الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

سورة الضحى ـ مكية ـ وآياتها احدى عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١)

* * *

تقول الروايات أن الوحي انحبس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ردحا من الأيام ، فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه ، وقالت خديجة أم المؤمنين : لعل ربك قد تركك! يقوله المشركون هزءا ، والمؤمنون ترحما ، ولقد أغتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غما شديدا وكان حقا له إذ يراه بعيدا عن زاده الوحيد وروحه الأليفة الأنيسة في وعثاء السفر ولأواء التكذيب والتأنيب ، وعن ريّه في هذه الهاجرة المحرقة ،

٣٤١

والأذى المنصبّ على الدعوة ، فقد انقطع عنه ينبوع الماء : الحياة الرسالية القدسية ، منزعجا بين العدو والحبيب ، فما ذا يصنع إذا؟

كان في حالته تلك المزرية المضرعة ، إذ بدر الوحي الحبيب بعد انمحائه وانقطاعه ، مسليا خاطره الشريف أن الوحي لم ينقطع بدافع الودع أو القلى ، وإنما لحكمة ، كما في الليل إذا سجى ، فقسما بوجهي الزمان : ضحى النهار : وسطه ورائعته ، وسجى الليل : غسقه ومنحدره ، (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) فكما الضحى رحمة ، كذلك الليل إذا سجى ، كلّ من جهة ، مهما خفيت حكمة الظلمة على الهائمين للضحى.

صحيح أن ضحى الوحي هي الحكمة كلها ، وهي الحياة الرسالية كلها ، وهي الزاد والمبدأ والمعاد ، ولكنها بحاجة في استمراريتها ـ ولكي يثبت الشاكون على حقها ـ بحاجة إلى زاد الليل إذا سجى ، فسجى الوحي وانقطاعه لفترة ، زاد لضحى الوحي واتصاله ، فناكر الوحي يتنبه أنه ليس منك ولا من شيطان ، وإلا فلما ذا ينقطع ، أرحمة منه ومنك في التضليل؟ والمؤمن بالوحي ينتبه أنك ـ لا تزال ـ بحاجة إلى ربك ، دون استغناء عنه ولا لحظة ، فلو شاء لقطع عنك رحمته : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) فاعتبار أنه كتب على نفسه الرحمة ، ولا سيما لك خاصة ، فليس يقطع عنك وحيه ، لا قطع وداع بانقضاء دوره ، فلا ينتهى إلا بانقضاء عمرك ، ولا قطع القلى ـ وبالأحرى ـ بانقطاع صلوحك للوحي وأنت حي ، ففيه إزراء بالموحي والموحى إليه : بالموحي كيف لم يعرف نبيّه إذا ابتعثه وانتجبه ، فلم يعرف أنه لا يصلح لحمل الرسالة الأخيرة حتى النفس الأخير ، وبالموحى إليه ، كيف ينقطع عنه قبل انقطاع حياته ، رغم أن وحيه حياته ، فبه يحيى وعليه يموت ، أو كيف يعزل عن منصب الرسالة؟ الجرم أو خطيئة اقترفها ، فجاء الجواب الحاسم للصديق

٣٤٢

والعدو : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) وإنما ترك الوحي بغير وداع ولا قلى ، وإنه لحكمة عالية : هي الحجة على الناكرين النافرين ، وانتباه وتثبيت للنبي والمؤمنين ، ف (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) : ليس الوحي عن هوى نفسه ولا هوى عقله ولا هوى سواه ، إلا ربه ، وإلا فلما ذا ينقطع؟

وتضليل الهوى ـ أيا كان ـ ليس لينقطع! قد انقطع عنه الوحي ردحا من الأيام (١) ، ولأن اليهود سألوه عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس عنه الوحي ، وليدل اليهود أنه لا يقول من عنده ، وليدله أنه ليس بيده شيء حتى وعد الجواب ، فكيف بوحي الجواب ، وإنما هو رسول ، وإذا يعد فبإذن الله ومشيئة الله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (١٨ : ٢٤).

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) :

إيناس ثان لقلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم المقروح : إن الحياة الآخرة خير لك من الأولى ، لك ولمن نحا نحوك ودخل حزبك ، وأين آخرتك من أولاك؟ :

فأنت في الأولى في بلاء وابتلاء وعيشة منغصة مشوبة بألوان المتاعب والمصائب ، وإن كنت في راحة ضميرك أنك أديت الرسالة ، وأنت في الآخرة في رحمة وراحة خالصة.

