الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٠

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤)

إنه تعالى متبارك في ملكه ، دون لعنة ولا نكسة ولا نكبة ، خلاف ملك الخلق ، إلا الملوك الذين هم ظلال الرب في ملكهم ، إلا فيما يجهلون ويعجزون للقصور الذاتي ، فهو تعالى متبارك في كافة شؤون الربوبية خلقا وأمرا : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤) ومتبارك في الأمر التشريعي كما التكويني ـ سواء : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (٢٥ : ١) ففي ملك السماوات والأرض ككلّ وفي كلّ : (تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) (٤٣ : ٨٥) ف : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٣

إنه ليس ملكا ومالكا يملك ملكه وملكه ، إنما هما بيده لا سواه ، وهما له لا سواه ، وكل مالك مملوك إلا إياه ، وكل ملك يملك عليه سواه : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ..) (٣ : ٢٦) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) (١٧ : ١١١).

وفيما إذا يؤتي ملكه من يشاء لا يتحلل هو عنه ، ولا يؤتيه الملك الخاص به : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢ : ٢٤٧).

فالملك الحق من الخلق ليس وكيلا عن الله بانعزاله ـ سبحانه ـ عن شيء من الملك ، ولا شريكا له وليا من الذل ، ولا معينا يعينه ـ بعض الشيء ـ في الملك ، وإنما يؤتاه تطبيقا لحكمه العدل بين الخلق ، بشيرا ونذيرا ، دون أن يكون له من الأمر شيء : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (٣ : ١٢٨) (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (٢٣ : ١١٦) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ..) (٥٩ : ٢٣).

(تَبارَكَ) ولأنه بيده الملك فهو متبارك : متعاظم بذاته وصفاته وأفعاله ، لا تحد بركاته ولا يمدد فيها وإنما يمدد ، ولا تعد نعمائه (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) وبما أن الملك يخصه ، فالبركة أيضا تخصه :

(الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ان اليد ـ هنا وفي سواه مما نسبت إلى الله ـ توحي بالسلطة الإلهية اللامحدودة غير المغلوبة ، والملك قرينة أخرى إضافة إلى القرينة العقلية ، يوحي أن اليد هنا ليست هي الجارحة الجسدانية ، فإن الملك لا تصله هذه اليد ، وإنما السلطة ، وتقديم الظرف (بِيَدِهِ) والاستغراق المستفاد من (الْمُلْكُ) يفيد ان الحصر ، أن الملك ـ أيا كان ـ إنما هو بيد الله.

والملك أعم من ملك الخلق والتقدير والتدبير ، ومن ملك النبوة والسلطة الزمنية ، ولماذا يؤتيها الفجار إذا كانت هي أيضا منه تعالى؟ له تأويل يأتي في محله الأنسب.

٤

كلام في القدرة الإلهية :

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : فما هو كل شيء ، وما هي القدرة؟

فهل يقدر ربّنا أن يجمع بين المتناقضين ذاتيا ، أو يخلق نفسه ، أو يخلق مثله ، أو يلد من لا يولد ولا يخلق ، أو أن يدخل الدنيا في بيضة دون أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة ، أو ما إلى ذلك من المستحيلات الذاتية عقليا؟.

نقول : الأمور المتصورة ـ من حيث تعلق القدرة بها وعدم تعلقها ـ على أربعة أضرب :

١ ـ الكائنات التي بالإمكان تحويرها وتغييرها ، دون حاجة إلى معجزة أو اختراع ، فهي من أبسط الأشياء التي تتعلق بها القدرة.

٢ ـ التي تحتاج إلى قواعد علمية كالمخترعات ، فهي قبل اختراعها قد تزعم مستحيلة ، ولكنما العلم يثبت إمكانيتها.

٣ ـ التي لا تقدر المحاولات العلمية عليها من الطرق العادية ، كمعجزات النبيين ، التي يزعمها الإنسان ـ ولا سيما المتحلل عن وحي السماء ، الشاك فيه ـ يزعمها : من المستحيلات ، ولكنها من الممكنات الذاتية ، مهما كانت مستحيلة بالنسبة للقدرات المحدودة.

