الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

سورة الأعلى ـ مكية ـ وآياتها تسع عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩)».

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) :

هنا وهناك الربّ يتبارك بذاته القدسية ، ويأمر بتسبيحها وذكرها ، وقد يحلّ محلّها اسمه تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢٣ : ١٤)

٢٨١

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٥٥ : ٧٨) (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٦٢ : ١))(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)(اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) (٣٣ : ٤١) (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) (٧٣ : ٨).

فما هو تسبيحه؟ وما هو تسبيح اسمه؟

التسبيح هو التنزيه عما لا يليق ـ أيا كان ـ في ذاته تعالى أو صفاته أو أفعاله ، فتسبيح الذات هو تقديسها عن ذوات الممكنات ، فذاته خلو من ذوات المخلوقين ، كما أن ذواتهم خلو من ذاته : «لا هو في خلقه ولا خلقه فيه ، هو حلو من خلقه وخلقه خلو منه» (١) ، فلنذكر ذاته القدسية ونسبّحها ونباركها كما هو أهله ومستحقه.

ثم الاسم منه لفظي ، ومنه وصفي ، ومنه عيني ، فإذا نذكره باسم لفظي ليدل عليه ، فلنسبّح اسمه عن أسماء المخلوقين ، الدالة على النقص والحدوث : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) (٧ : ١٨٠) (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ١٥٩) : فإنهم لا يصفونه ويسمونه إلا بما وصف به نفسه وسماها.

وأسماؤه الوصفية هي صفاته تعالى ، ذاتية وسواها ، فلنسبّحه في صفاته عن صفات المخلوقين ، مهما تشابهت التعابير ، فلا نعني من : أنه تعالى عليم قدير حي ، ما نعنيه من مفاهيم ومعاني في خلقه ، بل : أنه لا يجهل ولا يعجز ولا يموت ، فليس لنا إلا السلب ، نعني به إيجاب سواه ، رغم أننا لا نحيط به علما.

وأسماؤه العينية هي خلقه كما خلق وهدى ، لا بما غيّروا بأنفسهم : فمن أسمى هذه الأسماء هم أطيب الطيبين من المعصومين المكرمين ، محمد وآله الطاهرين ، فإنهم من هذه الأسماء الحسنى ، كما وعلمهم الله آدم دون ملائكته :

__________________

(١) عن الامام الرضا (ع) التوحيد للصدوق.

٢٨٢

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢ : ٣٢).

عرضهم ـ لا عرضها ـ فالأسماء هنا «هؤلاء وهم» ولهم أسماء جهلها الملائكة ، فما أقدسها أسماء : دلالة على القدسية الإلهية! وما أكرمها ذوات!

ثم الكائنات كلها أسماء الله ، الدالة عليه ، بما هي مخلوقات ، لا والمختلقات الزائدة الناقصة من انحرافاتها وانجرافاتها.

(اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) : فهل في الكون أرباب عدّة هو أعلاهم؟ نقول : أما أرباب مفوّضون مستقلون؟ فلا! وإنما الكلّ مربوبون لرب العالمين ، فالقوى الروحية ـ الملائكية والبشرية ـ تربي ، ولكنها بإذن الله ، برسالة الوحي أم سواه ، والقوى المادية تربي ، إلا أنها بإذن الله ، فكل القوى المربية ترجع إلى الله تكوينيا وتشريعيا ، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وسبحانه تعالى من ربّ أعلى ، أن يكون معه أرباب متشاكون ، مستقلون أو مسموح لهم ، وإنما مربوبون يربون بإذنه تعالى.

ولأن التربيات كلها راجعة إلى الرب الأعلى ، فليسبّح اسمه لا سواه ، فلا يقرن اسمه بسواه ، وكما أمر الرسول الأقدس أن نسبّحه تعالى هكذا في سجود الصلاة قائلين : سبحان ربي الأعلى (١) وكما أمرنا أن نقولها إذ نسمع الآية أو نقرؤها (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٥٤ ، العياشي عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال رسول الله (ص) : اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال (ص) : اجعلوها في سجودكم ، وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن الجهني مثله (الدر المنثور ٦ : ٣٣٨).

(٢) أخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله (ص) كان إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى ، قال : سبحان ربي الأعلى (الدر المنثور ٦ : ٣٣٨).

