الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

فالكواكب الطالعة سوف تغرب عن ضوئها وعن تمدنها ، وسوف تتساقط هذه الطائرات الجوية السائرة على أفلاكها ، بما معها من الكواكب غير الطالعة : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٨٢ : ٢) والكوكب يعم الطالع وسواه ، والانتثار هو من جرّاء الانكدار ، كما تنتثر الطير وتتساقط إلى عمق الفضاء عقب انكدار حياتها ، فما دامت حية لا تنتثر بمسكة الحياة ، فإذا انكدرت عليها حياتها انتثرت.

إن المعني من طلوع الكوكب هو واقع الطلوع ، لا بالنسبة لإنسان الأرض ، ومع العيون المجردة ، إنما واقع الطلوع أينما كان موقعه من السماء.

والكوكب منذ خلقه ليس طالعا ، ثم يتكامل ؛ فيصبح طالعا نيّرا ، ومن ثم قد يصلح للحياة والتمدن وهو الطلوع الأخير.

فمن الكواكب ما لم يطلع بعد ، أو هو في الطلوع الأول أو الأخير ، ومنها ما طلع طلوعا أو طلوعين ثم غروب ، والانكدار يعني الغروب النهائي والوقوف عن الحراك ، والتساقط إلى أعماق الفضاء ، فالانتثار هو المرحلة الأخيرة من غروبها (١).

يتبدل النجم كوكبا «لا نجم» ثم ينتثر وينطمس (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٧٧ : ٨) طمس الكيان النجومي ، طلوعا وحراكا وتجمعا ، ارتجاعا إلى الحالة الغازية الأولى التي خلقت هي ـ بادئ ذي بدء ـ منها (وَالسَّماءِ ذاتِ

__________________

(١) قد يؤيد كون النجم أخص فأكمل من الكوكب أن الآيات المستعرضة للخلق لا تأتي إلا بذكر الكواكب ، ثم نرى ما تذكر الحالات المتوسطة والاخيرة تذكر النجوم ، فمن بين ثلاث عشرة مرة تذكر النجوم ، لا تجد ولا مرة واحدة استعراض خلقها ، وإنما : الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر» (٦ : ٩٧) وانها مسخرات بأمر الله (٧ : ٥٤) وأن لها مواقع (٥٦ : ٧٥) ثم انها تطمس وتنكدر ، بينما الكواكب تذكر بخلقها ، «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» (٣٧ : ٦) ثم قيامتها : «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» (٨٢ : ٧).

١٤١

الرَّجْعِ) (٨٦ : ٩) : ترجع بأنجمها إلى ما كانت عليه : «الدخان»: (.. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١٢).

أجل ـ وإن هناك انكدارا وانتثارا وانطماسا ، فالكواكب تنتثر ، والنجوم تنطمس وتنكدر ، وهذه حوادث جل وطامات كبرى تقضي على السماء وكراتها حيث الطمس هو المحو وإزالة الأثر.

إن النجوم والكواكب لا تنحصر فيما نراه في السماء بالعيون المجردة أو بواسطة المراصد الفلكية ، انها هي العوالم السماوية كلها ، التي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله ، فوراء ما نرى منها بمراصدنا مليارات من الفضاءات والمجرات لا نعرف لها عددا ، فمنها ما هي بعيدة عنها بما لم يصلنا ضوؤها منذ خلقت ، وبعد مليارات السنين ، والضوء يسير كل ثانية ٠٠٠ ، ٣٠٠ كيلومترا ، فيا لها غورا وبعدا عنا!

ومنها ما انقرضت قبل أن يصل إلينا ضوؤها ، وعلّ منها ما لن يصل إلينا ضوؤها إلى حين انكدارها وانتثارها ، ومنها ما لم تخلق بعد : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٥١ : ٤٧). إنه تعالى دوما في توسيع المملكة السماوية وحتى القيامة الكبرى ، ومن ثم سوف يخلق عوالم أخرى ، ف (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٥٥ : ٢٩).

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) :

.. (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) : إن هذه الجبال الرواسي الأوتاد سوف تصبح كالسراب ، تحملها القدرة الإلهية وأرضها حمل التدمير : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (٦٩ : ١٤) بعد ما كانت تحملها قبل قيامتها حمل التعمير : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ

١٤٢

اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧ : ٨٨) : هذه قدرة الصنع والتعمير وتلك هي ـ قدرة السحق والتدمير وكلتا هما من حكمة الخبير البصير.

والأنباء المسبقة عن قيامة الجبال في سورة النبأ كافية لحدّ مّا فيما توحي لنا آيتنا هذه ، وسوف يأتيكم نبأها الفصل في طيات التفسير.

