الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

ولا خطابا منه يخاطبهم به ، لا يملكون أي كلام وخطاب من الله لهم أو منهم إليه ، فله الأمر وله الحكم ، لا مدخل لأحد في أمره إلا بإذنه ، ولا يشفعون إلا بإذنه.

فليس كما يزعم : أن لأولياء الله هناك ما يشاءون ، فما يشاءون إلا أن يشاء الله كما كانوا يوم الدنيا.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) :

إنه يوم القيامة والقيام : يوم يقوم الموتى عن أجداثهم ، يوم يقوم الأشهاد ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم يقوم الروح والملائكة : يوم القيامة الكبرى!

مقابلة الروح وردفه بالملائكة هنا توحي أنه من غير الملائكة : إنه عظيمهم وزعيمهم الآمر الناهي فيهم ، وكما في آيات عدة تستعرض عروجهم : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٧٠ : ٤) ونزولهم على منزل القدر والرحمة : قلب محمد أو قلب محمدي : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (٩٧ : ٤) وكما في المروي عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : سبوح قدوس رب الملائكة والروح(١).

إذا فالروح هو خلق أعظم من الملائكة ومن جبرئيل كما يروى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام (٢) وعن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إنه جند من جنود

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٠٩ ، أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة أن رسول الله (ص) كان يقول في ركوعه : ..

(٢) نور الثقلين ٥ : ٦٣٨ ح ١٠٤ ، أبو بصير قال : قلت للإمام جعفر الصادق (ع): جعلت فداك الروح ليس هو جبرئيل؟ قال : الروح أعظم من جبرئيل ، إن جبرئيل من الملائكة وإن الروح هو خلق أعظم من الملائكة ، أليس الله يقول : تنزل الملائكة والروح؟ وعن ـ

٦١

الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل ثم قرأ : يوم يقوم الروح ..» (١).

هذا الروح العظيم وهؤلاء الملائكة الكروبيون يقومون ـ يوم الطامة الكبرى ـ صفا ، لا يتكلمون في شفاعة وسواها ، إذ لا يملكون من الله خطابا ، إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا ، فالكلام المأذون مقيد بالصواب ، كما الصواب أيضا مقيد بالإذن.

هذا الموقف الرهيب الذي لا يتكلم فيه المقربون إلا بإذن وحساب وصدق وصواب ، إنه يغمر جو المحشر بالروعة والوقار ، وعندئذ تنطلق صيحة الإنذار للسادرين في الغفوة والخمار :

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) :

مآبا ومرجعا إلى ربه ، حسب ما تصبّغ بصبغته أو تخلف ، إما مآبا إلى جهنم المرصاد ، أو الجنة العطاء الحساب (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢).

(فَمَنْ شاءَ) يوم الدنيا وحقق مآبه «اتخذ» * بما قدمته يداه (إِلى رَبِّهِ مَآباً) جزاء وفاقا أو عطاء حسابا.

__________________

ـ الباقر (ع) مثله ح ١١٠ ويلمح إليه ح ١٠٨ ص ٦٣٩ المصدر. وقد يروى أنه ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل كما عن تفسير القمى عن الصادق (ع) في الآية : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ ..) قال : «الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل وكان مع رسول الله وهو مع الأئمة».

ومقتضى العرض على القرآن ترجيح السابقة لملائمتها المقابلة بين الروح والملائكة في آيات ثلاث ، إضافة إلى أن الروح الذي يتنزل مع الملائكة ليلة القدر لا يمكن أن يكون مع المعصومين دائما ، فكيف الملائمة بين التنزل عليهم ليالي القدر والمقام معهم طوال الزمن؟

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٠٩ ، أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (ص) قال : ..

٦٢

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) :

«أنذرناكم» بالنذر : نذر القول والفكر والفطر ، ونذر الرسل ووحي السماء.

(عَذاباً قَرِيباً) : محتوما ، فإن كل آت قريب ، قريبا في العقول ، وقريبا في واقعه إذ يبتدأ به منذ تفارق الروح جسدها ، ثم (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (٤٢ : ١٧) (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (١٧ : ٥١). (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) (٧٠ : ٧).

(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) : ينظر أعماله بصورها إذ تحضر عنده : (يَوْمَتَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠) .. وبحقايقها التي هي جزاؤها ، نظرا في أعماقها وفي أعماق ذاته نفسه : ف (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٧ : ٩٠).

(وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) : ١ ـ كنت ترابا كما كنت قبل أن أخلق ، ٢ ـ أو كما صرت ترابا بعد الموت ، فكنت كما كنت دون أن أحشر ، ٣ ـ أو كما تصبح غير المكلفين من الحيوان ـ ترابا ـ بعد حساب قصير يسير ، ٤ ـ أو كنت ترابا لرب الأرباب خاضعا غير متخلف عن أوامره (١) .. يا ليتني كنتها ،

__________________

(١) كما يروى عن النبي (ص) ففي العلل باسناده إلى عباية بن ربعي قال : قلت لعبد الله بن عباس لم كنى رسول الله (ص) عليا أبا تراب؟ قال : لأنه صاحب الأرض وحجة الله على أهلها بعده ، وبه بقاءها وإليه سكونها ، ولقد سمعت رسول الله (ص) يقول : إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعد الله تبارك وتعالى لشيعة علي من الثواب والزلفى والكرامة قال : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي من شيعة علي (ع) وذلك قول الله عز وجل : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) وعن الصادق (ع) في الآية «يعني علويا يوالي أبا تراب» (البرهان ج ، ص ٤٢٣ ح ١). أقول : وهذا من الجري والتطبيق والتأويل وليس تفسيرا ، إنما مثال لأكمل ما يجب على المسلم ، أن يضيف ولاية علي إلى ولاية الرسول (ص) وكما عن شرف الدين النجفي بعد نقله الرواية الأخيرة : «وجاء في باطن تفسير أهل البيت ما يؤيد هذا التأويل».

٦٣

ف (لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) (٦٩ : ٢٦ ـ ٣٢).

فقد يعنى من (كُنْتُ تُراباً) كل هذه المعاني الأربعة ، وتأوّه الكافر وتحسره عما قصر أمر واقع لا مرية فيه يوم الطامة الكبرى.

إنه يرى انعدامه وصيرورته إلى عنصر مهمل زهيد ، يراه أهون من مواجهة هذا الموقف الرعيب الرهيب يوم النبإ العظيم.

أو يرى لو أنه كان ترابا لرب الأرباب دون عصيان وطغيان ، لكان في هذا اليوم العصيب من زمرة الناجحين.

فيا ليت كان لا يحشر وظل ترابا من البداية ، أو لا يحشر بعد ما صار ترابا ، أو حشر ترابا لرب الأرباب.

٦٤

سورة النازعات ـ مكية ـ وآياتها أربعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤)

.. آيات تخلق هزة في الحس وتوجسا في الشعور ، وتوقعا لشيء مجهول يروع ويهول من أمر الراجفة والرادفة والطامة الكبرى ، يقسم بها الله بطاقات أعدها لما يريده ليوم الزجرة الواحدة فإذا هم بالساهرة.

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) :

القوات النازعات ، ملائكية وبشرية ونجومية وسواها ، دون اختصاص

٦٥

بالملائكة كما يظن ويتوهم ، ولأنهم ليسوا مؤنثين : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) (٥٣ : ٢٧)(١).

«غرقا» النازعات التي تنزع وتجذب الغرقى من الغرق ـ ١ ـ الأرواح الغريقة في الأبدان ، الراسبة الثابتة فيها كأنها هي هي بعينها ، إذ الغرق هو الرسوب في الماء وفي البلاء ـ ٢ ـ والأرواح مع الأجساد الغريقة في أكناف العالم وأعماقه بعد الموت ـ ٣ ـ والأرواح الكافرة الغريقة في حيونة الحياة ـ ٤ ـ والأرواح المؤمنة الغريقة في مرضاة الله رغم طبائع الأبدان الدافعة إلى خلافها (٢).

«غرقا» : القوات الغارقة في الأبدان لانتزاع أرواحها ، والغارقة في العالم لنزع أمانات الأرواح والأبدان ، والغارقة في الأعماق لتنزع الرواسب إلى الساهرة.

__________________

(١) إن الملائكة ليسوا إناثا ولا ذكورا ، ولا يؤتى بضمير التأنيث إلا للأنثى ، ويؤتى بضمير التذكير لغيرها ، ذكرا ، أم لا ذكرا ولا أنثى كما الله تعالى وملائكته ، ولم يأت القرآن للملائكة بضمير التأنيث بتاتا ، إذا فالمناسب هنا كون النازعات هي القوات الشاملة للملائكة وسواهم.