وفي المجمع قال الباقر (ع) إذا قرأت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فقل : سبحان ربي الأعلى ، وإن كنت في الصلاة فقل فيما بينك وبين نفسك» أقول : يعني بها غير حالة السجود.

٢٨٣

وعلّ الأعلى هنا تعني ـ فيما تعنيه ـ أعلى درجات الربوبية في تربية الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم لمكان «ربك» * لا «رب العالمين» وكما الإنسان ـ ككل ـ احتل بين الخلق أحسن الخلق : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فلا خالق سواه ، وإنما جمع الخالقين ـ علّه ـ يعني خالقياته تعالى ، فكذلك (رَبِّكَ الْأَعْلَى) : أعلى الربوبيات.

ونستوحي من هنا : لماذا كان الرسول عليه السّلام يحب هذه السورة (١)؟ فحقّ له أن يحبّها وهي تتضمن تسبيح ربه الأعلى ، وهي تختصه صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكانة مرموقة من التربية الإلهية هي الأعلى بين ملاء العالمين من الملائكة والجنة والناس أجمعين!

فليسبح ـ إذن ـ اسمه تعالى أيا كان ، وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضا اسمه ، وأعظم أسمائه العينية ، فلينزّه تربيته الرسالية وقبلها ، عما لا يليق بالرسالة العليا ، وليعرف أنه أوتي ما لم يؤت أحد من العالمين ، وليعلم مع ذلك أنه لا يملك شيئا : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (١٧ : ٨٧).

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) :

سبح اسمه كرب العالمين ، ومن ربوبيته الخلق والتسوية والتقدير والهداية : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) هداية عامة : من تكوينية لا عن شعور للمهتدي ، أم غريزية ، أم فطرية ، أم فكرية عقلانية اختيارية ، ومن تشريعية ، ثم وتكوينية بعد تطبيق الشريعة : «ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٣ عن علي (ع) قال : كان رسول الله (ص) يحب هذه السورة.

٢٨٤

النخلة ، لتدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حيّ ، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء(عن علي عليه السّلام).

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) :

المرعى كلّ نابتات الأرض ، التي يأكلها إنسانها وحيوانها ، رطبا ويابسا ، ما دام خضرا نضرا ، ثم يجعله الله غثاء : يطفح على المياه ، أو تفرقها الرياح ، أو متفرقة في بطون الأرض ، «أحوى» : شديد السواد ، ومنه الفحوم الحجرية ، التي تصنعها يد القدرة الإلهية ، لمكان «جعله» * وإن كان يشمل الفحوم الأخرى أيضا ، فإن صنع الإنسان من صنع الله ، لأنه بعقله وبصنعه من صنع الله.

وكما المرعى يفيد ، كذلك غثاؤه الأحوى يفيد ، يفيد فعلا حرارة مطبوعة للدفء والطبخ ، ويفيد أحيانا غذاء لذيذا : دهنا وصبغا للآكلين ، عملية شجرة الزيتون ، كما اخترعوه في القرن الأخير (١).

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) :

أقرأه : جعله قارئا بعد أن لم يكن ، وبما أن الرسول كان قارئا القرآن

__________________

(١) في مجلة مصرية مؤرخة ٢٣ أغسطس ١٩٢٥ م : «نشرت (التاجليشه رونتشا) خبرا مؤداه : أن حكومة برلين وبروسيا قد منحتا شركة (ايفانج) إعانة قدرها مليونان وخمسمائة مارك ذهبا ، لتنشئ بها مصنعا لاستخراج الزيت من الفحم على طريقة (برجيوس) وسينشأ هذا المصنع في (فنسلاوس) في (سيليزيا) السفلى ، ويجهز بآلات تستطيع أن تصفي مائتي ألف طن من تراب الفحم سنويا.

ومخترع هذه الطريقة هو الأستاذ (برجيوس / من (هيدلبرج) اخترعها في سنة ١٩٠٣ م ، وخلاصتها أنه يستصفي تراب الفحم مع الهيدروجين في جو يصل الضغط فيه إلى مائة وخمسين أو مائة درجة.

٢٨٥

منذ نزوله وحتى نزول آية الإقراء ، فليكن الإقراء ـ هذا ـ غير الذي كان ، والنص هنا : (فَلا تَنْسى) يميزه بعدم النسيان ، المتفرع على هذا الإقراء الخاص ، فلقد كان حتى الآن يقرأ ، وكان يكرر الآيات لكي لا ينسى (١) ، محاولة بشرية لحفظها ، ولكنها ليست بالتي تطمئن الإنسان ، فقد ينسى ـ رغم كافة المحاولات ـ وقد ينسى أنه ناس.

