الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤

١
٢

٣
٤

سورة الانعام

من الاية (٣٧) الى اخر السورة

٥
٦

٧
٨

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى

٩

قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩)

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨) :

آية قصيرة ـ فوق تقريرها الحاسم في حقيقة الحياة والأحياء ـ وهي في نفس الوقت حصيرة لا مثيلة لها في سائر القرآن فيما تحمل من أممية الدواب والطير وحشرها إلى ربها يوم الحشر ، اللهم إلّا آية التكوير حيث تحمل حشر الوحوش : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٨١ : ٥) فقد تعني مع حشرها الخاص يوم الرجعة حشرها مع سائر الدواب ، فلا تختص ـ إذا ـ بالحشر العام (١).

ولكن هنا (ما مِنْ دَابَّةٍ ...) تستغرق كافة ذوي الأرواح العائشة في الأرض ، وذوي الجناح الطائرة فوق الأرض ، والأرض هنا هي أرض الحياة دون اختصاص بهذه ، فعلها الأرضون السبع ، أم وأعم منها حيث الدواب مبثوثة في السماء كما في آية الشورى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٢٩) والدابة كلّ

__________________

(١) : راجع ج ٣٠ : ١٤٣ تجد قولا فصلا عن حشر الوحوش.

١٠

متحركة من حيوان في مثلها برا وبحرا وجوّا (١).

ثم و«في الأرض» دون «عليها» تعم الدواب تحت الأرضية إلى ما فوق الأرضية فان «في» تجعل الأرض كلها ظاهرة وباطنة ظرفا للدواب.

فقد تشمل أيضا ما تدب على الماء كحيوان البحر ، حيث تعني «دابة» وجاء «طائر» كلّ ذي حياة وغير طائر ، فالحي بين دبّ وطيران لا ثالث لهما ، فهما يحلّقان على كلّ ذي حياة شعورية.

كما و (لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) تعم أي طائر في أي جوّ دون اختصاص بجو الأرض ، وقد يشمل «طائر» الطائر في الماء كما الهواء ، كما تشمل «دابة» ما تدب في الماء كالأرض ، فالدابة والطائر ـ إذا ـ يشملان كافة ذوي الأرواح دون إبقاء ، فالملائكة داخلة في طائر ، وسائر ذوي الأرواح في «دابة».

وأما «بجناحيه» فقد تعني أقل ما يحتاجه الطير إلى جناح وهو جناحان ، فهما داخلان في أجنحة حيث كانت لبعض الطير ، فطائر الماء والهواء لا يطير ـ كأقل تقدير ـ إلّا بجناحيه.

أم وتعني ما يطير من الطير دون ما لا يطير كالدجاج وما أشبه فإنه طائر له جناحان ولكنه لا يطير ـ كأصل ـ بجناحيه ، فهو من الدواب.

وكما تعني الدابة وجاه الطائر كلّما لا يطير مهما سبح في الماء أم دبّ على أرض ، كذلك تعني كلّ ذوات الحياة حين تفرد بالذكر ك (ما مِنْ دَابَّةٍ

__________________

(١) فالدابة في المصباح «كل حيوان في الأرض دابة» وخالف فيه بعضهم فأخرج الطير من الدواب ورد بالسماع وهو قوله تعالى : «وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» أي كلّ حيوان ، واما تخصيص الفرس والبغل بالدابة فعرف طارىء ، والدب هو الحركة اللينة الخفيفة أو كلّ حركة المعبر عنها بالفارسية ب «جنبيدن».

١١

فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (١١ : ٦) (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١١ : ٥٦) (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٦ : ٤٩) (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) (١٦ : ٦١) (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) (٢٤ : ٤٥) (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) (٢٩ : ٦٠) (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) (٣١ : ١٠) (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ...) (٤٢ : ٢٩) (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤٥ : ٤) (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٨ : ٢٢) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ...) (٢٢ : ١٨) ، فلا تختص الدابة بما يدب على أرض بل هي كلّ ما يدب على ما يدبّ عليه من أرض أو ماء أو هواء ، فإذا قورنت بالطير اختصت بغير الطير.

وتلك الشمولية متأيدة بأن ذوات الأرواح كلّها ـ بل وغيرها ـ عارفة ربها ، شاعرة ما يتوجب عليها : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٢٤ : ٤١).

