الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

والجوفية ، وكذلك السطحية الأرضية ، فالأمواج ـ إذا ـ تشمل كل صنوف الجبال :

فمن الجبال ما هي في دور الطفولة كجبال (الأنديس) بأوروبا ، ولا تزال ترتفع وتنمو كأنها حيوان ، وكجبال (الألب) ، ومنها ما بلغ أشدّه كجبال (البرنيس) بأوروبا ، ومنها ما شاخت وهرمت كجبل (المقطم) بمصر ، وجبال (الفوزجيش) ومنها ما أخذت سبيلها إلى الفناء ، كجبال (وايلس) بأوروبا ، ومنها ومنها .. وكل هذه لا تخلو عن أنها خلقت من الأمواج ، أمواج البراكين والفيضانات ، وأمواج الدوران الأرضي ، وأمواج الأمطار السماوية ، من المواد الحجرية ومن الأحجار ، ومن الأمواج البحرية ، وكما يقول العلم الحديث : إن الجبال تخلق أولا في البحر ، وكما يرى في بعض الجبال مواقع ومحار وأنواع الصدف وعظام السمك ، مما يدل أنها خلقت في البحار ، ثم يبست أو انتقلت مياهها فبرزت.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) : جعلت سطحا يمشى عليها ويسكن فيها ولم تكن مسطحة قبله ، إذ كانت محترقة ملتوية شموسا لا تذل لراكب ، ولا تحن لعائش ، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها ..).

ومن الناس من يخيّل إليه أن سطح الأرض ينافي وكرويتها ، وإن هو إلا نظرة سطحية قاصرة ، حيث السطح هنا مقابل الشماس غير الذلول ، والمنقبض أكنافه غير الباسط ، فهل يا ترى إنه السطح مقابل الحجم؟ ـ مهما كان الحجم كرويا أم سواه ـ فكيف بالإمكان أن يجعل الحجم ـ هكذا ـ سطحا؟ كلا ، إنه السطح عن الانكماش والانقباض ، انقباضا حراريا ومن حيث الميعان ، وانقباضا يعني عدم التسوية والصلوح للسكن ، فقد سطحها بعد انقباضها ، وذللها بعد شماسها : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ).

٣٠١

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) :

فذكّر بالآيات الآفاقية والأنفسية ، وبالآيات القرآنية التي تضمها وزيادة ، فذكّر ، فليست حياتك الرسالية إلا تذكيرا ، وبالتبشير والإنذار ، ليست لك سيطرة تشريعية تسن الأحكام ، ولا تكوينية تهدي من تحب ، أو تجبرهم على الهدى ، ف (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (٥٠ : ٤٥) وإنما الجبار المصيطر هو : (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) (٥٩ : ٢٣) (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦ : ١٠٧) ، فلا أنت مصيطر جبار ، ولا وكيل عن المصيطر الجبار ، إنما أنت رسول ، وليس لك إكراه الناس على الإيمان ، فليس الإيمان بالذي يكره عليه ، ولا أنت قادر عليه : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (١٠ : ٩٩) فأولا وأخيرا ، (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) (٢ : ٢٧٢) وإنما عليك ذكراهم : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (١٣ : ٤٠) : لا تملك من أمر قلوبهم شيئا حتى تقهرها على الإيمان ، فإنما القلوب بين أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء.

فذكّر وداوم في ذكراك (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) فإنه لا تنفعه الذكرى ، فذكر إن نفعت الذكرى و (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) وليست إلا سيطرة الجهاد والدفاع : (العذاب الأصغر) لا العذاب الأكبر : (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) : بعد ما يعذبهم بك ، وبالقائم المهدي من ذريتك ، وبمن معكما وبينكما من المناضلين ، يعذبهم بكم العذاب الأصغر ، ثم يعذبهم في البرزخ العذاب الأوسط.

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) :

فليس إياب الخلق إلّا إليه ، ولا حسابهم إلّا عليه ، وأنت المذكر ، لست

٣٠٢

إلا إياه ، وعلى حد قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (١) وغيره يؤوّل أو يضرب عرض الحائط (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٤٣ ، أخرج الأعلام عن جابر قال : قال رسول الله (ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، ثم قرأ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

وعن علي (ع) جوابا عن كيفية الحساب : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال : كما يرزقهم على كثرتهم ، قيل : فكيف يحاسبهم ولا يرونه؟ قال : كما يرزقهم ولا يرونه ، (نهج البلاغة).