ثم إن لك عطاء من ربك قدر رضاك هنا وهناك : فهنا سوف يوحى لك خاتمة الوحي الذي لم يوح إلى أحد ، والذي سوف لن يوح إلى أحد ، وهناك :

__________________

(١) اختلفت الروايات انه يومان ١ و ٣ ـ ٤ ـ ١٢ ـ ١٥ ـ ٢٥ ـ ٤٠ يوما.

٣٤٣

في البرزخ والمعاد سوف يعطيك ربك ما يرضيك ، وينسيك أتعابك في سبيل مرضاته ، فيتوّجك تاج الكرامة بين المكرمين وفوقهم ، تاج الشهادة والشفاعة :

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) :

فهل إن الرسول ما كان راضيا عن ربه حتى يرضيه بعطائه رضى العبيد؟ نقول : إنه كانت حياته الرضا عن الله ، ولكنه لما أحتبس عنه الوحي ظنّه عن تقصير منه أو قصور ، فسخط على نفسه ، ثم بعطاء الوحي بعد انقطاعه رضي ، وثم بهذه الكرامة الوحيدة له من ربه زاد من ربه رضى ، فإن الله يعطي من يعطيه كما يرضى هو ، لا المعطى له ، وهنا الرسول يختص بهذه المكرمة الربانية ، أن أصبح عطاء الله له كما يرضاه صلّى الله عليه وآله وسلّم تخصيصا له عن جميع الصالحين! ، وهنا تمتاز آخرته عن سواه ميزة أخرى : «فترضى» كما أوحى إليه : (خَيْرٌ لَكَ) خيرية خاصة لك دون من سواك! وقد روي عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنها الشفاعة (١) ، ولا ريب أنها من رضاه ومن أعلاه وأولاه ، شفقة على أمته الذين تؤهل لهم ، لا المسمون بها وليسوا منها.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى).

فالذي آواك بعد يتمك ، وهداك بعد ضلالك ، وأغناك بعد عيلولتك ، هو

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٦١ عن حريب بن شريح عن الباقر (ع) ان أرجى آية في كتاب الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وهي «الشفاعة» وفيه ايضا عن جابر بن عبد الله قال : دخل رسول الله (ص) على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من حملة الإبل فلما نظر إليها قال : يا فاطمة! تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا ، فأنزل الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

٣٤٤

الذي يجدد لك عهد الوحي بعد انقطاعه ـ وأحرى ـ ويعطيك فترضى ، فما هو يتمه وضلاله وعيلولته؟.

لقد كان النبي يتيما بكل معانيه : منقطعا عن أبويه ، إذ توفي والده قبل ولادته ، وتوفيت أمه بعد ستة أشهر ، فآواه الله إلى جده عبد المطلب وإلى عمه أبي طالب فكفلاه خير كفالة ، وكان يتيما : منقطعا عن النبوة والرسالة فآواه إليهما ، ثم يتيما عن الوحي إذ انقطع عنه فآواه ، ويتيما : منفردا بين الناس فآوى الناس إليه ، فلقد أزال عنه يتمه أيا كان.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) : ليس هو الضلال عن الدين : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) إذ إنه ولد ديّنا مؤيدا من عند الله مهما اختلفت درجاته قبل النبوة وبعدها ، أجل ـ ليس ضلالا عن اصل الهدى ، وعلى حد قول أمير المؤمنين في الخطبة القاصعة : «ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره». وللضلال هناك معان عدة ، أضلها ضلاله عن الدين ، فلا يصدّق عليه حيث القرآن والعقل لا يصدقانه عليه ، وإليكم منها معان :

١ ـ وجدك ضالا عن وحي الإسلام ونبوته ، فهداك اليه ، ضلالا عن الهداية الفعلية بوحي القرآن ، لا عن كل هداية وأبسطها : (ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٢٩ : ٤٨) (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) (١١ : ٤٩) (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (٤ : ١١٣) (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (٤٢ : ٥٢).

أجل : إنك كنت ضالا عن هذا الهدى ، لا عن كل هدى ، فلقد كنت أهدى الناس قبل وحي القرآن ، بما كان يسلك بك روح الأمين محاسن أخلاق العالم ليلك ونهارك.

٣٤٥

٢ ـ وجدك ضالة الناس ، وكما الحكمة ضالة المؤمن ، فما كانوا يعرفونك ، فهداهم إليك بما أرسلك برسالة الإسلام.