إذا فالآية تشمل كلّ حيوان ، فالإنسان والجان كما هما مشمولان ل «دابة» كذلك تشملها «أمثالكم» مع سائر المكلفين العقلاء كالإنس والجان ، اللامحة لهم آية الشورى.

ثم تتأيد هذه الشمولية مرة أخرى ب (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فإنه كأصل يعني كتاب التكوين مهما شمل ـ أيضا ـ كتاب التشريع ، وعدم الشمولية في حقل الحيوان الأممية والحشر ـ كعدمها لخلق كلّ ما بالإمكان

١٢

خلقه من حيوان ـ إنه تفريط في الكتاب.

كما تتأيد ثالثة ب (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) حيث إن واجب الحشر هو قضية التكليف الذي هو قضية الشعور ، وليس من عدل الله سبحانه ألّا يحشر ذا روح له ما لسائر ذوي الأرواح من شعور واختيار مهما كانا درجات كما بين الانس والجان وسائر الحيوان درجات.

(... إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ...) والمماثلة هنا في كونها أمما كما أن سائر المكلفين أمم ، وكما تعني المماثلة في الحيوية الحيوانية في سائر سؤلها ، كذلك وفي كونها جمعية الحياة دون فرديتها ، كما قد يخيّل إلى متخيلين أن الإنسان هو ـ فقط ـ مدني بالطبع.

ذلك ، كما وأن آيات النمل والهدهد ودابة من الأرض تكلمهم والنحل وما أشبه ، التي تنبّهنا بطرف من حياتها وحيوياتها ، تشهد بأنها (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ، وطالما يفحص العلم ـ على تقدمه البارع ـ عن حياة مختلف الحيوان ، ما يحق أن يفرد ـ وكما أفرد ـ لكلّ كتاب فذ ، ولمّا يصل إلى الواقع الحيواني لحياتها المادية ، فهي أمم أمثالكم وفي القضايا الروحية ، فقد لمحت هذه الآية إلى مئات ومئات من أسرار حياة الحيوان.

حقيقة هائلة تستطيع التحليق على ما ناله العلم وما لم ينله أم لن ينله ، ومتى ذكرت؟ حين لم يكن لهم علم بالإنسان فضلا عن سائر الحيوان.

حقيقة تجمع كافة صنوف الحيوان في أممها ، لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها ، كذلك وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها وهندسة عمارتها كلما تقدم العلم بركبه السريع.

ومن كونها أمثالنا ـ كأبرزه ـ مماثلة التكليف والجزاء في أصلها ، مهما

١٣

اختلف تكليف ذوي العقول عن ذوي الشعور ، كما وان تكاليف ذوي العقول درجات حسب درجات العقول مهما كانت الطقوس التكليفية على نسق واحد ، فقد لا تعني «أمثالكم» المماثلة المعلومة الضرورية ، بل والمماثلة غير الظاهرة ، ينبهنا الله تعالى بها بصورة اجمالية يكتفى بها في الخروج عن المعروف الظاهر إلى غير المعروف لنعرف ان المسؤولية عامة فالحشر ـ إذا ـ عام.

ومن المشابهة الظاهرة أنه ما من انسان إلّا وفيه شبه من الحيوان ، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، ومنهم من يتطوس طوس الطاووس ، ومنهم من يشبه الخنزير ، فإنه إن القي اليه طيب الطعام تركه إلى خبيثه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه ، فكذلك نجد من الآدميين ألوانا وألوانا.

فليست العقلية الإنسانية ـ فقط ـ هي محور المسؤولية أمام الله ، مهما كانت هي أهم المحاور ، بل والعقلية الحيوانية ـ مهما سميناها بالشعور ـ هي أيضا من محاور المسؤولية مهما كانت درجات حسب الدرجات.

وأما (ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٧ : ١٥) و (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (٦ : ١٣١) فلا تعني طليق العذاب ، بل هو عذاب الإهلاك الاستئصال ، فلا تنفي العذاب في تخلفات فطرية أو عقلية ، حتى تنفي تخلفات شعورية للدواب المحشورة للحساب والجزاء.

