الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

هذا ـ ثم لا نعرف ـ ولا يعرف وحتى النبيين ـ عن زمن الساعة شيئا ، إلا عن علاماتها حينها بما أوحى الله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (١٦ : ٧٧).

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) :

أنت بعيد عن ذكرى الساعة كلّ البعد ، وهي خفيّة لحدّ يكاد الله يخفيها حتى عن نفسه المقدسة : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (٢٠ : ١٥).

رغم أنه من المستحيل خفاء أمر عن الله ، ولذلك قال : (أَكادُ أُخْفِيها) لا «أخفيها» إخبارا بشدة خفائها عمن سواه إلى حيث يكاد يخفيها حتى عن نفسه المقدسة وليس بمخفيها عنها ، وإنها من اختصاصات الربوبية علمها وإقامتها : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٤١ : ٤٧) (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٤٣ : ٨٥).

وفي أحاديث عدة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يسأل الله عن الساعة ، إذ كثرت أسئلة المشركين حول الساعة فنزلت الآية (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها)(١).

(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) :

منتهاها علما وإقامة ، ومنتهى زمن الدنيا والبرزخ المتداخل معها ، وهو الساعة أيضا إذ تضمحل الكائنات ، لا منتهى زمن الآخرة إذ لا منتهى لها ،

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١٤ ، أخرجه ابن مردوية عن علي بن أبي طالب عنه (ص) وابن أبي حاتم وابن مردوية عن ابن عباس والبزاز وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة ، وأخرجه عبد بن حميد والنسائي وابن جرير الطبراني وابن مردوية عن طارق بن شهاب عنه (ص).

١٠١

وإن الساعة ليست هي اليوم الآخر كله ، إنما ساعة منه لها بداية : «الرجفة الأولى» ولها نهاية : «الرجفة الثانية» رجفة الإماتة والإحياء ، فإلى ربك منتهاها كما منه مبتدأها.

من هنا وهناك نستوحي أن السؤال عن الساعة كان عن مرساها ومنتهاها ، عن زمن رجفة الإماتة والإحياء ، والثانية هي الأصل وهي المعاد ، فمنتهى الساعة التي هي الإحياء إنما هو إلى الله ، لا يشاركه فيه أحد ، ولا يعلمه غيره أحد ، كما ورجفة الإماتة منه لا سواه ، وإنهاء الكائنات إلى ساعة الضياع أيضا منه لا سواه.

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) :

ليس لك إلا الإنذار بشأنها ، دون أن تعلم أو تقدر على شيء منها ، ولا يؤثر إنذارك إلا فيمن يخشاها : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٢ : ٤٦) وأما الناكرون لها والشاكون فيها فليس لك إلا إلقاء الحجة عليهم ، وإن كانوا : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢ : ٦) سواء عليهم إذ لا يتذكرون ، لا سواء لك ـ (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (١٣ : ٤٠).

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (٣٦ : ١١).

فهذه من حدودك الرسالية أن تنذر بها من ينفعه الإنذار ، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ويعمل لها ويتوقعها في موعدها الموكول إلى صاحبها.

١٠٢

زمن لبث البرزخ :

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) :

يخيّل إلى الناكرين الشاكين في اليوم الآخر وساعته ، يخيل إليهم يوم يرون الساعة : صيحة الإحياء ـ فإنها من ساعة ذلك اليوم ـ أنهم لم يلبثوا في الحياة قبلها ـ برزخ وسواه ـ لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ، يحسبونهم لبثوا هذا القليل القليل من الزمن ، لضخامة وقعة الساعة وقرعة القارعة ، بحيث تتضاءل إلى جواره ما لبثوه قبلها بأشيائها وأشياعها وأحداثها ، فتبدو في حسّهم كأنها (عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) وهو ليس كما يزعمون.

أو أنه ساعة من نهار : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) (١٠ : ٤٥) بل ويقسمون عليه أيضا : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٣٠ : ٥٥).

أو يوما أو بعض يوم : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ. قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٣ : ١١٥ ـ ١١٧).

أو عشر ليال أو سنين : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (٢٠ : ١٠٣ ـ ١٠٥).

إن المجرمين ـ على مختلف دركاتهم ـ يحسبونهم لبثوا في الأرض ـ أرض التكليف وأرض البرزخ ـ : لبثوا ساعة من نهار ، أو يوما أو بعض يوم ، أو عشية أو ضحاها أو عشر ليال أو سنين ، وكلهم على خطأ فيما حسبوه من تحديد زمن مكثهم ، إلا في أنه كان قليلا بجنب الحياة الآخرة الخالدة ، وقد يصدقهم الله

١٠٣

تعالى في أصل القلة : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ويكذبهم في هذه التي زعموها من الزمن ، إذ يجيب عن زعمهم (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٥٦).

