الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

ـ كلها ـ في سبيل الله : يعبد الله لله ، ويسوس عباد الله سياسة صالحة لله ، ويزرع لله ، ويتجر ويعمل ويصنع لله ، ويتعلم لله ، ويحارب في سبيل الله ، فيجعل كافة ميادين الحياة محاريب يتمثل فيها هو مطيعا لأوامر الله ، وكما الكون أجمع محراب واسع تسجد فيه الكائنات لربها طوعا أو كرها ثم إليه يحشرون.

فطوبى للكادحين إلى ربهم إذ لا يدركون عناءه بما ينتظرهم من رحمة خالدة ، ورضوان من الله أكبر .. وبؤسا وتعسا للكادحين إلى الشهوات الفانية ، فإنهم سوف يدركهم كدحهم السيّئ الماكر جزاء وفاقا ، ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله.

طالما حياة التكليف هي حياة الكدح والأتعاب ، ولكنها تنتهي بلقاء الرب ـ مشرّفا ـ لو كانت متجهة إلى الرب : (كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) ثم في لقاء الله ولقاء الأعمال يوم اللقاء ، إنّ فيه راحة خالصة : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) حياة راحة خالصة لا تخالط تعبا ولا شغبا.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) :

تقسيم ثنائي لمصير الكادحين من الأخيار والأشرار ، وعرض للقاء الأعمال يوم العرض الأكبر ، وقد عبّر عنه بالكتاب : الحالة الثابتة من الأعمال والنيات والأقوال ، بما استنسخها الله تعالى بأقلام الأمواج على صحائف الأجواء والأعضاء والأكناف : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وإذا استطاع هذا الإنسان الضعيف أن يستخدم الأمواج وتحويل الصور والأصوات على الشاشات التلفزيونية وأضرابها ، فلله تعالى كتاب لأعمال الإنسان فوق هذا الكتاب : «مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا» (١٨ : ٤٩).

وقد يعنى من الكتاب هنا كتاب الشريعة ، يؤتاه يمين المؤمنين إذ

٢٤١

عاشوه يمين الحياة وركنها في الدنيا ، ويؤتاه شمال المجرمين أو وراء ظهرهم كما عاشوه هكذا ، صورة طبق الأصل ولا يظلمون نقيرا : «فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا» (١٧ : ٧١) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (٦٩ : ١٩ ـ ٢٠).

وقد تدل قراءة الكتاب (١٧ : ٧١) واستقراؤه (٦٩ : ١٩) أنه ليس كتاب الشريعة ، فإنه لا يختص بأصحاب اليمين ، فليكن هو كتاب الأعمال ، ومعه كتاب النجاح يؤتاه أصحاب اليمين بأيمانهم علامة النجاح ، أو كتاب السقوط يؤتاه أصحاب الشمال بشمائلهم علامة السقوط ، ولا ينافيه تسويف الحساب : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) إذا عني منه كتاب التبشير أو الإنذار قبل الحساب ، للتدليل على موقف الحساب.

(فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) : لا يلاقي صعوبة في حسابه ، فلا يحاسب على سيئاته ، ولأنه ترك الكبائر : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٤ : ٣١) ولأنه كان تائبا منيبا إلى ربه نادما عما اقترفه من اللمم : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (٥٣ : ٣٢) ، ولأنه عاش يمين الحياة بترك كبائر الإثم والشهوات ، وكان مبدؤه في الحياة أنه من أصحاب اليمين ، وأولئك هم الذين يقرءون كتابهم مسرورين بما فيه ، ويدعون أهل المحشر ـ كذلك ـ ليقرأوا كتابهم ابتهاجا بما فيه ، ومن هنا نعرف أن هذا ليس حسابا «فليس أحد يحاسب إلا هلك ، وإنما ذلك عرض وعلى حد قول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم (١) ، وبما أن الكتاب فيه النجاح ، ويشير إلى يسر الحساب ، لذلك :

__________________

(١) نور الثقلين ٦ : ٣٢٩ ، أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله (ص): «ليس أحد يحاسب إلا هلك ، ـ

٢٤٢

(وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) :

فمن هم أهله؟ فهلل إنهم ولده وزوجه وذووه الأقربون؟ «فيومئذ لا أنساب بينهم ولا يتساءلون» وقد يفر منهم : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٨١ : ٣٦) ، أو هم أهلوه اليمينيون؟ أم هم ومعهم كل من كانوا معه في يمين الحياة؟ أم أهله الذين أعدهم الله له في الجنة؟ كلّ محتمل ، إلا الأول ، والآية تشملهم إلا إياه ، ينقلب إلى أهله مسرورا هناك ، بعد ما كان مذعورا خائفا هنا ، مما يجري عليه وعليهم في سجنهم ، في الحياة الدنيا ، بما ذاقوا من حمقاء الطغيان.