(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وترى ما هو الكتاب هنا؟ إنه يعم كلّ كتاب رباني من تكوين وتشريع ، فكتاب التكوين يحمل كمال الكائن أيا كان ، فكائن الحيوان لا بد له من معرفة مسئولية كما الإنسان ، ثم لا بد له من حشر كما للإنسان مهما اختلفت مسئولية عن مسئولية وحشر عن حشر.

١٤

فكتاب العدل والرحمة الربانية يقتضي أممية الحيوان كما نحن أمم ، ويقتضي مسئوليتها بما هي مختارة كما نحن مسئولون ، وأخيرا ـ وليس آخرا ـ يقتضي حشرها كما نحشر.

و«الكتاب» ـ بطليق تعبيره في جنسه الشامل لكافة الكتابات الربانية ـ يشمل كأكمل شمول القرآن العظيم ، فإنه بيان للكتابين كما يمكن دون إفراط فيه ولا تفريط ، وكما أن رسول القرآن شهيد الشهداء كذلك قرآنه المبين وتبيانه المتين المكين : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ٨٩).

ثم كما أن قضية عدم التفريط في كتاب التكوين كون الحيوان أمما أمثالنا ، كذلك حشرها كحشرنا هو قضية كتاب العدل والرحمة فقد (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وهي تعم كلّ من يستحقها.

ذلك ، فكتاب التشريع غير مفرّط فيه واردا ومورودا وحدودا وجزاء وفاقا ، محلقا على كتاب التكوين والتشريع تبيانا لكلّ شيء من تكوين وتشريع ، فلأنه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فكافة الحيوانات أمم أمثالكم ، (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) كما أنتم تحشرون ، فقد «يقتص للجماء من القرناء» (١).

هنا وهناك آيات هي أضراب في الحيطة القرآنية على كلّ شيء ، هي مع (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وآية النحل (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وأخرى من الأنعام (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

و«كلّ شيء» المستفادة من الآيات الثلاث هي كلّ شيء تحتاج إليه

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١٢ : ٢١٤ كما روى عن النبي (ص) انه قال : ...

١٥

الأمم الرسالية كأصول من سؤلهم ، ثم الفروع تتبناها حيث تتفرع عليها ، ولا سيما بضم السنة إلى القرآن فإنّها كما القرآن وحي من الرحيم الرحمان (١) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وقد تلمح «من» في «من شيء» الى استغراق «الكتاب» كلّ شيء بأبعاضها ، دون أن يكمل شيء وتهمل أبعاض منه ، مهما كان بيانا كضابطة تشمل كلّ شيء من كلّ شيء.

وفي رجعة أخرى إلى الآية نقول :

هنا (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) لا بد أن تحمل مثل الإنسانية في اختصاصات إنسانية مزعومة ، حيث الممثل يحمل من الممثل به خواصا من خصوصياته ، دون المشتركات المعروفة كاختصاصات الحيوانية العامة ، أو المختصات الثابتة ككون الإنسان مخلوقا في أحسن تقويم من حيث القابلية ، وأنه يتدرج في الكمال ما لا يتدرجه أي حيوان ، فمما كان يزعم من خاصة إنسانية له أنه مدني بالطبع ، فكذلك ـ كما هنا ـ لكلّ حيوان! مهما اختلفت مدنية عن مدنية.

ومنه أن الإنسان مسئول مكلف بعقليته ، فكذلك كلّ حيوان بشعوره ، كلّ كما يعقل أو يشعر ، ومنه حشر الإنسان للحساب وتحقيق العدل والفضل الرباني غير المتحقق منه في حياة التكليف ، فكذلك كلّ حيوان.

فهذه الزوايا الثلاث من هندسة الكيان الانساني مشارك فيها بينه وبين سائر الحيوان مهما اختلفت الدرجات وكما تختلف درجات الإنسان في ذوي نوعه.

ذلك وقد أمرنا بالتدبر في كيان سائر الحيوان كما الإنسان : (وَفِي

__________________

(١) راجع لمعرفة التفصيل ل «تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» تفسير آية النحل في ج ١٤ : ٤٤٨ ـ ٤٥٢.

١٦

خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤٥ : ٤).

كما ونتلمح من تذكرات قرآنية حول النحل والهدهد والنمل أن لها إدراكات هي في بعضها أدرك منا وأشمل ، وإن لم تدل على شمولية هذه القمة المعرفية لكلّ دابة.