٣ ـ وجدك ضالا : فريدا في الناس ، كما الشجرة في الفلاة تسمى ضالة ، ولقد كانت أرض الجزيرة قاحلة لا ماء فيها ولا كلأ ، بلا شجرة إنسانية تحمل ثمار العلم والإيمان ، وأنت الشجرة الطيبة الضالة في هذه المغارة ، فهدى الناس إليك (١).

٤ ـ وجدك ضالا عن المعرفة حينما ولدت فهداك الله بالغزير منها ، ثم بعد ما فطمت أيدك بأعظم ملائكته ، إلى أن ابتعثك رسولا إلى العالمين ، وهنا وجوه أخرى (٢).

هذا ـ رغم جماعة من المبشرين والمستشرقين الضالين الذين يحاولون ليثبتوا الضلال عن الدين ـ قبل الرسالة ـ على الرسول الصادق الأمين.

__________________

(١) كما في البرهان ٤ : ٤٧٣ عن الامام الرضا (ع) في مجلس المأمون ، وفي نور الثقلين ٥ : ٥٩٦ عن الإمامين الصادق والرضا (ع) كما يأتي.

(٢) ولقد ضل عن الطريق مرات عدة فهداه الله إلى نجده كما يقول : ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهداني الله ، وكان يقول جدي : يا رب رد ولدي محمدا أردده ربي واصطنع عندي يدا ، فما زال يردد هذا البيت حتى أتاه ابو جهل على ناقة وبين يديه محمد (ص) وهو يقول : ما ادري ماذا نرى من ابنك! فقال عبد المطلب ولم؟ قال : اني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة ان تقوم ، فلما أركبته أمامي قامت الناقة كأن الناقة تقول : يا أحمق هو الامام فكيف يكون خلف المقتدي ، قال ابن عباس : رده الله الى جده بيد عدوه كما فعل بموسى عليه السّلام.

وخرج مع غلام خديجة ميسرة ، فأخذ الغلام بزمام بعيره حتى ضل عن الطريق ، فهداه الله بجبرائيل ان جاء بصورة آدمي فهداه إلى القافلة.

وابو طالب خرج به إلى الشام فضل عن الطريق فهداه الله إلى القافلة.

٣٤٦

شريعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل الإسلام

: وهنا الجدير بالبحث أن يعطف إلى شرعة الرسول قبل وحي القرآن : هل كان متحللا عن أية شريعة ، يعبد ربه بلا شرعة ومنهاج؟ أم دون أية عبادة كذلك؟ أم كان متعبدا بشرعة تخصه؟ أم مهديّا إلى شريعة الإنجيل المحكّمة قبل شريعة القرآن؟ أم شريعة موسى أم إبراهيم أم نوح؟ أم ماذا؟.

الوجه الذي نعقله وبالإمكان أن نقبله ، هو انه كان متعبدا بشرعة صالحة لزمنه ، غير محرفة ـ أيا كان ـ لأن الله اصطفاه أخيرا لخاتمة الرسالات (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٣٨ : ٤٧) (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣ : ٣٣) فليكن ـ إذا ـ خير الناس أجمع قبل رسالته ، فهل يا ترى كيف يصطفى هكذا وهو متحلل عن الشرائع كلها ، أو متعبد بشريعة منسوخة زمنه؟ فلتكن شرعته هي شرعة التوراة الصحيحة حسب الإنجيل الصحيح الحاكم زمنه ، وهذا لا يتيسر إلا بتأييد الله بإيحاء ملك الوحي ، إذ لم يكن يكتب أو يتلو كتابا قبل وحي القرآن ، ولم يدرس عند أحد من علماء الكتاب كما القرآن يصرح ، ولم يكونوا صالحين لذلك ، وليس نقصا للرسول أن يتبع قبل رسالته شرعة غيره من المرسلين ، إذ الشرائع كلها لله ، وليس الرسل إلا وسائط البلاغ ، إضافة إلى إمكانية وحي الإنجيل اليه فذا كما أوحي إلى المسيح ، نبيان أوحي إليهما سواء.

ووجه آخر عله أسلم ، أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يسترشد بملك الوحي الذي قرن الله به من لدن كان فطيما يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ، ما يحمل وظائفه الخاصة به ، ولا تنافيه الآية : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) (٤٢ : ٥٢) إذ يعني به الإيمان الموحى إليه برسالة القرآن ، والكتاب كل كتاب ، فما كان يدري ما القرآن والإيمان القرآني قبل نزوله ، على أنه كان مؤمنا قبله بالواجب عليه حينه بإيحاءات ملك الوحي ، فما كان يدري ما الإيمان

٣٤٧

ـ مطلق الإيمان ـ لو لا الإيحاء ، حيث الشرعة الموحاة إليه ما كانت تنال إلا بالوحي ، دون المحاولات البشرية ، ولا سيما في الفترة الفوضى التي مضت على كتابات الوحي ، فما كان محمد كبشر ، ليدري ما الكتاب ولا الإيمان ، إلى أن أوحي إليه بالإيمان ، وثم أوحي إليه الكتاب القرآن : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٢ : ٥٢).