وفي الدر المنثور ٦ : ٣١٠ ، أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي (ع) في قوله : «وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً» قال : هي الملائكة تنزع أرواح الكفار ، والناشطات نشطا هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها ، والسابحات سبحا هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض ، فالسابقات سبقا هي الملائكة يسبق بعضها بعضا بأرواح المؤمنين إلى الله ، فالمدبرات أمرا قال هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة.

أقول : هذا من باب الجري والتطبيق على المصاديق البارزة في بعض أفعالها. فهو بعض من بعض من المذكورات في هذه الآيات ، واختصاصها بالملائكة تشبه مقالة الكفار (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) كما قاله أبو مسلم بن بحر الأصفهاني.

(٢) كل هذا إذا كان غرقا مفعولا به وبمعنى المفعول للنازعات أي غريقا ، ثم الأخير على كونه حالا من النازعات بمعنى الفاعل ، والظاهر قصدهما معا.

٦٦

(النَّازِعاتِ غَرْقاً) : التي تنزع الرواسب الغرقى ، وهي تغرق لكي تنزع الغرقى :

١ ـ من الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم بالشدة ، كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها غاية المد ، كما يروى عن علي أمير المؤمنين عليه السّلام.

٢ ـ والموت الذي ينزع النفوس إلى البرزخ ، من المؤمنين ومن الكفار ، كما يروى عن جعفر الصادق عليه السّلام.

٣ ـ والملك الذي يتوفى الأرواح والأجساد دون أن تضل في الأرض فتضيع : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١٠ ـ ١١).

٤ ـ والقدرة الإلهية النازعة للأعمال والأقوال ، الغريقة في فضاء العالم ، فإنها تنتزعها وتحافظ عليها لتشهد يوم يقوم الأشهاد.

٥ ـ والطاقات الإيمانية التي تنزع الأرواح الغريقة في الأبدان ولكي تعكس أمر الحياة الدنيا الجسدانية إلى الحياة العليا الايمانية.

٦ ـ والنجوم التي تنزع من أفق لتغيب في آخر : تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها.

٧ ـ والقسيّ النازعة بأسهمها ، إذ تمد يجذب وترها إغراقا في المد ، قسي المجاهدين في سبيل الله التي تنزع غرقا ، تنزع بأسهمها فتنتزع أرواح الكفار الغارقة في حيونة الحياة.

قسما بهذه النازعات غرقا ، الغارقات في نزعها ، الجاذبات الغرقى :

(أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (لِتُجْزى كُلُ

٦٧

نَفْسٍ بِما تَسْعى) فإنها محضرة بسعيها ، منزوعة عن رسوبها المزعوم إلى دار الجزاء.

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) :

في غريب القرآن : ثور ناشط أي خارج من بلد إلى بلد ، والنشط هو العقد الذي يسهل حله ، وفي غيره أنه حل العقد أيضا ، فالنشط إذا هو التنقل في البلاد لعقد يسهل حلّه أو حلّ عن العقد.

القوات الملائكية التي تحل عقد الأرواح عن أبدانها ، وتحل الأجزاء المعقدة من أبدان بأبدان ، تحلها وتجمعها لكل روح على حدة ، نشطا وتنقلا في مختلف أكناف الأرض لتجمع وتضم هذه المتفرقات المتحللات .. والتي تعقد الأرواح بالأجساد وتنفخها فيها بإذن ربها ، وتعقد أجزاء الأجساد المتفرقة ، على نشاط بالغ دون إهمال ولا إبطال.

والموت الذي كأنه مؤمّر في تجوال ، لتحل الأرواح من أبدانها الدنيوية ، ولتعقدها بأبدانها البرزخية ، ثم الموت عن الحياة البرزخية الذي يحل أيضا ويعقد ، يعقد الأرواح بالأجساد المعادة في المعاد.

والنجوم الناشطات في تجولاتها عقدا لأحيان وحلا لأخرى.

والناشطات الإنسية والجنية في مختلف مجالات الحياة : حلا وعقدا.

والناشطات الحيوانية تنشط العظم واللحم وكما هي «كلاب النار» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١١ ، أخرج ابن مردوية عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله (ص) لا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار ، قال الله والناشطات نشطا أتدري ما هو؟ قلت : يا بني الله ما هو؟ قال : كلاب في النار تنشط العظم واللحم.