وهنا أسئلة تطرح حول حياة الحيوان في النشأتين :

١ ـ هل للأمم الحيوانية رسل كما لأمم الإنسان رسل حتى تكلّف بما يقتضي حشرها؟.

والجواب أنها قد لا تحتاج إلى رسل حيث (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٢٤ : ٤١).

ثم (إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٣٥ : ٢٤) (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) (١٠ : ٤٧) قد تشمل أمم الحيوان إلى أمة الإنس والجان ، اضافة الى أن رسالة النذارة ونذارة الرسالة في المتخلفين هي من أهم المماثلات بين أمة الإنسان وسائر الحيوان (١).

٢ ـ هل ان حشر الحيوان كحشر الإنسان أن مصيره إلى جنة أو نار؟.

والجواب أن حشر الحيوان ليس إلّا حسب مسئوليته ، كما أن حشر الإنسان مقدر بقدره ، ولا دلالة ولا لمحة في القرآن والسنة إلى ثواب الجنة أو عقاب النار للحيوان ، والأثر المروي يقول إن الحيوان تثاب أو

__________________

(١) قد يستفاد العموم من آيات الأمة في النذارة ك «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» (٧ : ١٨١) «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» (١٠ : ٤٧) «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (٣٥ : ٢٤) فطليق الأمة في هذه الآيات مما يقوى ساعد النذارة العامة في كلّ دابة وطير كما وان قصة النملة والهدهد ودابة الأرض تكلمهم مما يشهد لذلك ، واما «كل يعلم صلاته وتسبيحه» فلا تدل على استغنائها عن نذير فان كثيرا من العصاة يعلمون تكاليفهم ويتركونها فالكلّ بحاجة الى نذر.

١٧

تعاقب فور حشرها ثمّ تفنى ، اللهم إلّا بعض الحيوان حيث تحشر إلى الجنة (١).

٣ ـ كيف يحاسب الحيوان وهي قضية التخلف عن التكليف ولا تكليف للحيوان؟.

والجواب ان تكليف الحيوان ليس كالإنسان ، إنما هو قدر شعوره بالواجب والمحرم على حده.

ومصبّ المسائلة والإثابة في الحيوان هو الظلم فاعلا ومفعولا ، فالحيوان الظالم يعاقب كما ظلم ، والحيوان المظلوم يثاب كما ظلم ، سواء أكان ظالمه الإنسان أو الحيوان كما الحال في مظلومه (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧١٥ عن الفقيه قال الصادق (ع) أي بعير حج عليه ثلاث سنين جعل من نعيم الجنة ، وفيه عن ثواب الأعمال عن الصادق (ع) قال : قال علي بن الحسين عليهما السلام لابنه محمد حين حضرته الوفاة اني قد حججت على ناقتي هذه عشرين حجة فلم اقرعها بسوط قرعة فإذا توفت فادفنها لا تأكلّ لحمها السباع فان رسول الله (ص) قال : ما من بعير يوقف موقف عرفة سبع حجج إلّا جعله الله من نعم الجنة وبارك في نسله فلما توفت حفر لها أبو جعفر عليهما السلام ودفنها.

(٢) الدر المنثور ٣ : ١١ ـ أخرج ابن جرير عن أبي ذر قال انتطحت شاتان عند النبي (ص) فقال لي يا أبا ذر أتدري فيما انتطحتا؟ قلت لا قال لكن الله يدري وسيقضي بينهما ، قال أبو ذر لقد تركنا رسول الله (ص) وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلّا ذكرنا منه علما» وفيه عن عبد الله بن زياد البكري قال دخلت على ابني بشر الأزنيين صاحبي رسول الله (ص) فقلت يرحمكما الله الرجل يركب منا الدابة يضربها بالسوط أو يكبحها باللجام فهل سمعتما من رسول الله (ص) في ذلك شيئا فقالا : لا قال عبد الله فنادتني امرأة من الداخل فقالت : يا هذا إن الله يقول في كتابه (وَما مِنْ دَابَّةٍ ...) فقالا هذه أختنا وهي اكبر منا وقد أدركت رسول الله (ص).