(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) :

العشار ـ جمع العشراء ـ هي النوق الحبالى في شهرها العاشر ، وهي أعلى ما تكون بما هي قريبة الولد ، صاحبة اللبن .. فهي تعطل يوم الطامة الكبرى في الصيحة الأولى : عطلة عن الحراك والولد والحليب ، إذ تضع حملها قبل أوانه ، ويجف حليبها لشدة الوقعة .. وهي تهمل عن صواحبها ـ ف (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) وكيف لا؟ وهي الساعة التي : (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢١ : ٢).

والعشار ـ بما هي أثمن ما كانت تملكه العرب المخاطبون وقت النزول ـ إنها ، وبصورة عامة ، تمثل أثمن ما يملكه الإنسان ويتنافس فيه المتنافسون ، فهو يشتغل عنها بنفسه في صيحة الإماتة ، وكما يفرعن ذويه في صيحة الإحياء ، ف (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) :

فما هي الوحوش؟ وما هو حشرها؟ .. فهل إنها كل الدواب سوى الإنسان؟

وليست الكل نافره عن الإنسان ، متنافرة مع بعض ، حتى تكون وحوشا كلّها! أم هي غير الآنسة والمتآنسة من الدواب ، ومن الإنسان؟ أظنه أسلم من

١٤٣

غير الإنسان خاصة ، ولأنه أعم ، ويساعده عموم اللفظ ، ومن الإنسان الوحش ما هو أوحش من وحش الحيوان!

ثم هل إن حشرها هو جمعها يوم الجمع في صيحة الإحياء كسائر الأحياء من بني الجان والإنسان؟ قد ينافيه أن الآيات الست الأول من السورة وهي خامستها ، أنها كلها تصف حالة الكائنات في رجفة الإماتة ، وأن الحشر المطلق هو مطلق الجمع عن تفرق وافتراق دون اختصاص بجمع خاص ، فما لوحوش الحيوان تختص بهكذا حشر؟

أم هو جمعها للموت كما الآية تخبر عن رجفة الإماتة؟ ولكنهما الجمع هذا لا يختص بالوحوش ، فإنه يعمها والكائنات الحية وسواها بأسرها.

أم هو جمعها بعد تفرقها ، وأنسها بعد توحشها وتمزقها ، فإنها نسيت نفسها من هول الواقعة القارعة ، فكيف بتفرسها وتوحشها؟ .. وإنها تمضي هائمة على وجوهها كأنها زالت طباعها المتنافرة الوحشية ، وكما هو الحال في كافة المتنافرين المتوحشين من الإنس ومن سائر الحيوان ، فهي إنما تفر وتهجم وتضر ما لم تر حادثة أشد وكارثة أعتد ، ففيما إذا انفزعت بالفزع الأكبر نسيت وتناست ما بينها من عداء ، وتآلفت واجتمعت وحشرت.

كما وقد يكون هكذا حشر لشمول العدل إذ لا ظلم ولا تخسير ، وهو الحشر الأول في القيامة الوسطى ، في دولة القائم المهدي محمد بن الحسن العسكري عليه السّلام إذ «تصطلح في ملكه السباع» (١).

__________________

(١) نجد هذه الجملة في روايات مستفيضة اسلامية وآيات عدة من كتب الأنبياء السابقين فصلتها في كتابي «رسول الإسلام في الكتب السماوية» ومنها : في كتاب أشعياء ١١ : ٦ ـ ١٠؟؟؟ «فيسكن الذئب مع الحمل ويربض النمر مع الجدي ويكون العجل والشبل والمعلوف معا وصبي صغير يسوقها ٦ ، ترعى البقرة والدب معا ويربض أولادهما معا والأسد يأكل التبن كالثور ٧. ويلعب المرضع على حجر الأفعى ويضع الفطيم يده في نفق الأرقم ٨ ، لا يسيئون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لان الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغمر المياه البحر ٩ ، وفي ذلك اليوم أصل يسي القائم راية للشعوب إياه تترجى الأمم ويكون مثواه جيدا ١٠».

١٤٤

هذا هو الحشر بالمعنى العام : الجمع عن التوحش ، وأما فيما إذا كان الحشر إلى الله فهو الحياة بعد الموت لعامة ذوي الحياة ، ولتجزى كل نفس بما تسعى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٦ : ٣٨) .. وهذا هو الحشر بمعنى الإحياء في صيحة الإحياء ، يشمل الدواب والطير كلّها ، وحشا وسواها ، إنسانا وسواه ، وعلّ الدابة في الأرض تشمل ما تمشي عليها وما في جوفها وفي بحارها ، دبّا على الماء والأرض وفي باطن الأرض.