٦٨

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) :

السبح هو المر السريع في الماء وفي الهواء ، ويجمعه المر السريع أيا كان.

والسابحات هي القوات المسرعات في بحر الكون ، في الماء وفي الفضاء وفي الأرض ، سبحا جسدانيا أو روحانيا ، فالكون كله مسبح للسابحات : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢١ : ٣٣).

السابحات الكوكبية من الأرض والشمس والقمر وزملائها التي تسبح ـ حسب تصريحات الآيات ـ في أفلاكها ومداراتها الجوية.

والسابحات البشرية التي تسيح وتسبح غائصة في بحر الحياة بغية الصيود التي تبغيها ، وهي مغلوبة بقضاء الله كما تسعى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) دون أن تملك من الكون ما يريد ، إلا ما قضاه الله نتيجة السعي.

والسابحات الملكية التي تسبح لتحقيق أوامر الله ، من إيصال وحي وتصوير الأجنة في الأرحام وتقريب الأرزاق.

وسابحات الفكر والعقول التي تسبح في الآفاق وفي الأنفس حتى يتبين لها أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) :

في هذه النازعات الناشطات السابحات ، سابقات في مأمورياتها تسبق سائر القوات التي قد تمانعها في تحقيق ما أمرت به ، تسبقها في معارك الموت والحياة ، في معارك تنازع البقاء إذ تنزع الأرواح أجسادها متمنّعة عن موتها ، فتسبقها ملائكة الموت ، وتأخذ الأبدان إلى التناثر والتفرق ، والأرواح إلى الاختفاء ، فيسبقها ملك الموت الذي وكلّ بها فيتوفاها ويحافظ عليها وينزعها إلى محفظات الأرواح والأجساد.

٦٩

فالسابقات من هذه النازعات وأمثالها ، تسبقها فيما تريد في ميادين السباق ، وكما في الناشطات والسابحات سابقات ، كلها تنحو منحى تدبير الكون إلهيا وتدميره إلهيا.

هذه السابقات هي المدبّرات أمرا : إذ تنزع ما أمرت بنزعها من أرواح ، ثم تدبّر أمر الله فيها ، برجع الأبدان إلى حيث كانت ـ وكما يناسب الحياة الآخرة ـ ثم رجع الأرواح إليها وجمعها يوم الجمع.

إنها نشيطة في سبحها وسابحة في نشطها ، سابقة سائر القوات في تحقيق أمر الله في جو الحياة ومعداتها ، والموت ومعداته .. ولأنها مدبرات لأمر الله (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ).

هذه المدبرات أمرا ، تدبّر بما سبقت سائر القوات ، فهي مدبّرة وتلك مدبّرة ، بما سبقت في نضالها ، في نزعها ونشطها وسبحها.

لا يمكن ولا يكون إلا ما أراد الله في دنيا الحياة وعقباها ، إلا ما فيه الاختيار ، دون أن يملك الاختيار أيضا جبرا في إرادة الله.

إن ملائكة الله ينزعون ـ نازلين ـ عن أمر الله : غرقا في أعماق الكون لتحقيق أمره ، وينشطون محللين وعاقدين كذلك ، ويسبحون في بحر الوجود ابتغاء تلقي الأوامر الإلهية تحقيقا وتطبيقا ، ويرجعون إلى مقام العز نشيطين منبسطين سابقين مناوئيهم في ميادين السباق ، مدبرين أمر الله بما أراده الله «يدبرون ذكر الرحمن وأمره» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١١ ، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب ان ابن الكوا سأله عن المدبرات أمرا قال : الملائكة يدبرون ذكر الرحمان وأمره.

أقول : ذكر الرحمان إشارة إلى الأمر التشريعي وأمره هو التكويني.

٧٠

هل يدبر الأمر إلا الله؟

من الضروري عقليا وقرآنيا أن الله هو المدبر ولا مدبر سواه في التكوين وفي التشريع وفي الجزاء يوم الجزاء : (.. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (١٠ : ٣) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١٣ : ٢) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٣٢ : ٥).

وهذه الآيات توحي أصالة التدبير الإلهي ، دون أن تنافي وساطة التدبير الملائكي أو البشري أو الكوني في الأسباب الطبيعية التي سخرها الله تعالى.