وفي تفسير الفخر الرازي ١٢ : ٢١٣ روي عن النبي (ص) انه قال : من قتل عصفورا ـ

١٨

فيومئذ يرد الله كلّ شيء إلى شيئه قضية عدل الله ورحمته جزاء من ربك عطاء حسابا أو عذابا وفاقا (١).

أو كيف يترك الحيوان ظالما ومظلوما فلا يجزى في الحشر كما لم يجز هنا ، وهي أضعف من الإنسان فأحرى بالرحمة؟!.

فالحيوان كما الإنسان تحشر إثابة بالصالحة من أعمالها وعقوبة على الطالحة منها ، وجزاء بما ذبحت ما تذبح ، فكما الله واعد الشهداء في سبيله رحمته يوم الأخرى ، فكذلك قضية (رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أن البهائم التي سمح لنا أن نذبحها حفاظا على الحيوية الإنسانية التي هي أهم

__________________

ـ عبثا جاء يوم القيامة يعج الى الله يقول يا رب إن هذا قتلني عبثا لم ينتفع بي ولم يدعني آكلّ من حشاش الأرض».

وفي نور الثقلين ١ : ٧١٥ فيمن لا يحضره الفقيه روى السكوني باسناده الى النبي (ص) أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها فقال : اين صاحبها مروه فليستعد غدا للخصومة».

وفيه عن تفسير القمي عن أبي الحسن الرضا (ع) انه قال قد اعطى بلعم بن باعور الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجيب له فمال الى فرعون فلما بعث فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم : ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمر في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فانطقها الله عزّ وجلّ فقالت : ويلك على ما ذا تضربني أتريد ان اجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين فلم يزل يضربها حتى قتلها وانسلخ الاسم من لسانه ... فقال الرضا (ع) فلا يدخل الجنة من البهائم إلّا ثلاث : حمارة بلعم وكلب اصحاب الكهف والذئب ...» أقول : الحصر نسبي جمعا بينه وبين سائر الأحاديث.

(١) نور الثقلين ١ : ٧١٥ في أصول الكافي الكلبي النسابة قال قلت لجعفر بن محمد عليهما السلام ما تقول في المسح على الخفين؟ فتبسم ثم قال : إذا كان يوم القيامة ورد الله كلّ شيء إلى شيئه ورد الجلد إلى الغنم فترى اصحاب المسح ـ أي على الخفين ـ اين يذهب وضوءهم».

١٩

منها ، لا بد أن تثاب يوم الأخرى.

كما الإنسان الذي ظلم حيوانا قتلا أو ضربا أو إجاعة أو تحميلا عليه فوق طاقته ، لا بد أن يقتص منه يوم القصاص ، ويقتص للحيوان قدر ظلمه.

وهكذا الحيوان الذي ظلم حيوانا أو إنسانا ، فأي ظلم من أي ظالم بحق أي مظلوم لا بد له من قصاص ، كما أن كلّ عدل أو فضل لا بد له من مثوبة.

٤ ـ كيف يجازى الحيوان ثوابا وعقابا وليست لها خيرة أم هي فيها ضعيفة لا يعبأ بها؟.

والجواب هو ظاهرة الإختيار مهما كان ـ على حد هذا القيل ـ ضعيفا ، فالحساب أيضا ليس إلّا حسب الإختيار في الأعمال قوة وضعفا ولا يظلمون فتيلا.

ذلك ، وفي (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) قضية ضمير الجمع العاقل ، لمحة إلى عقلية ما في الحيوان هي مصبّ مسئولية مّا فحشر وجزاء ما ، كلّ قدر عقليته وخيرته.

وإذا كانت الدواب والطير تحت وطأة المسؤولية فكيف ترى الإنسان بكامل عقليته وإختياره ، وشامل الرسالة الربانية فطرية وعقلية ورسالية!.

ذلك ، ومن عجيب التفسير ل (إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) هو موت الدواب دون بعث ، فهل يصح «إلى ربهم يموتون»؟ ثم الحشر لا يعني إلّا الجمع والجمع إلى الرب هو الجمع يوم الجمع إلى ربوبية جزاءه ، فكيف يفسر بالموت؟!.

وحصيلة البحث الفحص حول الآية أن : الأمم الحية هي أمثال مهما اختلفت القابليات والفاعليات ، ومن مماثلاتها أن التكليف يعمها مهما

٢٠