ومن هذه خلق العالم لا من شيء ، وسائر الاختصاصات الإلهية في خلقه المبدع ، فاللاشيء الذي بالإمكان إيجاده بالقدرة اللّامحدودة ، إنه يستحق اسم الشيء بهذه الإمكانية الاستعدادية لقبول الخلق ، سواء أخلق أم لم يخلق ، فالمادة الأولية كانت هي اللاشيء الممكن إيجاده ، وقد خلقت ، والسماوات الثمانية وما فوقها ، كانت اللاشيء الممكن إيجاده ولم تخلق ، ولكنهما على سواء في أنهما شيء لإمكانية خلقهما ، مهما كانت الأولى راجحة في الحكمة والثانية مرجوحة ، فهي من المستحيل عرضيا ، لا ذاتيا.

٥

٤ ـ الأمور التي لا تستحق اسم الشيء ، لأنها ليست كائنة ، ولا بالإمكان تكوينها : معدومات مستحيلة التكوين ، كالأمثلة المسبقة ، فإنها ليست من الأشياء حتى تشملها القدرة ، مهما كانت إلهية لا نهائية.

إن القدرة تعني إمكانية تعلقها بشيء مما قدمناه ، والاستحالة الذاتية تعني ـ فيما تعنيه ـ استحالة تعلق القدرة بها وإن كانت القدرة الإلهية ، غير المحدودة ، فإذا تعلقت القدرة بأمر ـ مما يزعم استحالته ـ فالواقع المقدور ، دليل لا مرد له على إمكانيته.

فهل بالإمكان الجمع بين النقيضين معا : أنا أنا ولست أنا أو سلبهما معا : أنا لست أنا ولا لا أنا مهما كانت القدرة المحاولة لجمعهما أو سلبهما إلهية؟

وهل بالإمكان أن الله خالق نفسه ، فخلق شيء يسبقه عدمه ، وهذا ينافي الوهية المخلوق ، وخالقية شيء تقتضي كونه قبل مخلوقه ، فهل إن الله كان قبل كونه! أمران مستحيلان ذاتيا!.

وهل بالإمكان أن يخلق الله مثله ، فيكون المثل خالقا غير مخلوق ، مثله. فالإله المخلوق إذا لم يكن مخلوقا ، حتى يماثل خالقه. فهو معدوم لم يخلق! فهل المعدوم يماثل الخالق ، وإذا كان مخلوقا فكيف يماثل خالقه في أنه غير مخلوق. أم هل هو مخلوق وغير مخلوق لكي يربح الواجبين : مماثلته خالقه ، وعموم القدرة الإلهية لخلق مثله؟ الأمر إليكم!.

إنه ـ رغم ما يزعمه الثالوثيون وأضرابهم ـ ، ليس عدم تعلق القدرة الإلهية بالمحالات الذاتية ، نقصا في القدرة ، ونقضا في شمولها ، وإنما هي المحالات النسبية ، التي لا يقدر عليها إلّا الله ، فيختصها بقدرته فإن الله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

نسألكم : هل بالإمكان أن يكون الله إلها وليس إلها؟ خالقا ولا خالق ، عالما ولا عالم! فإذا «نعم» فليس الملحدون خاطئين إذ تمسكوا بأحد جزءي

٦

القضية المتناقضة موجود ومعدوم إذ زعموا أنه معدوم ، وإذا «لا» فلما ذا «لا» فهل إلا لأنه من المحالات الذاتية! فكذلك سائر المحالات الذاتية كالأمثلة المسبقة.

فالمستحيل ذاتيا ليس شيئا حتى تتعلق به القدرة ، ولا أن القدرة تتعلق باللاشيء الذي يستحيل أن يكون شيئا ، اللهم إلا اللاشيء الممكن إيجاده.

فذلك ليس لنقص في القدرة اللانهائية ، وإنما لأن القدرة لا تعني إلا التي بإمكانها إيجاد الممكن الذاتي ، فالنقص كل النقص في المستحيل الذاتي الذي لا يقبل الإيجاد ، إن صح التعبير بيقبل ولا يقبل عن اللاشيء المستحيل وجوده!.

ولئن سألت : هل لا يقدر ربنا أن يخلق في المحالات ، حالة قبول لخلقها. فالجواب أنه ليس للمحال جواب! فإنما الحالة والصفة تخلق في شيء موجود ، لا المعدوم المستحيل الوجود ، وفيما إذا كان الشيء موجودا ، لا يحمل صفة تناقض كيانه ، فهل يحمل ذات الله صفة الحدوث ، أو هل تحمل ذوات الممكنات صفة الأزلية. كذلك ـ وبالأحرى ـ لا تحمل الذوات المستحيلة الوجود ـ إن صح تعبير الذوات ـ لا تحمل صفة الإمكان والقبول ، المناقضة للاستحالة الذاتية!