«والناس يومئذ على طبقات ومنازل ، فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا ، ومنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب لأنهم لم يلبسوا من أمر الدنيا بشيء ، وإنما الحساب هناك على من تلبس بها هاهنا ، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير ويصير إلى عذاب السعير» (١).

فالذين يدخلون الجنة بغير حساب هم السابقون ، والداخلون بحساب يسيرهم أصحاب اليمين ، والذين يحاسبون على النقير والقطمير هم أصحاب الشمال ، وهناك من يدخل النار بلا حساب وهم أصحاب الوراء ، ولأنه لم يبقوا لأنفسهم مجال الرجاء.

__________________

ـ فقلت : أليس الله يقول : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ قال : ليس ذلك بالحساب وذلك العرض ، ومن نوقش في الحساب هلك» وفيه عنها : سمعت رسول الله (ص) يقول في بعض صلاته : اللهم حاسبني حسابا يسيرا ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله (ص) ما الحساب اليسير؟ قال : أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه ، إنه من نوقش في الحساب هلك.

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٣٧ عن كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين حديث طويل يذكر فيه أحوال القيامة وفيه يقول ..

٢٤٣

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلى سَعِيراً) :

هؤلاء هم الذين جعلوا كتاب الشريعة وراءهم ظهريا ، مستدبرين إياه حياتهم ، ومستقبلين الشهوات حياتهم ، تبنوا الحياة كحيوان ، ولم يفكروا في حياتهم كإنسان ، فلقد عموا عن رؤية آيات الله ، وصمّوا عن سماع كلمات الله ، وبذلك تؤتاهم كتبهم وراء ظهورهم فلا يقرءونها ولأنهم أعمون : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (١٧ : ٧٢) (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (٢٠ : ١٢٦) ، وعل وراء الظهر إشارة ـ أيضا ـ إلى طمس وجوههم وردها على ادبارها : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) (٤ : ٤٧) أو علهم فرق شتى : بين عمي لا يبصرون ، ومن ردت وجوههم على ادبارهم ، ومن يجمع لهم الأمران ، أو أنهم يؤتون كتابهم بشمالهم من وراء ظهورهم ، كلّ محتمل تشملها الآية.

هذا ـ وإن كان البعض من أصحاب الشمال أيضا يصلون الجحيم مع أصحاب الوراء ، وعلهم من الذين يخرجون عن النار قبل فنائها ، وأنهم كانوا هم المساعدين الأول لرءوس الضلالة : (.. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ... خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٦٩ : ٢٩).

هذا التعيس البئيس الذي قضى حياته كدحا إلى الوراء ، رغم كدحه إلى الأمام : إلى ربه ، شاء أو أبى .. وهذا الأعمى الذي استقبل حيوانية الحياة الهابطة إلى دركات اللذات ، واستدبر الحياة العليا .. هذا هو الذي يدعو بالويل والهلاك.

٢٤٤

(فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) : هلاكا مثابرا : مواظبا على إتيانه ، ليس صدفة ودون سبب ، فقد كان الهلاك معه ، ثم برز يوم البراز .. يدعو ثبورا وأي ثبور؟ لا ثبورا واحدا ولا من نوع واحد : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (٢٥ : ١٤).

إنه كان ثبورا في كيانه ، لنفسه ولمجتمعه ، في أعماله وأقواله ، في حله وترحاله ، في عقائده وأفكاره ، وما كان يدعو إلا سرورا ، غافلا عما تقدمه نفسه ، ثم هنا لك يدعو ثبورا.

(وَيَصْلى سَعِيراً) : ثبور يدعو ثبورا ، وسعير يوقد سعيرا ، ولا يظلمون نقيرا .. وكل ذلك لماذا؟ والجواب : انه ثبور حق بسرور باطل ، وعقيدة باطلة وحياة عاطلة.

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) :

مسرورا بحيونة الحياة لظنه أن لن يحور ، فأخذ حريته في الثبور دون أن يقف لحد.

مسرورا بما هو فيه ، غافلا لاهيا عما يعنيه ، لا يحسب له حسابا ، ولا يرجو لنفسه ثوابا ولا عقابا : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (٢٤ : ٧٥) : حياة الفرح والمرح ، دون تعقل وإناقة.

