الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

شيئا : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠ : ١٦) .. إنما هي من وحي السماء ، سبحان الخلاق العظيم!

النوم في منطق العلم والحديث :

من مقالات الإمام جعفر الصادق عليه السّلام حول المنام : «ما من حي إلا وهو ينام خلا الله وحده عز وجل» (١) .. هذا ـ والواقع العلمي والكوني يبرهنان على الضرورة الحيوية إلى النوم لكل حي : نبات وحيوان وإنسان :

«إن ظاهرة النوم في الكائن النباتي تظهر ـ على الأكثر ـ في اختلاف حالة التنفس وتصاعد الدبوس النباتية ، فهي تعاكس عملية التنفس بين الليل والنهار ، ففي النهار تأخذ الكربون وتدفع الأوكسجين ، وفي الليل تأخذ الأوكسجين وتدفع الكربون ، ولذلك نراها تصعد دبوسها في الليل أكثر مما في النهار ـ

وفي البعض من النباتات نرى حالة تشبه حالة الحيوان ، كوردة الأبريسم وأقاقيا ، فإنهما تجمعان أوراقهما ليلا» (٢).

«ثم نرى في الكائن الحيواني أن حالتي النوم واليقظة لزام له دون استثناء ، وكلما تكامل مخ الحيوان نرى الاختلاف بين حالتيه أكثر ، والنظم فيهما أظهر.

ولقد دلت الفحوص حول مختلف الحيوان أن لوضح النهار وظلم الليل ـ على الأكثر ـ تأثيرا عميقا في نومها ويقظتها.

فقد نرى الطير تأخذ في دورها الفعال منذ إشراق الشمس ، وتلجأ إلى أكنانها عند غروبها .. وأثبتت التجربة أن النور الشديد في ظلم الليل يجعل الطير تأخذ في دور النهار.

__________________

(١) سفينة البحار ٢ ص ٥٤٧.

(٢) النوم والرؤيا ص ١٥.

٢١

ثم نرى فريقا آخر من الحيوان أن نومها لا يناط بالليل ، فتجعل الليل نهارا والنهار ليلا كالعكس ، دون تمييز بينهما للنوم والعمل.

ثم نرى ثالثا تعكس الأمر تماما فتجعل النهار ليلا فتأخذ كلا كعكسه كالخفاش»: ـ

«فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها ، وجاعلة الليل سراجا تستدل به في التماس أرزاقها ، فسبحان من جعل الليل لها نهارا ومعاشا والنهار سكنا وقرارا» (١).

ثم نرى البعض من الحشرات أنها لا تعرف النوم طوال أشغالها الطويلة الزمن كالنمل ، فهي تدور في تهيئة أرزاقها في غير الشتاء ، ثم تستريح وتنام في الشتاء.

هذا «ولكن الإنسان لا يستطيع الإدمان في الشغل وترك النوم لأكثر من عشرة أيام ، ثم الموت قطعا» (٢).

وعلى أية حال لا تجد حيا في الكون إلا وهو بحاجة ملحة إلى النوم ، مهما اختلفت أوقاته ومقاديره ، ومن ثم نرى القرآن يمن فيما يمنّ على الإنسان بجعل النوم سباتا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٧ : ٨٦) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة : ١٥.

(٢) النوم والإنامة ـ أو ـ هيبنوتيزم ص ١٢.

٢٢

وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٢٥ : ٤٧) (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) (٤٠ : ٦١).

توحي لنا هذه الآيات البينات أن الليل لصالح الراحة والمنام ، والنهار لصالح الإبصار فالنشور لابتغاء فضل الله ورحمته ، وهذا هو الأصل الأول في قرار الليل والنهار ، وإن كان للإنسان أن يلفق بينهما ويعكسهما : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٣٠ : ٢٣) (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٨ : ٧٣).

وهذا جعل ثان ينوب عن الأول شيئا ما عند الحاجة ، وفيما لزم عكس الأمر ، وإن كان الالتزام بالأول أحرى وأصلح لراحة الإنسان ، وهذه الحرية في تبديل وقت المنام للإنسان هي في عداد فضائله على سائر الحيوان الملزمة خلقيا بأوقات خاصة لا تتبدل.

