند الله الحنفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفر.

وفي نقل آخر عنه أنه (ص) قرأ بعد (ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) إن الدين عند الله.

وفي ثالث عنه أنه (ص) قرأ السورة هكذا : ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة أي ذات اليهودية والنصرانية أن أقوم الدين الحنفية مسلمة غير مشركة ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما أختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا أو صدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده وأولئك عند الله هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه.

أقول : لو كانت هذة الزيادات تفسيرات للآيات فهي غالطة ، ولو كانت من ضمن الآيات فأغلط ، فهل إن الكتب القيمة هي ذات اليهودية والنصرانية ، وهل إن الدين الحنفية هو المسلمة غير المشركة ، وبعد ملاحظة بسيطة في هذه الجمل المقحمة وآيات البينة تجد أنها شطحات وخيالات يهودية نصرانية تهدف إلى تشويه سمعة القرآن ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار!.

٤٠٥

سورة الزلزال ـ مكية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨)

* * *

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) :

الزلزال الخاص بها في آخر المطاف ، بعد زلازل موضعية تعيشها قبل موتها ، وبعد الرجفات التي تعيشها طوال حياتها ، حفاظا على كيانها الأرضي بين زملائها.

أرضنا هذه راجفة : محكومة بحركات عدة أنهاها العلماء حتى الآن إلى أربع عشرة حركة ، رجفة تعيّشها ومن عليها ، عامرة معمّرة ، ثم تأخذها

٤٠٦

رجفة تدمّرها وتميت من عليها : «رجفة الإماتة» ثم رجفة الإحياء : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧٩ : ٧).

إن رجفة الأرض ـ الدائبة ـ ظاهرة حسب القرآن ، حتى عدّت الراجفة من أسمائها ، فهي راجفة دوما ، وتتبعها رجعة رادفة يوم احتضارها.

وآية الزلزال تتحدث عن رجفة الإماتة والتدمير التي تتلوها رجفة الإحياء ، وأنها في زلزالها تمدّ مدا : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (٨٤ : ٣ ـ ٤) وتشقّق عن حملها سراعا : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٥٠ : ٤٤) وتحمل على أكتاف الزلزال مع جبالها إلى قبرها : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (٦٩ : ١٣) .. وإلى حيث لو رأيتها ما عرفتها : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٤ : ٤٨).

إثر هذه الزلزلة والرجفة والدكة والإنشقاق ، سوف تخرج الأرض أثقالها :

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) :

أثقالها : أحمالها التي اختبت في جوفها ، من إنسانها وحيوانها ، ومن جواهرها وثرواتها.

«أثقالها» : أثقالها معنويا كإنسانها الذي فضّل على كثير ممن خلق تفضيلا ، وماديا كالجواهر المرغوبة لإنسانها ، ولقد دفنت الأرض كلا الثقلين ليوم تقوم الأشهاد ، فإلى عرصات التساؤلات .. إنها دفنت الطالب والمطلوب و (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) والثقل المطلوب سوف يشهد للطالب وعليه ، ويشهد الطالب بالمطلوب ، له أو عليه ، وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل

٤٠٧

فيقول : في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا فلا يأخذون منه شيئا» (١).

تخرج الأرض أثقالها : أماناتها ، وكما تحدّث أخبارها الناتجة عن تلكم الأثقال : فيا للأرض من حافظة أماناتها إلى حين زلزالها ، تؤديها سالمة سليمة ، دون تدجيل وتدغيل ، دون زيادة ولا نقصان ولا تضليل!

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) :

.. هذه الإنسانية التي رأت ـ طول تاريخها ـ الزلازل والبراكين ، وشهدت زعزعات ورجفات ، هذه الإنسانية ـ وهي تعيش أخريات الأنفاس من حياتها ـ هذه تقول : ما لها؟ .. كأنها ـ أو أنها ـ صرخة جماهيرية تزامل صرخات الزلزال ، وإنه سؤال المشدود المبهوت من زلزالها هذا ، الذي لم يعهده طوال حياته وحياة الأرض.