والقلة لمكث الدنيا هنا قلتان : ١ ـ القلة بجنب الآخرة من كافة الجهات غير التكليفية ، وقد صدقها الله تعالى تنديدا بمن كان يؤصّلها ويكثرها بنكران الآخرة ، أو أنها كمثل الدنيا : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٣ : ١١٧) ، فإن الحياة الدنيا مهما طالت وازدهرت فهي قليلة بجنب الحياة الخالدة.

٢ ـ وقلة يزعمها المتخلفون أننا ما أمهلنا في حياة التكليف إلا قليلا لا يكفي لأداء الواجب ، فهذا ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (١٧ : ٥٢).

وهم الذين يلتمسون من الله الرجوع إلى الدنيا لكي يعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملون ، كأن الوقت ما كان كافيا لما هم يأملون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٥ : ٣٧).

أجل وإن حياة التكليف كثيرة ـ مهما قلت ـ لمن أراد أن يتذكر ، إذ إنها ـ كلها ـ ذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد .. مهما كانت هي وحياة البرزخ قليلة بجنب الحياة الآخرة الخالدة.

ولبث البرزخ يحسب قليلا وهو صادق بما عاشوها من حياة أكثرها النوم ، وبما قاسوها إلى الآخرة ، وهو كاذب على ما حددوه من ساعة أو يوم أو بعض يوم أو عشر.

١٠٤

فأهل البرزخ أغلب أوقاتهم في غفوة ونوم إلى حيث سمي البرزخ مرقدا : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ..) (٣٦ : ٥٢) وإنما يقظتهم في الغدو والعشي (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٤٠ : ٤٦) (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١٩ : ٦٢).

.. فمن قائل من المجرمين أنه لبث ساعة من نهار ، ومن قائل : عشية أو ضحاها ، وكما يناسب يقظتهم ، وعلّ المسلمين أيضا يجيبون عن قدر مكثهم أنه أحد الجديدين : ليل أو نهار ، فإنهم ـ ومعهم غيرهم : «لا يتعارفون لليل صباحا ولا لنهار مساء ، أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا» (١) فإن ذهبوا في نهار لم يعرفوا له ليلا ، أو في ليل لم يعرفوا له نهارا .. لذلك يترددون في قدر مكثهم بين عشية أو ضحاها ، أو ساعة من نهار أو عشر ، لكن الصادقين في إيمانهم منهم ، الذين أوتوا العلم والإيمان ، إنهم لا يحددون موقف البرزخ بهذا وذاك ، وإنما مقالتهم (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٥٦) .. ولئن قالوا إنهم لبثوا قليلا فقد صدق الله مقالتهم : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً ..) (١٧ : ٥٢) ، فإنه ـ حقا ـ كان قليلا بجنب الحياة الآخرة ، ولأنهم كانوا في البرزخ رقادا نوّما إلا قليلا ، فهم ـ إذا ـ ينظرون إلى أصل القلة لا حدّها ، كما ويصدّق المجرمون أيضا في أصلها وقد يروى عن الرسول الأقدس في تفسير الآية قوله : «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، قال لأهل الجنة : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ،) قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي ، اسكنوا فيها خالدين مخلدين ، ثم يقول : يا أهل النار كم لبثتم

__________________

(١) عن علي أمير المؤمنين في نقل السيد الشريف الرضي في نهج البلاغة.

١٠٥

في الأرض عدد سنين ، قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي ، امكثوا فيها خالدين» (١).

(.. لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) إن هذه الحياة الدنيا التي يتنافس لأجلها المتنافسون ويتطاحنون ، والتي يرتكبون لأجلها ما يرتكبون ، إنها تنطوي في نفوس أصحابها فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها.

هذه القصيرة العاجلة ، والزهيدة الهزيلة التافهة ، أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة .. إنها الحماقة الكبرى ، لا يرتكبها ذو حجى.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٧ ، أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي عنه (ص).