إذا فالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان نبيا ، قبل رسالته بوحي القرآن ، نبيا لنفسه ، إن بوحي الإنجيل ، أم وحي آخر يخصه دون سواه ، وكما يروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فنبوته قبل ولادته هي الميثاق الذي أخذ له على النبيين أجمع : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وهي منذ ولادته إلى بعثته ، نبوته الواقعية الشخصية ، ومن بعثته رسالته العالمية وإلى يوم الدين ، وهنا أخبار تعمه وأخرى تخصه بتأييد إلهي منذ ولادته صلّى الله عليه وآله وسلّم (١) مما يوحي إلى نبوته الخاصة قبل رسالته.

(وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) : عائلا من حيث المال والحال (٢) ، ومن ذويه الأقربين ومن الناس أجمعين ، فأغناه الله وكفاه عبء هذه العيلولة.

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) :

آوه كما آويتك ، ولا تقهره كما لم تقهر.

__________________

(١) منها اخبار مستفيضة انهم مؤيدون من بداية أمرهم ، وصحيحة الأحول القائلة : نحو ما كان رأي رسول الله (ص) من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرائيل من عند الله بالرسالة ، والمستفيضة القائلة : ان الله لم يعط نبيا فضيلة ولا كرامة ولا هجرة إلا وقد أعطاه نبينا.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٩٥ عن تفسير العياشي عن الامام الرضا (ع) في قوله : ألم يجدك يتيما فآوى ، قال : فردا لا مثيل لك في المخلوقين فآوى الناس إليك ، ووجدك ضالا : اى ضالا لا يعرفون فضلك فهداهم إليك ، ووجدك عائلا : تعول أقواما بالعلم فأغناهم الله بك ، وروى القمي عن الامام الصادق (ع) مثله.

٣٤٨

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) :

كما سألتني فما نهرتك ، وقد أعطيتك ما لم أعط أحدا من العالمين.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) :

تحديثا باللسان ، وبالجوارح والجنان ، وبالأعمال ، فعش حديثا لنعمة ربك ، كما عاشتك نعمته.

نعمة ربك ، لا (نعمة) إذ يعنى منها نعمة الرسالة القدسية ، فسواها بالنسبة له لا يحسب له حساب (١) ، ثم كضابطة عامة على كل منعم عليه أن يظهرها ويتظاهر بها موحيا أنها من الله ، تمجيدا له لا لنفسه ، وكما عن الصادقين (ع) (٢) ، فالخيرات كل الخيرات ، عقلية وعلمية ومعرفية وإيمانية ، أو ـ ومادية ، يجب إظهارها كما يحب الله ، إظهارا لمكرمته تعالى ، لا تكاثرا وتفاخرا وإزراء للفاقدين لها ، فإن بذلها كما يمكن ، من إظهارها ، وصرفها فيما يجب كذلك ، وهكذا يؤول ما يؤثر عن تعريفات المعصومين (ع) بأنفسهم ، فإنها من تحديث نعمة الله ، ولينتفع بها عباد الله.

__________________

(١) المصدر في محاسن البرقي عن الامام الحسن (ع) في الآية قال : امره ان يحدث بما أنعم الله عليه من دينه.

(٢) كما في نور الثقلين ٥ : ٦٠١ عن الصادق (ع) قال إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمي حبيب الله ، محدث بنعمة الله وإذا أنعم الله على عبده بنعمة فلم تظهر عليه سمي بغيض الله مكذب بنعمة الله.

٣٤٩

سورة الانشراح ـ مكية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨)

* * *

استفهامات تقريرية تقرر للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نعما عدة ، إيجابية وسلبية ، وعند الفراغ عن مهمة الرسالة يطلب الله منه أن يستمر بها فيمن ينصبه مقامه ، ثم يرغب إلى ربه مؤديا ما عليه.