ترى في الآيات الأولى فكاكا بين الليل والنهار للنوم والشغل ، حينما الآيات الأخيرة تجمع بينهما للأمرين ، لكيلا يظن أن في نوم النهار وشغل الليل محظورا ، بعد ما نعلم أفضلية المنام في الليل والشغل في النهار ، والواقع الملموس يشهد أن قليل النوم في الليل أريح بكثير من كثير النوم بالنهار ، وأن نوم النهار يأتي بالكسل والفشل.

الليل اللباس والنهار المعاش :

اللباس ما يلبس الإنسان ويستره ، ستر الجسد للجسد كلباسه من عورته او الروح من طغواها كتقواها : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) (٧ : ٢٦) وسترا له عما يصطدمه من حر أو برد أو بأس دون ذلك : (وَجَعَلَ لَكُمْ ... سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) (١٦ : ٨١) ، أو سترا للروح من طغيانها وتخلّفها عن شريعة الله : «يا بني*

٢٣

آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٧ : ٢٦).

ومما يقي الإنسان لباس الجنس : لباس النساء للرجال والرجال للنساء : (.. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ..) (٢ : ١٨٧) يلبس البعض البعض من حملة الجنس الشاذة ، ومن حيرة الحياة ووحدتها.

أو سترا للإنسان روحيا وجسديا عن عبء الأشغال ، وسباتا عن حراب الحياة في محراب المعاركات وهذا الأخير هو لباس الليل ينير بظلمه على الإنسان درب الحياة جديدة ، هدنة للروح والجسد من صراع الحياة العنيف ، لباس هدنة تلم بلابسه فيلقي سلاحه وجنته ويستسلم لفترة السلام الآمن ، الذي يحتاجه الإنسان تبقية وتنشيطا لحياته .. فهذا هو الليل اللباس : لباس على الإنسان كما هو لباس على النهار وكما النهار لباس الليل : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٦ : ٣٨) سلخ لباس النهار عن الجو ، وإلباس الجو لباس الليل ، وكما هو لباس على لباس النساء في ضجعة الجنس : «يلايل الرجال من النساء» (١).

ثم النهار هو معاش : زمن العيش التمام حيث اليقظة التامة ، وزمن المعيشة وتحصيلها رغدا (٢).

والليل اللباس والنهار المعاش آيتان لنبإ التوحيد والمعاد : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٤٩٢ ج ١٤ عن علل الشرايع باسناده إلى عبد الله بن يزيد بن سلام أنه سئل رسول الله (ص) فقال : أخبرني لم سمي الليل ليلا؟ قال (ص) : لأنه يلايل الرجال من النساء ، جعله الله عز وجل ألفة ولباسا ، وذلك قول الله عز وجل (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) ، قال : صدقت يا محمد! ..

(٢) المعاش : هو المعيش ، مصدر ميمي واسم زمان ومكان ، فهو كما في المتن : زمن العيش واقعيا وتحصيلا لوسائل العيش ، وهو نفس العيش.

٢٤

وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (١٧ : ١٢) ليل الموت كما هو للنوم «فالنوم أخ الموت» ونهار النشور كما هو للحياة التمام ، فهما آيتان دائبتان للحياة بعد الموت كما اليقظة بعد النوم.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) :

.. سبع شداد هي السماوات والأجواء السبعة ، وأقربها إلينا هي السماء الدنيا ، سماء الكواكب.

لقد بنيت هذه السبع الشداد من الدخان الصاعد من الماء المضطرم : المادة الاولية لخلق الكون أجمع ، إذ فجّرها ربها وأضرمها فصعد منها دخان هي مادة السماء والسماوات السبع ، وأزبدت زبدا هي مادة الأرض والأرضين السبع (١).

فمم بني السبع؟ وما هو السبع؟ وما هو الشداد؟

إنها بنيت من الدخان الصاعد من اضطرام المادة الأولية لخلق الكون : «الماء» (٢) :

(.. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا

__________________

(١) البحث الفصل حول خلق السماوات السبع والأرضين السبع محول إلى مجالها الأنسب فالأنسب كالآيات من «فصلت» * و «النازعات» وأمثالها ، وهنا نشير شيئا ما الى بناء السماوات وشدادها من دخانها.