فالملائكة المدبّرون لا يدبّرون إلا أمر الله بإذنه وبأمره : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢١ : ٢٧) (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١٦ : ٥٠).

حركات الأرض :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) :

آخر المطاف في هذه النزعات والنشاطات والسبحات ، وفي سبقها وتدبيرها أمر الله ، آخره هو يوم الرجفة والردفة.

(تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) : توحي أن الأرض راجفة قبل قيامتها ، وراجفة عندها : مرة رجفة الإماتة ، وأخرى رجفة الإحياء وهي الرادفة ، فهذه رجفات ثلاث وتسبقها رجفة مجنونة قبل أن تجعل ذلولا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) (٦٧ : ١٥) .. رجفات شاملة مجنونة مرة ، ومعمرة أخرى تحافظ على الحياة والأحياء ، ومدمرة ثالثة ، وراجعة الأموات من أجداثهم أخيرا (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) رجفات أربع تتلاحق!

تتسمى الأرض راجفة لحركاتها المتداخلة المعتدلة المعدّلة ، حيث الرجفة تعبير

٧١

بليغ عن الحركات المتداخلة ، فما هي حركات أرضنا التي كنا نحسبها جامدة؟

إن أرضنا من السابحات في بحر الجو في فلكها كزملائها السابحات : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ .. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها .. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ .. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٦ : ٣٣ ـ ٤٠) سبّاحة في أعماق الفضاء ، دائرة حول نفسها وعلى جادتها الفضائية كأنها تعقل كيف تسبح : «يسبحون» *.

تسيّرها على مداراتها القوة الجاذبية العمومية ، فهي تسير وتطير دون انزلاق عن أفلاكها ولا انفلات وتناثر عنها ، بعمد لا ترونها : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١٣ : ٢) فثمّ ـ في السماوات المرفوعة بأنجمها ـ ثم عمد ولكن لا ترونها ، وعلها ـ أو منها ـ القوة الجاذبية العمومية.

وتكفينا آية الكفات إيحاء صريحا لطيران الأرض وحركاتها : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٧٧ : ٢٥ ـ ٢٧) حيث الكفات هو سرعة الطيران على تقبّض فيه (١) ، فأرضنا هذه مسرعة في طيرانها متقبّضة ـ على ظهرها وفي حضنها ـ أطفالها : أحياء وأمواتا ، لو لا انضباط حركاتها والقوة الجاذبية المتحكّمة عليها لانفلتت أطفالها وتساقطت إلى أعماق الأجواء النازلة .. ولكنها كفات ويا لها من بركات في حركات ، وعلى حد تعبير علي أمير المؤمنين ـ عليه أفضل السلام والصلاة ـ حين يعطف إلى عطف الأرض على أولادها : «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشم من صياخيدها فسكنت من الميدان برسو الجبال في قطع أديمها» «.. فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها ، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ، فجعلها لخلقه مهادا وبسطها لهم فراشا ..».

__________________

(١) تفصيل البحث عن الكفات إلى سورة المرسلات.

٧٢

«وعدل حركاتها» : إن لأرضنا هذه حركات متداخلة استحقت بها اسم الراجفة ، أنهى علماء معرفة الأرض حركاتها إلى أربعة عشر ، وعلها أزيد.

.. هذه هي الرجفة المعمّرة ، ثم ترجف رجفتها المدمّرة ، رجفة الإماتة ، ثم الرجفة الرادفة هي رجفة الإحياء (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ).

أجل إن الراجفة هي التي ترجف ، لا الجامدة ، وما أحلى وأجلى هذا الاسم فيما كانت البشرية تنكره من حركات الأرض ، فللقرآن متشابهات يفسرها الزمن.

إن للأرض ـ عند قيامتها ومن عليها ـ نفختان وصيحتان ورجفتان ، كلّ رجفة إثر نفخة وصيحة ما لها من فواق ، ونتاجها زجرة إلى الساهرة أرض العرض والحساب.

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ) :

وجفة لقلوب مقلوبة تتبع رجفة الأرض : حين الإماتة وحين الإحياء ، والوجفة هي سرعة السير والحركة ، فهي حراك في اضطراب لقلوب ، تلي رجفتي الأرض.

جوّ راجف وقلب واجف مبهور مذعور ، وجفة من الرجفة التي تنقلهم إلى الساهرة : أرض الحساب والعقاب ، وهناك ترى :

(أَبْصارُها خاشِعَةٌ) : أبصار القلوب وهي البصائر ، تتبعها أبصار العيون : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١٤ : ٤٢).