١٠٦

سورة عبس ـ مكية ـ وآياتها اثنان وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ)(١٦)

عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) :

من هذا العبوس القمطرير؟

العبوس قطوب الوجه من ضيق الصدر لمن كان له صدر ، والقطوب المعمّق لسواه : (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (٧٦ : ١٠) وبنفس الإعتبار قيل العبس لما يبس على هلب الذنب من البعر والبول ، وعبس الوسخ على وجهه ، وقد وصف

١٠٧

الله ألدّ أعدائه المعارض لكتابه ، بالعبوس : (ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (٧٤ : ٢١ ـ)٢٦.

فمن هذا العبوس ، ضيّق الصدر ، القذر الخلق كالبعر اليابس والبول على هلب الذنب؟ والذي يعده الله صلي سقر لأنه عبس وبسر ثم أدبر واستكبر؟ ..

من هذا العبوس القمطرير الذي يعبس في وجه المؤمن الأعمى الضرير الفقير؟ في حين ينصدى لعميان القلوب من الكفار الأقذار الأشرار؟

من هذا الأحمق الذي يتلهى عمن يسعى إلى الحق وهو يخشى الله ، ويتصدى لمن استغنى عن الله ، وهو يسعى ليعيث الفساد في الأرض ويهلك الحرث والنسل.

من هذا الغبي البعيد البعيد الذي يردعه الله تعالى بهذا العنف عن فعلته السخيفة ويسوقه إلى التذكرة التي هي في صحف مكرّمة. مرفوعة مطهّرة. بأيدي سفرة. كرام بررة؟

هل يجرأ مسلم أن يتقول القولة الجاهلة الفاتكة : أنه الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ وهو على خلق عظيم! والعظيم عند الله إله العظمة ، فما للخلق العظيم أصبح كالأم اللئيم؟ فما لمن شرح الله صدره يضيق صدره لما شرحه الله به : يضيق لمن يستعلمه شيئا من القرآن ، أإكراما لألعن الخلق المحاربين للقرآن؟

إن نقلة الأخبار هنا أنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحاشاه ، لم يراعوا كيان الرسالة المحمدية حق رعايتها ولا شيئا منها ، أم جهلوا أو تجاهلوا مدى التنديد الشديد في هذه الآيات بشأن الذي عبس وتولى أن جاءه الأعمى ، وهم لم ينقلوها إلا عن الهوى ، ولم يسندوا فيها إلى ركن وثيق من كتاب أو سنة ، إلا نقلا عن هذا وذاك ، عن الذين لا تسمن أقوالهم ولا تغني من جوع.

١٠٨

في حين أن الرواية عن أهل بيت الرسالة المحمدية تكذّب هذه الوقيعة بشأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، تصديقا لطبع الرسالة القدسية ، وللقرآن هنا وفي سواها من آيات.

فعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قوله : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال : جاء ومرحبا مرحبا ، والله لا يعاتبني الله فيك أبدا وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي مما يفعل» (١).

فالرسول الأقدس يقسم بالله أنه ليس هو المعاتب بشأن الأعمى ، ثم حفيده الصادق عليه السّلام يقول : «إنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه ابن أم مكتوم ، فلما جاءه تقذر منه وعبس في وجهه وجمع نفسه وأعرض بوجهه عنه» (٢).

وفي نقل آخر عنه عليه السّلام : «نزلت في عثمان وابن أم مكتوم ، وكان ابن أم مكتوم مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أعمى فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أصحابه وعثمان عنده فقدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عثمان ، فعبس عثمان في وجهه وتولى عنه» (٣).

إذا فلا يعبأ بما يتقوّل أو ينقل أنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٤) ، إذ يتنافى والكيان

__________________

(١) البرهان ٤ : ٤٢٨ ـ ٢ ، الطبرسي عنه (ع).

(٢) البرهان ٤ : ٤٢٨ ـ ١ ، الطبرسي عنه (ع).

(٣) البرهان ٤ : ٤٢٧ ـ ١ ، علي بن ابراهيم عنه (ع).

(٤) كما في الدر المنثور ٦ : ٣١٤ ـ ٣١٥ ، وليس شيء منها عن المعصوم ، وحاصلها بإلقاء المكررات «أن النبي (ص) كان عنده رجل أو رجال من عظماء المشركين يدعوهم إلى الإسلام فجاء ابن ام مكتوم ـ وهو مؤذن الرسول ـ يسترشده ويستقرئه شيئا من القرآن قائلا : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، فأعرض عنه وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه وأقبل على الآخرين ، فلما قضى رسول الله (ص) نجواه وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره ثم خفق برأسه ثم أنزل الله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) عن عائشة وأنس وأبي مالك والحكم وابن زيد وابن عباس».

