الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨١

١
٢

٣
٤

سُورة الإسَراء

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً(٥)

٧

ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)(٨)

سورة مثلثة الأسماء : الأسرى ـ بني إسرائيل ـ سبحان : تتبنى الرسالة الإسلامية بمقتضياتها ومخلفاتها كقاعدة أصيلة ، بأصولها الثلاثة ، وما تتضمنه من ملاحم وبشارات وإنذارات مثلات ، بدايتها «سبحان» لتأكيد وتوطيد الرحلة المعراجية المنقطعة النظير ، ونهايتها (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تسبيح يضرب الى الحمد فانه تسبيح بالحمد وبينهما متوسطات!

وفي السورة قيلات خمس : إنها مكية إلا آيات : اثنتين او ثلاث او خمس او ثمان (١) ولا توحي هذه او تلك بمدنيتها ولا تلمح إذ نزلت نظائرها

__________________

(١) مدنيتان كما في روح المعاني هما «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ...» «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ...» وعن بعضهم اضافة : «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ...» وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ...» وعلّ الإخراج او منه الإخراج الى المدينة فهي مكية إذ تنبئ عن مستقبل ، وعن الحسن الا «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ...» «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ...» «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ...» «أَقِمِ الصَّلاةَ ...» «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ...» وعن مقاتل ـ

٨

في المكيات ، ثم هي بين دالة على مكيتها او غير دالة على مدنيتها فقد تكون مكية كلها كما يقتضيه طبع الألفة والتأليف.

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١).

هنا إجمال عن الرحلة المعراجية الى أقصى اعماق الفضاء ، وفي التكوير إجمال اخصر مما هنا : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) ثم ينجم تفصيلها في النجم : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) مثلث بارع رائع عن هذه الرحلة الرهيبة الخارقة ، يفسر بعضها بعضا وينطق بعضها على بعض ، مهما اختلفت فيها الروايات فلتعرض على القرآن لكي تنحو نحو القرآن.

«سبحان» خير بداية تتلو خير ختام (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تبدأ بها سورة السبحان الأسرى ـ بني إسرائيل ، كأليق حركة نفسية نفيسة تتسق مع واقع الاسراء وجوه اللطيف ، وأحرى حالة روحية حيث يبلغ صاحبها إلى الأفق الأعلى المبين.

و «سبحان» علم للتسبيح منحصر في الله ومنحسر عن غير الله ، فانه التنزيه المطلق (١) ، فليختص بالنزيه المطلق ، وليس مطلق التنزيه حتى يشمل من سوى الله من الكاملين ، وان في أعلى قمم الكمال

__________________

ـ الا «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ...» «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ...» «وَإِذْ قُلْنا لَكَ ...» «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي ...» «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...» وآية الاستفزاز تشهد أنها مكية كآية الإدخال وسواهما لا تشهد انها مدنية. وعن قتادة والمعدل عن ابن عباس إلا ثماني هي «وَإِنْ كادُوا ... الى «وَقُلْ رَبِّ ..».

(١) تفسير روح المعاني ج ١٥ ص ٣ في العقد الفريد عن طلحة قال : سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن تفسير سبحان الله فقال : تنزيه لله تعالى عن كل سوء.

٩

حيث الفقر ذواتهم ، والنقص كيانهم فأنى لهم سبحان مطلق!

والله تعالى ذاته سبحان وصفاته سبحان وأفعاله سبحان ، وهي هنا : سبحان ذاته ان يعرج إليها عبده أي عروج كان ، في المكانة أو في المكان ، فانه مكن المكان فليس له مكان ، وحد الحدود والجهات فليست له حدود وجهات ، وهو المنهي للنهايات والمغيي للغايات ، فسبحان ذاته أن يكون منتهى العروج لعبده بأي معنى كان ، اللهم إلا قمة المعرفة الممكنة بالله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)!

ثم وسبحان أفعاله ان يعجز عن معراج عبده بجسمه وروحه إلى سماواته ليريه بعض آياته ، كما يهرف به من لا يعرف قدرته تعالى على كل شيء.

وسبحان صفاته عن ان يضن ويبخل عن هذه المكرمة الغالية لأول العابدين وسيد الخلق أجمعين ، فسبحانه سبحانه سبحانه عن اي رين وشين في هذا البين.

ثم و «سبحان» تتكفل ـ ككل ـ بيان سلبية الصفات غير اللّائقات بجناب عزّه ، كما «الحمد» بيان للثابتات اللائقات بحضرة قدسه.

(الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ...).

«اسرى» من «السّرى» : سير الليل ـ ولكنه مضمّن معنى الرفعة والعلو فسراة كل شيء أعلاه ، كسراة النهار : ارتفاعه ، رفعة حسية او معنوية : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (١٩ : ٢٤) رفيعا عظيما هو المسيح (عليه السلام) كما السر وشجرة مستقيمة رفيعة ، وقد تجمع «السرى» بين الرفعتين كما في سرى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سرى أرضية إلى القدس في سفرة جوية ، ثم سماوية الى الأفق الأعلى مكانة ومكانا.

١٠

وإذا كانت السرى سير الليل فلما ذا هنا «ليلا» وكما في ثانية (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٤٤ : ٢٣) وثالثة (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) (١١ : ٨١) ومن ثم في رابعة تأتي دون ليل (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٢٦ : ٥٢)؟؟.

نقول : إن جمع الليل الى السرى إذا كان مع عدم جمعه سيان كما في سرى موسى فالليل لمزيد الإيضاح (١). ام ولكي يعرف أنها في ليلة واحدة لا ليال. وإذا ـ لا ـ كما في لوط : (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) قسم من الليل يؤمن فيه عن ملاحقة قومه ، لا كله أو أية قطعة منه حيث الخطر حادق والعدو حاذق ، فلهذه وتلك.

ام لهذه وسواها من نكات كما في الإسراء يجمعها : ١ ـ دلالة على ان السرى كانت في ليلة واحدة حيث الوحدة لائحة من تنكير «ليلا» لا في ليال ، حيث السرى وحدها أعم من ليلة او ليال. ٢ ـ واشارة إلى انها كانت في قطع من ليلها دون تمامه ، حيث القطعة مشار إليها بالتنكير «ليلا» كما الوحدة ، فاستغراق الليل يقتضي «الليل» لا «ليلا» و ٣ ـ افادة للتعظيم حيث كانت ليلة العروج وكانت الإثنين وما ادراك ما الاثنان؟ انه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولد يوم الاثنين وبعث الاثنين ، وعرج به الاثنين وخرج من مكة مهاجرا الاثنين ودخل المدينة الاثنين ، وارتحل الى رحمة ربه الاثنين ، اثنينات ست تعم حياته ، فسلام عليه يوم ولد ويوم بعث ويوم عرج ويوم هاجر ويوم مات ويوم يبعث حيا ، ثم وهو هو الثاني في الكون والكيان بعد الحضرة الإلهية ، فالله هو الأول في مثلث الذات

__________________

(١) كما في «وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ». قصدا الى ان نفي الاثنينية كاثبات الوحدة مقصود ، دون ان يكون النفي هامشيا.

١١

والأفعال والصفات ، واحمد هو الثاني ، واين أول من ثان بون بين الوجوب وأرقى الإمكان :

ز احمد تا أحد يك ميم فرقست

همه عالم در آن يك ميم غرقست

وما هو موقف الباء في «بعبده» بعد أن «أسرى» متعد بالإفعال؟ هل إنها المزينة؟ ولا تعرف إلا في خبر ليس! أم لتأكيد التعدية أن سرى عبده انما هي منه تعالى تماما لا ومن عبده؟ ولا يعهد هكذا تأكيد! وآياتها الاخرى في إسراء لوط باهله وموسى بقومه لا يناسبها تأكيد! أم ان مفعولها الأول محذوف كالذي عرج به كسفينته الفضائية «البراق» والذي صاحبه كجبريل (١) إذا فما هو المفعول الأول في نظيرتها (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ... أَسْرِ بِعِبادِي ...) ولا يناسبها محذوف في لوط وموسى! ام إن سرى واسرى بمعنى وهما متلازمتان (٢) مع الفرق أن أسرى لأول الليل وسرى لآخره (٣) وقد كان سرى الرسول في الثلث الأوّل من الليل؟ ـ احتمالات : اخرها أولها وأولها آخرها وبينهما متوسطات.

ولماذا «بعبده» دون «محمد» او «رسوله ـ نبيه»؟

عله لأن «محمدا» دون وصف العبودية او الرسالة لا يحمل ما يتحمل هكذا معراج ، ولا يذكر حين يذكر إلا للتعريف الاسمي بالرسول النبي.

ثم هذا العروج لم يكن رحلة رسالية ، وإنما عبودية تتبنّى كما له في نفسه حيث (دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ... لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ...) فالرحلة من الرب الى الخلق رسالة ، ومن الخلق الى الرب تكملة العبودية في ذاته لتكميل الرسالة.