هذه هي القلوب المقلوبة المذعورة تتقلب يومذاك بأبصارها : (يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٤ : ٣٧)

«رب هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك» (علي عليه السّلام).

٧٣

وهناك تخشع الأصوات (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (٢٠ : ١٠٨) وتخشع أبصار القلوب .. وتخشع من الإنسان ما لم تكن تخشع يوم الدنيا ، فيوم القيامة تخشع خشوع الذل عن تقصير (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) (٤٢ : ٤٥) (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (٧٠ : ٤٤) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ. تَصْلى ناراً حامِيَةً) (٨٨ : ٢ ـ ٤).

قلوب ووجوه وأبصار هناك خاشعة من الذل ينظرون من طرف خفي : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) .. فيما هي شديدة الاضطراب ، بادية الذل ، يجتمع عليها الخوف والانكسار ، والوجفة والانهيار ، وهذا هو الذي يتناوله القسم بالنازعات إلى السابقات سبقا والمدبرات أمرا.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) :

متحدثين عن وهلتهم وانبهارهم إذ يقومون من أجداثهم خشعا كأنهم جراد منتشر ، يقولونها في خبال وذهول. متسائلين سؤال الوحشة والدهشة ، عن رجوعهم إلى الحياة بعد نكرانها في حيونة الحياة الدنيا. ويقولون ـ هذه ـ علها جواب الأقسام الماضية.

فما هي الحافرة التي يخافونها؟ أهي القبر؟ ولا ترجع الأحياء يوم الإحياء إلى القبر! وليس في هكذا رجوع خوف ، بل هو ما يتمناه الكافر إذ يقول : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

أم هي القيامة ، وليس ورودها ردا إليها إذ ليست إلا مرة واحدة؟

أم هي الحياة كما كانت : «الخلق الجديد» كما عن باقر العلوم (ع) (١)

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٧٩ عن القمي عن الباقر (ع).

٧٤

رجوعا إلى حياة كانت في الدنيا ، إلا دنياها وتكاليفها ، وإنما الجزاء على ما قدمت يداه وأن الله ليس بظلام للعبيد ، وإذا كانت الحافرة هي الخلق الجديد فما هي المناسبة في هكذا تعبير؟.

إن الحافرة من الحفر وهو التراب الذي يخرج من حفرة ، وحافر الفرس ما يحفر التراب من رجله ، والحافرة الأرض المحفورة ، فالرد إلى الحافرة على ما في المفردات : مثل يمثل به لمن يرد من حيث جاء ، يقال : رجع في حافرته : أي : في طريقه التي جاء منها ، فهم إذ يردون إلى حيث جاءوا ، إلى مثل الحياة الأولى ، قالوا عنه بالرد إلى الحافرة ، ثم (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) ، فإذ يموت الإنسان يبقى موضع وجوده خاليا كالحافرة من الأرض التي يراد ترابها ، فهم إذا حائرون مذعورون أن كيف رجعوا إلى الحياة بعد ما كانوا عظاما نخرة ، وتلك إذا كرة خاسرة.

كرّة خاسرة لمن خسروا أنفسهم في الحياة الدنيا ، وكرة رابحة للذين ربحوها فيها ، فليس الخسار إلا من أنفس الكفار ولا يظلمون فتيلا.

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) :

«أن صارت الأجساد شحبة بعد بضنها ، والعظام نخرة بعد قوتها» (١)

عظاما منخوبة بالية يصوت فيها الهواء لرخوتها ، بعد أن كانت قوية لا ينفذها الماء ولا الهواء .. عظاما بالية هبت بها الرياح فبثتها أيدي سبأ ، فكيف تجتمع أجزاؤها بعد تفرقها؟ وكيف ترجع إلى صلابتها بعد نحرتها؟ وكيف تحيى بعد موتها؟ (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٣٦ : ٧٨ ـ ٧٩).

__________________

(١) من خطب أمير المؤمنين علي (ع) عن نهج البلاغة.