(٢) في زيارة الجامعة عن الامام الجواد (ع) «وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم» (وفي معناها روايات عدة كالمروي) عن الامام موسى الكاظم (ع) أنه قال : يا سماعة إلينا إياب هذا الخلق ، وعلينا حسابهم ، فما كان لهم من ذنب بينهم وبين الله عز وجل حتمنا على الله عز وجل في تركه لنا ، فأجابنا إلى ذلك ، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم فأجابا إلى ذلك وعوضهم الله عز وجل.

وعن الامام الصادق (ع): إذا كان يوم القيامة وكلنا الله بحساب شيعتنا فما كان لله سألنا الله أن يهبه فهو لهم ، وما كان لنا فهو لهم ثم قرأ الآية : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (نور الثقلين ٥ : ٥٦٨ ـ ٥٦٩).

أقول : آخر المطاف في تأويل أمثال هذه الأحاديث أنها تعني إثبات الشفاعة لهم (ع) فهناك إيابان وحسابان : أصل وفرع ، فالأصل لله ، والفرع لهم بإذنه ، كما فصلناه في أبواب الشفاعة ، وأما القول «حتمنا على الله» فتأويله رده ، تأمل.

٣٠٣

سورة الفجر ـ مكية ـ وآياتها ثلاثون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ

٣٠٤

دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

* * *

(وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) :

الفجر هو الشق الواسع ، سواء في الخير أو الشر ، ومنه الفجور فإنه شق واسع لستر العفاف ، ومن شقّه الخيّر شقّ ظلام الليل واسعا يتبين كخيط أبيض من الخيط الأسود ، ثم يتوسع إلى انمحاء ظلم الليل تماما ، فالفجر ـ إذا ـ ساعة تنفس الحياة في يسر وعافية : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (٨١ : ١٧) ففرح وابتسامة ، كأن تفتحه ابتهال بدلال!

فما هو الفجر هنا؟ إنّه هو كلّ فجر من كل ليلة ، وفجر شمس الرسالة

٣٠٥
٣٠٦
٣٠٧

المغرب) وشفعها الصلوات الشفع (الرباعيات) وصلاة الشفع (ركعتا الليل) (١).

والوتر بين الأيام ثالث أيام التشريق ، والشفع الأوّلان : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى)(٢) (٢ : ٢٠٣).

والوتر بين الأوصياء الأوفياء هو علي عليه السّلام ، والشفع الحسنان ـ عليهما السلام ـ (٣).

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) : إذا يسري في الظلمة ابتعادا عن النور ، ثم يسرى إلى النور بعدا عن الظلمة ، ونهاية المطاف هو النور ، فإن للحق دولة وللباطل جولة.

فالمراد بسرى الليل دوران فلكه ، وسيران نجومه حتى يبلغ غايته ، ويسبق في قاصيته ، ويستخلف النهار موضعه ، وعلّ الليل هنا هو من الليالي العشر ، كليلة العاشور ، وليلة القدر ، وليلة النحر (٤) ، فإنها تسري ، وتنتج آخر المطاف نهار الضياء اللامع.

__________________

(١). الدر المنثور ٦ : ٣٤٦ عن عمران بن حصين أن النبي (ص) سئل عن الشفع والوتر فقال : هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر.

(٢). الدر المنثور ٦ : ٣٤٦ أخرجه ابن جرير عن جابر أن رسول الله (ص) قال :. أقول : وقد وردت روايات أخرى في تأويل الشفع والوتر كلها من باب التطبيق ، تشملها الآية الكريمة.

(٣) رواه القمي في تفسيره.

(٤) البرهان ٤ : ٤٥٧ عن الباقر (ع) أنه ليلة الجمع وهو النحر ، إذ يجتمع فيه المفيضون من عرفات في المزدلفة ، ثم إلى منى للنحر.

٣٠٨

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) :

(لِذِي حِجْرٍ) : ذي عقل (١) يحجره عما ينافي العقل ، وهو يحجر ما يعقله العقل ، هل في ذلك ـ الأقسام الشاملة للكائنات كلها ـ قسم للعقلاء؟ أجل! وتمام القسم!.

فلقد أقسم الله هنا بالمختلفات : بالفجر ، فمنه صادق ومنه كاذب (٢) ، وبالليالي العشر : الظاهرة في الظلام ، الباطنة في النور ، فهي على ظلمها خير من الفجر الكاذب ، وبالشفع والوتر : حقه وباطله ، وبالليل إذا يسر : يسري لكي يزداد ظلما ، ثم يستقبل الفجر فوضح النهار : هل في ذلك قسم لذي حجر؟.