وفيما إذا سئلنا عن حشر الحيوان غير الإنسان : لماذا يحشر ويحيى؟ ألكي تجزى بما تسعى؟ فكيف تجزى الدابة ولا عقل لها ولا شرعة ومنهاجا؟

فهنا الجواب : أن الجزاء يعم ذوي الشعور كما تشعر ، إن عاقلة أم لا ، فإنما المدار في الجزاء معرفة الله وإمكانية معرفته ، وشعور يميز بين العدل والظلم ، كلّ على قدره ، والطير والدواب كلها تعرف الله تعالى دون تكلف واكتساب : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٢٤ : ٤١) (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٦ : ٤٩).

ثم نراها قد تظلم وقد تظلم وهي شاعرة أنه قبيح والله لا يحب القبيح ، فلولا شعورها بالقبح فلما ذا تفر من الظلم ، أو تعضّ وتركل أو تفترس من يهاجمها من نوعها أو سواه؟

ثم الله أحل لنا أكل لحوم قسم منها ، فعليه أن يبدلها ـ بما ذبحت ـ برحمة منه في حشرها.

وقد نرى الإنسان يظلم ما يملكها فلا يؤدي حقها ، والله تعالى أعدل من أن يدرها سدى لا يقتص لها من ظالمها.

١٤٥

وكل ذلك يتطلب لها حياة بعد الدنيا ، من عدل الله ورحمته ، ولكي تجزى كل بما تسعى.

هذه الآية هي الفريدة في نوعها ومن حيث حشر الدواب ، ثم تضافر الروايات تدلنا على ما استوحينا منها (١).

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) :

البحار هنا هي كل البحار ، أرضية وسماوية ، والتسجير هو تهييج النار ، من سجرت التنور إذا أو قدتها ، فكيف تهيج البحار بالنار ، فأين الماء وأين النار؟

الجواب : أن الآية توحي للمصير الأخير للبحار يوم تكوير الشمس وانكدار النجوم ، وأنها سوف تنقلب نارا بعد ما كانت بحارا كالترتيب التالي :

إن البحار تفجّر في البداية : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) (٨٢ : ٣) تفجّرا على أثر زلزال الأرض وانشقاقها ، والتفجر هو الانشقاق الواسع ، تفرقا وانشقاقا لمياهها ، وتغلغلا عن حراكها الشديدة ـ والحركة تولّد الحرارة ـ وعن ازدياد حرارة الشمس عند تكويرها.

__________________

(١) ففي نور الثقلين ١ : ٥٩٢ عن الفقيه أن النبي (ص) أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها فقال : أين صاحبها؟ مروه فليستعد غدا للخصومة.

وفي المجمع عن أبي ذر قال : بينا أنا عند رسول الله (ص) إذا انتطحت عنزان ، فقال رسول الله (ص) : أتدرون فيما انتطحا؟ فقالوا : لا ندري! قال : ولكن الله يدري وسيقضي بينهما.

وعن محمد بن جرير وغيره بزيادة : قال أبو ذر : لقد تركنا رسول الله (ص) وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما».(الدر المنثور ٣ : ١١).

وعن الكافي بالإسناد عن سماعة بن مهران قال : أخبرني الكلبي النسابة قال : قلت لجعفر بن محمد (ع) ما تقول في المسح على الخفين؟ فتبسم ثم قال : إذا كان يوم القيامة ورد الله كل شيء إلى شيئه ، ورد الجلد إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين يذهب وضوؤهم.

١٤٦

ثم تحوّلها بخارا بخروج الكرة النارية المذابة من بطن الأرض ، ثم تحوّل البخار نارا كما كان بداية خلقة الأرض والسماوات وهذا هو تسجير البحار ، فإن التسجير هو تهييج النار وكما هم : (فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٤٠ : ٧٢) فكما النار تحرق بلهيبها دون اقتصار على الإغلاء ، كذلك البحار تسجّر ، تبدلا إلى لهيب النار بعد أن تفجّر ، وكما البحر المسجور من العذاب الواقع : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٥٢ : ٥ ـ ٦).

إن المواد الكيماوية كلما زيدت حرارتها تفسّخت وتفجرت عن تركباتها وأخذت سبيلها إلى البساطة وإلى المادة الفردة الأولية ، التي هي آخر المطاف في التقلبات الكيماوية ، وهي تتحمل حرارة أشدّ وأكثر ، كلما كان التحلّل عن التركبات أكثر وأكثر.

لذلك نجد الشمس في مركزها أثقل وأحر مما في سطحها ، إذ إنها تحمل أبسط الذرات الكيماوية «الهيدروجين» التي هي آخر المطاف في التقلبات الكيماوية فيما نعرفه حتى الآن ، وثم إلى المادة الفردة التي لا نعرفها حتى الآن ، وقد تحمل مليارات المرات من الحرارة التي نجدها الآن.

وهذه هي مصير كل المركبات والعناصر الكيماوية ، ترجع إلى ما كانت ، ومنها الماء ، فالبحار تفجّر وتسجّر ، كما الكائنات كلها تسجّر ، فلا يبقى إلا مسجور محروق.