٧٥

(قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) :

قالوها بعد دهشتهم ووحشتهم في وهلتهم وذهولهم وهم يفيقون ويبصرون فيعلمونها كرة إلى الحياة ، ولكنها الحياة الأخرى ، فيشعرون بالخسار والوبال فتبتدر منهم كلمتهم الحاسرة : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) كرة لم يكونوا ليحسبوا لها حساب ، ولم يقدموا لها إلا كل تباب ، فهم في حسرتهم يعمهون وفي خسرتهم يتيهون.

هذا وجه في هذه المقالات ، ووجه آخر عله مقصود مع الأول أو أنه هو المقصود فقط : أنها مقالتهم يوم الدنيا في نكران الحياة بعد الموت ، ويتأيد بقولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) فإنها إلى الإنكار أقرب منها إلى الاندهاش والتصديق على عجب ، وبقول الله عنهم : (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) حكاية عن مقال مضى ، وأخيرا إن الحي بعد الموت وإن كان صحيحا قوله : إنها خاسرة ، لكنه لا يصح قوله (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) ، ولا قوله: (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أقولا هكذا بعد إذ قضي الأمر؟ اللهم إلا دهشة وتعجبا .. لذلك نقول عل الوجهين هنا مقصودان ، وأحرى بالثاني أن يعنى.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) :

إنما هي : الكرة ، زجرة واحدة ، صيحة خارقة تزجر عن الأجداث فإذا هم إلى ربهم ينسلون ، وإنها لا تكلّف مديدا من الزمن ، خلاف ما كانت الولادة في الدنيا ، إنما زجرة واحدة وصيحة ما لها من فواق.

إن الولادة يوم الدنيا كانت تتطلب زجرات ورحلات وتنقلات ، وهنا الولادة الثانية والخلق الجديد ليست إلا بزجرة واحدة ، واحدة فقط.

هذه هي زجرة الإحياء وقبلها زجرة الإماتة في النفخة الأولى ، زجرتان تختلفان في مفعوليهما ، وكما الزلزال والصيحة ونفخ الصور تختلف المرتان فيها.

٧٦

(فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) : فما هي الساهرة؟ أكيد أنها ليست هي القبور ، فقد انتقلوا بالزجرة عن أجداثهم إلى ربهم ينسلون ، فهل هي وجه الأرض بعد زلزالها : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) (١٤ : ٤٨) فإذا تبدلت أرضيتها استحقت تبدّل اسمها ، وهي هي أرض العرض والحساب ، وكما يروى عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وسلّم (١)؟ أم هي أرض في السماء ينتقلون بأجسادهم من أجداثهم إليها؟ أم إن الساهرة هي ساهرة الأرواح بعد الانتقام من الأبدان كما يروى عن الإمام الصادق عليه السّلام (٢)؟ أم ماذا؟.

أقول : إننا نصدّق ساهرة الأرواح يوم الحساب : خلودها في الجنة أو النار ، لكنها مع الأجساد المناسبة لها ، ولكنها إذا هي الساهرة ، لا بالساهرة ، عكس الآية (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ).

وفيما إذا كانت أرض المحشر هي الساهرة ، فباعتبار كثرة الوطء بها كأنها تسهر بمن يمشي عليها دون انقطاع ، وأرض الدنيا ليست هكذا ، فهذه ساهرة الأرض ، وهي الموطئ والموطن لساهرة الأرواح بالأبدان ، سهرة بالحياة الأخروية ، وهذه السهرة تزيد أرض الحساب سهرة حقّت بها أن تسمى بالساهرة .. ساهرة بعد أن كانت أرضا فانية دائرة .. ثم لا حجة لنا أن الساهرة هي أرض في السماء ، في حين التصديق أن الجنة فوق السماء السابعة والنار

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٤٩٩ ح ١٩ مجمع البيان ، روى أبو هريرة عن النبي (ص) : (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظمي (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى ، ما كان في بطنها كان في بطنها وما كان في ظهرها كان على ظهرها.

وفي البرهان ٤ : ٤٢٥ ح ٣ عن القمي عن الباقر (ع): والساهرة الأرض كانوا في القبور فلما سمعوا الزجرة خرجوا من قبورهم فاستووا على الأرض.

(٢) وفيه عن الصادق (ع): «إذا انتقم منهم وماتت الأبدان بقيت الأرواح ساهرة لا تنام ولا تموت.

٧٧

تحتها ، حيث الانتقال إلى المآل ليس إلا بعد قضاء الحساب في موقف الحساب ، ثم لا دليل على وحدتهما.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢٦) ..