(٢) لا نعني الماء المعروف عندنا فإنه أيضا مخلوق من مادة أولية ، إنما هو تعبير عن كيان تلك المادة وأنها مسانخة الأجزاء وكأبسط تركيب من كائنات العالم ، والبحث الفصل تجده في سورة هود عند قوله تعالى : .. وكان عرشه على الماء ، وشاهدا على ذلك ـ إضافة إلى الواقع الملموس ـ روآيات عدة عن مصادر الوحي :

منها ما رواه الكليني عن محمد بن مسلم قال : قال لي أبو جعفر (ع) كان كل شيء ماء وكان عرشه على الماء فأمر الله تعالى الماء فاضطرم نارا ثم أمر النار فخمدت فارتفع من خمودها دخان فخلق السماوات من ذلك الدخان وخلق الأرض من الرماد» .. وفي آخر عنه (ع): «فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إلى شيء» ، ومعلوم أن ماءنا المشروب ، له نسب هما ذرتا الهيدروجين والأوكسجين ، وهما أبواه.

٢٥

طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١١ ـ ١٢).

والدخان هو المستصحب للهيّب ، وليس للماء المغلي لهيب ، وإنما هو لما يصعد من احتراقه نار ملتهبة ، من حطب وفحم حجري وبترول .. ومن الذرات وفوق الذرات المتفجرة ، وقد يصل الالتهاب إلى ٧٠ مليون درجة كمركز الشمس الذي لا يبقى فيه أي تركب جسماني إلا ما يحافظ على كيان المادة لحدّ مّا ، ولذلك فإن مركز الشمس لا يحمل إلا الئيدروجينات التي هي أبسط الذرات فيما نعرف.

وهناك غازات لها ٢٨٠ مليون درجة من الحرارة كمركز الشعرى ، وإنها بعيدة عنا ٠٠٠ ، ٥٠٠ أضعاف بعد الشمس ، ولو كانت على بعد الشمس لكانت درجة الحرارة في كوكبنا الأرضي ٤٠ ضعف الآن.

وهناك غازات لم يعرفها العلم حتى الآن ، وكل هذه الحرارات والغازات هي ولائد الغاز (الدخان) الأول ، الناتج عن التفجّر الأول للمادة الأولية ، وهي أم الكائنات.

إنها تفجرت فأولدت دخانا ساطعا إلى الجو العالي ، وأزبدت زبدا ربّتها عندها ، ثم الولد المتخلف الفرار ظل دخانا إلى أن قضاه الله سبع سماوات.

ثم من هذا الدخان خلقت السبع الشداد ، أجواء سبعة متداخلة : (.. الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ..) (٦٧ : ٣) أدناها إلينا سماء الأنجم : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٣٧ : ١٠) (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) (٦٧ : ٥).

٢٦

أجل إنها : السماء الدنيا ، لا سماء الدنيا ، إنما السماء الموصوفة بأنها الدنيا : أدنى السماوات السبع إلينا ، وكرتنا الأرضية هي من أصغر كواكب السماء الدنيا إذا فليست السبع عددا دون مفهوم (١) ولا عددا للأجواء السبعة للسيارات السبع (٢) فإنها مع المليارات من المجرات الحاملة للكواكب ، هي كلها في السماء الدنيا ، ثم لا ندري ما هو في الست الباقية.

وإنها شداد ، فالسماء هنا لا تعني الفضاء والجو الخالي ، او بما فيه من كواكب بل هي جو يحمل أجراما غازية ـ خفيفة وثقيلة ـ من النوع الذي خلقت منه الكواكب ،

وكما عرفنا من الآيات في «فصلت»: أن السماوات السبع ـ والكواكب في دنياها ، إنها كلها ـ خلقت من الدخان الأمّ : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١١ ـ ١٢).

وكما القرآن يوحي أن المملكة السماوية في توسع دائم في بلادها : «الكواكب» * (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٥١ : ٤٧) : لموسعون بناءها بما فيها من كواكب وأنجم وبروج ، من الدخان الأمّ.

تسمع لفظة الدخان وعلك تظنه غازا رقيقا ، رغم أن اللهيب الذي يستصحب الدخان ليس نوعا واحدا كلهيب الحطب ، فقد يكون لهيب التفجرات الذرية وما فوقها ، يتبعها في الثقل والخفة ، فكل ذرة تتحمل حرارة أكثر ـ دون أن تتجزأ ـ فثقلها أكثر ، فإذ قد نرى أن الحديد يذوب ويتجزأ في

__________________

(١) كما يصر به ويكرره الشيخ الطنطاوي دون تفكير في الآيات المعنية.