١٠٩

الرسالي ، والقرآن الحاكي عن كيان الرسول وخلقه العظيم ، والآيات في هذه السورة نفسها.

فالآيتان الأوليان تنقلان العبوس والتولي عن غائب : «عبس ـ تولى ـ جاءه» ، والقرآن موجّه بالذات إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو المخاطب في آياته الكريمة لا سواه ، إلا بدليل قاطع ، وفيما إذا خوطب غيره ، فإنما هو بواسطته ، إذ إنّ وحي القرآن ليس إلا إليه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٢٦ : ١٩٤ ـ ١٩٥).

لا يقول : عبست وتوليت أن جاءك الأعمى ، وإنما (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فمن هذا الذي يشكو إليه الله تعالى عنه ، هل هو غير من يوحي إليه بالقرآن؟ وإذ كان هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فهل يشكو إليه عن نفسه المقدسة شكاة منه إليه؟

ثم نرى هنا التفاتا من الغيبة إلى الحضور ، فالمخاطب ثانيا هو الغائب أولا ، وليست الغيبة في البداية إلا لأنّ العابس هو البعيد البعيد ، لا يستحق الخطاب لبعده بعبوسه عن ساحة القرب ، يشكوه ربه إلى نبيه ، ثم يخاطبه بعناد وعتاب قاس : (وَما يُدْرِيكَ ..)؟ إضافة إلى نسبته إلى الكفر أو الكفران : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) ولم يسبق هنا من الكفران إلا العبوس والتولي.

ومن وجهة النظرة العامة إلى القرآن فيما يعرّف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو يكلّفه ، نرى من المستحيل أن يكون العابس هو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : فقد سبقت آية العبس

__________________

ـ والاعتذار مما يظنونه من عبس النبي (ص) أنه (ص) كان مستخليا بصنديد من صناديد قريش وهو يدعوه إلى الله وهو يرجو أن يسلم إذ أقبل ابن أم مكتوم ، فلما رآه النبي (ص) كره مجيئه وقال في نفسه : يقول هذا القرشي إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فعبس فنزل الوحي ، كما عن مجاهد.

هذا الاعتذار يتنافى والقرآن القائل : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) إذ لو رجا إيمانه لكان مكلفا بالتصدي له ، ويتنافى وخلق الرسول من إكرامه للمؤمنين ، فليضرب بهذه الأخبار عرض الجدار.

١١٠

آية الخلق العظيم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٦٨ : ٤) ولزمته آية خفض الجناح للمؤمنين : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (١٥ : ٨٨ ـ ٨٩) أفتحسب الرسول يترك أمر الله وهو (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٤٣ : ٨١) ويترك الخلق العظيم ، تكذيبا لما قرره رب العالمين : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، كل ذلك تصديا وإكراما للطغاة اللئام المستغنين ، فيعبس في وجه مؤذّنه الفقير الضرير لأنه استقرأه آيا من الذكر الحكيم ، فيتولى عنه توليا عما أمر أن يعيشه طوال حياته المنيرة؟ (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)!

إن العبوس لم يكن من شيم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين ، وقد أمر أن يصبر نفسه معهم : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (١٨ : ٢٨).

وألا يطردهم : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٦ : ٥٢).

وأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ٢١٥).

وألا يكون فظا غليظ القلب : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (٣ : ١٥٩).

وأن يعرض عن المشركين : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (١٥ : ٩٤ ـ ٩٥).

هذه وما إليها من أوامر وتعليمات ربانية ، وإنها من أوليات الشروط الرسالية من بدايتها ، أفهل يتركها الرسول فيعامل مؤذنه الضرير الفقير بهذه الفظاظة والغلظة فيطرده فيكون من الظالمين التاركين لأوليات شروط الدعوة؟

١١١

أمن العقل والعدل أن يهتك الرسول العظيم صلّى الله عليه وآله وسلّم ويفتك به هكذا ذودا عن فرع من فروع الشجرة الملعونة في القرآن : وكما نراه كثيرا (١)؟ وليس اختلاق هذه الروايات إلا من التعصب الأعمى واللامبالاة بالدين وعدم الاكتراث بشأن الرسول الكريم ، الذي كان يجابه من يهينه بكل لين واحترام ، فكيف يواجه هذا المؤمن بكل شقوة واخترام؟ فهل لأنه سأله عن شيء من القرآن ، أو لأنه لا يملك من زخارف الحياة شيئا؟! أو لمجرد أنه جاءه كما الآية تشير : (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) لا «أن كلمه» فاستنكر مجيئه وقال في نفسه : يقول هذا القرشي إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد فعبس فنزل الوحي كما عن مجاهد! وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يمارس طوال حياته ورسالته عشرة الفقراء المؤمنين كما أمره الله ، وبطبعه الرسالي! ..