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) : ظن أن لن يتردد إلى ربه وإلى عمله ، لن يكدح إلى ربه فلن يلاقيه بعمله ولماذا؟ هل لأن ربه كان عنه غافلا غير بصير؟

(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً)

إنه يتردد ويحور ، وربّه بعمله له بالمرصاد ، ولأنه كان به بصيرا ، بما منه وما فيه ، بظاهره وخافيه ، فكيف لا يحيره إليه يوم الجزاء ، هل لعجز

٢٤٥

أو نسيان ، أو ظلم وطغيان؟ أم لماذا؟ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١٤ : ٤٢).

هنا يعبر عن البعث بالحور ، لأنه ردة إلى الحياة للجزاء ، وكما يدور الحائر إلى حيث كان ، فما الحياة إلا دائرة نسير عليها من نقطة حياة التكليف ، ثم نرجع إلى نقطة الانتهاء : حياة الجزاء ، نقطتان متلازمتان كأنهما واحدة ، ولأنهما يتشاركان في مبدء الحياة ، يدور الإنسان فيها على محور الشخصية عبر الحوادث والحالات وإلى المنتهى

ثم لسنا بحاجة في البرهنة على حور الحياة ، زيادة على واقع الكائنات ، فهنا الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق : أدلة كونية تمثل لناحور الحياة ودورها .. والله تعالى لا يقسم بها لفقد البرهان ، وإنما هو قسم بشيء من البرهان ، وثم ينفيه موجّها إلى برهان أعمق ، وتبيان أعرق ، هو أدلة الفطر والعقول.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) : الشفق هو ضوء النهار المختلط بظلام الليل عند الغروب ، شفق لعنايته المختلطة بالخوف وهو الإشفاق ، فهو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب ، خاشع لضوء النهار ، مرهوب بظلام الليل ، بين الخوف والرجاء.

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) : وكما في الشفق جمع بين المتفرقين : ضوء النهار وظلام الليل ، كذلك الليل واسق : يجمع بين المتفرقات ، فهو يجمع ويضم ويحمل الكثير من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر وعوالم خافية ساربة في الأرض ، غائرة في الضمير.

٢٤٦

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) : اجتمع نوره وتبدّر وتكامل واطّرد ، كما في ليلة بدره وتمامه ، فائضا على الأرض الظلماء الداعس ، بنوره الحالم الجابر لهذه الظلم.

قسما بالليل وما وسق والقمر إذا اتسق ، ولا أقسم بالشفق فإنه خلط لا يبين ، وإنما الليل وما جمع ، يجمع ويؤوي المتفرقات ، على غفلة وغفوة منها ، كذلك حياة التكليف تجمع الأعمال والأقوال في متون المسجلات العضوية والأرضية بفضائها ، طالما المكلفون عنها غافلون ، ولكنما قمر الساعة يوم يقوم الحساب ، إنه سوف يتسق ، يجمع نوره ليري الناس أعمالهم ، طبقا بحديد البصر يوم الحساب ، عن طبق في كلال البصر قبل يوم الحساب : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ، فطالما ظلام ليل التكليف يمنع عن ظهور الأعمال ، ولكنه لا يمحيها ، ثم القمر المتسق يبرزها يوم البروز.

فلا أقسم بالشفق ، ولأنه مشتبه خليط ، فلا يقسم به لإثبات حقيقة ناصعة ، إنما أقسم بما يمثّل ركوب طبق عن طبق ، حال عن حال ، أقسم بالليل وما جمع ، ولا بد لهذا الجمع الأليل من ظهور ، وإلا فلما ذا جمع ، وقد يظهر الجمع الخفي بالقمر إذا اتسق : تجمّع نوره وتبدّر ، وحينئذ لا تخفى منهم خافية ، وهذا طبق عن طبق.

إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه .. لتركبن طبقا عن طبق ، فإنما طبق اللقاء ، لقاء الرب ولقاء الأعمال ، إنه ناتج عن طبق الكدح.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) : الطبق هو المطابقة ، وهو جعل الشيء فوق آخر بقدره.

إن كل حالة لاحقة للإنسان ، لهي طبق عن سابقتها ونتيجة عنها (طَبَقاً عَنْ

٢٤٧

طَبَقٍ) اللاحق صادر عن السابق ، لا «طبق بعد طبق» دون رباط بين الطبقين ، إنما (عَنْ طَبَقٍ) ، فالإنسان إنما يركب ـ طوال الحياة : حياة التكليف وحياة الحساب ـ يركب مراكب الحالات اللاحقة عن الحالات السابقة : ركوب الجزاء الصادر عن العمل.