أجل ـ وإن الزلازل والبراكين سوف تزيل الحواجز بين البحار فتغلغل على أثرها ، وسائر العوامل الحرارية المسبقة وإلى انفصال ذرتي الماء : الأوكسجين والهيدروجين ، وإلى تفجرهما أيضا .. وآخر المطاف أن البحار تسجّر : تصبح نيرانا ملتهبة هائلة لا يتصور مداها.

وأنّ تفجر قدر محدود من الذرات بالقدرة المحدودة البشرية في القنابل الذرية يحدث الهول الذي لا نتحمله ، فكيف بنا إذا انفجرت الذرات كلها ومعها البحار ، بحار الأرض والسماء؟!

١٤٧

فعن القمي عن الصادق عليه السّلام في الآية قال : «تتحول البحار التي حول الدنيا كلها نيرانا» (١)

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) :

التزويج هو قرن كلّ شيء إلى شيئه ، أو مثله ، أو ما يحق أن يقرن به ، وعلّه لا يشمل هنا النكاح لأنه يخص أهل الجنة دون النفوس كلها ، وأن الآية تستعرض قيامة الإحياء قبل الحساب والجزاء ونشر الصحف وتسعير الجحيم وإزلاف الجنة ، وقبل أن تعلم كل نفس ما أحضرت (٢) اللهم إلا أن يعنى من تزويج الأشرار غير النكاح ، وأن خلط الآيات في القيامتين يسمح بشمول التزويج للنكاح وإن ذكر قبل الحساب (٣).

إذن فهو التزويج العام يوم القيام ، الشامل لكل نفس خيرة وشريرة ، قرنا في كل شيء.

من قرن الأجزاء الأصلية المعادة ـ لكل نفس ـ بعضها ببعض. دون أن تضل أو أن تتصل إلى غير بدنها ، وقرن كلّ نفس ببدنها الأصيل الذي عاشته طوال حياة التكليف ، دون تقمّص بغير قميصها ، ودون أن تضل الأرواح ولا الأجساد : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٤ ح ٦.

(٢) هذه الآيات تجمع بين علامات قيامة الاماتة والاحياء ، فمن تكوير الشمس إلى تسجير البحار تشير إلى الأولى ، ومن تزويج النفوس إلى نشر الصحف إلى الثانية ، ثم ترجع إلى الأولى في كشط السماء ، ثم بقية الآيات إلى الثانية ، جمعا بين القيامتين لوحدتهما في الطامة واتصالهما.

(٣) ويؤيده المروي عن الامام الباقر (ع) في الآية قال : أما أهل الجنة فزوجوا الخيرات الحسان ، وأما أهل النار فمع كل إنسان منهم شيطان ، يعني قرنت نفوس الكافرين والمنافقين بالشياطين فهم قرناؤهم (نور الثقلين ٥ : ٥١٤ ح ٧ في روآية أبي الجارود عنه (ع)» أقول وهذا من بيان بعض المصاديق الظاهرة.

١٤٨

مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١٠)(١) ، وقرن كل نفس بما تجانسه وتقارنه في عقيدة الإيمان وعمل الإيمان من السابقين وأصحاب اليمين ، أو ما تشاركه في تركهما من أصحاب الشمال : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٥٦ : ٣ ـ ٧) (٢) ، وقرن كل تابع بمتبوعه وكل مأموم بإمامه : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٣٧ : ٢٢) (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (١٧ : ٧١ ـ ٧٢. وقرن كل ساع بسعيه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وقرن المؤمنين بالمؤمنات والحوريات في الزواج ، وغير ذلك من التشكيلات المتجانسة ، عدلا في كل مجالاته ، إذ ليس الملك هناك إلا لله الواحد القهار ، دون الحياة الدنيا التي يقرن فيها الشيء بضده أو نقيضه.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) :

الموؤودة من «وأد» * مقلوب «آد» : أثقل ، فهي المثقلة وكما توحي إليه آية الكرسي (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) : لا يثقله ويتعبه ثقل السماوات والأرض ،

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١٩ عن ابن عباس : «ترسل الأرواح فتزوج الأجساد فذلك قول الله : وإذا النفوس زوجت» ومثله عن أبي العالية والشعبي.

(٢) في الدر المنثور ٦ : ٣١٩ ، أخرج ابن مردويه عن النعمان بن بشير سمعت رسول الله (ص) يقول : «وإذا النفوس زوجت : هما الرجلان يعملان العمل يدخلان الجنة والنار». أقول : وهو تزويج كل إنسان بعمله أي قرنه به ، وفيه أخرج الفراء عن عكرمة في الآية قال : يقرن الرجل في الجنة بقرينه الصالح في الدنيا ويقرن الذي كان يعمل السوء في الدنيا بقرينه الذي كان يعينه في النار.