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) :

فقد شرح الله صدره ـ لأول ما شرح ـ بملازمة أعظم ملك من ملائكته ،

٣٥٠

ثم بوحي القرآن ، ثم بمكافحة المعارضين (١) ، فإن الشرح هو الانفتاح ومقابله الضيق ، والصدر هو صدر الروح ، وهو الوسيط بين العقل والقلب ، يأخذ من العقل وينقل إلى القلب ، وهو في الصدر : (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) فانشراح العقل وتفتّحه يفضي إلى انشراح الصدر والقلب ، وكذلك ضيقه وعماه إلى ضيقها وعماها : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) وقد يعبر عن ضيق الصدر أيضا بالانشراح : تفتّحا للكفر : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) (١٦ : ١٠٦).

فصدر الرسول الأقدس ـ وهو صدر الصدور ـ كان أشرح الصدور بين حملة الرسالات الإلهية ، تلقّى الوحي أكثر ما يمكن ، ولاقى وعانى في سبيل البلاغ أشد ما يمكن ، وهو منشرح الصدر : يستقبل الصعوبات في وعثاء السفر بكل رحابة صدر دون أن يقف لحد.

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) :

وهذه نعمة أخرى في سلبيتها ، وكونها نعمة تتلو انشراح صدره ، يوحي إلى المعني من وزره ، أنه : ما كان يعانيه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأمور المستصعبة ، والمواقف المخطرة في أداء الرسالة ، وتبليغ النذارة ، وما كان يلاقيه من مضار قومه ، ويتلقاه من مرامي ايدي معشرة ، وكل ذلك حرج في صدره وثقل على ظهره ، فقرره الله تعالى أن أزال عنه تلك المخاوف كلها ، وحط عن ظهره تلك الأعباء بأسرها ، فنجاه من أعدائه ، وفضله على أكفائه وقدم ذكره على كل ذكر ،

__________________

(١) كما تشير إليه الآيات : «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (٧ : ٢) «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» (١١ : ١٢) «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» ١٥ : ٩٨).

٣٥١

وقدره على كل قدر ، حتى أمن بعد الخيفة ، واطمأن بعد القلقة ، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً).

أجل : وإن ظهر الرسالة المحمدية كانت ـ لو خليت وطبعها ـ منقضة : مقعقعة العظام من حملها ، مرضوضة من ثقلها ، حتى وضع الله ذلك الوزر ، بوزير من نفسه القدسية : من صدره المنشرح ، وبصيرته النافذة ، وصموده القويم ، وعقله المستقيم ... وبوزير هو كنفسه : علي أمير المؤمنين عليه السّلام الذي عرّفه عشرات المرات : أنه وزيره وأخوه ونفسه ومثيله (١).

هذا هو الوزر الموضوع عنه ، لا ما يظنه الجاهلون أو المعاندون ، أنه الذنب العظيم ، زعما أنه المعني منه لغويا وليس به ، إنما الوزر ما يثقل ويتعب ، ظهر الروح أو الجسم ، فإن كان بحساب الآخرة كان عصيانا ، وإن بحساب الدنيا كان طاعة ، فإن مرضاة الله تبتغى بالأتعاب والحرمانات يوم الدنيا ، وزرا في الدنيا وراحة في الآخرة ، عكس سخط الله.

ثم الامتنان هنا يشهد ، وتأخر الوزر عن شرح الصدر يشهد ، ثم الله شهيد مع هؤلاء الشهداء وقبلها : أن وزره صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما هو وزر الرسالة القدسية ، بحملها وحملها وأعبائها وبلاغها!.

فلو كان ذنبا لم يمتن به عليه ، ولو كان غفرا لذنبه لقال : وغفرنا عنك وزرك ، ولكان مقدما على انشراح صدره ، فإنه لا ينشرح إلا بعد انمحاء الذنوب ، تحلية بعد تخلية.

ثم في وزر الرسالة ، ليس وضعه عزله عنها ، فهذا إهانة وليس مكرمة ،

__________________

(١) راجع كتابنا (علي والحاكمون) باب الوزارة وأمثالها.

٣٥٢

وكذلك عزله عن بعضها ، إذا فهو تخفيف حمل الرسالة بوزير من نفسه ووزير كنفسه (١).

وقد رفع الله ذكره بهذا الوزير لحدّ اعتبره شاهدا منه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (١١ : ١٧) ورفع ذكره مع الله من على المآذن أوقات الصلاة (٢) ورفعه قبل مولده ومبعثه في كتابات النبيين من قبل ، فأصبح رفيع الذكر حياته وقبلها وبعدها ، ويا له من ذكر لزاما لذكر الله! وكما عن الرسول عن الله : «إذا ذكرت ذكرت معي»(٣).