فالحياة الدنيا طبقات بعضها عن بعض ، والبرزخ طبق عن الدنيا ، والآخرة طبق عنهما (١) ، تطابقا في المساعي ، على قدر السعي والساعي ، بكدّه وكدحه (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

كل لاحقة من حياة ، مطيّة لسابقتها حسب الأعمال والنيات ، يخلقها الإنسان بما تقدمه نفسه (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) .. أحوال كأنها مطايا يركبها الكادحون ، واحدة بعد واحدة ، حتى تنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى مرحلة جديدة هي حياة الجزاء التمام ، كالأحوال المتعاقبة الكونية : طبق الليل وما وسق بعد الشفق ، ثم طبق القمر إذا اتسق ، وحتى ينتهي إلى وضح النهار إذ يلاقون أعمالهم ظاهرة باهرة ، ولا تخفى عليم خافية.

لتركبن : جميعا ومجموعا ـ جميعا لكلّ طبقه كأفراد ، ومجموعا لكلّ أمة مثال ما للسابقة ، نتيجة التماثل الأممي في التصرفات الجماعية ، والكثير من الروايات تشير إلى الطبقات الجماعية لأمة الإسلام ، فيهم وفي قادتهم الروحيين وأئمتهم الطاهرين : وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة ، لا تخطون طريقهم ، ولا يخطي شبر بشبر وذراع بذراع وباع بباع ، حتى أن لو كان من دخل حجر ضبّ لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنصارى تعني يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! قال : فمن أعني؟ لتنقضن

__________________

(١) نور الثقلين عن المجمع روي مرفوعا عن النبي (ص) أن قوله طبقا عن طبق معناه : حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء.

٢٤٨

عرى الإسلام عروة عروة ، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الإمامة وآخره الصلاة (١).

وعن الإمام الصادق عليه السّلام : «إن للقائم غيبة يطول أمدها ، قيل ولم ذلك يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! قال : لأن الله عز وجل أبى ألا يجري فيه سير الأنبياء عليهم السلام في غيباتهم ، وأنه لا بد من انتهاء مدة غيباتهم ، قال الله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي : سير من كان قبلكم» (٢).

فأمة الإسلام يركبون سنن الأمم السابقين ، طبقا عن طبق ، ولأن كل مستقبل ابن ماضيه «جبر التأريخ» وأنهم يحذون حذوهم مخيّرين لا مسيّرين ، وأن الله يجمع في محيى الأمم القائم بالعدل ، ما جمعه من ميّزات قادة التاريخ : الروحيين ، وليكمّل المسيرة ، ويطبّق السيرة كاملة قاهرة ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) :

هذه موحيات الإيمان كونيا وفطريا وعقليا ، تواجه بصر الإنسان وبصيرته ، وتتكاثر عليه أيا كان وأينما كان ، وتستجيش مشاعر التقوى وتستأصل دوافع الطغوى ، وتحمل الإنسان على الإيمان (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)؟ ماذا حصل هنا وهناك فلا يؤمنون (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) فإنارة العقل مكسوف بطوع الهوى.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٣٨ ـ ٥٣٩ عن تفسير علي بن ابراهيم القمي.

(٢) نور الثقلين ٥٣٩ عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى حنان عن أبيه عنه (ع) وفيه عن الباقر (ع) في الآية ، قال : يا زرارة! أو لم تركب هذه الأمة بعد نبيها طبقا عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان؟» يعني الخلفاء الثلاثة الأول؟ وفيه عن أمير المؤمنين (ع) في حديث تفسيرا للآية «أي : لتسلكن سبيل من كان قبلكم من الأمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء».

٢٤٩

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) : لا يخضعون له غايته ، رغم أن القرآن مثال عن العظمة الإلهية ، فكما السجود من الخلق لزام للخالق ، كذلك لكلامه.

ليس السجود المأمور به ، المندّد بتركه ـ هنا ـ سجود التلاوة ، إذ ليست تلاوة القرآن ـ ككلّ ـ بالتي تفرض السجود هذا ، والنص (إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) لا «آيات السجدة» ولا «هذه الآية» إضافة إلى أن الآية هذه ليست لتطلب السجود لنفسها وإلا لدار ، وإنما تطلب لغيرها من القرآن كقرآن ، فليس إلا القرآن كله ، لا آيات السجدة بخصوصها ، ولقد أجمع أصحابنا أنها ليست من آيات السجدة الواجبة ، اللهم إلا استحبابا ورجحانا.