إنه سؤال الدهشة في يوم عصيب : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢٢ : ٢).

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) :

.. هذه الإذاعة تذيع أخبارها كاملة ، وتؤدي أماناتها شاملة ، متى؟ يوم دمارها بزلزالها ، وبعد ما أخرجت أثقالها ، فإن أخبارها ليست إلا عن أثقالها.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٨٠.

٤٠٨

فهل يا ترى إن الأرض سوف تصبح حيوانة أو إنسانة تحدث؟ تحدث بما أحدثه إنسانها في حياة التكليف؟ أم سوف تصبح جبالها كألسنة لها حداد ، وهي بحول الله وقوته تحدث أخبارها .. وكما يتقوّلها القوالون غير المفكرين!

كلا! فما ذا يعنى بهكذا أخبار أجنبية عن كيان الأرض ، المضغوط بها عليها ، فهل إن فيها حجة على أصحاب الأخبار الذين عملوها وأحدثوها؟ كلا! فإنهم

«تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها فيقولون ما علمنا شيئا منها فتشهد عليهم الملائكة فيقولون يا رب هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ثم يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا» (١)

ثم يأتي الله بشهود العيان ، صور الأعمال وأصوات الأقوال المسجلة في الأرض وفي الأعضاء ، وعند ذلك يبكتون ، أجل وإن الأرض تحدث أخبارها بما شهدتها وسجلتها :

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) :

رمز لها في عمق كيانها أن تسجل ما يحدث عليها وما يقال ، من أعمال وأقوال ، ثم تذيع ما سجلته مع سائر الإشهاد يوم يقوم الإشهاد ، وإنه ليس وحي

__________________

(١) رواه القمي في تفسيره عن الصادق (ع) وتتمة الحديث كالتالي : «.. وهو قول الله : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ، فعند ذلك يختم الله ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السمع بما سمع مما حرم الله ، ويشهد البصر بما نظر إلى ما حرم الله ، وتشهد اليدان بما أخذتا ، وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرم الله ، ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرم الله ، ثم انطق الله ألسنتهم فيقولون لجلودهم لم شهدتم علينا فيقولون أنطقنا الله الذي انطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون من الله أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون».

أقول : وشهادة الأعضاء هي بروز الصور والأصوات التي تلقتها ، فهي مسجلات إلهية كما الأرض مسجلة ، ثم يصدق النبيون والملائكة الذين يشهدون ، وفق الأرض والأعضاء ، شهود أربعة تحيط بالمجرمين إحاطة كاملة.

٤٠٩

النبوة ولا وحي الإلهام ، ولا وحي الغريزة ، وإنما وحي في تكوينها ، ورمز في كيانها الذي يجهله من سوى الله والراسخين في العلم.

فيا للأرض من مسجلة سرية حافظة لما يحصل عليها ، ثم لا تتحدث عنها إلا عند قيامتها ، تسجل وتحدث خلاف سائر المسجلات والأسطوانات ... فإنها تسجل طوال حياتها دون أن تحدث جهارا حالها ، ثم تحدث بما سجلت عند احتضارها وموتها ، مؤدية أماناتها بكاملها!.

فهل إن بالإمكان أن تبقى صور الأعمال وأصوات الأقوال وحالات الأفكار ليوم تشخص فيه الأبصار؟ .. أجل وكما صرحت به آيات بينات من الذكر الحكيم ، في هذه السورة وسواها ، وصدقها العلم.

كان الناس لا يصدقون ، قبل صناعة التلفزيون والراديو والمسجلة وأشباهها ، من المسجلات للصور والأصوات ، كانوا لا يصدقون هامة انعكاس الأعمال يوم القيامة ، فكان الكافر والشاك ينكر ويستهزأ ، وكان المؤمن يتحير ويؤوّل ، لكنما العلم خدم هذه الملحمة الغيبية القرآنية بجنب أمثالها ، وعلى حد تعبير الصحابي الكبير ابن عباس «إن للقرآن آيات متشابهات يفسرها الزمن» فلقد فسر الزمن هامة انعكاس الأعمال المصرح بها في آيات عدة:

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) :

أجل : ليروا أعمالهم ، لا جزاء الأعمال فحسب ، بل الأعمال نفسها أيضا ، عذابا فوق العذاب.