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) :

وعلى حدّ قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لن يغلب عسر يسرين (٤) ، وهنا تعريف العسرين يوحي أنهما واحد ، حيث الثاني يشير إلى الأول ، كما أن تنكير يسرين دليل أنهما اثنان ، إذ لا إشارة حيث لا عهد مسبقا :

فمع عسر الرسالة في وزرها يسران هما : انشراح صدره ووضع وزره ، وإذا اعتبرا واحدا فثانيها يسر الحشر وأولاه وضع الوزر وشرح الصدر ، يجمعهما ارتياح ضمير الرسول أن بلّغ ما عليه ، وهكذا يكون دائما عسر المؤمن مكافحا بيسرين في الدنيا وفي الدارين ، وما عند الله خير وأبقى.

والمعية هنا (مَعَ الْعُسْرِ) : توحي بواقع اليسرين حال عسرهما ، أما يسر

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٦٠٣ عن بصائر الدرجات عن الصادق (ع) في الآية قال : ولاية أمير المؤمنين (ع).

(٢) الاحتجاج عن الامام الحسين (ع) في حديث : فلا تتم الشهادة إلا أن يقال : اشهد أن لا إله إلا الله واشهد ان محمدا رسول الله ينادى على المنار ، فلا يرفع صوت بذكر الله عز وجل إلا رفع بذكر محمد (ص) معه.

(٣) الدر المنثور ٦ : ٣٦٤ ـ ابو سعيد الخدري عنه (ص) عن جبرائيل ان ربك يقول :

(٤) رويت عنه مستفيضة كما في الدر المنثور والطبري والبرهان ونور الثقلين على سواء.

٣٥٣

الدنيا فارتياح ضمير المعسر في الله ، ويتبعه واقع يسره فيها ، وأما يسر الآخرة فهو أيضا واقع مهما كان خفيّا ، ولكنه يظهر يوم الجزاء.

وإذا أردت مكافأة بهذه المكرمات ، فإنها ليست إلا أن تستمر بها لما بعدك ، كما كنت تعيشها حياتك أيها الرسول!

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) :

فما الفراغ هنا؟ وماذا ينصب بعد الفراغ؟

ليس الفراغ هنا عن الصلاة ، لكي يكون نصبه نصبا في الدعاء ، ورغم أن الدعاء ليس فيها تعب ونصب! فالفاء المفرّعة توحي إلى أصل سابق ، وليس إلّا شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر ، التي تجمعها الرسالة المحمدية بعسرها ويسريها ، فليس الفراغ إذا إلا عن بلاغ الرسالة ، وما هو إلا عند حضور الموت ، فليس النصب إلا نصبا لاستمرارية الرسالة ، ولكي يرغب إلى ربه مؤديا مبلّغا ما عليه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٥ : ٦٧).

هنا في محاولة استمرار الرسالة عند الفراغ عنها نصب ونصب كلاهما يناسبان «فانصب» وخلاف ما يزعم ، ليس في الدعاء نصب ولا نصب ، ولا سيما للرسول الذي زاده الدعاء ، فلم يؤمر هو صلّى الله عليه وآله وسلّم هنا بالدعاء ، فإنه كان يعيش حياته الدعاء ، دون اختصاص بالفراغ عن الرسالة ، ولقد كان في نصب علي عند وصية الخلافة نصب بالغ إذ تبع الكلمة اللاذعة المشهورة ممن احتالوا الخلافة لأنفسهم فقالوا : «دعوه فإن الرجل ليهجر» ما تدمي العيون وتحرق الأكباد!

ثم «فانصب» لغويا ـ على الصحيح او الأصح ـ أمر بالنصب لا بالنصب ، وإلا كان «فانصب» ، وفي المنجد : نصب ـ نصبا الشيء : رفعه وأقامه ، والأمير فلانا : ولّاه منصبا.

٣٥٤

والمروي عن أئمة أهل البيت مستفيضا صريح في النصب وإن كان النصب أيضا يشمله ، ومن النصب أيضا هو جعل النصيب أو تولية المنصب وهما يناسبان نصب الخلافة الإسلامية فإنها نصيب للرسول ، يستمر به بعد مماته كما كان قبله ، وكما عن الصادقين (ع) تفسيرا للآية : فإذا فرغت من نبوتك فانصب عليا وإلى ربك فارغب في ذلك (١)

وهو الوجه الوحيد الموافق لمقام الآيات واللغة.