(٢) وكما يقوله السيد هبة الدين الشهرستاني في كتابه الهيئة والإسلام ، وتجد البحث الفصل في طيات التفسير عند الأنسب من الآيات فالأنسب ، وهنا آيات تسع تصرح بعدد السبع ولا مبرر في تأويلها إلا الجهل.

٢٧

ألف درجة ، فليكن الغاز الموجود في مركز الشمس ٠٠٠ ، ٧٠ ضعف الحديد ثقلا وصلابة ، والموجود في مركز الشعرى ٠٠٠ ، ٢٨٠ ضعفه ، ثم لدينا مزيد.

أجل : إن هذه السبع شداد كأشد ما يتصور : شداد في البناء كأتقن البناء ، لا تنفطر إلا بمفطّر إلهي ، شداد في الصلابة وإن لم تكن في كل جوانبها ، شداد بأبوابها فلا تفتح إلا بفاتح إلهي : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) (٧٨ : ١٩) (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (٥٤ : ١١).

سبع شداد نرى من شدة الأولى منها أن علقت فيها بليارات البليارات من قناديل الكواكب ، ودون أن تؤثر في سقفها فتورا وفطورا ، فهي معلقة بعمد لا ترى : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١٣ : ٢) «فثم عمد ولكن لا ترونها» (١).

نرى سيارات الكواكب في أفلاكها وراقصاتها في مراقصها ، لا تنزلق عن مداراتها .. فيا لها من عمد تدعمها ، ويا لهذا السقف الرفيع المحفوظ من صلابة واستقامة!

إنها سبع شداد ، متينة التكوين ، قوية البناء ، خارقة البنّاء ، بقوة تمنعها من التفكك والانثناء.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ) وبما أن «كم» * تعني كافة سكنة الأرض ، فلزامه كون السبع الشداد أيضا فوق الكل ، وهنا إيحاء لطيف إلى كروية الأرض ومعها السماوات ، فالسماء الدنيا فوق الأرض كلها ، ثم مقتضي طباق السماوات كون الباقيات كمثلها سواء.

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) :

شمسنا التي نستضيء بها ونتدفأ ، هي سراجنا الوهاج ، بين الملائين من السرج الوهاجة في المملكة السماوية.

__________________

(١) كما يروى عن الامام محمد بن علي الباقر (ع)

٢٨

إن الوهاج هو ما يجمع بين الضوء والحرارة ، وجعل الشمس وهاجا ، إنما هو بعد بناء السبع الشداد ، خلقت من ضمن ما خلق من مصابيح السماء الدنيا : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ..) ومصباحنا الوهاج الذي ينتج وضح النهار هي شمسنا ، فهي ضياؤنا كما القمر نورنا في ظلم الليل ، وسوف تعلمون أن خلق الكرة الأرضية أسبق من خلق الشمس وسائر الأنجم.

فالشمس السراج الوهاج ، والقمر النور المنير : (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٢٥ : ٦١) (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (٧١ : ١٦) .. إنهما من الآيات البينات لنبأي التوحيد والمعاد ، بما أن (الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ .. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٦ : ٣٨ ـ ٣٩).

وهذا السراج الوهاج هو الباعث للحرارة التي تعيش بها الأرض وما عليها وما فيها ، وهو الذي يكوّن السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو ، فهي من المعصرات

وهو المشرق علينا بأنواره ، إشراق الحياة ، وراحة الحياة ، وتقدّم الحياة ..

والشمس بحرارتها ونورها هي من المعصرات التي ساعدت على تروية الأرض بالماء الثجاج.

المعصرات والماء الشجاج :

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) :

استعراض لبداية نزول الماء من السماء على كرتنا الأرضية الشموس العطشى فإنها كانت منذ بدايتها محترقة ، إذ كانت زبدا : حصيلة التفجر الأول للمادة

٢٩

الأم «الماء» * حيث أزبدت زبدا فكانت أرضا ، وصعّدت دخانا فكان سماء ثم سماوات : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٢٣ : ١٨) .. ولو أن مياه الأرض أو بعضها كانت منها نفسها ، لم يكن للتهديد بذهاب مياه السماء منها معنى!