فقبول صفة الإمكان للمفروض استحالته الذاتية يحمل تناقضين:

١ ـ فرض القبول للمعدوم حالة عدمه : صفة دون موصوف!

٢ ـ تحميل الحالة المناقضة لذات المحمول ، عليه ، جمعا بين الصفة والموصوف المتناقضين : مستحيل ذاتي يقبل حالة الإمكان! ظلمات بعضها فوق بعض.

فالمحال الذاتي محال أينما حل ، ويجنب القدرة الإلهية أيضا ، وليس عنه خبر ولا جواب ، إلا أنه ليس للمحال جواب يجيب به الإمام الصادق زنديقا سأله : أليس هو قادرا أن يظهر لهم حتى يروه ويعرفوه فيعبد على يقين؟

٧

فيجيبه : «ليس للمحال جواب» يعني بذلك : أن المحال ليس شيئا يذكر فيسأل عنه ، فلو أن الله أظهر نفسه فلتره العيون بمشاهدة الأبصار ، وفي ذلك تحول المجرد عن اللامادة إلى المادة ، لكي تشاهد ، وهذا محال!.

كما يسأل الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام : «هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ قال : إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والذي سألته لا يكون» (١).

وإن كان هنا وجه آخر للجواب ، فهو عن وجه آخر للسؤال وكما أجاب علي عليه السلام نفسه عن نفس السؤال : «ويلك إن الله لا يوصف بالعجز ، ومن أقدر ممن يلطّف الأرض ويعظّم البيضة» (٢).

يعني الحالة الممكنة في موضع السؤال : أن يلطف الله الأرض عن حجمها برفع الخلل والفواصل عن عناصرها وجزئياتها وذراتها ، ودمجها كما يمكن ، فتصبح قدر البيضة فيدخلها فيها ، فالبيضة إذا لا تكبر حجما مهما كبرت ثقلا ، كما الدنيا لا تصغر ثقلا مهما صغرت حجما ، فهذه هي الحالة الممكنة من إدخال الأرض البيضة ، بتلطيف الأرض حجما وتكبير البيضة ثقلا!.

ثم استحالة تعلق القدرة الإلهية قد تكون ذاتية عقلية كالأمثلة المسبقة ، وقد تكون واقعية كصدور القبيح منه سبحانه ، أو خلق المرجوح كونيا ، وحسب المصلحة الجماعية للكائنات أو للمكلفين كالمقترحين المعجزات تعنتا ولجاجا : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦ : ٣٧). فالأخيران ـ رغم إمكانيتهما ذاتيا ، وبالنسبة للقدرات المحدودة أيضا ـ

__________________

(١) نور الثقلين ج ١ ص ٣٢ عن التوحيد للصدوق عن عمر بن أذينة عنه (ع).

(٢) نور الثقلين ج ١ ص ٣٢ عن ابان بن تغلب عن الصادق (ع) عنه (ع).

٨

هما مستحيلان على الله ، إذ يتنافيان وعدله وحكمته تعالى وتقدس ، استحالة بالاختيار.

انه لا قدير على كل شيء إلا الله ، فلا يعجزه شيء ، ولا يفوته شيء ، يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، إنه عزيز حميد ، وهو غالب على أمره ، غير مغلوب فيما يزيد ، فما يحيله الإنسان بحساب قدرته المحدودة ، إنه عند الله سهل يسير ، لا يعزب عنه شيء ولا يعزبه شيء.

وما يحيله العقل واقعيا ، من المنكر ، أو عقليا من المحال الذاتي ، فهو ليس شيئا يذكر ، أو لا يليق به تعالى حتى تتعلق به قدرته ، فما دام القابل ناقصا لا يقبل الكمال ، أم هو دون النقص والكمال لاستحالة شيئيته ، فعدم تعلق القدرة الإلهية به ليس نقصا فيها ، ولا نقصا لعمومها وشمولها.