__________________

(١) كما عن ابن عطية ـ

(٢) ـ كما عن أبي عبيدة ـ

(٣) ـ وقال الليث : اسرى لاول الليل وسرى لآخره.

١٢

ثم العبودية تزيل حجب النور وحجب الظلمة والرسالة هي هي من حجب النور ، وهو في مقام الدنو والتدلي يتخلى عن الحجب كلها ويتحلى بحلية العبودية في أعلى قممها (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) دون نبيه أو رسوله ، وحيا سريّا سريّا يخصه دون سواه فسرى المعراج تقتضي سرى العبودية.

ومن ثم ما احلى صيغة «عبده» وصبغته وصياغته ان لو لم تكن هنا لك رسالة ، لم تكن هنا لاول العابدين صيغة أجدر من «عبده». ثم لا نجد في القرآن «عبدنا» و «عبده» إلا لصاحب المعراج (١) اللهم الا لداود وأيوب وزكريا ونوح ولكنه في زكريا في ظل رحمة ربك : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (١٩ : ٢) وفي داود تسلية لصبره : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) (٣٨ : ١٧) وفي أيوب كذلك ذكرى لكي يصبر : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ ...) (٣٨ : ٤١) وفي نوح تصبرا على طول المدة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) (٥٤ : ٩).

فليس إذا «عبده» إلا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كأنه هو عبده لا سواه ، لأنه جامع مجامع العبودية فهو (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) كما وأنه هو رسوله لا سواه ، كما تلمح لها آياتهما وتأتي في طياتها.

ثم و «عبده» تقريرا في مقام الإسراء إلى الدرجات العلى ، ولكي لا تنسى هذه الصفة في زهوة الرحلة الفضائية وزهرة المعراج ، وليس لينساه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثم ولا يلتبس مقام العبودية بمقام

__________________

(١) «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» (٢ : ٢٣) «وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ» (٨ : ٤١) «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ» (١٨ : ١) تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ» (٢٥ : ١) «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى» (٥٢ : ١٠) «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ» (٥٧ : ٩).

١٣

الألوهية كما التبس في العقائد المسيحية.

وأخيرا «عبده» توحي بأن هذه السرى كانت بجزئيه : روحه وجسمه ، دون تقسم فلم يقل بروح عبده او بجسمه حتى يهرفه الهارفون ويخرفه الخارفون : ان المعراج كان روحيا ، او برزخيا في رؤياه ام ماذا؟ وإنما «بعبده» فصاحب المعراج هنا «عبده» وفي النجم «صاحبكم» (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) وفي التكوير هو رسول كريم : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ. وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)(٢٣).

أترى بعد ان «صاحبكم» «عبده» «رسول» هي فقط روحه ، وهو ما صاحبنا ـ فقط ـ بروحه ، وما رسالته ـ فقط ـ في روحه ، وما عبوديته ـ فقط ـ بروحه ، ان هذه إلا هرطقة هراء والله منها براء ـ ف «سبحانه سبحانه سبحانه من قيلات هي ويلات على الحق المبين فأين ـ تذهبون (١) ـ

ولماذا «ليلا» لا نهارا ، ام مزدوجا ، والنهار أبين للناظرين وأبعد إنكارا للناكرين؟ عله لأن الليل هنا كان نهارا هناك ولكي يرى من آيات ربه وضح النهار ، أم عله لأن الليل أهدء وأوقع لسرى المعراج ، وناشئته

__________________

(١) وما في دعاء الندبة «وعرجت بروحه» غلط من الناقل والمنقول عنه والصحيح «وعرجت به» كما في نسخة ثانية جعلها المحدث القمي فرعا ، والفرع أصلا. فأصله لا اصل له وفرعه هو الأصل! وقد يشبه أصله ما يروى عن عائشة «ما فقدت جسد رسول الله ولكن أسري بروحه» كما في الدر المنثور عنها ـ فقد كذبت مرتين : ان الاسراء كانت قبل ان يتزوجها بزمان فانها قبل الهجرة بسنة وزواجها بعدها بزمان ، وان الاسراء كان من المسجد الحرام لا بيت عائشة ام اي بيت ، ثم وأحاديثنا متظافرة بالمعراج الجسماني والروحاني معا دون تبعيض (راجع ج ٢٦ ـ ٢٣ ـ الفرقان ص ٤١٤ ـ ٤١٥ وقد وافق عائشته زميلها معاوية في نكران المعراج الجسماني ومعاوية كان يومئذ كافرا.

