الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٠

١
٢

٣
٤

(٢٢) سورة الحج مدنية

وآاتها ثمان وسبعون

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ

٧

مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ

٨

عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)(١٦)

سورة تسمى باسم أفضل فريضة من فرائض الله وأشملها تحليقا على كلّ شرعة الله ، حيث تضم كل مرادات الله من الأمة المرحومة في سبيلها إلى الله ، فكأنها هي القرآن كله ، وكما فضلت سورتها ـ فيما فضلت ـ على سائر القرآن بسجدتين اثنتين ، وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله

٩

وسلم) «فمن لم يسجدهما فلا يقرءهما» (١) والثانية أوجب وأحرى بها لمكان الأمر بها.

ومدنية السورة لائحة من آي الهجرة ، والإذن للقتال ، وناصية القوة في العدّة والعدّة للمسلمين ، المعدّة للنضال ، وقد يلمح الإذن للقتال مع بعض السياق من آياتها ، انها من المدنيات الأوائل حيث أسّست دولة الإسلام جديدة قائمة على ساق ، محضّرة نفسها لغزوات ، وكما الظلال المحلّقة على جو السورة هي ظلال القوة والهيبة والهيمنة والتحذير والترهيب واستجاشة مشاعر التقوى على الطغوى.

فانها تبدء بمشهد القيامة مزلزلا مزمجرا ، ثم عذاب الذين كفروا (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) ومثل الشرك بالله (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) ومن ييأس من نصر الله (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) ثم مشهد القرى الكافرة (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها) وإلى الاذن في القتال : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ ...).

ذلك كله جو القوة مهما لمعت شذر من آيها كأنها مكيات ام نازلة بين مكة والمدنية ، فان جوّ السورة جو مدني إلا ما لمحت من هذه او تلك ، مهما شابهت بعض الشيء الجو المكي لأنها في بداية الهجرة ، فليكن جوا هو عوان بين العهدين إلا في أمثال آيات القتال ، والعقاب بالمثل ، وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بايعه المدنيون وعرضوا

__________________

(١) هما الآية (١٨) و (٧٧) وفي الدر المنثور ٤ : ٣٤٢ ـ اخرج احمد وابو داود والترمذي والحاكم والبيهقي في سننه وابن مردويه عن عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما وفيه عن خالد بن معدان ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين واخرج ابن أبي شيبة عن علي وأبي الدرداء أنهما سجدا في الحج سجدتين.

١٠

عليه ان يميلوا على اهل منى من الكفار فيقتلوهم ، قوله : «اني لم أؤمر بهذا» حتى تمكنت دولة الإسلام فيها ، فعندئذ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ..).

تبدء السورة بزلزال الساعة وتختم بالجهاد حق جهاده (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِه ..) جهادا في الله بكل الجنبات ، وبينهما متوسطات من توجيهات صادرة من مصدر القوة والشوكة الحالقة البالغة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(١).

خطاب هام عام يشمل كل الناس ، استجاشة لتقوى الله بدرجاتها ، تهويلا مجملا في تجهيل : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) يستحثّ عظيم التقوى العميم ، اتقاء عن عذاب يوم عظيم.

زلزلة الساعة وما ادراك ما زلزلة الساعة؟ انها تعم الكائنات كلها ، سماوية وارضية اما هيه بما تزلزل السماء بأنجمها وطبقاتها ، وتزلزل الكائنات برمّتها إلا من شاء الله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٣٩ : ٦٨).

اجل ـ إذا نفخ في الصور ونقر في الناقور ، ترى النقرة النافخة والنفخة الناقرة تزلزل كل شيء عن كيانه وحيويته ، فلا يبقى ساكن إلا ويسيّر ، ولا متحرك ماكن الا ويرجف فيدمّر ، وتلك هي قيامة الإماتة والتدمير ، ومن ثم الإحياء والتعمير (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ).

وقد تكون هذه الزلزال من أشراط الساعة ، فهي ـ إذا ـ قبل النفخة النقرة ، إلّا ان الزلزلة الثانية المحيية ـ كما تعنيها آيات الزلزال ـ قد تلمح ان الأولى هي المميتة ، المتدرجة من أشراطها الثلاثة إلى تلك الصعقة

١١

الشاملة : (١) وكما آية الراجفة تقرر رجفتين وهما صيغة أخرى عن الزلزلتين : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧٩ : ٧).

رجفة الإحياء الرادفة لرجفة الإماتة ، ثم لا رجفة قبلهما تعتبر زلزالا هي من أشراط الساعة ، وفي هذه الزلزلة الهائلة رجفان في القلوب من خوف ، وزلات الأقدام من روعة الموقف.

(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) ٢.

(يَوْمَ تَرَوْنَها) : زلزلة الساعة ، ورؤيتها هي لمسها بواقعها ، وقضية الجمع في «ترونها» هي جمعية تلك الرؤية لأهل الجمع كلهم.

والذهول هو الذهاب والانصراف عن شيء بدهشة ، و (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) دون «مرضع» علها للاشارة إلى حالة الإرضاع ، فتاءها ـ إذا ـ للمبالغة فقد تكون مرضعا في غير حالته ، فذهولها ـ إذا ـ ليس لمذهل لأنها في غير حالته ، وأما ذهولها حالة الإرضاع (عَمَّا أَرْضَعَتْ) ، من رضيع ورضعة ، فقد يكون أقوى من ذهولها عن نفسها ، حيث المرضعة يهمها ما أرضعت اكثر من نفسها ، فهي إذا خالية عن نفسها ، خاوية عن كل ما يهمها ، من هول الموقف المزلزل كلّ شيء.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٢٣ : ٢ روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث الصور إنه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعقة ونفخة القيام لرب العالمين ، وان عند نفخة الفزع يسير الجبال وترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج او كالقنديل المعلق ترجرجه الرياح».

١٢

ثم (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) لوقته ام قبله لوقعة الزلزال وانقلاب الحال ، وقد تكفي هاتان الحالتان الهائلتان عرضا عن حالات الآخرين ، الواصلة لحدّ يبدل «ترونها» ب «ترى» حيث لا يتأثر بالزلزال ، لأنه ممن شاء الله :

(وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) كأنهم سكارى الشرب (وَما هُمْ بِسُكارى) الشرب (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فهم كما السكارى يتموّجون في قالاتهم وحركاتهم كالمجانين خوفة من عذاب الله الذي يرصدهم ، وتأثرا من زلزلة الساعة التي تحشرهم.

وكما ان شديد السكر والذهول قد يغشي ويغمي ثم يميت ، كذلك تكون هذه الزلزلة المذهلة المسكرة : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ومنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يرى الناس سكارى وليس هو منهم.

ذلك «يوم (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) (٧٣ : ١٨).

وترى الناس كل الناس إلّا من شاء الله «ذاهبة عقولهم من الحزن والفزع متحيرين»(١).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ

__________________

(١) تفسير القمي قال قال (عليه السلام) في الآية : ... وفي كتاب طب الأئمة (عليهم السلام) باسناده إلى سليم بن قيس الهلالي عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال : اني لأعرف آيتين من كتاب الله المنزل تكتبان للمرأة إذا عسر عليها تكتبان في ورق ظبي وتعلقه عليها في حقويها : بسم الله وبالله ان مع العسر يسرا ـ سبع مرات ـ يا ايها الناس اتقوا ربكم ـ الى ـ شديد».

١٣

مَرِيدٍ) ٣.

(وَمِنَ النَّاسِ) المخاطبين بواجب التقوى ، المكلفين بالتجنب عن الطغوى ، من هم في الحق نسناس : (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فالمجادلة في الله بعلم فطري ام عقلي ام تجريبي ، بصورة مجردة غير دخيلة بالهوى ، توصل صاحبها إلى حق في الله كونا وكيانا وتوحيدا ، حيث الكون بكافة ما فيه ، من ظاهره وخافيه ، مستخدم في الحق للحصول على معرفة بالله قدر المحاولات اللائقة اللابقة في هذه السبيل.