وليست كذلك سجود الصلاة ، إذ لم تأمر الآية بالصلاة ، ولا القرآن كله يأمر بها.

إذا فهو غاية الخضوع للقرآن إذا قرئ ، وأدنى ما يتطلبه الخضوع هو الاستماع والإنصات : (خضوع السمع) ثم التفهم : (خضوع الفهم) ثم الإيمان الصالح : (خضوع القلب) ثم العمل الصالح : (خضوع الجوارح) وسجود اللسان وهو الترتيل في قرائته وإبلاغه ونشره : وخضوع ككل : أن يعيش الإنسان القرآن ـ حياته بكل طاقاته ـ بما فيه.

هذه الآية تندد بالكافرين كيف لا يؤمنون بالقرآن ، ومن جراء الإيمان لم لا يسجدون ويخضعون للقرآن ، أخروجا عن فطرة الإنسان ، الخاضعة لكل جمال وكمال ، فهل تجد أجمل من القرآن وأروع منه ، في كل ما يتطلبه الإنسان كإنسان من كمال وجمال؟

وإذا كان الإيمان يفرض ـ لأول وهلة ـ غاية الخضوع للقرآن ، وأدناها الاستماع له والإنصات ، فأحرى أن يكون واجبا على المؤمنين وقد اجتازوا

٢٥٠

المرحلة البسيطة الأولى! فما للمؤمنين لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ، إذا فلا يرحمون ، تنقطع عنهم الرحمة الإلهية بتركهم أدنى مراتب الخضوع للقرآن : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٧ : ٢٠٤).

إنه لا يختص القرآن هنا بقرآن الصلاة جماعة ، وإن نزلت الآية في شأنها ، حيث المورد لا يخصص ، إنه القرآن المطلق لأنه قرآن ، وإن كان فرض استماعه في الصلاة أولى ، والآية هذه تأمر باستماعه والإنصات له إذا قرئ ، وتعد بالرحمة ، وتهدّد بانقطاعها لو لا الاستماع والإنصات.

والآية الأولى (.. لا يَسْجُدُونَ) تندّد بمن لا يخضع للقرآن إذ يقرأ ، وتعتبر هكذا خضوع من حصائل الإيمان لأول وهلة منه ، إذا فتارك الاستماع والإنصات للقرآن خارج عن أولى متطلبات الإيمان ، منقطع عن الرحمة الإلهية التي وعدها المؤمنون.

وهل يا ترى إن عظيما من العظماء إذا كلّمك مخاطبا ، ثم لم تستمع له ولم تنصت ـ ولو كان لصالحه هو لا أنت ـ فما هي إذا حالته؟ فهلا يغضب أن هتكته ولم تحسب له حسابا؟ إذا فما ظنك برب العالمين الذي يخاطبك في قرآنه ـ لك ولصالحك أنت ـ ثم أنت تلهو عنه إلى غيره من أشغال ، أو إلى كلام غيره؟ أفلا تستحق إذا انقطاع الرحمة والتنديد الشديد : أنك لم تؤمن؟!

وتقول الروايات كما تقوله الآيتان ، أن فرض الاستماع المنصت لا يختص قرآنا دون قرآن ، ولا حالة دون حالة ، فهو عام في كافة المجالات قدر المستطاع.

فلأهمية فرض الاستماع نرى عليا عليه السّلام يسكت في صلاته لمن يقرأ في غير

٢٥١

صلاة ، والقارئ مشرك ، والآية ـ في قصد القارئ ـ تندّد به عليه السّلام (١).

وما يظهر منه كأنّ فرض الاستماع خاص بصلاة الجماعة الجهرية (٢) يحمل على

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ١١٣ بإسناد صحيح عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن الرجل يؤم القوم وأنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة؟ فقال : إذا سمعت كتاب الله يتلى فانصت له ، فقلت : إنه يشهد علي بالشرك! قال : إن عصى الله فأطع الله ، فرددت عليه فأبى أن يرخص لي ، قال : فقلت له : أصلي إذا في بيتي ثم أخرج إليه؟ فقال : أنت وذاك ، وقال : إن عليا (ع) كان في صلاة الصبح فقرأ ابن الكوا وهو خلفه : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأنصت علي تعظيما للقرآن حتى فرغ من الآية ، ثم عاد في قرائته ، ثم عاد ابن الكوا فأنصت علي (ع) أيضا ثم قرأ ، فأعاد ابن الكوا وأنصت علي (ع) ثم قال به : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ثم أتم السورة ثم ركع ، ورواه العياشي عن أبي كهمس عن أبي عبد الله (ع) من قوله : قرأ ابن الكوا.