قسما بهذه وتلك .. إن ربك لبالمرصاد ، فكن ذا حجر تحجر ما ينفعك لحشرك ، وتهجر ما يضرك (٣).

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) :

فمن هم عاد؟ وما هي إرم ذات العماد؟

إن عادا ـ هنا ـ هم عاد الأولى ، قوم هود عليه السّلام : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٣ : (٤) ٥٠) ، ولا نعرف عن الثانية شيئا ، ثم أصلهم هو عاد بن عوص ابن إرم بن سام بن نوح ، وقد أنذرهم أخوهم هود بالأحقاف : بلاد الرمال :

__________________

(١). نور الثقلين ٥ : ٥٧١ عن الباقر (ع).

(٢). الكاذب هو المستطيل طولا كذنب السرطان ، والصادق هو المستطير عرضا في أفق السماء ، فهو مبدأ النور ومبدأ أحكام شرعية.

(٣). ألم تر ـ إلى ـ عذاب : جملة معترضة يستعرض ماضي العصيان من عاد وفرعون وثمود ، أكبر حمقاء الطغيان.

٣٠٩
٣١٠
٣١١

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) : وهذه من مكشوفات الاستعارة ، يعني بها العذاب المؤلم ، والنكال المرمض الممرض المرضض ، حيث السوط سبب للعقوبات الواقعة ، فإذا صبّ عليهم كان أمض وأوقع.

أو أن السوط هنا مصدر يعني أوقع عذاب يخالط الجسوم بالدماء واللحوم ، فيسوطها سوطا إذا حرّك ما فيها وخلطه.

فحين يذكر السوط نذكر لذع العذاب ، وبالصب فيضه وغمره ، اجتماع الألم اللاذع ، والغمرة الطاغية ، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ، فهذا سوط العذاب ، فكيف بنفس العذاب الذي يرقبهم يوم يقوم الأشهاد :

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً. لِلطَّاغِينَ مَآباً) وربك يرصدهم عليها ، وقد ينالهم يوم الدنيا سوط منها ، يرقبهم يرصدهم ولا يخفى عليه منهم شيء في الأرض ولا في السماء ، ف (لا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) «ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه وهو له بالمرصاد ، على مجاز طريقه ، وبموضع الشيحا من ساغ ريقه» (علي عليه السّلام).

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) :

تنديد بما يخيّل إلى جهال الناس أن السعة في الحياة إنعام وإكرام ، وضيقها مهانة وابتلاء ، فلو بسط الله له في الرزق ظنه إكراما باستحقاق ، مهما كان بعيدا عن طاعته ، رغم أنه بلاء ـ ومن أشد البلاء ـ وليس جزاء : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ

٣١٢

بَصِيرٌ) (٤٢ : ٢٧) ولو قدر عليه رزقه لظنه بلاء وابتلاء ومهانة ، مهما كان في طاعته ، وهو أخف البلاء ، والحياة الدنيا كلها بلاء ، ما يلائم طبع الإنسان وما ينافره ، وهذا باب من التضليل يضل فيه الكثير ممن لا يعرفون الله ، ولأن الدنيا دار عمل ولا حساب ، والآخرة دار حساب ولا عمل ، فكم من مطيع لله يضيّق عليه لكي لا يطغى ، وليبل ببلاء أخف وأدنى ، فنراه يترك الطاعة إلى المعصية إذ يحسبه مهانا في طاعة الله! وكم من عاص موسّع عليه بلي به كبلاء شديد ، يظنه مكرما في معصية الله ، فيزداد عصيانا وطغيانا ، رغم أنه إمهال وإملال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣).

لذلك ترى المؤمنين ـ على الأكثر ـ يبلون ببلاء أخف : ضيق المعيشة ، والكفار بما هو أصعب : سعة الرزق ، ونرى من يسقط في بلاء السعة ، أكثر بكثير من الساقطين ببلاء الضيق : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢١ : ٣٥) وإن بلاء الشر خير من بلاء الخير ـ ما تحسبه خيرا ـ : من السعة ، وما تظنه شرا : من الضيق!

هنا نلمس لطافة التعبير في ابتلاء الإكرام بالنعمة ، وابتلاء غير الإكرام بالضيق ، أنه ليس في قياس الواقع ، إنما كما يظنه الإنسان ، ولذلك يفنّد كلا التصورين أخيرا :

* * *

٣١٣
٣١٤
٣١٥

إنها آية متشابهة ترد إلى محكماتها ك : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤٢ : ١١) (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٢٠ : ١١٠) : ما تصرح أن لا انتقال له مكانا ولا زمانا ولا حيطة ولا علما ولا قدرة ، فإنها من صفات المخلوقين.