أجل إن حياة الأرض (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٢ : ١٦٤) وحياة الأحياء فيها كلها ، إنها من ماء السماء : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٢١ : ٣٠) .. وقد جعلت الأرض ذلولا بعد شماسها بأوتادها وبماء السماء : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (٦٧ : ١٥).

وبطبيعة الحال ما كان بالإمكان نزول الماء من السماء على هذه الكرة المحترقة إلا بالإعصار والصب ، إعصار ينتج الصبّ والماء الغزير الثجّاج.

وهناك للماء الثجاج مراحل عدة ، أولاها وأقواها الصب الأول الذي أنتجته معصرات عدة :

من الرياح التي أعصرت أنفسها حتى وصلت إلى الأجواء الأرضية ، وأعصرت السحاب فأوصلتها إلى أجوائها.

ومن السحاب التي أعصرت بعضها البعض وتضاغطت حتى استقرت هناك.

ومن التفريغات الكهربائية هنا وهناك التي ساعدت هذه الإعصارات وأعصرت (١).

فلقد تناصرت معصرات رياحية وسحابية وتفريغات كهربائية ـ ومن

__________________

(١) «من» * في معصرات الرياح والتفريغات الكهربائية ـ تكون سببية ، وفي السحاب نشوية أو تبعيضية ولا بأس بقصد معاني عدة من كلمة واحدة في القرآن فيما إذا تتحملها اللفظة لغويا ومن حيث المقام.

٣٠

ورائها ومعها الإعصار الإلهي ـ حتى كافحت حرارة الأرض وروّتها ماء وبرّدت ظاهرها رغم ذوبان باطنها نتيجة الحرارة الزائدة.

إنها أعصرت فأنزل الله بها ماء ثجاجا : غزيرا كثيرا يصبه صبا : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً وَأَبًّا. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٨٠ : ٢٥ ـ ٣٢).

إنه تعالى روّى كرتنا العطشى المحترقة بما فتح من أبواب السماء بماء منهمر ، وبمعصرات عدة ، فجعل من الأرض بحرا متلاطما ، ثم يبست شيئا مّا لكي : (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

وهنا صب ثان في طوفان نوح : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤ : ١١ ـ ١٥) .. كما الأرض أصبحت كأنها بحر لجّي ، إلى أن أقلعت السماء ماءها وابتلعت الأرض : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١١ : ٤٤).

وصب ثالث هو أخفها وطئا وأكثرها عددا ، هي السيول التي تجري على الأرض ، بمعصرات الرباح والسحاب والتفريغات الكهربائية : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ..) (٣٠ : ٤٨).

إن معصرات الرياح هنا تزجي السحاب من أبخرة مياه الأرض : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) (٢٤ : ٤٣).

وهذا بخلاف الرياح المعصرات في الإعصار الأول والثاني ، أنها كانت تعصر أبخرة مياه السماء ، وتفتح أبواب السماء بماء منهمر ..

٣١

ولقد كانت المعصرات الأولى أقواها ، ولكي تكافح حرارة الأرض ، وتسيل وتصبّ عليها سيلا وتجعلها بحرا بعد أن كانت قفرا :

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً).

والد السماء أمطر على رحم أم الأرض بنطف المياه لتخرج منها ـ بإذن ربها ـ حبها ونباتها وجناتها الألفاف ، لإخراج نوعي المأكول والملبوس : ما يؤكل هو ذاته حبا كسائر الحبوب ، ونباتأ كبعض النبات ، وما يؤكل منه كالبعض الآخر من النبات وكسائر الجنات.

«وجنات» * : أشجار كثيرة تجنّ بعضها البعض وتجن الأرض ، وتجنها من السماء «ألفافا» : تلف بعضها البعض ، وتلتف بعضها بالبعض.

بالفعل تتزاوج وتتمازج أموات وأموات لتلد أحياء وأحياء : نباتية وحيوانية ، أفلا يدل هذا الصنع البارع المتقن على وحدة الصانع ، وعلى إمكانية الحياة بعد الموت ، سبحان الخلاق العظيم!

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠)

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) :

فصل الخلافات ، والفصل بين المختلفين : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٣٢ : ٢٥)

٣٢

والفصل بين المتصلين يوم الدنيا بالقرابات : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) (٦٠ : ٣).