وهل إن القدرة الإلهية تتعلق بالشيء الموجود : خلق الشيء شيئا : خلقه كما كان قبل خلقه؟ فهو من تحصيل الحاصل! أو خلقه شيئا آخر بمعنى تغييره وتحويره؟ أو بمعنى إعدامه؟ فليست قدرته محصورة في حصار الكائنات بعد كونها ، فمن هذا الذي كوّنها إلا هو؟! أم تتعلق قدرته بما كوّنها ويخلق الأشياء من اللاشيء؟ فكيف يتحول اللاشيء شيئا! أن يخلق الله العالم من اللاشيء! أم خلق الأشياء لا من شيء؟ وهذا هو الصحيح المعقول ، أن لا مصدر لخلق المادة الأولية وجوديا ولا عدميا ، إنما مصدرها أولا إرادته تعالى : أن خلق الأشياء لا من شيء : إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وإنما استحق اسم الشيء قبل تكوينه ، اعتبارا بإمكانية تكوينه وبحالة كونه المستقبل «علاقة ما يكون».

ثم مصدر الأشياء ثانيا هي المادة الأولية ـ المخلوقة لا من شيء ـ ، بإرادته تعالى ، أن يحوّرها ويحوّلها ويبدّل ماهيتها ، ثم ماهيات الأشياء إلى ما يريد ، أو يعدمها ، وسوف نخوض في البحث عن كيفية التكوين في محالّها.

٩

إذا فعموم قدرته تعالى ليس إلا لعموم الممكنات : المعدومات المتمكنة للإيجاد ، والموجودات المتمكنة للتغيير والتحوير ، أو الانعدام ، فهي كلها أشياء معنية ب «كل شيء» دون المحالات الذاتية فإنها ليست شيئا لكي تتعلق بها القدرة ، ودون الموجودات في وجوداتها ، فإن الموجود لا يحتاج إلى الإيجاد ، اللهم إلا إبقاءه فإنه أيضا بحاجة إلى القدرة والعناية الإلهية كما في بداية وجوده ، إذا فليست القدرة الإلهية فوضى تتعلق بالمحالات لكي تبرز الفلسفة الكنسية تقولها في الثالوث ، المستحيل عقليا ، وان الابن إله ، مولود منذ الأزل ، غير مخلوق ، وأن الإله المجرد اللامحدود حلّ في الجسم اللامجرد المحدود (١).

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) : ومن عموم قدرته للأشياء أنها تعم الموت والحياة ، فالموت شيء لأنه إعدام للحياة وفصل بين الكائن الحي وبين حياته ، والحياة شيء وهي أصل الأشياء في الكائنات.

والموت الشيء ، المخلوق ، هو الموت عن الحياة وبعدها (٢) ، لا قبلها ، فإنه أمر عدمي وليس إعداميا لكي يكون شيئا ، وتقدّمه على الحياة هنا في التعبير ، لا يقدّمه عليها في الواقع المعني ، إذ لا واقع له قبلها إلا عدم الحياة ، وهو ليس شيئا يخلق ، فخلق الموت هو الإماتة : (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا)

__________________

(١) راجع كتابنا «حوار بين الآلهيين والماديين».

(٢) نور الثقلين ٥ : ٣٧٩ عن الكافي عن الباقر (ع) «قال : ان الله خلق الحياة قبل الموت» وفيه ايضا عنه (ع) قال : الحياة والموت خلقان من خلق الله ، فإذا جاء الموت فدخل في الإنسان ، لم يدخل في شيء الا وخرجت منه الحياة ، وفيه ايضا عنه (ع) ما الموت؟ قال : هو النوم الذي يأتيكم في كل ليلة. الا انه طويل لا ينتبه منه الى يوم القيامة.

أقول : كل ذلك يعني الموت عن الحياة ، لا الذي قبلها ، ولا يشمله كذلك.

١٠

(٥٣ : ٤٤) ، لا الذي قبل الحياة فإنه كائن قبلها دون خلق ، ولم يذكر إلا في آية واحدة : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢ : ٢٨).

ثم إن بلوى الإنسان ليس بالموت قبل الحياة ، إذ لا يشعره قبلها ، وإنما حالها ، بما يعلم انه يدركه لا محالة ، فليهيئ له نفسه ، وبعدها كذلك ، ليذوق ألم الحسرة : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) فليحسن عمله في حياة التكليف ، ليحيى فيها وبعد الموت في حياة الخلود حياة طيبة.