وفيه عن تفسير العياشي عن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وفي غيرها ، وإذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع.

وفيه عن المجمع عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له : الرجل يقرأ القرآن وأنا في الصلاة هل يجب علي الإنصات والاستماع؟ قال : نعم إذا قرء القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع.

(٢) نور الثقلين عن الفقيه في رواية زرارة عن أبي جعفر (ع) قال : وإن كنت خلف الامام فلا تقرأ شيئا في الأوليين وأنصت لقرائته ، ولا تقرأن شيئا في الأخيرتين فإن الله عز وجل يقول للمؤمنين : وإذا قرئ القرآن ـ يعني في الفريضة خلف الامام ـ فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون ، والأخيرتان تبعا للأولين.

أقول : عدم القراءة في الأخيرتين خلاف الإجماع سواء عني بها الحمد أم التسبيحات ، فالحديث مشوش متنا ، وغير صريح دلالة على اختصاص وجوب الاستماع بمورد خاص ، وهو الحديث الوحيد هنا ، وآخر مطافه ـ لو عارض القرآن ـ أن يضرب عرض الحائط.

٢٥٢

أنه أفضل الموارد ، ولأنه مورد نزول الآية ، وعموم اللفظ في الآية لا ينافي خصوص المورد(١).

فالقرآن ـ إذا قرئ ـ يجب الاستماع إليه والإنصات له ، سواء أكان القارئ مسلما أم سواه ، مكلفا أم سواه ، قراءة دون واسطة أو بالوسائل ، متصلة بالقارئ ، أم منفصلة مسجّلة ، وما لم يصل إلى حدّ الحرج ، أو المشقة غير المتحملة ، أو لم يكن هناك واجب أهم منه.

كل ذلك لإطلاق الآيتين ، ثم أدلة نفي العسر والحرج ، وتكافئ الدليلين في الفرضين ، أم تقدم البعض على البعض ـ تأمل.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) :

يكذبون بالإيمان ، وبدلالات الإيمان ، وبما يتطلبه الإيمان من السجود للقرآن ، يكذبون لأنهم كفروا ، رغم نصوع البرهان.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) :

ما يخبونه من الكذب والتكذيب ، ومن التدغيل والتدجيل ، في أوعية الضلالة : من أنفسهم الشاردة ، وقلوبهم الماردة ، ومن شياطينهم المردة ، وأجوائهم المظلمة ، وأقوالهم اللئيمة ، وأفعالهم المنافقة ، فهم يعيشون وعي الكفر وإيعائه (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ).

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) :

ليست لهم بشارة إلا الإنذار ، فبشارتهم هي الإنذار ، فالعذاب الأليم

__________________

(١) الدر المنثور عن ابن عباس قال : صلى النبي (ص) فقرأ خلفه قوم فنزلت «وإذا قرئ القرآن ..» وفي معناه روايات مستفيضة.

٢٥٣

خفيف تجاه كفرهم ، إذا فهو بشارة لهم حالكونه عذابا ، بشارة للصالحين أن الله لا يسوي بينهم وهؤلاء ، وبشارة للمجتمع أن الكافر سوف يذوق وبال أمره ، وبشارة للكفار أنفسهم ولكي ينتهوا عن كفرهم ، وبشارة لهم أخيرا إذ لم تبق لهم بشارة إلا العذاب تهكما وتنديدا ، وتقحما وتبديدا.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) :

لا يمنّ عليهم ، ولا يقطع عنهم ، إذ آمنوا وأصلحوا ، ووعوا وأوعوا ، وعاشوا حياة صالحة مصلحة ، اللهم اجعلنا منهم.

٢٥٤

سورة البروج ـ مكية ـ وآياتها اثنتان وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ

٢٥٥

وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

قصور السماء :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) :

البروج هي القصور العالية المتبرجة بالزينة ، سواء أكانت في المدن السماوية التي عمّرها ربها أم عمّرها إنسانها أم غيره من العقلاء المتمدنين ، وعلى حد تعبير أمير المؤمنين علي عليه السّلام : «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل التي في الأرض مربوطة كل مدينة إلى عمودين من نور طول ذلك العمود في السماء مسيرة مائتين وخمسين سنة» (١).

بروج في مدن السماء ، أم مستقلة مبنية خارجة المدن النجومية ، والجمع المحلى باللام (البروج) يقتضي شمول البروج هذه ، كل القصور السماوية ، مشيّدة وسواها وكما في الأرض : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٨٤ : ٧٨) ومن مدرّعة مجهّزة بالمدفعيات والقاذفات ، وسواها : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٥ : ٨) (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً. وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٢٥ : ٦١).