ذلك وان كان الله لا يجادل فيه ، ولكن الشكّ القاصر شك مقدس ، لا بد من إزالته بمجادلة قدسية هادفة لتخطّي الشك إلى اليقين وهذه من المجادلة في الله بعلم حيث تنتهي إلى علم إذ تهدف العلم ، واما المجادلة المشككة المقصّرة فهي على أية حال لا تملك اي برهان أيا كان وأيان ، فهي ـ إذا ـ مجادلة في الله بغير علم ، لا يتبّع صاحبها علما ، وانما (يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) من شياطين الجن والانس ، المجادلين في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

والمجادلة المشككة في الله تعم اصول الدين وفروعه ، مبدء ومعادا وما بينهما من وحي ومواده ، حيث الكل لله ومن الله لا سواه ، والمتحري عن الحق لا يتطرق طريق الجدال في الله لأنها مخاصمة لا تعني إلّا إبطال الحق في الله و (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) (٤٠ : ٤) ولا مصير لهم في ذلك المسير إلّا أن يأخذهم الله (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٤٠ : ٥)!.

وهذا الذي (يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) : المرتفع الأملس ، المتمرد على علم ، هو لا سواه يعيش حياته الشيطنات والضلالات والتضليلات عاندة عامدة ، جامعة كل ضروبها من شتات أصحابها ، حيث الشيطنات

١٤

دركات ، كما الهدايات درجات ، ولكن : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (٧ : ١٤٦).

اصرفهم عن آياتي ختما على قلوبهم فهم لا يعقلونها جزاء بما كانوا يعملون ، وصدا لهم عن الوقيعة فيها وصرف المؤمنين عنها.

وكضابطة ادبية ـ في الحوار عامة ـ إن الجدال بالباطل ممنوع ، سواء أكان لدحض الحق ام إثباته ، فان واجب الجدال على اية حال ان تكون بالتي هي احسن (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١٦ : ١٢٥) والجدال بغير علم باطل على أية حال ، وإذا كان الجدال بعلم بغير الأحسن ـ كالحسن ـ ممنوعا ، فباحرى الجدال بغير علم فانه سيء ام أسوء.

ويا ليت الذين يجادلون في الله جادلوا بعلم ، لا بغير علم ، تطاولا أجرد عن كل علم ، ناشئا من اتبّاع كل شيطان مريد ، فهو ركام من الجهالات والضلالات دون اية بارقة من حق ، فلذلك :

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ٤.

(كُتِبَ عَلَيْهِ) : كل شيطان مريد (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) اتباعا له في ضلاله وإضلاله ، كما (كُتِبَ عَلَيْهِ) : (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ)(١) فرأس الضلالة مكتوب عليه ، سواء أكان كل شيطان مريد ،

__________________

(١) في الوجه الاول «كُتِبَ عَلَيْهِ ...» مواصفة لكل شيطان مريد ، وفي الثاني خبر بعد خبر ل «مَنْ يُجادِلُ ..» والوجهان معنيّان لأنهما معنيان صالحان ، ولو كان مخصوصا بالاحتمال الاول لوجب جمع الضمير «عليهم» اعتبار بكل شيطان مريد ، كما ولا يصلح اختصاصه بالثاني لأن الاول أحرى معنويا لأنه اصل الإضلال ، إذا ف «عليه» راجع إلى كل واحد منهما على البدل ، جمعا بين المعنيين.

١٥

امن يتبعه في خطواته (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) دون شك ولا ريبة ، لأن الضلال والإضلال كيانه ، وهو شغله الشاغل في حياته ، فلا يهديه إلى حق ابدا ، بل (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) هدى إلى غاية الضلال ومصيره ، وهذا تهكم في التعبير إذ يسمي قيادته إلى عذاب السعير هداية ، انه لا تتأتى منه هداية الا إلى عذاب السعير ، وما الطفه جمعا بين الإضلال والهداية عناية لمعنى واحد هو الضلالة!

وهذه الكتابة هي القضاء الرباني على الولي والمتولي ، حيث ان كيان الضلال لا يصدر منه الا ضلال ، وليس الله بمنج من يضل بغير علم ، امن يتولاه على علم بضلاله ، ام غير علم بهداه ، اللهم إلا القاصر في تحريه عن الحق فعسى الله ان يهديه سواء السبيل.