والعصمة ـ ولا سيما في الرسالة الأخيرة الخالدة ـ إنها لزام الرسالة : في تلقي الوحي وإلقائه وتطبيقه ، وإلقاء الوحي كما أوحي ، بحاجة ملمة إلى الحفظ الدائب ، ودون تكلّف زائد ، وليكن كل محاولاته في تبليغ الوحي وتطبيقه.

فهذه بشارة له صلّى الله عليه وآله وسلّم برفع عناء الحفظ ، تريحه وتطمئنه على القرآن ، بحفظه في قلبه وعلى لسانه ، وكما وعد بالحفاظ عليه في أمته وإلى يوم الدين عن تحريف المبطلين ، وإدغال الدجالين ، وقد عرفناه مسبّقا ، وكما وعده بجمعه وقرآنه كتابا مفصلا ، بعد نثره في نزوله نجوما حسب الحاجات : حفظا مركزا لا تتخلله أية ريبة وشائبة.

ولقد كان القرآن ينزل على قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) ، ثم أخذ يمزج قلبه المنير ، ويدخل شغافه لحدّ أصبح قلبه قرآنا لم يبق مجال لنسيانه.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٣٩ ، أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : «كان النبي (ص) إذا أتاه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من الوحي حتى يزمل من ثقل الوحي حتى يتكلم النبي (ص) بأوله مخافة أن يغشى عليه فينسى ، فقال له جبريل : لم تفعل ذلك؟ قال : مخافة أن أنسى ، فأنزل الله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وفيه عنه أيضا : كان النبي (ص) يستذكر القرآن مخافة أن ينساه ، فقيل له كفيناك ذلك ونزلت (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى).

٢٨٦

فالنازل على السمع قريب إلى النسيان ، ثم بعيد عنه إذا نزل إلى القلب ، ثم مستحيل إذا ضمن الله تعالى عدم النسيان ، وهكذا استمر وحي القرآن على قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أن ينسى ولا حرفا منه أو نقطة!.

(إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : سنقرئك من القرآن ما يحمل كل شيء ، إلا ما شاء الله اختصاصه بذاته المقدسة من علوم الغيب (١) ، فقد استقصى الله في القرآن ما كان وما يكون وما هو كائن ، وقصّه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يستثن إلا ما شاء الله اختصاصه بنفسه المقدسة ، فآية الإنساء ـ إذا ـ من آيات أن محمدا لم ينس ما أقرأه ربّه!.

(فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : واحتمال ثان أن يكون الاستثناء بالمشيئة عن (فَلا تَنْسى) : لا تستطيع دوافع النسيان وعوامله أن تنسيك شيئا من القرآن على وجه الإطلاق ، فإن الله غالب على أمره ، ولئن كان هناك عامل ـ ولن يكون ـ فلتكن مشيئة الله ، ولا يعني هذا الاستثناء أن الله ينسيه شيئا مما أقرأه ، فإنه أسوء العسرى بعد إذ وعده باليسرى : (فَلا تَنْسى)! .. وإذا كان هنا موقع للنسيان ، فما هو موقع التعليل؟ : ـ

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى)؟ فهل هو إلا تأكيدا لعدم النسيان ، فما النسيان إلا من ضعف الإنسان ، وقد جبر بالإرادة الإلهية : (فَلا تَنْسى) أو من الجهل بعوامل النسيان ظاهره وخافيه ، ف : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أو بدافع الضغط على النبي في نسيان القرآن ، فلما ذا ـ إذن ـ بشّره : (فَلا تَنْسى)؟ ولماذا وعده دون فصل :

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) :

ولماذا ينسيه ما يأمره بتذكيره؟ :

__________________

(١) هذا إذا كان المستثنى منه هو الأقراء ، ولأنه أصل الكلام ، وحينئذ لا مجال لشطحات المبشرين ، مزمرين ومطبلين أنه (ص) نسي شيئا من القرآن.