تذييل :

روى أصحابنا أن سورتي الضحى والانشراح سورة واحدة تقرءان معا في الركعة ، أقول: وهذه الوحدة تخص الصلاة حكميا وإلا فهما سورتان في غير الصلاة للفصل بالبسملة بينهما.

__________________

(١) تفسير القمي بالإسناد الى أبي عبد الله الصادق (ع) وروى في الكافي عنه (ع) مثله ، ومثله عن ابن شهر آشوب عن الباقر (ع) ، وعن أبي حاتم الرازي ان جعفر بن محمد (ع) قرأ (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) قال : إذا فرغت من إكمال الشريعة فأنصب عليا لهم إماما ، أقول : وما روي شاذا انه النصب في الدعاء لا يلائم المقام واللغة كما سبق ، واما ما روي انه نصب الخلافة بعد حجة الوداع يلائم الفراغ من الرسالة ، وإنما عن الحج ولم يسبق له ذكر.

٣٥٥

سورة التين ـ مكية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨)

* * *

مما لا بد منه هو تناسق الإطار في أقسام القرآن مع الحقيقة التي تعرض فيها ، وهنا نجد تناسقا دقيقا أنيقا بينهما ، فلكي يثبت أن الإنسان مخلوق بجزأيه : الجسم والروح ، في أحسن تقويم ، يقسم بالتين والزيتون كأمل الفواكه ، لعرض الكمال الجسماني للإنسان ، وبطور سينين وهذا البلد الأمين ، كأفضل البلاد الموحى فيها على أعظم رجالات الوحي ، لعرض الكمال والاستعداد الروحي للإنسان ، ولكي يثبت سفال الإنسان لو تخلف ، عن المقام العال ، يشير إلى سفال

٣٥٦

الفاكهتين بعد انهضامهما ، وسفال البلدين لو تخلفا عما أوحي فيهما ، فليس العلو العال للإنسان ، لزاما له لأنه خلق في أحسن تقويم ، وإنما هو بحاجة إلى تقدمة زاد الإيمان والعمل الصالح ، ولكي يفلح ويمضي سليما في هذه العقبات والعرقلات التي تتربص به دوائر الضلال والسفال.

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) :

هما الفاكهتان المعروفتان مع ما يحملان من رمز الكمال فيهما ، وفي البلاد التي تنبتهما ، فالتين شجرة عطوفة أليفة تفي قبل الوعد ، بخلاف الخلاف التي تعد وتخلف ، إذ تورق ولا تثمر ، وكذلك ذوات الأثمار التي تعد ثم توفي ، فالتين شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى ، وهي تهتم بغيرها في ثمرها ، قبل أن تهتم بنفسها في ورقها ، تثمر ثم تورق ، تحقيقا لقول الله تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) .. وثمرها طعام لطيف خفيف الهضم ، يلين الطبع ويخرج مترشحا ، ويقلل البلغم ، وهو للمعدة كالبلسم ، ويطهر الكليتين ، ويزيل رمل المثانة ، ويسمن البدن ، ويفتح مسام الكبد والطحال ، وعلى حد تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. إذ أهدي إليه طبق من تين : «كلوا ، فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت : هذه ، لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس» وعن حفيده الرضا عليه السّلام : «التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج».

والزيتون فاكهة من وجه وإدام من آخر ودواء من ثالث وضوء من رابع ، ومن عجيب أمرها أنها لا تحتاج إلى تربية في أغلب البلاد ، ومن عظيم أمرها ذكرها في القرآن مرات عدة: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٣ : ٢٠).

فكما أن هاتين الفاكهتين من أقوم الفواكه وأتمها ، كذلك بدن الإنسان فإنه خلق في أحسن تقويم.

٣٥٧

(وَطُورِ سِينِينَ) :

(طور) مذكور في القرآن تسع مرات ، تارة كمعجزة إرهابية إذ رفعت : (٢ : ٦٣) ، وأخرى كمنزل الوحي على موسى عليه السّلام : (١٩ : ٥٢) ، وثالثة كموعد لبني إسرائيل ، ورابعة قسما بها وكتاب مسطور : (٥٢ : ١) وعلّه توراة موسى عليه السّلام مما يدل على بالغ الأهمية لهذا المكان المنيف ، فهو هنا يحمل إشارة إلى منزل من أهم منازل الوحي وأكرمها .. والأصل العبراني في سينين هو سيني ، عرّب بإضافة النون هنا ، وبالألف الممدود تارة أخرى : (طُورِ سَيْناءَ).