إن المؤمن يوم الدنيا في غفلة واحدة عن عملية مسجلتنا الأرضية ، إلا من

٤١٠

هداه الله على ضوء التصريحات القرآنية ، والكافر في غفلتين ، غفلة الجهل وغفلة الكفر (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٠ ـ ٢٢).

كنت في غفلة عن الشهيد ، ومنه الشهيد الأرضي الذي شهد أعمالك وسجلها ثم يحدثك أخبارها ، (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١٨ : ٤٨) ، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٣٠).

فالأعمال كلها يوم القيامة حاضرة محضرة ، يحضرها الله تعالى بما سجلها في الأرض وفي أعضاء الإنسان ذاته ، وفي ذات الإنسان ، إن الله هو الذي يستنسخ الأعمال كما تصدر ، دون زيادة ولا نقصان ، ونسخة الأعمال هي الكتاب الذي سوف ينطق علينا بالحق : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٨ ـ ٢٩) : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٧ : ١٥ ـ ١٦).

فكما الإنسان ـ نفسه وبأعضائه ـ هو من شهود الأعمال له أو عليه ، كذلك الأرض بجرمها وجوّها تسجّل أعماله وأقواله هنا ، ثم تحدثها هناك : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها).

فكما رباك ربك وأعدّك للوحي تلقيا وتحديثا ، كذلك أوحى للأرض ـ إذ خلقها ـ أن تسجّل الأعمال فتحدثها.

٤١١

إننا سوف نسمع أقوالنا كما قلناها ، ونرى أعمالنا كما عملناها ، كأننا عملناها الساعة ، وعلى حد تعبير باقر العلوم عليه السّلام : «خيره وشره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى كتابه بما عمل» (١) ، فخير الإنسان وشره لزامه في ذاته : «معه» * وفي المكان الذي عمله : «حيث كان» لا يستطيع فراقه.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام : «يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة» (٢).

وبخصوص تحديث الأرض عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ، تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها (٣).

يعني من قولها : ما سجلتها ، ويا ويلنا من هذا التسجيل الشامل لزمن الأعمال ومكانها ، ولكي نشهد ما عملناه وقلناه شهود عيان فلا نجرؤ على الإنكار.

إن الأرض سوف تؤدي رسالتها بالوحي ، وحي التكوين ، وسوف تصبح شاشة قوية: (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

__________________

(١) تفسير العياشي.

(٢) تفسير العياشي.

(٣) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٨٠ أخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله (ص) هذه الآية : يومئذ تحدث أخبارها ، قال : أتدرون ما أخبارها؟ ... وأخرج بن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أنس بن مالك أن رسول الله (ص) قال : إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل ما عمل على ظهرها وقرأ : يومئذ تحدث أخبارها.

وأخرج الطبراني عن ربيعة الجرشي أن رسول الله (ص) قال : تحفظوا من الأرض فإنها أمكم وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرا أو شرا إلا وهي مخبرة به.

٤١٢

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) :

يصدرون ـ هم ـ بعد صدور أعمالهم ، وبعد أن حصّل ما في الصدور ، يصدرون فيفاجئون بشهود المشهد العظيم ، (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) نفس الأعمال كبداية للعذاب تخجيلا مما عملوا على رؤوس الأشهاد ، وإفحاما بواقع الأعمال ، ولكي لا يجدوا سبيلا للإنكار ، ثم عذاب ثان يستمر ، هو ظهور حقيقة هذه الأعمال ، فجزاء الأعمال إنما هي الأعمال لا سواها : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فالأعمال رؤيتها وذواتها ، هي عذاب فوق العذاب.