١٤٩

وكذلك الموؤودة كانت ثقلا عند العرب الجاهلي ، وفي عصر الصاروخ أيضا من جهات عدة.

ان الموؤودة ، المسؤولة ـ عنها ولها ـ هي البنت إذ كانت عبئا وثقلا ـ زعم العرب الجاهلي ـ في الحياة : المادية منها والمعنوية سواء ، ثقل المعيشة وثقل العار ، فكانوا يثقلونها بالتراب تخفيفا عنهم ثقلي الحياة ، وعلّها سميت موءودة لهذه الأثقال الثلاثة كلّها.

ورغم أن الوأد «الثقل» الأوّل كان خاصا بالفقراء ، وأكثرهم كانوا فقراء : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ـ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ـ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (٦ : ١٥١ ـ ١٧ : ٣١). كان الأخيران يعم عرب الجزيرة كلهم : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١٦ : ٥٧ ـ ٥٨).

وإذا الموؤودة التي زعمت ثقلا : ماديا ومعنويا ـ ولذلك كانت تثقل بالتراب ـ إنها سئلت ، بأيّ ذنب قتلت.

ولقد كان من هوان تاريخ الإنسان عادة وأد البنات المظلومات خوف الفقر والعار ، والقرآن يندد بها في مواضع عدة ، وأنهن إذا كن عارا فلما ذا تنسبون إلى الله البنات : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (٥٢ : ٣٩) (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (٤٣ : ١٦ ـ ١٨).

يختص القرآن هذه العملية الوحشية القاسية هنا بذكرها في طيّات علامات الطامة الكبرى وآثارها ، إيحاء إلى أنها من أقسى وأوحش ما مضى على تاريخ الإنسان ، إنها طامة من الطامات ، يحاسب بها فاعلها أول ما يقوم يوم الحساب ،

١٥٠

يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام.

إن العرب الجاهلي الوائدين للبنات كانوا على فرق شتى ، تعمها الصورة القاسية الوحشية لهذه العملية العارمة.

فمنهم من كانوا يجلسون المرأة حين وضعها فوق حفرة هيئوها من قبل ، فإن كان المولود بنتا رمي بها فيها وردمت.

ومنهم من كان يتركها إلى السادسة من عمرها ثم يقول لأمها زينيها وطيبيها لكي أذهب بها إلى أحمامها فيأخذها إلى حميم البئر ، يدفعها فيها بكل قساوة وضراوة ، ويهيل التراب عليها (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ).

والبعض القليل كانوا يمسكونها مهينة (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) إلى أن تقدر على الرعي فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله ، وفيما إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى ثوبه عليها منعا لها عن زواج آخر ثم يرثها أو تفتدي نفسها منه ..

هذه وتلك كانت العادة الجاهلية بحق البنات عند العرب ، فما كان لقبيل الأنثى أيّ كيان عندهم ، بل كنّ أنزل مكانة من الحيوان أيضا وأرذل كيانا.

ولقد كانت في نظر بعض الأجيال صفرا وتحت الصفر ، ففي الجيل الخامس الميلادي كانت تعقد المجامع للنظر في : هل هي إنسانة لها نفس إنسانية؟ أم هي دون الإنسان رغم صورتها الإنسانية ، وهكذا كان العصر السابق على الإسلام عصر ضياع المرأة ، وكان للرجل كل حق عليها وحتى وأدها دون أي نظام يطالبه بالتجريم أو يحكمه بالتحريم ، كأن الوأد هو القانون ، حتى جاء الإسلام مشنعا بهذه العادات ، ومتّعها بحقوقها واعتبرها بنتا وزوجة وأما ، وخلّصها

١٥١

من وأدها وحرمانها حقوقها ، ورفع لها من درجاتها كما تحق في كافة مجالات الحياة فردية وجماعية.

فهل تظن الآن أن البنات خلصن من الوأد ، وفي عصر تحضّر المرأة وتقدمها مع كل ما وصلت إليه المدنية الحديثة؟ .. كلا .. وإنها الآن موءودة أشر مما كانت في الجاهلية الأولى.

إن الآيات تندد بمن يئد البنات أيّا كان ، وأدا في التراب أم وأدا في تباب ، قبل الولادة وبعدها ، جسدانيا أم روحيا ، وأحرى أن يسمى الوأد الروحي وأدا! فإنه بعد عن حياة الروح ، وذلك عن حياة الجسم.

فإذا كانت الجاهلية الأولى تئد البنات ، فالجاهلية المتحضرة تئدهن مع الذكور بعملية الإجهاض المتبعة في كافة البلاد ، وتئدهم جميعا بالأمراض التناسلية الناتجة عن تفشي الفحشاء والخلط بين الجنسين ، لحد تولّد الولائد المرضى ، المبتلين بالأمراض المهلكة ، أم تقتلها قبل ولادتها ، وما إلى ذلك من ألوان الوأد لحدّ لا يحصى.