٢٨٧

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) :

ليس الجواب إلا أن الاستثناء هنا من الإقراء ، وإذا كان من (فَلا تَنْسى) فلما يأتي :

١ ـ إن الاستثناء بالمشيئة هنا قد يكون كما في شعيب عليه السّلام : «قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين. قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا إن يشاء الله ربنا ..» (٧ : ٨٩) ، فهل بالإمكان ـ واقعيا أم عقليا ـ أن يشاء الله عود رسوله والمؤمنين في ملة الشرك ، فليمكن ـ إذن ـ أن يشاء نسيان محمد قرآنه العظيم!

٢ ـ وقد يكون الاستثناء هنا لكي يعلن ربّنا أنه ليس مسيّرا في استبقاء وحي القرآن في قلب الرسول ، وألّا ينسى ، وكما في القرآن كله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (١٧ : ٨٦) وكما ترك الوحي عليه ردما من الأيام لحد ظن صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه تعالى ودّعه أو قلاه ، حتى نفاه تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى). كل ذلك لكي يعلم النبي ونعلم معه ، أنه لا يستقل في وحي القرآن.

ومهما يكن من شيء فلا دلالة هنا على ما يهواه المبشرون من أن محمد نسي من القرآن وهذا يتنافى وعصمته في البلاغ (١).

__________________

(١) من هؤلاء الأستاذ الحداد اللبناني ، إذ يقول فيما يقول : الظاهرة الأولى نسيان النبي بعض ما يوحى إليه «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى» فالاستثناء «إِلَّا ما شاءَ اللهُ» يفيد بأن الله قد يشاء أن ينسي النبي بعض ما يوحى إليه ، فهل يصح أن يوحي الله شيئا ثم يأمر بنسيانه ، هل كان النسيان مقصودا؟ آية التبديل (نحل ١٠١) وآية المحو (رعد ٤١) توحيان بأن النسيان قد يكون مقصودا من الله ومن النبي ، فكيف تنسجم العصمة في البلاغ والتبليغ مع مبدإ النسيان وواقعه» (من كتابه الكتاب والقرآن) وقد أجبنا عنه في كتابنا «المقارنات» (ص ١٩٤ ـ ٢٠٥) وسوف نبحت عن آيتي التبديل والمحو في محالها.

٢٨٨

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) :

فهناك يسرى في تلقي الوحي : ألا يشتبه عليه وحي الرحمان بوحي الشيطان ، ويسرى في تبليغه : ألا ينساه ، ويسرى في تطبيقه : أن يلائم حياة الإنسان إلى يوم القيام ، مهما كانت هنا وهناك عسرى في الدعوة في جهات أخرى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ويسره يغلب عسره ، عسر مؤقت ويسر دائم!.

واليسرى هي الحياة اليسري : أيسر الحياة ، في أعسر الظروف والمجالات ، وقد يسره ربه : «نيسرك» لا أنه «يسر له» مما يدل أن الله جعل الرسول يسرا في ذاته ، يسرا في إمكانياته ، مهما كانت الظروف صعبة ملتوية.

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) : فبما أنك لا تنسى وحي الرسالة ، وأن الله يسرك لليسرى ، فذكر إن نفعت الذكرى : نفعت بالفعل : «لمن أراد أن يتذكر أو أراد نشورا» ولتعش الذكرى حياتك كما عاش ذكر الله قلبك ، وأخذ كتاب الله شغافه ، فذكّر حيثما تجد فرصة للذكر ، ومنفذا إلى القلوب ، ووسيلة للبلاغ ، وحاول كافة المحاولات في خلق مجالات للذكر علّهم يتذكرون ، ولا تقل : العالم كالبيت يؤتى ولا يأتي! فهذا نفع فعلي للذكرى لمن أراد أن يتذكر ، أو أنها تحثه لإرادة الذكر ، وأما من لا يتذكر بها ، فنفع الذكرى له ليس إلا أنها حجة عليه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فذكرهم لحدّ الحجة ، فإن الذكرى عذر أو نذر ، ثم تصبح لغوا إذ لا نذر ولا عذر ، إذا فذكرهم ثم ذرهم: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ... أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ..) (٦ : ٧٠) والابسال التسليم للهلاك بسوء العمل ، وما لم تكن الذكرى لم يكن العمل سوءا .. ثم اترك الذكرى حين لا ينفع لا هدى ولا حجة ، لمن ثبتت عليه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٥٣ : ٢٩).

٢٨٩

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى. وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) :

فنفع الذكرى لمن يخشى هو أن يخشى ، وللأشقى أن يتجنبها عن حجة فيصلى النار الكبرى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٧ : ١٥).