١٤

هي (أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٧٣ : ٦) وأية ناشئة طوال حياته (صلّى الله عليه وآله وسلّم» انشأ وانشط من ناشئة المعراج فلتكن ليلا ، ولا يحول الليل ولا أليل منه ظلمة دون رؤيته آيات ربه الكبرى بما أراه الله.

والسرى المعراجية تتبنى عروج الرسول الى أعلى الآفاق المعرفية ، قبل ان تتبنى اعجازها ، ولم يكن عروجه الى عمق الفضاء بالسرعة ما فوق الضوئية او علها الجاذبية التي تفوق الزمان لم يكن بالذي يرى فيصدق بما يرى ، اللهم الا بما خبرهم بما رآه في سراه ما فوق الأرضية الى القدس من عير ام ماذا (١) فقد كان سرى الرسول سرى سريّا سريّا إلا فيما انبأ به ربه بما أنبأ والله اعلم بسراه.

ثم «ليلا» توحي بوحدة المعراج اللهم الا ان يهرف بتكراره في نفس الليلة ولم يخلد بخلد قط ، فالروايات الناقلة لتكراره تؤول او تطرح (٢) وروحه القدسية كانت عارجة دوما الى مقام قاب قوسين او ادنى

__________________

(١) في روضة الكافي باسناده عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : لما أسري برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصبح فقعد فحدثهم بذلك فقالوا له : صف لنا بيت المقدس ، قال : فوصف لهم وانما دخله ليلا فاشتبه عليه النعت فأتاه جبرئيل فقال : انظر هاهنا فنظر الى البيت فوصفه وهو ينظر اليه ثم نعت ما كان من عير لهم فيما بينهم وبين الشام ثم قال : هذه عير بني فلان يقدم مع طلوع الشمس يتقدمها جمل أورق او احمر ، قال : وبعثت قريش رجلا على فرس ليردها ، قال : وبلغ مع طلوع الشمس ، قال قرطة بن عبد عمرو : يا لهفا ان لا أكون لك جذعا حين تزعم انك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك» (نور الثقلين ٣ : ١٠٢).

(٢) كما أورده القمي عن محمد بن الحسن الصفار باسناده عن أبي عبد الله (عليا السلام) قال : عرج بالنبي مائة وعشرين مرة ...» أقول : وعلها إلّا واحدة عروج روحي له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد كانت حياته بهذا المعنى معارج. وفي الكافي باسناده الى علي بن أبي حمزة قال : سئل ابو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) ـ

١٥

اللهم إلا فيما تضطره رسالته ببلاغه وخلطه بالمرسل إليهم ، حيث الرسالة ـ على قدسيتها ـ من حجب النور ، وعله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يغان على قلبه ويستغفر ربه في كل يوم سبعين مرة من حجب النور.

(... مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١).

منطلق المعراج مسجد هو أفضل المساجد في الأرض أم في الكون كله وقد جاء ذكره في الذكر الحكيم (١٥) مرة بكل تبجيل وتجليل ثم المسجد الأقصى وهو أقصى المساجد الى المسجد الحرام نجده مرة واحدة هي هاهنا بمواصفة واحدة : (بارَكْنا حَوْلَهُ).

ومهما اختلفت الروايات ان مبدأ المعراج بيت عائشة (١) ام بيت ام هاني (٢) ام المسجد الحرام (٣) فنص القرآن يؤيد ثالث ثلاثة فلا محيد عنه.

__________________

ـ فقال وانا حاضر : جعلت فداك كم عرج برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال : مرتين (تفسير البرهان ٣ : ٤٠٢) أقول : علّ المرتين هما كما قال تعالى : «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى» «حيث الروية المعراجية كانت مرتين لا اصل المعراج!

(١) كما نصت روايتها عن الدر المنثور «ما فقدت جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن أسري بروحه» كذبة مزدوجة!

(٢) ذكره الثعلبي عن ابن عباس بغير سند وكأنه من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه ، وأخرجه الحاكم والبيهقي عنه ورواه النسائي باختصار من رواية عوف عن زرارة بن اوفى عن أبي عباس.