والفصل عن الآمال والأعمال : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (٧٧ : ٣٨ : ٣٩).

وفصل الحق عن الباطل والمحق عن المبطل ، وفصل كل مجمل ومجهول ..

(كانَ مِيقاتاً) :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٤ : ٤٠) .. كان ميقاتا : منذ خلق الكون والمكلفون ، ويكون ميقاتا يوم ينفخ في الصور.

«ميقاتا» : فالوقت نهاية الزمن المفروض للعمل ، والميقات مكانه وزمانه (١) عرصات المحشر ميقات ، وزمن المحشر ميقات ، إذ انقطعت الأعمال بانقطاع دار التكليف وزمن التكليف ، بالنسبة للمجموع لا الجميع ، فإن الميت تقوم قيامته الشخصية بانقطاع عمله بالموت ، ولكنما الميقات للمجموع ككل ليس إلا يوم الفصل.

فيوم فصل القضاء ـ وهو من عظيم الأنباء ـ كان في علم الله يوم خلق الأرض والسماء ، حدا مضروبا إليه ينتهي دار التكليف ككل.

يوم الفصل ويوم العزل ، يوم الحساب ولا عمل ، كما الدنيا عمل ولا حساب ، إنه ميقات المكلفين أجمعين ، لا يغادر منهم أحدا ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

__________________

(١) فميقات الحج يجمع بين نهاية المكان والزمان المسموح فيهما للعمل الحر ، ثم يقيد المحرم آنذاك وعند ذاك بترك الكثير مما كان مسموحا له قبل الإحرام.

وميقات القيامة كذلك ـ نهاية المكان والزمان الممكن فيهما العمل.

٣٣

إنه يوم ينقلب فيه نظام الكون الحالي وينفرط عقده إلى نظام أرقى وأبقى!

من هنا نرى سردا منسقا لنبإ المعاد بعد نبإ التوحيد ، فما أن ثبت التوحيد بأدلته فلا حاجة لاستعراض براهين للمعاد إلا أحيانا ، وإنما العرض هنا لواقع المعاد ولمّا يقع ، وتحصل يوم الفزع الأكبر ، ولكي يتذكره المتذكرون ويتحذره الحاذرون.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) :

هناك نفختان يوم الفزع الأكبر : نفخة الإماتة ونفخة الإحياء ، نفخة تدمّر وأخرى تعمّر ، قد تجمعان كيوم واحد لاتصالهما وأنهما في نهاية يوم الدنيا : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٧ ـ ٦٨) : نفخة الصعقة المميتة ثم نفخة القيام.

وقد تجمعان كذلك إلا بتقديم الأخرى على الأولى كما هنا : (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) فهو في النفخة الثانية : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) وهو في الأولى ، تقديما لما هو أهمّ وأحرى وهو الغاية القصوى من نفخة الإماتة.

وقد تفرد إحداهما بالذكر كالأولى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَة) ثم تتبع بواقع الثانية : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (٦٩ : ١٣ ـ ١٨ ، وكالثانية وهي الأكثر ذكرا من الأولى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣٦ : ٥١) (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٢٣ : ١٠١) ..

٣٤

وكلمة الجمع عن النفختين وعما يحصل فيهما وبعدهما لغير النهاية ، أنها : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وإن كان يعتبر ـ حسب مختلف الأحداث فيه ـ يعتبر أحيانا أياما.

فما هي النفخة؟ وما هو الصور؟ ومن هم الأفواج؟

إن الصور ليس هو الصور والأبدان لكي يعنى بالنفخ فيها نفخ الأرواح في الأبدان ، لأنه لا يستقيم إلا في نفخة الإحياء دون الإماتة ، والتعبير بالأخرى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) يوحي بأنها تشبه الأولى ، فهل هنا من شبه بين الإماته والإحياء؟ كذلك ورجوع ضمير المذكر إلى الصور : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) رغم أن جمع الصورة مؤنث ، وأن الصور هي المناسبة لجمع الصورة كما في آيات (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (٤٠ : ٦٤ و ٦٤ : ٣) .. هذه شهود صادقة على أن الصور بوق وليس جمع الصورة (١).

ثم التعبير عن النفخة الثانية بالنقر في الناقور : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (٧٣ : ٨ ـ ١٠) وهو قرع الشيء المفضي إلى النقر ، هذا شاهد ثان على أن الصور غير الصور.