(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) : فلا يحسّ عذابها ويرتاح منها (وَلا يَحْيى) : عائشا كالأحياء ، لامسا طراوتها ، متنحيا عن ضراوتها ، فلا الموت يدفع عنه عذابها ، ولا الحياة تجلب له متطلباتها ، فهو بين الموت والحياة : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧) تأتيهم بواعث الموت ، ولا يأتيهم قضاؤه ، فبالحياة هناك إنما يذوقون آلام الموت ، وبالموت يحرمون آمال الحياة.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) :

إن التزكي هنا هو التطهر عن كافة التعلقات بما سوى الله ، بالنفس والنفيس ، وبالأهلين ، التعلقات المادية والمعنوية ، إلّا ألّا يؤصّلها ، وإنما يتذرعها إلى الله دون أن يحسب لها حسابا إلا هذا الحساب ، فلو أمكنه تحصيل مرضاة الله بغيرها لرفضها ، ولم ينظر إليها أبدا ، فهو ـ إذا ـ يعيشها ليعيش مع الله حياة طيبة.

قد أفلح المتزكي هكذا ، فالتزكي هو الوسيلة الوحيدة لإفلاح السبيل ، ونجاح الدليل ، ف «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء» عن الإمام الرضا عليه السّلام.

٢٩٠

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) :

فبما أن الصلاة معراج المؤمن ولقاء الله ، فهي للتحلية والتجلية ، فلا بد لها قبلها من تزكية وتخلية ، ثم لا بد للصلاة من افتتاحية تعلن أن صاحبها تزكى : وعلّها تكبيرة الإحرام «الله أكبر» : أكبر من أن يوصف ، فلا كبير معه حتى يكون هو الأكبر ، وإنما أكبر من أن يوصف ، ثم رفع اليدين عندها إلى شحمتي الأذنين ، إنه يعلن حقيقة التكبيرة : أنها جعل ما سوى الله وراءك ظهريا ، ثم أن توجه وجهك للذي فطر السماوات والأرض.

ومن ذكر الرب ـ وأفضله ـ البسملة مفتتح الحمد ، فالصلاة بلا تكبيرة وبسملة ، دخول في الدار ، دون استئذان واستئناس من صاحب الدار!

هذا ـ والمروي عن الرسول الأقدس يوافق الآية شمولا لأصناف الزكاة والصلاة ، وعلى حد قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله ، وذكر اسم ربه فصلى : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بمواقيتها(١)» فإذ يفسرها صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أيضا ـ بزكاة الفطرة وصلاتها أو الصلاة على الميت ، يعني به تفسير المصداق (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٣٦ ، أخرج البزاز وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي (ص) في قوله : قد أفلح من تزكى ، قال : ..

(٢) المصدر عن النبي (ص) أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية.

وفي نور الثقلين ٥ : ٥٥٦ من لا يحضره الفقيه : سئل الصادق (ع) عن هذه الآية فقال : من أخرج زكاة الفطر ، قيل له : وذكر اسم ربه فصلى ، قال : خرج إلى الجبانة فصلى» أقول يحتمل الصلاة على الميت وكذلك صلاة الفطر.

٢٩١

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى. إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) :

بل تؤثرون الحياة الدنيا على الحياة العليا ، وهي تمنع العباد من سخط الله ، وعلى حد قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم ، فإذا آثروا صفقة دنياهم ثم قالوا : لا إله إلا الله ردت عليها وقال : كذبتم» (١).

ثم إن الصحف الأولى ، ومنها صحف إبراهيم وموسى ، إنها تصدق ما في هذه السورة من أن ربوبية الرب بالنسبة لرسولنا الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هي أعلى الربوبيات بين حملة الرسالات ، مسبّحة مقدسة في كتابات الوحي من قبل كما فصلناه في كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) ، كما وأن عدم نسيان القرآن وتيسيره صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمر الرسالة ، هما في الصحف الأولى ، وما يروى أن

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٤٠ ، أخرجه البيهقي في شعب الايمان عن أنس قال : قال .. ، وفيه أخرج عن ابن عمر أن النبي (ص) قال : لا يلقى الله أحد بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلا دخل الجنة ما لم يخلط معها غيرها ـ رددها ثلاثا ـ قال قائل من قاصية الناس : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما يخلط معها غيرها؟ قال : حب الدنيا ، وأثرة لها ، وجمعا لها ، ورضا بها ، وعمل الجبارين.