(٣) تفسير القمي بإسناد عن أبي مالك الازدي عن إسماعيل الجعفي قال كنت في المسجد قاعدا وابو جعفر (عليه السلام) في ناحية فرفع رأسه فنظر الى السماء مرة والى الكعبة مرة ثم قال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى ...)» وكرر ذلك ثلاث مرات ثم التفت الى فقال : اي شيء يقولون اهل العراق في هذه الآية يا عراقي! قلت : يقولون اسرى به ـ

١٦

واما منتهى سرى المعراج هنا ، فهل هو المسجد الأقصى الذي في القدس؟ وهناك مسجد الكوفة أقصى منه وعله أفضل! وبركات الله في المسجد الحرام أقدم من القدس وأكمل! وعرض المعراج في هذه الآية الخاصرة نصا والحاصرة تقتضي التصريح بنهاية المعراج وغايته : السدرة المنتهى في الأفق الأعلى ، دون متوسطه الأرضي فحسب ، الأقصى الذي في القدس! ثم ما هي «آياتنا» في القدس التي لم يرها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في البيت الحرام؟ هل هي قبور الرسل الإسرائيليين؟ وليست من آيات الله ، وإنما الرسل هم آيات الله وقد أراهم الله إياه إذ أخذ ميثاقهم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ...) (٣ : ٨١) وأراه إياهم إذ أمران يسألهم : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٣ : ٤٥) ثم الآيات التي أريها هي آيات ربه الكبرى في عمق الفضاء (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ... لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) فهذه الرؤية كانت في الأقصى التي في السماء عند السدرة لا التي في الأرض (١).

__________________

ـ من المسجد الحرام الى البيت المقدس فقال : ليس كما يقولون ، ولكنه اسرى به من هذه الى هذه وأشار بيده الى السماء وقال : ما بينهما حرم (نور الثقلين ٣ : ٩٨) ومن حديث مالك بن صعصعة مطولا. ان المسجد الحرام مبدء المعراج متفق عليه. أقول : قد يعني هذه الأرض ـ وطبعا من المسجد الحرام ـ والى هذه : عمق المعراج عند سدرة المنتهى ـ وما بينهما حرم : ما بين المسجد الحرام والأقصى الذي في السماء حرم ـ او ما بين الأقصى في الأرض والأقصى في السماء حرم ام ماذا؟.

(١) وفيه ايضا عن سالم الحناط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن المساجد التي لها الفضل فقال: المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قلت : والمسجد الأقصى جعلت فداك ، فقال : ذلك في السماء أسري اليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقلت : ان الناس يقولون : انه بيت المقدس؟ فقال : مسجد الكوفة أفضل منه. ومما يدل على وجود مسجد الكوفة حينذاك ما رواه القمي في تفسيره باسناده الى أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث فضل مسجد ـ

١٧

فلقد نرى أن المسجد الأقصى ، أقصى المساجد في مطلق الكون من المسجد الحرام ، ومنتهى المعراج عند السدرة المنتهى ، إذ «أوحي (إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى)(١٨) بعد ما (دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٨ ـ ٩) دنوا واقترابا من العلى الأعلى!

هذا هو المسجد الأقصى الذي بورك حوله بركات معنوية معرفية. واخرى سواها أمثالها ، فمن الأولى (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) ١٣ ـ ١٥. ومن الاخرى جنة المأوى وما ينحو نحوها من آيات ربه الكبرى.

ف «الأفق المبين ـ الأفق الأعلى ـ سدرة المنتهى ـ جنة المأوى» في التكوير وفي النجم ـ والبيت المعمور (١) في «الطور» علّها كلها تعابير عدة عن منتهى المعراج : المسجد الأقصى ، وقد يسمى الذي في القدس بالمسجد الأقصى لمحاذاته الأقصى الأولى ، وقد زاره الرسول (صلّى الله

__________________

ـ الكوفة : «... حتى ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما اسرى به قال له جبرئيل : تدري اين أنت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أنت مقابل مسجد الكوفان قال : فاستأذن لي ربي حتى آتيه فأصلي فيه ركعتين ...» المصدر ٣ : ١٣٠) ، وأورده ابن سعد وابو يعلي والطبراني في حديث ام هاني مطولا «الكشاف ج ٢ ص ٥٠٥).