يصدر الناس أشتاتا حسب شتات الأعمال ، ليروا أعمالهم ، كأن رؤيتها أخطر من جزائها ، أمرّ وأدهى مما يمرّ عليه ساعتها ، وإنهم ـ على أشتاتهم ـ ذاهبون على غفوة وغفلة مما عملوا ، وعلهم نسوها أو تناسوها ، ذاهبون إلى شاشة عرض الأعمال ، والشاشة هي الأرض كلها .. ومن أعماله ما يهرب من ذكراها ، فكيف بمواجهتها على رؤوس الأشهاد ، إنه يشيح بوجه عنها لبشاعتها يوم العرض ، حين تتمثل له في أمرّ نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير ، ولات حين مناص.

فهل إنهم سوف يرون عظائم الأعمال دون صغائرها ، وهل إن رؤية الكبائر تنوب وتكفي عن رؤية الصغائر؟ كلا :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) :

اللهم إلا الخير الحابط غير الثابت ، وإلا الشر الممحو الساقط على التفاصيل التي نجدها في الذكر الحكيم :

فمن السيئات ما تنمحي بترك الكبائر وفعل الحسنات : (.. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١ : ١١٤).

٤١٣

ومنها ما تنمحي بالتوبة والشفاعة على شرائطهما المفصلة في محالها (١).

ومنها ما تنمحي بمصائب الحياة ونوازلها ، وكما عن الرسول الأقدس صلى الله عليه وآله وسلّم (٢).

ثم ترى منها ما تبقّى ، والويل لما تبقّى ، فمثقال ذرة منها لا تخفى إلا ظاهرة في شاشة المحشر وساحته.

وقد نحتمل أن صور الأعمال كلها تبقى ، ما يعفى عنه أو يحبط ، وما لا يحبط أو يعفى عنه ، فخير الكافر يبقى ـ على حبطه ـ يبقى ليراه فيزداد تحسّرا أنه لم ينفعه يوم الشقة ، وشر المؤمن يبقى ـ على عفوه ـ ليراه فيزداد سرورا بفضل الله وعفوه كما عن باقر العلوم عليه السّلام (٣) ، ولكنها رؤية لا تفضحه.

سوف يرى هناك ما لا يكاد يراه هنا ، فالذرة المادية هنا لا ترى بأعظم المجاهر ، وإنما هي رؤيا علمية في ضمير العلماء ، لم يروها حسيا حتى الآن ، وسوف يراها كل

__________________

(١) راجع «عقائدنا» ص ٢٢٥ ، ويأتي البحث عنها في طيات الآيات المناسبة إن شاء الله.

(٢) في الدر المنثور ج ٦ ص ٣٨١ أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : لما أنزلت هذه الآية (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ..) إلخ. قلت : يا رسول الله (ص)! إني لراء عملي؟ قال : نعم ، قلت : تلك الكبار الكبار؟ قال : نعم ، قلت : الصغار الصغار؟ قال : نعم ، قلت : وا ثكل أمي! قال : أبشر يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشر أمثالها يعني إلى سبعمائة ضعف ، والله يضاعف لمن يشاء ، والسيئة بمثلها أو يعفو الله ، ولن ينجو أحد منكم بعمله ، قلت : ولا أنت يا نبي الله! قال : ولا أنا! إلا أن يتغمد في الله منه بالرحمة.

وفيه عنه (ص) .. أرأيت ما رأيت مما تكره؟ فهو من مثاقيل الشر ، ويدخر لك مثاقيل الخير حتى توفاه يوم القيامة ، وتصديق ذلك في كتاب الله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

(٣) تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر الباقر (ع) في قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) يقول : إن كان من أهل النار وقد كان عمل في الدنيا مثقال ذرة خيرا ، يره يوم القيامة حسرة ، أنه عمله لغير الله ، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يقول : إن كان من أهل الجنة رأى ذلك الشر يوم القيامة ثم عفر له (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٥١ ح ١٨).

٤١٤

الناس دون مجاهر ، وإنما بحديد البصر (.. فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) يرون كلا بما يناسبه ويسانخه : رؤية البصيرة والبصر والسمع .. يرى الخير ثقيلا والشر خفيفا ، وتعبير المثقال للشر لا يثقل الشرّ في الميزان إلا في التعبير.