إن الصور بوق لا كالأبواق التي نعرفها ، كما النفخة فيه لا تشبه نفخاتنا ، ونحن لا نتصور هنا أو نفهم من نفخ الصور شيئا إلا أنها النفخة المميتة ، والنفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجا ، التي تبعثر القبور وما في القبور فيأتون من كل فج إلى حيث يحشرون.

وبطبيعة الحال نستوحي من أحوالها وأهوالها الشاملة للكائنات أنها سوف

__________________

(١) في اللسان : الصور جمع الصورة ، والصور القرن ـ أقول وهذا شاهد راجع على ما نروم ـ إذ لو عني بالصورة جمع الصور لكان بحاجة إلى قرينة معينة لمكان الاشتراك ، وترك الخاص بالمشترك خلاف الفصيح.

٣٥

تكون في الأرض والسماوات أجمع ، وبصرختها تفزع الكائنات وتميتها ، وبوقعتها تجددها وتحييها ، وإنها الهول البادي في انقلاب الكون المنظور ، كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور ، وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير.

ومما نعرفه ، على جهلنا بالصور ونفخه : أنه ليس بوقا ينفخ فيه ، إنما هو كناية وإيحاء إلى بسبب التدمير والتعمير ، أنه صيحة ما أقواها وأفزعها ، يسمعها الكائنات في أعماقها ، سمعا في كيانها ، استمع سامعوها أم لم يستمعوا ، كان لها سمع أم لم يكن ، فإنما الصرخة هذه تؤثر هكذا تدمير وتعمير ، إماتة مرة وإحياء أخرى بزجرتها .. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (٧٩ : ١٤ ـ ١٥) فنفخة الإحياء زجرة واحدة تنقل الموتى إلى أرض القيامة : الساهرة : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) (٣٧ : ١٩).

والزجرة هذه والصيحة تلك والدعوة ، على سواء : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (٣٠ : ٢٥).

وبما أن للكل نصيب منها على حد سواء : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) نستوحي أنها بمقربة من الكل ، بجنب الكل ، أو كأن الكائنات هي الصور كلها ينفخ فيها مرة لإزهاق أرواحها ، ومرة أخرى فتنفج لإعادة أرواحها.

(فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) :

أفواج الأخيار وأفواج الأشرار ، كل مع زميله وكل مع رتيبه ، فكما الأخيار أفواج لأنهم درجات ، كذلك الأشرار أفواج فهم أيضا درجات : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٩٩ : ٦).

٣٦

والفوج هو الجماعة المارّة المسرعة ، تسرع كل إلى ما أعده لنفسه ، من نحسه ونفيسه.

يقول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أفواج المجرمين ، تفسيرا ل (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) :

«هم عشرة أصناف من أمتي أشتاتا ، قد ميزهم الله من جماعة المسلمين ، وبدل صورهم : فبعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكبين (منكسين) أرجلهم فوق ووجوههم أسفل ، يسحبون عليها ، وبعضهم عمي يترددون ، وبعضهم صم بكم لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا ، يقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم يلبسون جبابا سابغات من قطران لازقة بجلودهم .. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس (النمامون). وأما الذين على صورة الخنازير فأكلة السحت. وأما المنكسون على رؤوسهم فأكلة الربا. والعمي من يجور في الحكم. والصم البكم ، المعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقضاة من الذين تخالف أقوالهم أعمالهم. والمقطعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان. والذين أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله وحق الفقراء من أموالهم. والذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٠٧ ، أخرج ابن مردوية عن البراء بن عازب ان معاذ بن جبل قال : يا رسول الله (ص)! ما قول الله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)؟ فقال : يا معاذ! سألت عن أمر عظيم ، ثم أرسل عينيه ثم قال : .. وفي مجمع البيان مثله إلا يسيرا أشرنا إليه ، والأفواج المذكورون هنا هم المتخلفون من المسلمين ، فما هو ـ إذا ـ أحوال الكفار؟

٣٧

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) :

هل للسماء أبواب مغلقة قبل قيامتها فهي تفتح عندها؟ أو أنها بمجموعها تصبح أبوابا؟ علّهما معا مقصودان هنا.