وإذا كانت الجاهلية الأولى تدفن البنات تحت التراب مخافة الفقر أو العار ، فالجاهلية الأخيرة تدفنهن بشبابها وتدفعها إلى كل عار ودمار وبوار خلقي ورذالات جنسية همجية ، وأدا لكرامتها ودفنا لإنسانيتها ، جاهلية أعمى من الأولى ، غليظة الحس ، حيوانية التصور ، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين وضلال مبين ، فقدت المرأة ميزتها الإنسانية وانحطت إلى أحط الورطات والنكبات الحيوانية ، لحدّ توزن بثقل جسدها وجمالها وشبابها ونضارتها الجنسية ، كأنها حيوانة خلقت لإرضاء ناحية الجنس ليس إلا.

فإذ يصف أمير المؤمنين عليه السّلام الجاهليين الأولين بما يصف ـ والآخرون أحرى بوصفه ـ يخاطب الناس فيه : «أيها الناس إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول ـ إلى أن يقول : ـ ودفنوا في التراب الموؤودة بينهم من أولادهم ،

١٥٢

أو لا يختارون دونهم طيب العيش ورفاهية خفوض الدنيا ، لا يرجون ثوابا ولا يخافون والله منه عقابا ، حيهم أعمى نجس ، وميتهم في النار مبلس فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى»(١).

فهل يا ترى إن وأد البنات وقتلهن في أجسادهن مخافة الفقراء والعار المزعوم ، هل إنه أوحش وأفحش ، أم دفنهن في الملاهي والشهوات والدعارات وألوان العار والبوار ، أن يصبحن لعبة للرجال دونما حسّ؟؟؟؟؟ ولا حجز ، نتيجة عدم الاكتراث بشأنهن؟

فهذا دفن الروح والجسم معا وذاك دفن الجسم ، هذا دفن المثل العليا والقيم الإنسانية ، وذاك دفن القيم الجسدانية ، فهو أشد من قتل الأجساد ووأدها وكما توحي إليه آيات عدة: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ـ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (٢ : ١٩١) (٢ : ٢١٧) وأية فتنة أشد وأكبر من فتنة اللامبالاة بين الفتيان والفتيات ، الناتجة عن تركهم سدى في خوضهم يلعبون وفي غيهم يعمهون.

وقد يفسر الإمامان الصادق والباقر عليهما السلام القتل في الآية : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (٥ : ٣٢) يفسر انه بقتل الروح وعلى حدّ قولهما : «من أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها» بيانا لأهم المصاديق ، كما ويفسر الحياة أيضا بحياة الروح «ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا» : من أخرجها من ضلال إلى هدى (٢).

فسؤال الموؤودة يوجه إلى الآباء الحاليين قبل أن يوجّه إلى القدامى ، حيث القتل في عصور الحضارة أشد وأكبر منه في الجاهلية الأولى.

إن موءودة الجاهليات «سئلت» تسأل هي بأي ذنب قتلت : سؤال

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٥ ، الكافي بالإسناد عن مسعدة عن الصادق (ع) عنه (ع).

(٢) المصدر ١ : ٥١٤ ح ١٥٣. ومثله عن الباقر (ع) بسند آخر.

١٥٣

ترحّم واعتذار ، ويسأل وائدها سؤال تقحّم وإنذار ، سئلت : «لها وعنها».

إن السؤال في لفظ الآية لم يوجّه إلى الوائد وهو المسؤول! إذ خرج بفعلته الوحشية عن أهلية الخطاب ، والموؤودة هي المؤهلة للسؤال ، أن تسأل ترحما واعتذارا بجنب المسؤول ، وتنديدا وإنذارا للمسؤول ، وكما السيد المسيح سئل : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (٥ : ١١٦).

فقد انحطت درجة المسؤول هنا وهناك لحدّ لا يوجه إليه وحتى خطاب العتاب فكيف بسائر الخطاب : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢ : ١٧٤).

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ. وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) :

نشر الصحف وكشط السماء ، فما هي الصحف المنشورة؟ وما هو كشط السماء؟ فما هي النسبة بينهما إذ قرنا؟

الصحيفة هي المبسوط من الشيء ، وهي غير منشورة يوم الدنيا لأهلها ، ثم تنشر : تبسط وتخرج عن الخفاء والخباء ، وإنها : صحف الوحي ، وصحف الأعمال من الأعضاء ومن الأرض ، وصحف القلوب والصدور والأفكار ، التي كانت مبسوطة ، عليها سطور الهداية وسجلات الأعمال ، ولكنها كانت خفية عن غير أصحابها ، أو خفية عن بعض أصحابها ، الذين خفيت صحائف عقولهم «إنارة العقل مكسوف بطوع الهوى» وصحائف قلوبهم (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٣ : ١٤) (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٢٩ : ٣٨).