وفيه أخرج أحمد عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله (ص) قال : من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى.

وفيه عن عائشة عنه (ص) قال : الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له ، وفيه عن الحسن قال : قال رسول الله (ص): حب الدنيا رأس كل خطيئة.

وفي نور الثقلين ٥ : ٥٥٧ عن علي بن الحسين (ع) «الدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة وأمل لا يدرك ورجاء لا ينال».

٢٩٢

الآيات الأربع الأخيرة هي في الصحف الأولى ، هو من باب التطبيق (١) ، فالمشار إليه هو كل ما في السورة ، وكما عن نفر من أصحاب النبي والتابعين (٢).

ثم القرآن بصورة عامة ، فيه نسخة ما في الصحف الأولى (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) ، وعلى حد قول علي عليه السّلام : «فجاءهم بنسخة ما في الصحف الأولى وتصديق الذي بين يديه وتفصيل الحلال من ريب الحرام» (٣).

ولا يعني أن القرآن ترجمة لهذه الصحف ، ولا سيما الموجودة منها الآن ، لأنه يكذب شيئا كثيرا من محرفاتها وخرافاتها الدخيلة ، ويصدّق بعضا تكميلا له أو نسخا وكرمز للخلود(٤).

__________________

(١) كما في الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله الله (ص) هل أنزل عليك شيء مما في صحف ابراهيم وموسى؟ قال : يا أبا ذر! نعم (قَدْ أَفْلَحَ ... وَأَبْقى ـ إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).

(٢) كابن عباس وسعيد بن المسيب والسدي وأبي العالية وقتادة وعكرمة كما في الدر المنثور ٦ : ٣٤١.

(٣) نور الثقلين ٥ : ٥٥٨ ح ٢٢٨ مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) عنه (ع).

(٤) تجد تفصيل البحث عن نسبة القرآن إلى الصحف في كتابنا (المقارنات) من ص ١٤٧ جوابا عن شطحات الحداد ، وتجده أيضا في طيات الآيات المناسبة.

٢٩٣

سورة الغاشية ـ مكية ـ وآياتها ست وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣)

٢٩٤

فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢٦)

* * *

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) :

الغاشية ـ جمعه غواش ـ من أوصاف الساعة ، مبالغة في الغشي : الستر الشامل ، والساعة تغشى الناس حشرا : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (١٨ : ٤٧) كما تغشاهم إماتة في قيامتها : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٤ : ١١) وتغشى الكفار منهم عذاب النار : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) (٧ : ٤١) ، وفي غاشية الحشر :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) :

تقسيم ثنائي للذوات الشريرة والخيّرة ، فالوجوه هنا هي الذوات ، حيث الضمائر والصفات والأفعال الراجعة إليها ، لا تناسب إلا الذوات (١) ، عبّر عنها بالوجوه لا تجاهها نحو العرض والحساب ، واستقبال الساعة لهم بوجوهها كلها.

ثم هذه الوجوه تشمل وجه الظاهر والباطن ، ومن الباطن : وجه العقل والصدر والقلب والسر والخفي والأخفى ، وجوه سبعة تغشاها الساعة ، فهي ـ كلها ـ خاشعة : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) (٤٢ : ٤٥).

__________________

(١) فالخشوع وصلي النار والسقي من عين آنية وصلي النار الحامية ، وطعامهم ، ثم الراضية ، وعدم سماع اللاغية .. كل ذلك لا يناسب إلا الذوات.

٢٩٥

والخشوع هو الضراعة سواء في الظاهر أو الباطن ، ما لم يقرن بما يدل على الأول ، وإن كان هو الأكثر استعمالا ، إذا فغاشية الساعة تغشى الوجوه كلها فتصبح خاشعة كلها.

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) :

عاملة عملت في دنياها لهواها ، وهنا تحصد نصبها وتعبها ، وعاملة تعمل يوم الغاشية ، متعبة نفسها لخلاصها ، ولات حين مناص ، ومضى دور الخلاص ، فقد مضى دور العمل والأمل ، فلا أمل ولا عمل ، وهي بعملها يوم الدنيا ، هنا وقود للنار تصلاها :

(تَصْلى ناراً حامِيَةً) :

توقد نارا قدّمها من قبل ، وهي ذات حمى : «ولادة وإيلادا» : ولدت من الجواهر المحمية ، من جواهر ذواتها الشريرة ، وتولد حمى : حرقة حاسمة ، لا تبقي ولا تذر. لوّاحة للبشر ، وكما حمت يوم الدنيا في جحيم ذواتها ، وأحرقت ضميرها وفطرتها ، جوّها ومجتمعها!