(١) للبيت المعمور مصاديق اخرى كالكعبة المشرفة ويقابله المسجد الأقصى في السماء السابعة فهو ايضا البيت المعمور كما في نور الثقلين ٥ : ١٣٦ عن علي (عليه السلام) كما وهو منزل القرآن (٥ : ٦٢٤) عن الصادق (عليه السلام) وفي الدر المنثور عن شعب الايمان عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : البيت المعمور في السماء السابعة أقول : وأحاديث الفريقين مجمعة على انه في السماء السابعة ، فليكن هو المسجد الأقصى في السابعة ، عمر قبل عروج النبي ثم زادت عمارة بعروجه ، ثم ومن البيت المعمور بيت قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما مضى عن علي (عليه السلام) فانه اشرف منزل للقرآن (راجع ج ٢٧ ص ٣٥٣ ـ ٣٥٤ من الفرقان).

١٨

عليه وآله وسلّم) في رحلته المعراجية (١) إذا فالمسجد ان معنيان ب (الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) فالذي في السماء أصل وغاية ، والذي في الأرض ممر إليه وليس غاية.

واية بركة عظمي وآية كبرى خير من الجنة المأوى. وما رآه في الأفق الأعلى من آيات ربه الكبرى! (٢)(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ

__________________

(١) ثواب الأعمال عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه قال في وصية له : ... اني لما بلغت بيت المقدس في معراجي الى السماء ...(نور الثقلين ٣ : ١٢٢) ومن الملاحظ في الروايات التي تنقل مروره في معراجه بالقدس انها كلها تقول بيت المقدس ولا مرة واحدة : المسجد الأقصى.

(٢) تفسير القمي في حديث المعراج من لفظ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام) ... فكشط لي عن سبع سماوات حتى رأيت سكانها وعمارها وموضع كل ملك منها ... واما السادس لما أسري بي الى السماء جمع الله لي النبيين فصليت لهم ومثالك خلفي «نور الثقلين ٣ : ١٠٢» ومن الآيات التي أريها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عترته المعصومون واحد بعد واحد كما في عيون اخبار الرضا (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث المعراج عن العترة ... يا محمد لو ان عبدا عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي ثم اتاني جاهدا بولايتهم ما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي يا محمد أتحب ان تراهم؟ قلت : نعم يا رب! فقال عز وجل : ارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا انا بأنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجة بن الحسن القائم في وسطهم كأنه كوكب دري قلت : يا رب من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الأئمة وهذا القائم الذي يحل حلالي ويحرم حرامي وبه انتقم من اعدائي وهو راحة لاوليائي وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين ...(نور الثقلين ٣ : ١١٩) وفي الدر المنثور (٤ : ١٥٣ ـ اخرج ابن عدي وابن عساكر عن انس قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما عرج بي رأيت على ساق العرش مكتوبا : لا إله إلا الله ـ

١٩

الْبَصِيرُ): رؤية للمكون بقلبه بما لا فراق له ورؤية لكائناته ببصره لمتّسع مملكته.

وترى لماذا (مِنْ آياتِنا) لا كلها لكي تستكمل الرؤية وتكمل الضيافة والإضافة؟ ... الجواب في النجم : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ف «من» تبعيض عن كل الآيات و «الكبرى» هي جل الآيات ، فقد اصطفى الرب لمصطفاه كبرى الآيات ومصطفاها ، وكفته رؤية الكبرى عما سواها : كبرى الآيات كيانا كالنبيين والملائكة الكروبيين وكونا كسائر الآيات العظيمة الكونية ومنها سائر خلق الله في سائر العوالم من سكان السماوات وعمارها (١).

أترى ان غاية المعراج فقط (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) لا إثبات رسالته ايضا كأية من آيات ربه؟ ومن ثم ف «من» تبعض هذه الرؤية ، في حين أري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين.

إن الملكوت هي حقيقة الملك وماهية تعلق الكون بالله تعالى ، وللملكوت درجات كما للملك درجات ، وكما أن أهل الملك والملكوت درجات فلكلّ درجة تخصه دون سواه ، او تعمه ومن معه في درجته ، وصاحب المعراج أري الكبرى من درجات الملكوت : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) وابراهيم وأضرابه ممن دون صاحب المعراج أري درجات أدنى

__________________

ـ محمد رسول الله أيدته بعلي»!. ومنها النبيون والملائكة الذين صلوا وراءه في البيت المعمور : كما رواه القمي باسناده الى أبي جعفر (عليه السلام) قال : كما أسري برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى السماء فبلغ البيت المعمور وحضرت الصلاة فاذن جبرئيل واقام فتقدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فصف الملائكة والنبيون خلف محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (المصدر ١٣٠).

(١). مضى تحت الرقم ٢ ص ٧.

٢٠