أخفوا على بصائرهم صحف الوحي ، وأخفيت عن أبصارهم سجلات الأعمال ،

١٥٤

وحقائق الأعمال ، وخفيت على أنفسهم أنفسهم فهم في غمرتهم وسكرتهم يعمهون وفي غيهم يترددون .. وكان بإمكانهم أن يرووا الصحف صحفا منشورة عندهم ، رغم خفائها على من سواهم ، ولكنهم عموا وصمّوا حتى جاءهم وعد الله.

إن نشر الصحف هناك يفيد كشفها ومعرفتها فلا تعود خافية ولا غامضة وهذه العلنية الشاملة يوم المحشر أشد على إنسانها وأنكى ، فكم من سوأة يخجل صاحبها منها في نفسه ويرجف ويذوب من كشفها ، فكيف إذا رآها منشورة حاضرة مشهودة!

إن صحف الإنسان تتكشف للحجة والحساب ، وكما يتكشف الكون ، بأرضه كما عرفناه ، وبسمائه إذا كشطت : تحللت عن كونها سماء إلى ما كانت عليها من دخان : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٤ : ١١) تكشط وتتكشف لتحضير موقف الحساب ومصير أهل الحساب : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ).

فذلك يوم الكشف والكشط ، يوم ظهور الحقائق دون خفاء ، فما هو إذن كشط السماء؟

إنه من كشط الناقة ـ أي تنحية الجلد عنها ـ ومنه استعير انكشط روعه أي زال ، فكما الناقة تكشط بعد نحرها فتقطع ، كذلك السماء سوف تكشط بعد موتها في الطامة الكبرى ، ينحّى عنها جلدها وجلدها ، وينزع عنها رباطها ، وترتجع إلى ما كانت (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (٨٦ : ٩) وأنها تنشق بكشطها : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٨٤ : ١ ـ ٢) انشقاقا وافتراقا عن امتدادها والتئامها ، فكانت وردة كالدهان: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٥٥ : ٣٧) واهية مسترخية: (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٦٩ : ١٦) ويومئذ تتساقط وتنتثر أولادها من حجرها وتفرج : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٧٧ : ٨) (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ)

١٥٥

(٨٢ : ٢) وفتحت بعد غلقها : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (٧٨ : ٢٠) وتمور وتكون كالمهل : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٥٢ : ٩) (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) (٧٠ : ٨) ، وحينذاك ينقضي دور السماء وتطوى طيّا : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (٢١ : ١٠٤) .. يطوى طومار السماء كما تطوى طوامير الإنسان وصحفه ، ثم تنشر الصحف المطوية بعد النشر وقيامة الحشر ولتجزى كل نفس بما تسعى.

إنها ليست هي السماء بمفردها التي تكشط وتسترخي عن الجاذبية العامة ، إنها رخوة الكائنات كلها أن تعمل فيها فوضى الطاقات رجعا إلى حالتها الأولى ، تدميرا شاملا بعد تعمير ، فكما الله أعطى كذلك الله يأخذ.

هنا نعرف أن كشط السماء وقشطها ليس عن جلدها الظاهر فحسب ، إنما عن كيانها السماوي ـ ككل ـ وإلى طيّها ، تبدلا إلى غيرها : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٤ : ٤٨) وكما عن باقر العلوم عليه السّلام في قوله : كشطت ، قال : أبطلت (١).

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) :

إن الجحيم قبل دخول أهلها غير بارزة ولا مسعرة ، وإنما تسعيرها هو التهاب النار فيها ، وإنه بوقود الأجساد الجهنمية وأعمالها من الخالدين فيها ، فإنهم (سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٤ : ١٠) أي يوقدونها : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (١٧ : ٩٧).

إن السعير هذا معدّ للكافرين مهما كانت أرضها حاضرة ، والإعداء استعداد الواقع لا الواقع نفسه : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (٣٤ : ٦٤)

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٦ ح ١٤ عن القمي في تفسيره.

١٥٦

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (٤٧ : ١٣) (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٧٦ : ٤).

فإعداد السعير شيء وتسعير الجحيم شيء آخر ، إذا فالجحيم موجودة الآن دون نار مسعرة ، أو أن فيها نار غير مسعرة.

وإزلاف الجنة تقريبها لأهلها إذ قدموا وقربوا لها ما يؤهلهم لاحرازها ، قربا بقرب : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٥٠ : ٣١) أزلفت للمتقين ـ إليهم ـ وعلها إلى الجحيم أيضا ليتراءى أهلوهما فتزداد رحمة اهل الجنة وعذاب اهل الجحيم بهذه المواجهة

وإزلاف الجنة للمتقين يوحي لمكرمتين : ١ ـ أنها كانت جنة قبل القيامة لأنها من فضل الله دون أن تختص بقدر الطاعات ، وإن كانت تزيد نضارة وطراوة بدخول أصحابها ، ٢ ـ أنها على عظمتها تقرب إلى أهلها دون أن يتكلف أهلوها لطي مسافة إليها.