ثم هي تفسّر بنفسها لمن هو أعمق في النظر ، وعلى حد قول الإمام الرضا عليه السّلام : «المتشابه ما اشتبه علمه على جاهله» وأما عالمه فلا يشتبه :

فإن الفعل ـ أيّ فعل ـ من أقرب القرائن للمعني من فاعله ، كما الفاعل ـ أي فاعل ـ قرينة على المعني من فعله ، فإذا نسب المجيء إلى من يطير أو يمشي ، فهو المعني منه ، وإذا نسب إلى ما لا يطير أو يمشي قطعا للمسافات ، فالمعني كما يناسبه ، ك «جاءت فكرة صديقي إلي وذهبت فكرتي إليه» : فهذا انتقال غير مكاني ، وفيما إذا نسب إلى المجرد عن هذا وذاك ، لتجرد ذاته ، وعدم انتقال ـ أو تكامل ـ صفاته ، إذا يجرّد مجيئه عما يناسب المخلوقين إلى ما يناسب ساحة الربوبية ، كمجيء أمره بالحساب والجزاء ، فلقد كان هذا الأمر شأنيا موعودا يوم الدنيا ، ثم يتحقق يوم الجزاء ، وهذا هو مجيء الرب ، لا بذاته ، ولا بعلمه وقدرته ، إنما بربوبيته ، فهو ربّ يوم الجزاء ، كما كان ربا يوم الدنيا ، إلا أن ربوبيته يوم الجزاء هي الجزاء ، وفي يوم الدنيا هي التدبير والتكليف ، فانتقال شأن الربوبية من وعد الجزاء إلى واقع الجزاء ، يعبّر عنه بمجيء الرب ..

وكما الآيات توحي : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٠ : ٧٨) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) (١٦ : ٣٣) ، فإتيان الرب الإله بأمره هو المعني هنا وهناك ، وإتيانه بذاته ليس إلا اقتراح المشركين وانتظارهم: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً

٣١٦

إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (٧ : ١٥٨) :

وهكذا يكون دائما دور الصفات والأفعال المنسوبة إلى الله تعالى ، أن لزامها تجريدها عما للمخلوقين من أفعال وصفات ، تسبيحا لذاته وأفعاله وصفاته عما للمخلوقين : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

(وَجاءَ رَبُّكَ) بأمره (وَالْمَلَكُ) حاملين أمره لتحقيقه (صَفًّا صَفًّا) : جنود مصطفون مصطفّون (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) :

هل إن مجيء جهنم هو بروزها؟ : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٢٦ : ٩١) (.. لِمَنْ يَرى) (٧٩ : ٣٦) ولأنهم كانوا في غفلة منها وغطاء : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) .. أو أنه مجيء عذابها : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (٨١ : ١٠) بعد أن لم تكن مسعرة؟ أو أنه مجيئها من مكان إلى مكان؟ كلّ محتمل ، والكل أجمل ، رعاية الجمع بين شاهد القرآن والسنة (١).

__________________

(١) فمن القرآن الآيتان ، ومن السنة ما عن أبي سعد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية تغير وجه رسول الله (ص) وعرف حتى اشتد على أصحابه ما رأوا من حاله ، وانطلق بعضهم إلى علي بن أبي طالب فقالوا : يا علي! لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله ، فجاء علي (ع) فاحتضنه من خلفه وقبل بين عاتقيه ، ثم قال : يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم؟ قال : جاء جبرائيل فأقرأني : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال : فقلت : يجاء بها؟ قال : يجيء بها سبعون ألف يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثم أتعرض لجهنم فتقول : مالي ولك يا محمد! فقد حرم الله لحمك علي ، فلا يبقى أحد إلا قال : نفسي نفسي ، وان محمدا يقول : أمتي أمتي (الدر المنثور ٦ : ٦ : ٣ ، أخرجه ابن مردويه عن الخدري عنه (ص).

٣١٧
٣١٨
٣١٩

فهذا الخطاب ـ إذا ـ مستمر طول الحياة وعند الموت وفي القيامة ، لكلّ أهله ، وكلّ في وقته .. يخاطب المؤمن على طول الخط : في الدنيا لكي يستزيد في رجوعه إلى الله ، وعند الموت والقيامة ليجزي بما قدّم ، ويخاطب الكافر يوم الدنيا ما بقي له أجل للإصلاح ، ثم ينقطع عنه هذا الخطاب إلى خطاب آخر : ، (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ..).

٣٢٠