وقد يكون المثقال هنا وهناك إشارة إلى مدى تأثير الخير والشر في دنيا الحياة ، فكما الخير يرى بنفسه ، كذلك بآثاره التي خلّفها خلفه ، كما الشر أيضا يرى هكذا ، ثم الجزاء على الخير والشر سوف يكون جزاء وفاقا لثقلها : قدر التأثير ومداه ، كما تدل عليه آيات وروايات عدة (١).

__________________

(١) قد فصلنا البحث عن ذلك في الآيات المناسبة التي تخصه.

٤١٥

سورة العاديات ـ مكية ـ وآياتها إحدى عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١)

* * *

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) :

جمع العادية من العدو (١) : المشي السريع ، ومنها الأفراس المسرعة في

__________________

(١) في المفردات للراغب العدو التجاوز ومنافاة الالتئام وهو تارة بالقلب فهو العداوة والمعاداة ، وأخرى بالمشي فهو العدو ، وثالثة في الإخلال بالعدالة فهو العدوان والعدو ، ورابعة بإجزاء المقر فهو العدواء أي مكان ذو عداء.

٤١٦

المشي ، «ضبحا» وهو صوت أنفاس الفرس تشبيها له بالضباح وهو صوت الثعلب.

والعاديات : قسما بالمسرعات في سبيل الله ، قسما بالمناضلات في معركة الشرف والكرامة ، سواء أكانت أفراسا أم إبلا ، أم دبابات وطائرات مقاتلة ، أم أية مسرعات تضبح في عدوها.

إنه قسم بالطاقات الجبارة التي منحها الله الإنسان ، وهيأها له ليدافع عن نفسه ونفيسه وأنفس نفيسه : شريعة الله وأرضها وعرضها.

تبدأ السورة بمشهد القوات العاديات الضابحات ـ أية قوات ـ خيلا أم إبلا ـ كما تناسب زمن نزولها ـ ودبابات وطائرات وأشباهها ، لأن شريعة الجهاد لا تخص زمن الخيل والإبل.

العاديات الضابحات ، الموريات قدحا بعدوها ، قدحا بريا أم بحريا أم جويا ، قدحا يقدح العدو ويكبته الخسار ، ويوري عليه بالنار التي يوريها عليه وعلى كيانه.

يأخذ القرآن هنا مثالا : العاديات زمن نزوله ، ثم يصفها بما يصف ، دون أن تختص بالخيل والإبل ، إذ إنه كتاب الزمن :

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) :

الإيراء إخراج النار بالعدو الضابح أم سواه ، نتيجة سرعة الحراك ، سرعة في الجو توري من اصطكاكها الجوي قدحا ، وسرعة الدبابات المورية بصدامها عبر سيرها الأرضي ، وسرعة السفن كذلك في الماء.

(فَالْمُورِياتِ) إن الإيراء هذا نتيجة سرعة العدو هجوما على العدو (قَدْحاً) : صكا بصدام السير لسرعته.

٤١٧

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) :

تغير في الصباح الباكر لتفاجئ العدو الغادر ، نعم صبحا لتصبح غالبة على حين غفلة وغفوة من العدو.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) :

على أثر الإيراء والإغارة أثرن نقعا : غبارا شديدا في الصباح ، نقعا من غبار الأرض ، ونقعا على عقول وأفكار المغبّرين الأعداء ، ونقعا على حياتهم العنيدة.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) :

وسطن جمع الأعداء ، وهكذا يجب أن تكون الحرب ، أن يهاجموا الأعداء في عقر دورهم ومآمنهم ليوقعوا المهابة فيهم ويخسروهم معنوياتهم في البداية ، ويخسروهم أنفسهم في النهاية ، فما قلة المؤمنين بالتي تخسرهم ما داموا مؤمنين صامدين ، يرهبون عدو الله وعدوهم ، وهكذا أمروا أن يكونوا على اهبة وعدّة إرهابية : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ).

هذه هي خطوات المعركة الناجحة على ما يألفه أعداء القرآن.