ذلك ولأن النار إنما هي على قدر الأعمال عدلا من الله فلا تتأجج قبل أوانها ، والجنة هي على قدر فضل الله فليس له حدّ يعرف ، وإن كانت الصالحات هي التي تؤهل لإزلافها ودخولها.

وحيث تسعّر الجحيم بوارديها وتزلف الجنة لروّادها الموعودين بها أو الموعوظين لها ، عندئذ لا يبقى لدى النفوس أية ريبة في حقيقة ما أحضروها ، إذ هم يرون أنفسهم في آثار الأعمال وحقائق الأعمال بعد ما يرون صور الأعمال.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) :

بعد هذه الحوادث العظام ، وبعد ما كانت النفوس جاهلة بما عملت ، علمت كلّ نفس ما أحضرته من خير أو شرّ ، علما بما يرى ويسمع من أفعاله وأقواله :

١٥٧

علم العيان : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠).

تجدها وجدانا واقعيا فلا تملك إنكارها ولا أن تغير شيئا منها ولا أن تزيد عليها أو تنقص منها ، فقد جفّ القلم عما كان ولا يحضر إلّا ما كان.

صحيح أنه تبدّل كل شيء وتغير ، ولكنما الأعمال لا تتغير ، فإنما تبرز بحقائقها كما ارتجعت الكائنات كلها إلى حقائقها التي صدرت منها.

إن الحياة الدنيا رغم كونها حياة العناء ، ولكنها حياة التقديم ، تخلّص وتحضر للآخرة ، وكتابها : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

إن الحياة الآخرة حياة العلم الضروري ، تعلم فيها ما قدمت شئت أم أبيت ، تعلم عن جهل أو تجاهل كما في الكافرين ، أم بعد علم كما في المؤمنين ، فهم وإن كانوا على علم ـ مهما اختلفت مراتبه ـ علم بما يحضرون ، ولكنما الغفلة أحيانا من ناحية ، والجهل بحقيقة الأعمال من أخرى ، جعلاه جاهلا ، ثم يعلمها علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ، وإن كان أولياء الله الأكرمون يعلمون قبل الميعاد ، وكما عن الإمام علي عليه السّلام : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» والدنيا كلها غطاء تكشف بالموت ، الموت الاختياري عن الشهوات : «موتوا قبل أن تموتوا» أو الموت الاضطراري (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

١٥٨

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩).

(فَلا أُقْسِمُ) : نجدها في ستة مواضيع أخرى ، ومنها التي تنحو منحاها هنا : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٩ : ٣٨ ـ ٤٣) (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٥٦ : ٧٥ ـ ٨٢).

في هذه المواضيع الثلاثة نجد موضوع اللّاقسم أنه صدق القرآن وحيا ، وصدق بني القرآن موحى إليه.

ثم نجدها في سواها باختلاف المواضيع : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (٨٤ : ١٦ ـ ١٨) (لا أُقْسِمُ بِهذَا

١٥٩

الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٩٠ : ١ ـ ٣) (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٧٥ : ١ ـ ٣) (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٧٠ : ٤٠ ـ ٤١).

وموضوع اللاقسم في الأخيرين هو القدرة الإلهية على تجديد الحياة يوم المعاد ، ولعلّ ركوب الإنسان طبقا عن طبق ، وخلقه في كبد ، عله أيضا يوحي إليه أو يعمه فيما يعنيه.

إذا فمدار اللاقسم في هذه المواضيع السبعة إنما هو أصل الرسالة القرآنية وأصل المعاد.

فهل يا ترى إن القرآن وهو أعظم برهان ، إنه بحاجة إلى برهان سواه ، يدل عليه؟ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (٢٩ : ٥١) ..

هذا القرآن ـ وكله برهان ـ نور لا تطفأ مصابيحه ، هل يحتاج في إثبات وحيه إلى سواه ، وهو الشمس تشرق في الظلمات؟! فما بال الشمس تستضيء بنور غيرها ، وما بال النور يستنير بسواه؟ .. كلا : إنه الدليل يدل إلى خير سبيل ، برهان لنفسه وفرقان لسواه : يميز الحق عن الباطل في كافة الميادين.

ليست في الرسالة المحمدية أية خارقة تدل عليها كالقرآن وكما يقسم لإثبات هذه الرسالة السامية بحكمة القرآن : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٦ : ١ ـ ٤) فسماع الوحي الذي هو النبوة ، والرسالة على صراط مستقيم ، يتوسطهما القرآن الحكيم ، برهانا لا مردّ له ، لهما.

١٦٠