(عَبَسَ وَتَوَلَّى) : عثمان الأموي الارستقراطي الفخور (أَنْ جاءَهُ

__________________

(١) في كتابنا «علي والحاكمون» تجد الكثير من هذه الاختلاقات في تفضيل الخلفاء الثلاثة على الرسول الأقدس (ص) نرويها عن مسانيد إخواننا السنة :

ففي نزهة المجالس أن اسم أبي بكر نقش على خاتم النبي بخط الله تعالى.

وعن انس بن مالك كان أبو بكر شيخا يعرف والنبي شاب لا يعرف.

هذه وأمثالها تفصيلا لأبي بكر على النبي (ص) قبل النبوة وبعدها ، فيا لها من فضيحة فاتكة هائكة! ثم نرى الخليفة عمر لا يحب الباطل والله والنبي يحبان الباطل!

فعن الأسود بن سريع قال : أتيت النبي (ص) فقلت : قد حمدت ربي بمحامد ومدح وإياك ، فقال : إن ربك يحب الحمد فجعلت أنشده فاستأذن رجل طويل أصلع فقال لي رسول الله (ص): اسكت ، فدخل فتكلم ساعة ثم خرج فأنشدته ثم جاء فسكتني النبي (ص) فتكلم ثم خرج ففعل مرتين أو ثلاثا ، فقلت : يا رسول الله من هذا الذي أسكتني له ، فقال : هذا عمر لا يحب الباطل.

نرى أمثال هذه المختلقات الزور بين الروآيات عن عالم من الجهل وسوء الأدب ، ومنها ما وردت في أن العبوس هو الرسول دون عثمان! حفاظا على عثمان الأموي وإزراء بالرسول الألمعي (ص)! فيا له مراما ما أبعده وزورا ما أغفله!

١١٢

الْأَعْمى) .. جاءه ابن أم مكتوم مؤذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك المؤمن الهرم الفقير الضرير ، جاءه بأمر النبي ليحلّ محله ويجلس مجلسه إذ قدّمه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على عثمان في مجلسه :

فقد جاء النبيّ ليستقرأه آيا من الذكر الحكيم ، وعنده صناديد قريش وإلى جانبه عثمان ، فأكرمه النبي وأجلسه بجانبه وأخّر عثمان ، فضاق صدره منه وعبس في وجهه وتولى عنه وتقذر وجمع نفسه عنه ، سخطا على عماه وفقره ، وردا على حكم الله ورسوله ، فنزلت الآيات بالتنديد الشديد على عثمان ، وردعته أخيرا عن فعلته المشئومة ارجاعا إلى تذكرة : في صحف مكرمة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة ، والرسول الأقدس من أكرم السفرة والبررة ، وقد حدث ما حدث بمحضره الشريف .. لذلك نرى الآيات تقتل عثمان بعد ما تندد به : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ..).

هكذا يبدأ الرسول دعوته ورسالته ، وبكلمة جامعة لا محيص عنها : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فلا موضع ـ هنا ـ للأمجاد العائلية ، والفخفخات المالية ، والطنطنات القومية ، والادعاءات الجوفاء ، ففي حين نرى سورة فذة تلعن أبا لهب عم النبي وهو من أعرق قريش ، نجد سلمان الفارسي يحتل من الكرامة ما يغبطه بها العالمون : «سلمان من أهل البيت» «لا تقولوا سلمان الفارسي بل قولوا سلمان المحمدي».

ولذلك نراه صلّى الله عليه وآله وسلّم يكرم عبد الله ابن أم مكتوم ـ بعد ما هتكه عثمان ـ أكثر مما كان يكرمه قبله : «فلما نزلت الآية دعاه فأكرمه واستخلفه على المدينة مرتين» (١) ، «وكانت عائشة تكرمه بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم : تقطع له الأترج وتطعمه إياه بالعسل» (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١٥ ، أخرجه ابن سعد وابن المنذر عن الضحاك.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣١٥ ، أخرجه الحاكم وصححه وابن مردوية في شعب الايمان عن مسروق.