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) :

عين بلغت إناها لشدة غليانها ، حامية آنية : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٥٥ : ٤٤) (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (٤٧ : ١٥).

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) :

لا يطعمون إلا الضريع ، فما هو الضريع؟ نقول : إنه من الضراعة ، فطعام أهل النار يضرعهم ويذلهم ويبكيهم ، بدل أن يفرحهم ويغنيهم ، ومن المضارعة :

٢٩٦

المشابهة ، فإن طعامهم يشبه الطعام وليس به ، ولذلك لا يسمن ولا يغني من جوع ، وهما الأصلان في خواص الطعام ، فليس الضريع طعاما من سنخ واحد ، وكما أن وصفه هنا يشهد ، وكما اللغة تشهد ، فإنها لا تعرف طعاما خاصا اسمه ضريع ، وكذلك سائر القرآن يشهد ، إذ يذكر لهم أطعمة عدة كلها ضريع بمعنييه ، كالزقوم : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٤ : ٤٦) وغسلين : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٦٩ : ٣٦) (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) (٧٣ : ١٣) غصة وغم في أرواحهم ، وغصة في الحلقوم ، فطعامهم كله ذا غصة ضريع ، لا يسمن ولا يغني من جوع ، كما أن كله غسّاق : (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) (٧٨ : ٢٥) يغسق ويظلم على آكله حياته ، ويحبّذ إليه مماته : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) :

لم يعطف الوجوه الناعمة على الخاشعة للبون البعيد بينهما ، وعدم الانعطاف بينها وبينها ، فهذه ناعمة ناضرة ضاحكة مستبشرة مبيضة ، وتلك خاشعة مسودة باسرة عليها غبرة ترهقها قترة (١) ، فأين وجوه من وجوه! وكيف يعطف بينهما وإن في التعبير؟

هذه ناعمة : ظاهرة البهجة والسرور ، من النعومة : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) وناعمة : متنعمة يبدو عليها النعيم ، ويفيض منها الرضى :

(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) : راضية عما سعت ، مرضية لربها ، فهي عاملة في دنياها ، راضية في أخراها ، دون نصب وتعب ، خلاف العاملة الناصبة.

__________________

(١) كما في الآيات ٣ : ١٦ و ٧٥ : ٢٤ و ٨٠ : ٤٠.

٢٩٧

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) : كلمة ذات لغو ، فالنار فيها كل كلمة لاغية ، يتلاغى أهلها فيها ، والجنة خلو عن أية لاغية ، يتلاقى أهلها مع بعض ومع خزنتها بكل حنان واحترام ، كلماتهم حكمة ، وحركاتهم حكمة ، ولأنهم دخلوها بالمعرفة والحكمة ، فليست هي إذا مكان اللهو واللغو والغفلة عن الله ، ولا التحرر عن قيود العقل والإيمان والمعرفة ، رغم أنها ليست بدار التكليف ، فالواجبات التي هي لزام العبودية والمعرفة ، والمحرمات التي تنافيها ، إنها تبقى على حالها في الجنة ، ولكنها تطبّق هناك دون تكلّف وبلاء ، وإنما الابتلائية منها والامتحانية ، هذه هي التي تترك فيها ، إذ لا بلاء هناك ولا تكليف ، ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ولكن أهلها لا يشتهون الظلم والضيم ، ولا يلتذون بالمحرمات الذاتية ، لأنهم ظهروا على الحقائق كلها وظهرت لهم ، وأنها ليست دار التزاحم واللااطمئنان : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (٤٤ : ٥١) (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٤٧ : ٣٦) فلا أضغان تدفع إلى المنافرات ، ولا تزاحم ينافي الأمن ، (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١٥ : ٤٧).

فهذه هي الجنة العالية ، وليست دانية فيها الرذالات وجماع العادات والتصرفات السيئة ، أن أهلها تركوا المحرمات لفترة قصيرة يوم الدنيا ، ولكي يتحرروا فيها لغير النهاية! وتفصيل هذا البحث إلى محالها المختلفة في طيّات الآيات.