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) :

هل أتاك بوحي السماء؟ فإنه المعتمد المؤكّد ، استفهام بدافع ترغيب النبي الأقدس لكي يستقيم في كفاح الطاغين ، وترهيب المشركين الناكرين لوجود الله والبعث والمعاد ، فسواء في ذلك الاستفهام أن أتاه حديث موسى مسبقا ـ كما أتاه في المزمل إجمالا ـ أم لم يأته ، كما لم يأته حتى الآن هكذا ، وإن لم تكن صورة منه مفصلة.

وقصة موسى هي أكثر القصص ذكرا في الذكر الحكيم ، وردت منها حلقات منوّعة وفي أساليب شتى كما تناسب مواضيعها ، وهنا ترد مختصرة سريعة المشاهد منذ ندائه بالواد المقدس إلى أخذ فرعون نكاله في الآخرة والأولى.

٧٨

(إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) :

من أولى النداءات الإلهية لموساه إذ ناداه : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى. إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى. وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى. قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. قالَ أَلْقِها يا مُوسى. فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى. قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى. لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (٢٠ : ١٢ ـ ٢٤).

وهذه أولى النداءات الرسالية : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) بعد برهنة الرسالة ، وأنه كيف يواجه ويكافح فرعون الطاغية.

(ناداهُ رَبُّهُ) : الذي رباه تربية رسالية واصطنعه لنفسه فصنع على عينه ، ولكي يستأهل لتلقي وحي الرسالة وتطبيقها.

(بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) : الواد الذي قدسه الله بالوحي الموسوي ، وعلّه «طوى» * ، وقد تكون (طوى) إيحاء لما طواه موسى من الفلاة بينه وبين الواد المقدس حتى آنس من جانب الطور نارا ، فطوى أهله وتحلّل عنهم أيضا قاصدا وادي الوحي ، ثم طواه الله بالوحي بعد انتشاره وتفرق باله ، وبعد ما طوى نفسه عن غير الوحي وعما سوى الله ، إذ خلع نعليه ، نعل الأهلين ، ونعل نفسه وإنيته ، فحلّ بالوادي مجردا عما سوى الله فاحتل منزلة الوحي.

أو أن «طوى» * هي الأرض التي حلّ بها موسى ، سميت طوى لما عرفنا من طوى موسى وانطوائه إلى مطوى الوحي.

٧٩

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) :

أولى النداءات الرسالية الموسوية وبدايتها المحورية التي تدور عليها رحاها طوال الدعوة ، وهكذا يجب أن يكون موقف رجالات الوحي وجاه فراعنة التاريخ ، كفاحا متواصلا بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبالطاقات الجبارة الفولاذية ، استئصالا للفرعنات والنمردات ، ولكي تعيش الشعوب على رغد الأمن والصلاح.

وهكذا يجب للمصلحين أن يكرسوا حياتهم في معارضة الطاغين والدفاع عن المظلومين دون سكوت وخمول واستسلام وانظلام.

فعلى المصلحين الحراك الدائم والتجوال المتواصل في دفع الطغيان أيا كان ومن أي كان ، دون أن يعتبروا أنفسهم «بيتا يؤتى ولا يأتي» فإن الشر يبتغي ـ دوما ـ مجالات لنموه وتحقيقه ، فلا بد لدعاة الخير أن يضيّقوا كافة المجالات على دعاة العيث والشر (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢ : ٢٥١).

«اذهب» * : أنت إليه ، دون أن ترجو ذهابه إليك ، فإنه لا يأتيك إلا قاهرا ساهرا ساحرا ، ف «اذهب» * إليه ناصحا ومرهبا ، ولكي تزيله أو تخفف عن بأسه وبؤسه ..

(إِنَّهُ طَغى) : طغى على عباد الله إذ استعمرهم واستخفهم واستحمرهم ، وطغى على الله إذ قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) فأصبح حياته حياة الطغيان وما أسوأها حياة وما أخطرها نكالا على الشعوب!

إن الطغيان أمر لا ينبغي أن يترك ، ولا ينبغي أن يهمل فيبقى ، إنه يعيث الفساد في الأرض ، ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ، وما جور الجائرين وظلم الظالمين إلا نتيجة إهمال القادة الروحيين ، وفسح المجال للطائشين الظالمين ، وخمول المظلومين وإحنائهم ظهورهم لهؤلاء الشياطين.

٨٠