فبروج السماء ـ إذا ـ قصور عالية : من محصّنة جعلها ربها في السماء حفظا عن مسترقي السمع من الشياطين ، وسكنا للملإ الأعلى : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ

__________________

(١) في تفسير القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض الأصحاب عن الصادق (ع) أن عليا (ع) قال : ..

٢٥٦

الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) قصور هي حصون ومدرعات وقاذفات جوية تقذف مسترقي السمع من كل جانب : (دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).

ومن قصور بناها إنسانها في مدن السماء ، وعلنّا في المستقبل نتسافر ونتزاور كما القرآن يشير : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٢٤ : ٢٩) : جمع الدواب المنبثة بين الأرض والسماء ، الدواب العاقلة بدليل «هم» * في «جمعهم» * جمعا قبل القيامة الكبرى عن الانبثات ، لا جمعا ليوم الجمع ، وأما أيّنا أسبق في الغزو؟ إنسان الأرض إلى السماء ، أم إنسان السماء إلى الأرض؟ لا ندري.

أجل ـ فإنما بروج السماء هي قصورها ، وهي معناها لغويا وفي القرآن ، وكما العقلية الإسلامية تصدّق في تصريحات أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (١) وقد يروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنها الكواكب ، ولكنها هي الكواكب المتمدنة ذوات القصور ، دون أن يكون للبروج معنيان اثنان ، ويشهد له تفسيره صلّى الله عليه وآله وسلّم البروج المشيدة بالقصور (٢).

هذه هي البروج المعنية في السماء ، القصور والكواكب ذوات القصور ، المزينة المتبرّجة بألوان الزينة ، المدرّعة والمزودة بالمدفعيات والقاذفات ، إذا كانت إلهية أو ملائكية ، والآهلة بسكانها العمار المتمدنين إذا كانت بشرية ،

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٣١ ، أخرج ابن المنذر عن الأعمش قال : كان أصحاب عبد الله يقولون في : والسماء ذات البروج ـ ذات القصور ـ وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : البروج قصور في السماء.

(٢) وفيه أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن النبي (ص) سئل عن السماء ذات البروج فقال : الكواكب ، وسئل عن : الذي جعل في السماء بروجا ، فقال : الكواكب ، قيل : بروج مشيدة ، فقال : قصور ، أقول : يعني بالكواكب ، التي لها قصور.

٢٥٧

فهي كلها بروج على أية حال ، على اختلاف ارتفاعاتها ومهيئاتها وسكانها ـ وتبرجاتها.

هذه ـ لا كافة الكواكب ، إذ لا وجه لتسميتها بالبروج ولا مجازيا ، حيث الكواكب لا تشبه القصور إلا في علوّها ، وليس كلّ عال قصرا ، وإلا فلتكن الفواكه فوق الأشجار ، والسروج فوق المنار ، لتكن بروجا! فليست البروج هي الأشياء الموضوعة على المرتفعات ، وإنما القصور الرفيعة المتبرجة أيا كانت ، والتعبير الصالح عن الكواكب هو المصابيح : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) : قناديل منيرة علقت على متن السماء ، أو مسامير من فضة وتّدت فيها ، وإن كانت النجوم ـ وهي أخص من الكواكب ـ علّها هي الكواكب التي طلع فيها التمدن ومنه قصورها.

ثم وليست البروج هنا هي البروج الاثني عشر النجومية التي قررها الفلكيون (١) ، حيث القرآن لم ينزل وفق اصطلاحات علماء الفلك ، ولا غيرهم من المصطلحين ، وإنما نزل للناس أجمعين ، بلغة العرب الفصحى ، التي يعرفها كل عربي فصيح ، وليس في أخبارنا كذلك ، ما يؤيد تلكم البروج (٢).

__________________

(١) البروج حسب اصطلاح المنجمين هي منازل الشمس والقمر ، يسير القمر في كل برج منها يومين وثلاثا ، فذلك ثمانية وعشرون منزلا ، ثم يستتر ليلتين ، ومسير الشمس في كل برج منها شهر ، والبروج الاثني عشر هي الصور النجومية التي اعتبرها المنجمون وهي : الحمل ، الثور ، الجوزاء ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدي ، الدلو ، الحوت ، وفلك البروج دائرة ترسمها الشمس في سيرها في السماء في سنة واحدة ، وتقسم الدائرة إلى اثني عشر كل واحد منها ٣٠ درجة.