فلا تعني (كُتِبَ عَلَيْهِ) ان الله فرض ضلال من ضل بإضلال من أضل تسييرا دون تخيير إلى ضلال ، وانما هو بيان للواقع حسب الأسباب والمقتضيات ، ان المتحري عن باطل ليتّبعه ليس بحري الا ان يحيق به الباطل الذي تحرى عنه وتمناه ، معاكسة للمتحري عن الحق (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

ومن المجادلة في الله هي المجادلة بغير علم في يوم الله ، إحالة له بمحاولات جاهلة قاحلة ، والله يبرهن لحقه وواقعه هنا بواقع الحياة الاولى ، وهم مصدقوها ، دون إبداء مادة للبرهان بعيدة عنهم ، بل هي ما يعيشونها طول حياتهم :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ

١٦

شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)٥.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) ملحدين ومشركين او موحدين مرتابين في البعث ، حيث البرهان الحاضر ليس حاصرا فيمن يعتقد في وجود الله ، فان خلق الإنسان من تراب ثم .. ليس ينكره احد ، طالما المادي يزعم ان الخالق هو المادة ، ويرى المشرك أنه الله ، والموحد لا يشرك في خلق وسواه ، فالقدرة الخالقة للإنسان من تراب هي هي الخالقة له في المعاد ، فالخلق اوّل مرة دليل امكانيّته مرة ثانية بل (هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)!.

(إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) بعد الموت ، والريب هو شك مسنود إلى برهان ام زعم البرهان ، فلئن صدقناكم في ريبكم ، فواقع خلقكم أول مرة يزيل واقع ريبكم ، حيث الريب لا يصارع واقع البرهان أيا كان.

(فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) وجمعية الضمير فيها تعني جمعية الصفات في خلقنا ، علما وقدرة وحكمة وتصميما وارادة اما هيه من صفات ربوبية متطلّبة في ذلك الخلق المنضّد المتدرج العظيم ، لأجنة مختلقة في الصور والسير ، مقرّة في الأرحام او ملفوظة ساقطة ، ثم الطفل الخارجون عن الأرحام بين بالغ أشدّه او متوفّى قبله ، او مؤخر إلى أرذل العمر ، فصورة الخلق وسيرته تدلاننا على ارادة وتصميم باختيار ، دونما صدفة فوضى جزاف!

(خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) خلق الإنسان الاول من تراب قفزة دونما تطور معوّد في خلق سائر الإنسان ، ثم وخلق أنساله متدرجا حيث البداية هي التراب ، من نطفة هي من دم هو من غذاء هو من نبات وحيوان هما من تراب.

فخلق الإنسان من تراب ضابطة صارمة تعم الإنسان الاول وأنساله ،

١٧

من أبوين كسائر الإنسان ، ام دون أب كالمسيح (عليه السلام) وقد تلمح «كم» في خلقناكم ، ان الإنسان بجزئيه مخلوق من تراب ، فطالما اختلفا في حاضرة الصورة والسيرة ، الا ان أصلهما كليهما هو التراب ، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) تراخيا عن الخلق الاول بأنساله ، وفي سائر الخلق بأنساله ، فأين النطفة والتراب ، والمسافة بينه وبين النطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية مسافة هائلة!

والنطفة هي الدودة العلقة المتحولة بعد مراحل إلى جنين ، وهي واحدة من ملايين العلقات في البحر المنوي وهو قطرة ام قطرات! فنقطة واحدة من تلك الملايين هي الدودة التي تلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم وتتحد به فتعلق في جدار الرحم فتصبح علقة :

(ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) متحولة عن نطفة ، الكامنة فيها كل خصائص الإنسان المقبل.

(ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) وهي اللحمة الصغيرة المتحولة من العلقة ، قدر ما يمضغ (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) فما هي المخلقة وما هي غير المخلقة؟

التخليق هو التحليق في الخلق ، فهو كمال الخلق الصالح لتحوله إلى جنين صالح ، وغيره هو غير الصالح ، سواء سقط (١) ام أصبح جنينا ناقصا في عضو او أعضاء.