هذه هي اللذة الروحانية في جنة الرضوان ، ثم تتلوها الجسدانية في جنة النعيم :

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) :

عين جارية : جنسها ، وليست صنفا خاصا ، أو عينا واحدة ، وإنما ينابيع

٢٩٨

متدفقة من تسنيم وسلسبيل ، والماء الجاري يجاوب الحسّ بالحيوية ، والروح بالانتفاض والانقباض ، والسرر المرفوعة لها جمالها وجلالها ، والأكواب جمع كوب : قدح لا عروة له ، رمزا إلى سعتها ، ولأن العروة تجمع القذارات تحتها ، وليست جمع الكوبة : الطبل الذي يلعب به ، فليس في الجنة لغو ولا تأثيم ، والنمارق هي المساند. مصفوفة بعضها إلى بعض. والزرابي هي البسط الفاخرة ، مبثوثة منتشرة على أرض الجنة ، للزينة والراحة سواء.

فهذه هي البعض من أثاث بيت الجنة ، فيها اللذة كلّها ، والراحة تمامها ، والمتعة بكاملها ، دون تعب وعناء ، أو شغب وشقاء.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) :

حض النظر إلى ما حضر لعرب البادية ، وليس إلا الإبل التي يعيشها ، والأرض التي يطؤها ، والجبال التي يراها ، والسماء التي فوقه ، قطعا للأعذار ، وتقريبا للأنظار ، فلا أحد إلا ويعيش براهين على وجود الله تعالى ، لا يستطيع التحلل عنها ، حتى عرب البادية الذين يعيشون أنفسهم بآبالهم ، وهي كل ما يملكونه حياتهم ، ومن الغريب أنها أكمل الحيوان وأنفعه وأجمعه لصالح المعيشة والراحة :

فهي ركوبهم بأحمالهم ، ومنها شرابهم وإدامهم ، ومن أوبارها وجلودها ثيابهم وفرشهم : كمواد أولية للحياة ، ثم إن لها خصائص تخصها بين الحيوان : فهي على عظم منافعها قليلة التكاليف ، صابرة على الجوع والعطش والكدح ، تأكل ما لا يأكله سائر الحيوان ، وهي على قوتها وضخامتها ذلول يقودها الصغير فتنقاد له ، وتنهض بحملها وهي باركة ، بخلاف سائر الحمولة ، وبإمكانها الصبر على الجوع والعطش لمدة أسبوع ، وأن تمشي يوميا خمسين فرسخا ، تمشي في

٢٩٩

الرمضاء ، وفي الثلوج المغطية للطريق ولا تضل الطريق ، حتى وفي الليلة الظلماء ، ولا تنسى الطريق الذي مشته لمرة واحدة ، وعنقه كسلّم يمد ركابها وهي قائمة ، ففيها جماع ما في مختلف الحيوان ، وزيادات تخصها ، فلا عجب أن تعد في عداد الأرض والجبال والسماوات ، من آيات الله البينات ، التي تدل على وجوده وقدرته وحكمته ، وأن وراء الكون إرادة وتصميما ، دون صدفة ولا فوضى.

فليست الإبل آية لأصحاب الإبل فحسب ، وكما القرآن لا يختصهم بها ، بل هي آية لهم ولمن سواهم أن ينظروا إليه كيف خلقت؟ هذه الكيفية العجيبة الفريدة بين سائر الحيوان ، ما يحق لها أن تفرد بمؤلف ضخم ، علّنا نعرف البعض من عظمة هذه الخلقة العجيبة.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) :

وأولى الناس بالنظر إلى السماء هم سكان الصحراء ، كيف رفعت بلا عمد؟ وكيف انفصل دخانها عن مادتها الأولية المضطرمة؟ وكيف اقتسمت إلى السبع؟ وكيف نثرت فيها النجوم بلا عدد ولا عمد ، وكيف وكيف ، مما يتطلب سماء واسعة من البحث والتنقير ، ليعرفنا على أوسع مما نعرف من حكمة الخبير البصير.

(وَإِلَى الْجِبالِ) مختلف الجبال (كَيْفَ نُصِبَتْ)؟ مما سقطت عليها من على السماء ، وما تدفقت عليها نتيجة البركانات ، وما تجمدت عليها إثر الأمواج الناتجة عن دوران الأرض واصطكاكها بالفضاء المجاور البارد ، وكما سئل علي عليه السّلام «مم خلقت الجبال؟ قال : من الأمواج» وعلها تعم الأمواج الجوية السماوية ،

٣٠٠