(٢) وفي نور الثقلين ٥ : ٥٤١ عن روضة الكافي باسناده عن الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين (ع) إن للشمس ثلاثمائة وستين برجا ، كل برج منها مثل جزيرة من جزائر العرب ، وتنزل كل يوم على برج منها ..

أقول : عل هذه البروج هي قصور في فلك الشمس ، هي في كواكب على مسير الشمس ، أو مستقلة كل بحاله في هذا المسير.

٢٥٨

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) :

يوم القيامة الكبرى ، يوم يقوم الأشهاد ، يوم العرض والحساب والثواب والعقاب.

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) :

الشهادة هي الحضور مع المشاهدة ، بالبصر أو بالبصيرة ، تلقيا لما يحصل كما يحصل: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) (٢٢ : ٢٨) أو إلقاء له كذلك : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤ : ٢٤).

والشاهد الأول هنا هو الله تعالى ، فإنه خالق الشهداء وموفّقهم لتلقيها وإلقاءها والمهيمن على ذلك كله.

ثم النبيون والملائكة والأرض بأجوائها وأكنافها ، والإنسان نفسه ، وبأعضائه وأجزائه كما عرفناها مسبقا ، والرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم هو شهيد الشهداء بعد الله تعالى بين المرسلين ، يوم الدنيا ويوم الدين : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) (١٦ : ٨٩).

فهو صلّى الله عليه وآله وسلّم يتلقى الأعمال والأقوال والنيات ، بما وفق الله له ووفقه الله ، يتلقاها في حياته وبعد مماته وإلى يوم الدين ، ثم يلقيها يوم تقوم الأشهاد.

__________________

ـ وفيه عن كتاب الخصال عن أبان بن تغلب قال : كنت عند أبي عبد الله إلى أن قال في مقارنة بين نفسه المقدسة وبين علماء اليمين : إن عالم المدينة يعلم ما في للحظة الواحدة مسيرة الشمس ، تقطع اثني عشر برجا واثني عشر برا واثني عشر عالما ، فقال له اليماني : جعلت فداك ما ظننت أن أحدا يعلم هذا أو يدري ما كنهه.».

أقول : لو كانت هي البروج النجومية لم يكن علمها خاصا بعالم المدينة ، الامام الصادق (ع) إذ يعرفها الفلكيون وكثير سواهم ، إذا فلا تؤيد البروج النجومية ـ تفسيرا ل (السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) لا تؤيد لا لغويا ولا قرآنيا ولا روائيا فأين يذهبون!

٢٥٩

والشاهد هنا يعم كافة الشهداء : «إلهيا وملائكيا وبشريا وكونيا وعضويا ، تلقيا وإلقاء بأنواعها ، فليس الإفراد والتنكير في «وشاهد» يعني فردا ما ، وإنما هو لتعظيم جنس الشاهد أيا كان.

«ومشهود» : مشهود هو الأعمال تلقيا ، ومشهود به هي إلقاء : شهده وشهد به ، ومشهود له أو عليه هو العامل ، ومشهود فيه مكان الشهادة بنوعيها ، فلم يقل : «ومشهود عليه أو له أو فيه أو به» ولكي يشمل الكل إذ ألغيت المتعلقات وجرّد المشهود ، عنها : (وَمَشْهُودٍ).

ثم الشهادة ـ تلقيا وإلقاء ـ تختلف حسب اختلاف الشهود ، فالشهود النفسية والعضوية والكونية تتلقى وتلقي صور الأعمال وأصوات الأقوال ، والشهود الملائكية والبشرية يشهدون باللسان كما شهدوا بالأبصار والبصائر وحفظوا بالأذهان ، وعلّ الشهود الملائكية ـ إضافة إلى اللسان ـ يشهدون بما كتبوا ، لو أن كتابة الأعمال تشملها ، فالملائكة هم الكرام الكاتبون.

من هنا نعرف أن مختلف الروايات في تفسير (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) تعني المصاديق التي تشملانها :

فإذا يفسر الشاهد بالله فلأنه خالق الشهداء وموفّقهم لتلقّيها وإلقائها ، المهيمن على ذلك كله ، كما المشهود هنا أيضا يوم الدين (١).

وإذ يفسر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشهود بيوم القيامة ، فإنما محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هنا المتلقي للشهادة يوم الدنيا ، والملقي لها يوم الدين ، وهو مشهود فيه : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١١ : ١٠٣)(٢).

__________________

(١) عن ابن عباس.

(٢) عن الامام الحسن بن علي (ع).

٢٦٠