ومن تخليق المضغة خلقها عظاما ، ثم كسوتها لحما ثم انشاءها خلقا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٧١ عن تفسير القمي قال قال : المخلقة إذا صارت تامة وغير مخلقة قال : السقط.

أقول وهذا تفسير بأحد المصداقين لغير المخلقة ، فلا بد له مصداق آخر وهو من يولد ناقصا قضية العموم في (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ).

١٨

آخر وهو كمال الجنين مهما كان ناقص الخلقة : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢٣ : ١٤).

ذلك (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) وهنا محطّة للتبيين بين التراب والمضغة ، وبينه وبين الطفل ، تبيينا للقدرة القاصدة المصممة في خلقكم ، وانها هي الخالقة لكم في بعثكم مرة اخرى.

فقد توقّف فتسقط المضغة مخلقة وغير مخلقة ، واخرى (نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) من مضغة مخلقة او غير مخلقة ولكنها صالحة لتحولها جنينا مهما كانت ناقصة الخلقة ، فقد تقرّ غير المخلقة وتسقط المخلقة ، واخرى المعاكسة مهما كانت هي الاكثرية المطلقة الثّلة ، وتلك هي القلة.

فليس إقرارها في الأرحام لزاما لكونها مخلّقة رغم انه طبيعة الحال فيها ، ولا اسقاطها عنها لزاما لكونها غير مخلقة ، رغم انها خلاف طبيعة الحال (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ان هناك القدرة القاصدة عاملة ، دون خلقة اوتوماتيكية فوضى جزاف.

(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) من مخلقة وغير مخلقة ، و «ما نشاء» من شكليات وحالات (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) في الذكر الحكيم المقرر عندنا ، المقدر بارادة عالمة حكيمة وتصميم ، من ستة أشهر إلى تسعة ، بزيادة طفيفة ام نقيصة.

«ثم» بعد قضاء مسمى الأجل (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) والطفل هنا جمع لا ينافيه (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) (٢٤ : ٥٩) مفردا مجموعا ، لأنه مفرد وجمع ، ومن جمعه (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (٤٠ : ٦٧) (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ

١٩

النِّساءِ) (١٤ : ٣١) وتأويل كونه مصدرا يراد به الجمع عليل ، حيث الظهور على عورات النساء ليس للمصدر ، بل هو للصادر منه الظهور وهو هنا ذات الجمع ، ثم «طفلا» في (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) إخراج لذوات الأطفال دون طفولتهم.

وكون «الطفل» ـ الخارجين صغارا لحدّ يصح التعبير عنهم بالمصدر ـ مبالغة في الصغر كرجل عدل ، تنافيه مبالغة الكبر في (الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا ...) إذ لا تشمل الولائد الجدد ، إلا الغلمة المدركة المشرفة لذلك الظهور ، كصاحب العشر وحواليها ، فان الأدنى منها خارج عن مقسم السماح والتحريم ، فمن المضحك المبكي القول : بأنه يجب التحجب عن ابن خمس وحواليها ، إذا فمن طفولة التأويل ، تأويل الطفل إلى المصدر توجيها لجمعية الموقف.

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) شد الجسم والعقل والحكمة الجماعية ، استيفاء لنموكم العضلي والعقلي والنفسي ، شدّات ردف بعض ولصق بعض بنفس الترتيب في الاكثرية المطلقة ، قياما على سوقكم في متطلبات الحياة ، خروجا عن كافة الطفولات الفردية والجماعية ، العقلية والجسمية ، ويا لها من قدرة حكيمة او دعت الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد الشديد ، التي تتكشف كلّ في أوانها المقررة له ، كما أودعت النطفة كل خصائص الطفل وهي ماء مهين!

فبلوغ الأشد هي الغاية القصوى من ذلك الإخراج ، وهي أشد الانسانية السامية ، دون البدنية الحيوانية الا ذريعة وساعدا لشد الإنسانية.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهذه المقابلة دليل ان التوفي هنا هو الأخذ وافيا في حياة الأشد ، ترقية لشدّات الإنسان إلى القمة الصالحة ، ثم إماتة له في تلك الحالة (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ

٢٠