١١٣

كل ذلك إكراما لمن أهانه ابن عفان وإعلانا لمهانة عثمان جبرانا للمهان.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) :

ما يدريك أيها الأعمى القلب ، لعل هذا الأعمى العين يتزكى أكثر مما تتزكى ، بما يستقرئه ويستعلمه النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم أو ـ على الأقل ـ يتذكر بما يذكّره النبي فتنفعه ذكراه في أن يتزكى بها ، يتزكى معرفيا ثم عمليا ، فما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكثير ، أن يتطهر هذا الرجل الضرير الفقير الذي جاء الرسول راغبا فيما عنده من الخير الغزير!

ما يدريك أن يشرق هذا القلب المنير بما هو أنور بقبس من نور الله ، فيزداد نورا على نور فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ .. أفهكذا تواجه المؤمن الفقير؟!

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) :

هنا تعلو نبرة الخطاب وتشتد لهجة العتاب أن كيف تقتسم هكذا قسمة ضيزى بين من استغنى ولا يزّكّى ومن جاءك يسعى وهو يخشى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٩٦ : ٦ ـ ٧) فهؤلاء الطواغيت المستغنون المتأنفون المتعنتون الذين (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢ : ٦) الذين لا يتزكون وليسوا بصدد التحري عن الهدى .. فهؤلاء الحمقاء الطواغيت أنت لهم تتصدى! إن التصدي

أن يقابل الشيء مقابلة الصدى ، أي الصوت ، الراجع من الجبل. (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) : تتصوت له كالبوق وكأنه إله يعبد .. إنه يستغني عن شرعة الله ويطغى ، ثم أنت له ولتبجيله تتصوت وتتعربد .. ليس إلا لأنك من زمرتهم دون استحياء من النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم.

١١٤

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) : ما كلّفت أنت بتزكيته ، إذ لست رسولا ، ولو كنته فإذ هو لا يتزكى فسواء إنذاره وعدم إنذاره ، فليس هذا التصدي الباطل يبرره رجاء أن يتزكى ، فليس عليك بأس ألا يتزكى ، لا سيما إذا كان التصدي له بقيمة إبطال قيم الإيمان والعبس في وجه المجرب الصامد في الإيمان. أو ماذا عليك ألا يتزكى؟ ماذا يضرك بعد ألّا يهتدي رغم المحاولات في هدايته ، في حين أن العبس في وجه المؤمن هو عليك وعلى كرامة الإيمان! أو : لا يهمك انه ليس بصدد التزكي ، وإنما تهمك الظواهر المغرية! (١).

فهذه حالتك الإيجابية وجاه الطغاة الذين لا يرجى خيرهم وهواهم ، ثم سلبيتك لمن يسعى وهو يخشى.

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) :

من جاءك ساعيا إلى رسول الهدى ، جاءك ليجلس مجلسك بمقربة من الرسول ، يسعى إلى الخير ليستزيد منه ، إلى منار الهدى ليستنير منه ، وإلى مدينة العلم ليستعلمه ويستقرئه.

جاء يسعى ، مسرعا في مشيه رغم عماه ، ومتسرعا إلى الاستزادة ابتغاء كل الفرص ، مطبقا أمر الله في سعيه وسرعته : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) (٣ : ١٣٣).

من جاء بهذا النمط اللطيف (وَهُوَ يَخْشى) : يخشى الوقوع على الأرض لعماه وسرعته في سعيه ، ويخشى الكفار أن يخدعوه أو يغتالوه ، ولكنه لا يبالي كل ذلك لأنه يخشى الله ، دون كبرياء واستغناء ودون أنفة ورياء ، وإنما يسعى إلى

__________________

(١) هذه احتمالات ثلاث في «ما» * أن تكون نافية أو استفهامية ، وعلى الأول أن تكون أخبارية أو تنديدية أنه لا تفرق عندك تزكيته وعدمها.

١١٥

الرسول ، ويقترب إليه منحيا إياك يا عثمان! بأمر الرسول ، يسعى بدافع الخشية و : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٣٥ : ٢٨) والقرآن تذكرة لمن يخشى دون من يطغى : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢٠ : ٣ ـ ٥) (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) (٨٧ : ١٠).

(فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) : أنت الذي تتصدى وتهتم بمن يطغى ولا يزكى ، أنت تلهى عمن يسعى ويخشى ويزكى ، تلهّى عنه عابسا في وجهه موليا عنه إلى الطواغيت ، أفعبسا في وجه الإيمان وتلهيا عنه إلى وجه الطغيان؟

هنا نسأل ذوي الضمائر الصافية ، هل من المحتمل ـ إذا ـ أن يكون العابس المولي وجهه عن الأعمى ، اللاهي عنه إلى الطواغيت ، المتصدي لهم ولا يرجى إيمانهم ، أنه الرسول الذي هو خير العابدين وهو على خلق عظيم؟! فبذلك تتهدم دعائم رسالته وأساس دعوته.

كلا ـ إنه من أرذل الناس وأسوأهم أدبا وأجهلهم بالأدب الإسلامي والإنساني ، إنه فرع من الشجرة الملعونة في القرآن.

«كلا» * : ليس هذا هو الأدب ، ليست هذه هي الشيمة الإسلامية ، ليس الإسلام بالذي يقرّك على هذه الحالة الرديئة ، وليس الرسول بالذي يسكت عن التذكرة ، وليس بالذي يقدمك على الأعمى ولى في مجلسك ..

«كلا» * : بعدا لخلقك اللئيم ، البعيد البعيد عما جاءت به الصحف المكرمة بأيدي سفرة ، كرام بررة.

إنّ عليك أن ترجع إلى رسالة السماء ، إلى كتب السماء ، إلى الكرام البررة ، لتخرج من هذه اللئامة ، لتخرجك من الظلمات إلى النور ، إلى صراط العزيز الحميد.

«كلا» * لا يكون هذا هو النبي البار الكريم ، وعلى حد قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «والله لا يعاتبني الله فيك أبدا» ..

١١٦

«كلا» * فإنه تذكرة للغافلين ، وتنبيه للجاهلين.

(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) :

«كلا ..» * إنها تذكرة رسالات السماء ، بأيدي سفراء السماء رجالات الوحي ، يقدمهم الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ميثاقا ووثاقا ، وهو آخرهم مبعثا.

هذه الدعوة المقدسة مكرمة مطهرة ، مستغنية عن كل أحد وعن كل سند ، وإنما هي لمن يريدها لأنها دعوة السماء ، ولأنها كريمة في كل اعتبار ، عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين ، ولا يتلهى بها عن المؤمنين.

(إِنَّها تَذْكِرَةٌ) : آي الذكر الحكيم هي تذكرة لمن ألقى السمع وهو شهيد.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) : ذكر ما تذكّره به الآيات (١) تذكرة حاصلها الذكر لمن شاء أن يتذكر .. تذكرة لما سجله الله تعالى في كتاب الفطرة والعقل ، فإنها لا تجانب الفطر والعقول ، وليست جديدة لا صلة لها بأعماق ذواتنا وما تتطلبه حيوياتنا ، وإنما كيانها أن تذكّرنا بما غفلنا عنه واستغفلناه ، بما ران على قلوبنا ، وستر على عقولنا «إنارة العقل مكسوف بطوع الهوى».

فمن الآيات ما تعرفها عقولنا إذ تتذكر بها ما نسيته ، ومنها ما لا تنكرها لأنها لا تنافيها ، فالكل ـ إذا ـ تذكرة.

(إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) :

__________________

(١) ضمير المذكر في «ذكره» * لا يرجع إلى «تذكرة» * فإن الذاكر لا يذكر التذكرة وإنما يتذكر به أمرا آخر كان عنه غافلا ، ف (ه) يرجع إلى حاصل التذكرة وهو الأمر الآخر ، ذكره : أي ما تذكره التذكرة.

١١٧

الصحيفة هي المبسوط من الشيء دون خفاء وخباء ، وإنها صحف القرآن في القرآن وفي صحف النبيين أجمعين ، فإن القرآن يحمل الوحي الصادق النازل عليهم من قبل ، وفيه زيادات خالدة ، وأنه بينة ما في الصحف الأولى : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (٢٠ : ١٣٣) أتتهم في خاتمة الوحي ، في القرآن.

وإنها مكرمة عند الله وعند ملائكة الله ورسل الله ولمن ألقى السمع وهو شهيد ، مكرمة عند من يكرم عقله وضميره ويهدف إكرام نفسه في الحياة.

وهي مرفوعة عن وحي الأرض ، فإنها وحي السماء ، مترفعة عن تدخل الأرض وتحريفها ، مرفوعة عن أن تنالها أيدي الدس والتحريف والنسخ والتزييف.

وهي مطهرة من قذارة الباطل ولغو القول والريبة والتناقض : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢) (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (٨٦ : ١٤) (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤ : ٨٢).