قسما بهذه الطاقات والخطوات المجيدة في معارك الشرف والكرامة :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) :

تنديد بكند الإنسان الفاشل في حرب الأعداء ، الراجع منهزما عن خط النار بكل عار وبوار نتيجة خوفه وجبنه عن الكفار.

٤١٨

فقد نزلت السورة في حرب ذات السلاسل لما بعث النبي (ص) عليّا إلى ذات السلاسل فأوقع بهم ، وذلك بعد أن بعث عليهم مرارا عدة غيره من الصحابة ـ بمن فيهم عمر وأبو بكر ـ فرجعوا إلى رسول الله (ص) فاشلين ، ولما نزلت السورة خرج رسول الله (ص) إلى الناس فصلى بهم الغداة وقرأ فيها : (وَالْعادِياتِ) فلما فرغ من صلاته قال أصحابه : هذه سورة لم نعرفها ، فقال رسول الله (ص) نعم إن عليّا ظفر بأعداء الله وبشرني جبرائيل في هذه الليلة فقدم علي عليه السّلام بعد أيام بالغنائم والأسرى.

إنه قسم بالمناضلين الصامدين الصادقين أن من سواهم من الخاملين الفاشلين لربهم كنودون : كفورون بنعمه التي منحها إياهم ، لا يستعملون القوة ـ التي حباهم ربهم ـ في سبيله.

قسم بنعمة الله لواقع الكفران ، وإن فيها تنديدا بالذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ويفشلون في التذرّع بها إلى مرضاة الله ، لفشلهم في الإيمان الصادق.

هنا نرى بقية الآيات في (الْعادِياتِ) تستعرض كفران الإنسان وهيمانه في حب نفسه ، حب الشهوات والحيوانات ، حب الذات كحيوان ، تاركا حبه له كإنسان!

وليست هذه دعاية ضد الإنسان ، فإنه هنا شهيد على نفسه :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) :

يشهد على كفرانه في ضميره ، لو بقي له ضمير ، ويشهد في أقواله وأفعاله ، شاء أم أبى ، وسوف يشهد يوم يقوم الأشهاد مع الأشهاد على نفسه ، شهادة صوتية وصورية ، بما سجلها ربه تعالى في أعضائه ، تشهد الألسنة بما سجل الله فيها من أقوالها ، والأسماع بما سجل فيها من مسموعاتها ، والأبصار بما سجل فيها من مرئياته ومبصراتها ، والجلود بما سجل فيها من أعمال بظاهر الجسد.

٤١٩

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) :

لحب الخير ، لا الصالح ، إنما الذي يراه خيرا في حيونة الحياة ، ملائما في تلك الحياة اللئيمة المشؤومة ، دون ما يصلح الإيمان ، وما هوا بدافع الإيمان.

هذه فطرة الإنسان وطبيعته ما لم يخالط قلبه الإيمان ، فيغير من تصوراته وقيمه واهتماماته ، ويحيل كنوده ، اعترافا بفضل الله ، شكرانا بالكفران.

إنه يظل مرتكسا في حمأة الأرض سجينا ، في سجن اللذات ، ما لم يتحرر عن حب الذات ، إلى حب خالق الذوات واللذات.

فيا للإنسان من غفلة غمرت عقله ، ومن غفوة سترت لبّه :

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ):

إذا بعثر ما في القبور من أجسادهم الجهنمية «ما» * لا «من» * لأنهم خرجوا عن كونهم إنسانا إلى حيوان ، فلا يحق لهم التعبير بما يخص ذوي العقول : «من» * ..

فهناك بعثرة القبور : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) وبعثرة ما في القبور : بدن الإنسان الكنود ، ثم تحصيل وإحصاء وتحضير لما في صدورهم ، من الأسرار الشريرة التي ضنت بها ، ومن الأهداف الشهوانية التي أظهرتها وتجاهرت بها ، فالصدور هي مخابئ الأفكار ، وحصالة التصاميم المتحللة عن ثفالاتها ، ثم هي مخابئ القلوب : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

حصّل ما في الصدور واقعيا وشهودا عليها لتضطرهم إلى الإقرار : (أَفَلا

٤٢٠