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) :

إن كون السورة مكية ، تجعل «هذا»

إشارة إلى مكة المكرمة ،

وكذلك وصفها بالأمين ، فلا أمين تكوينيا وتشريعيا كمكة المكرمة ، وكما في دعاء إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) وبما أنها منزل الوحي الأخير على الرسول البشير النذير ، فهي ـ إذا ـ أم القرى ، طول التاريخ وعرضه ، فرسولها إمام الرسل ، ورسالتها خاتمة الرسالات ، وهي أول بيت وضع للناس ، وإن كان آخرها وحيا (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٣ : ٩٧).

فكما أن هذين البلدين أهم منازل الوحي ومصادر الرسالات ، كذلك روح الإنسان فقد خلقت في أحسن تقويم روحاني ، فالإنسان يجزيه مخلوق في أحسن تقويم.

ومن لطيف الأمر أن التين والزيتون ـ بما هما الفاكهتان ـ يحملان إشارة لطيفة إلى بلادهما التي هي أصول بلاد الوحي ، وكما عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «إن

٣٥٨

الزيتون بيت المقدس» ، وهو منزل الوحي على كبار رجال الوحي ، وأن التين إشارة إلى المدينة المنورة (١) مما يدل على كمال التناسق بين جزءي الإنسان ، كما بين الفاكهتين وبلادها المقدسة ، فعلى الإنسان إتباع قواه الجسدانية للروحانية ، ولكي يتكامل خلقه في أحسن تقويم : ينمو جسمه على ضوء روحه ، وروحه على كاهل جسمه :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) :

وليس معنى أحسن تقويم أنه فاق الخلق كله ، وإنما : ليس في الخلق أقوم منه ، ومنه من هو مثله في القوام : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١٧ :) ٧٠) فمن هذا القليل الذي يشبه الإنسان في القوام؟ أنا لا أدري! وعله من إنسان السماء الذي تشير إليه بعض الآيات (٢) ، أم هو وسواه ممن لا نعرف!

إن الأصل في خلق الإنسان ـ إلهيا ـ هو أحسن تقويم ، لو داوم في المشي على قوامه كما هداه الله تعالى في التكوين والتشريع : تكوينه الفطري والعقلي ، وتشريعه الإلهي الواصب غير الخليط ، وفيما إذا سلك سبيل التخلف فجزاؤه أن يردّ إلى أسفل سافلين ، لحدّ لا أسفل منه في الخلق ، رغم أنه ما كان أقوم منه في الخلق! إذا فهو هو النازل من العلوّ العال إلى أسفل السفال ، وليس إلا بفعاله هو ، والله يتركه ـ إذا ـ ثم يعبر عن تركه له أنه ردّه إلى أسفل سافلين.

ان جانب الخير في الإنسان أقوى من جانب الشر إذ خلق في أحسن تقويم ،

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٦٠٦ الامام موسى بن جعفر عنه (ص) ان الله اختار من البلدان اربعة.

(٢) «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» (٤٢ : ٢٩) وآيات وروايات اخرى أمثالها سوف نوافيها عند مناسباتها الأوفى.

٣٥٩

فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق أكرم الملائكة جبرائيل ، إذ وقف وسط الطريق ، وارتفع محمد (ص) الإنسان إلى المقام الأسنى.

بينما هذا الإنسان يرد إلى أسفل سافلين ، حين ينتكس ويرتكس إلى الدرك الذي لا يتنزل إليه مخلوق قط : (أَسْفَلَ سافِلِينَ).

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) :

الذين واصلوا في سبيل الاستكمال على ضوء التقويم الأحسن ، مشيا على الفطرة التي فطر الناس عليها ، وعلى دلالات الرسالات الإلهية : إيمانا بالله وبها ، وعملا صالحا فيها ، فلهم أجر غير ممنون : غير مقطوع ولا منقوص ولا مكدّر ولا محسوب ، أجر في دنيا الحياة بما يصلحها الايمان وعمل الصالحات ، وأجر في في أخراها ، وما عند الله خير وأبقى. (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ. أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) : فما هذا الذي يدفعك إلى تكذيب الدين : طاعة لله يوم الدنيا وجزاء عليها يوم الجزاء ، أبعد توفر البراهين الدافعة إلى الدين؟! أبعد إدراك القيم الإنسانية ، (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) : حكما عدلا كأعدل وأفضل ما يمكن ، ومن عدله الجزاء الوفاق للظالمين ، ومنه ومن فضله رحمة بلا حساب للذين عدلوا!.

٣٦٠