وجماع القول في تلكم الصحف أنها لا ينقصها شيء من الكمال والجلال والبهاء والجمال ، فهي الحجة البالغة الدامغة على من تصله ، هذه ذاته وطبيعته اللمّاعة.

ثم نرى وسائطها الملائكية والبشرية أنهم كرام بررة ، لا يزيدونها إلا جلاء ونورا وبهورا.

(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) : سفرة ربانيون مرسلون ، سماويون وأرضيون ، أرسلهم الله تعالى للبلاغ : من جبريل أمين الوحي وملائكته الأعوان ، إذ ينزل بها على قلب الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتمة الوحي وأفضله : (نَزَلَ

١١٨

بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٢٦ : ١٩٤) (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٨١ : ٢١).

وإذ يوحي ملائكته الأعوان معه إلى سائر النبيين ما نجده خالصا موجزا خالدا في الذكر الحكيم ..

وأنهم سفرة : مرسلون سافرون ، دائمو الحركة في البلاغ ، بوجوه سافرة : بشّاشة ، وصدور سافرة ، وقلوب سافرة ، وألسنة ناطقة بالحق سافرة ، كيانهم السفور في الحق لا يختبون عن أمر أمروا ببلاغه ، يعيشون حياتهم السفارة الإلهية كما الله أراد.

فالسفارة هي الكشف والحركة والتنقل بالكشف ، فهم يكشفون الستر عن الحقائق بما أوحي إليهم ، ويتنقلون مناكب الأرض لتحقيق هذه السفارة الإلهية ، جماعة كشافة وهم كرام بررة (١).

إنهم كرام بررة في رسالاتهم وبلاغاتهم ، وليسوا لئاما خبثاء ، وأكرمهم وأبرّهم في بلاغ الوحي هو الرسول الألمعي الأبطحي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كما الأكرم في الملائكة هو جبرائيل ومن فوقهم الروح زعيمهم العظيم.

فلينح نحوهم ونحوه في مواجهة المؤمنين أمثال ذلك العابس المتولي اللئيم ليخرج عن عبوسه ولؤمه تخلقا بخلقه العظيم ، وليذّكّر بذكراهم المستغنون الكافرون.

__________________

(١) وقد يقال أن السفرة من السافرة بمعنى الكتبة ولكنه بعيد إذ أن الكتبة هنا أماهم كتبة الأعمال الكرام الكاتبون ـ ولا يناسب المقام من عدة جهات ـ أو أنهم كتبة الوحي فليسوا هم الملائكة ولا النبيون ، والكتبة غير المعصومين ليست لهم تلك الأهمية البالغة التي تخصهم بالذكر دون المرسلين.

وقد يحتمل أن السفرة بمعنى المصلحين ، ولا بأس أن يعنى مع المعنى الظاهر ، المرسلين. فإنهم هم المصلحون الكرام البررة.

١١٩

فهذه هي الرحلة الثانية في توجيه ابن عفان العابس ومن تصدى هوله ، من الطواغيت ، بعد تأنيبه أولا ، توجيها له إلى الصحف المكرمة بأيدي سفرة وأكرمهم هو الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أساء الأدب بمحضره الشريف.

ثم تأنيب ثالث يقتله وأمثاله بالكفران ونسيان نعم الرب المنان ، ويقتل من استغنى ولا يتزكى.

* * *

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢٣)

.. (قُتِلَ الْإِنْسانُ) : إخبار أنه مقتول هواه وغبائه ، قتلته نفسه الأمارة بالسوء ، قتلت روحه وضميره وقلبه ، فالمثل العليا فيه مقتولة ميتة مقبورة ، ومثل الحيونة والطغيان فيه حية ماثلة ، وكما عرفناه من ابن عفان ، وأحرى منه في من استغنى ولا يريد أن يزكى ، تنديدا بالمتصدي والمتصدّى له ، كل على حدّه.

هذه هي اللعنة التي يستجرها الإنسان إلى نفسه بأخلاقه وأعماله الملعونة ، وعلى حد تفسير الإمام عليه السّلام : «لعن الإنسان» (١).

أجل إنه إخبار من الله بهذه اللعنة ، وليس دعاء وكيف يدعو الله! اللهم إلا عن ألسنة السفرة الكرام البررة يدعون لهكذا إنسان بالقتل ، أن يقتله الله ختما على قلبه ويزيغه (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٠ ح ١٠ في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين علي (ع).

١٢٠