نحن نعرف من أبواب السماء أبواب الماء : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (٥٤ : ١١) فهذه أبواب كانت مغلقة ولكنها فتحت على الأرض مرتين ، كما مرّتا ، وأما عند قيامتها فليست لها مياه لكي تفتح بها أبوابها ، وإنما تمور مورا وتنفطر وتنفجر وتحترق ، فأين ـ إذا ـ الماء؟

وأبواب أخرى تفتح للمؤمنين لكي يدخلوا الجنة : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٧ : ٤٠) .. إيحاء لطيف أن النار ليست في السماء ، أو ليست في سماء الجنة.

إذا فغلق أبواب السماء من هذين النوعين لا يمنع الأسفار الجوية مهما بلغت من العمق ، اللهم إلا ما يعلمه الله من أعماق السماء.

ثم الأبواب من النوع الثاني ليس فتحها للمؤمنين فتحا للسماء ككل ، ففرق بين فتح أبواب السماء وبين فتح السماء حتى تصبح أبوابا.

علّ المعنيّ من السماء الأبواب أنها إذا انفطرت ، وكواكبها إذا انتثرت ، وشمسها مع قمرها إذا جمعت ، كانت جنود السماء وقتئذ منهزمة ، فلا تمنع موانع المجرات بكواكبها ولا سائر الأجرام الجوية بأثقالها ، لا تمنع من صعود الصاعدين من المؤمنين ، ولا نزول النازلين من الملائكة : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٤ : ٤٨).

تدمّر السماء وتفطّر وترجع دخانا كما كانت بلا بروج ولا مدن ولا أبواب ولها فروج وكلها فروج ، وإلى حيث كأنها كلها أبواب ، فقد كانت بلا فروج :

٣٨

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٥٠ : ٦) ثم تصبح وكلها فروج : (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٧٧ : ٩).

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) :

وعلى حد تفسير أمير المؤمنين علي عليه السّلام : «وتذل الشم الشوامخ والصم الرواسخ فيصير صلدها سرابا رقراقا ومعهدها قاعا سملقا».

سيّرت عن قواعدها لحد تصبح القواعد سرابا لا ماء فيها ولا كلاء ، وترى من صقلها أنها ماء يلمع : (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ)(٢٤ : ٣٩).

إن منشار الزلزال تنشرها عن قواعدها بسرعة لامعة محيرة لحد السراب.

والترتيب المفهوم من القرآن حول قيامة الجبال : أنها على أثر الرجفة المدمرة الأرضية تصبح كأتلال الحصى من شدة سيرها ووقعها : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (٧٣ : ١٤) ثم على أثر اصطدامات متواصلة في مسيرها تتبدل كالخمير ، ثم كالغبار المنبثّ : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) (٥٥ : ٥) وكالعهن المنفوش : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (١٠١ : ٤) ثم تنسف فلا يبقى إلا سراب وقاع صفصف : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (٢٠ : ١٠٦ ـ ١٠٧)؟ أرضا أملس مستوية دون انخفاض ولا ارتفاع.

فهذه الجبال الراسيات الأوتاد الشامخات تصبح هباء كالسراب ثم ماذا تكون حال الإنسان الضعيف الضعيف ـ سبحان الغفور الرحيم!

* * *

٣٩

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً) (٣٠) ..

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) :

كانت قبل القيامة منذ حلقت ، كانت مرصادا : والرصد هو الاستعداد للترقب ، فالمرصاد آلة ووسيلة مستعدة تترقب أهلها الذين يتهيئون لها بما قدمت أنفسهم ، ثم منهم وقود لها تتّقد بهم ، كأصول الكفر والضلالة : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢ : ٢٤) ثم أتباعهم الماشين على هوامش الضلالة ، هم يتّقدون بهم في مرصادهم ، و : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (٨٩ : ١٤).

فكما أنهم ـ طول حياتهم ـ مرصاد للطغيان ، كذلك جهنم مرصاد لهم : تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فتستقبلهم.

(لِلطَّاغِينَ مَآباً) :

مرجعا يرجعون إليه ، حيث كانوا يوم الدنيا في جحيم الأفكار والعقائد والأعمال والآمال دون أن تظهر لهم نارها ، ثم في رحلتهم إلى عمق الحياة يرجعون إلى ما كانوا فيه ، ظاهرة نارها : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢).

٤٠