إن التسابق في الأعمال الحسنة هو الهدف لهذه الازدواجية من الموت والحياة ، وليست الحياة فقط هي الباعثة لهذا التسابق ، وإنما التي معها الموت علما ، وبعدها واقعا ، ومهما أنكر الإنسان حياة الحساب بعد الموت ، الذي لا ينكره أحد ، ولكن احتمال الحساب بعد قائم لا يمحى ، فليحسب العاقل له حسابا ، وكما يحسب كل تاجر حسابات في احتمالات الفائدة والضرر ، ولأن الموت يحمل هذه الذكرى الضرورية ، والبلوى العالية ، تقدّم هنا على الحياة رغم تأخره في غيرها من الآيات ، إلا الذي هو قبل الحياة وليس فيه بلوى! (كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ).

(أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) والعمل هنا يعم عمل القلب ـ وهو أولى ـ وعمل القالب ـ وهو أدنى ـ لأن القالب يتبع القلب ويتّبعه في عمله ، وليس كذلك القلب ، مهما تأثر هو بالقالب في خيره وشره.

ثم العمل منه حسن ومنه أحسن ، كما أن منه سيّئ ومنه أسوء ، والغاية القصوى من بلوى الموت والحياة الوصول إلى واقع العمل الأحسن قلبا وقالبا ، وهو الذي يبتغى به وجه الله كأعمال المقربين ، ودونه الأبرار الذين يريدون الآخرة ، فعملهم حسن ، كما أن الأسوء هو أعمال الكافرين الذين توافق سيئاتهم نياتهم.

١١

ومن حسن العمل الأحسن نسيانه وعدم استعظامه ، كما أن من الأحسن ذكر العمل السيء فجبرانه.

فالموت والحياة دليلان ، بما معهما من أدلة إلهية ، عقلية وفطرية وواقعية ، يدلان الناس اليقظين إلى العمل الأحسن ، فليس الموت قبل الحياة داخلا في المعني من الموت الابتلاء هنا.

هذا ـ وإن كان بالإمكان شمول الموت هنا لما قبل الحياة أيضا ، بتأويل أنه مخلوق ضمن الكائن الميت (١) ، وكذلك الحياة غير الدنيوية فإنها حياة وأحيى من الدنيوية ، ولكنما البلوى ليست إلا في الحياة الدنيا لواقع الإختيار والتكليف فيها ، وفي الموت عنها علميا حالها ، فإنه الذي يحمل الذكرى ، ويحمل صاحبه على التسابق في الأعمال الحسنة (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، وللموت رحمات أخرى إضافة إلى البلوى (٢).

__________________

(١) ولكن الخلق هنا يوحي بالاستقلال فلا يشمل الموت ضمن الكائن الميت.

(٢) ان رحمة الموت لا تختص بالبلوى التي تدفع الى التسابق في الصالحات ، وانما هي الأهم مر فوائده لبني الإنسان حال الحياة اعتبارا ، وبعد الموت جزاء للحسنى بالحسنى ، وللذين كفروا عذاب ، وهو رحمة للمحسنين –

وهنا رحمات اخرى نتيجة الموت في النبات والحيوان والإنسان : فللانسان : هل يا ترى لو لم يكن موت ، أكانت الكرة الارضية بفضائها تسع نسله المتواصل؟ ولو وسعت ، فهل بإمكان الأولاد ان يتحملوا عبء معايش الآباء والأمهات : الآلاف الالاف! وإذا أمكن ، فهل بإمكان هذه الكثرة الخالدة في الحياة ، المعايشة السلمية؟ كيف! ولا تعيش الآن ـ وهي تلمس الموت ليل نهار ـ الا في اضطرابات ناتجة عن تخلفات!.

فيا للموت من رحمة لبني الإنسان ، بنّاء لحياة سليمة ، لو تذكروا ـ

١٢

ولو لا العزة والغلبة الإلهية لم تكن هناك بلوى ولا حسن الأعمال ، فبعزته خلق الموت والحياة ، وبعزته يحافظ على الأحياء والأموات ، وعلى الأرواح والأجساد ، وعلى أعمال الإنسان ، وبعزته يجازي كلّا على عمله ، إذ لا يفوته من أساء.

ولولا مغفرته كانت الحياة الأخرى كلها بلاء وعذابا ، ولكنه يغفر ما دامت

__________________

ـ بها ، وواعظا لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد ، ورادعا عن الشرور لمن أراد الحياة سالمة غير منغصة وان لم يؤمن بالآخرة ، وباعثا على التقوى لمن آمن بالله واليوم الآخر!.

وللحيوان : لو ان بيضات الأسماك (البطروخات) صارت كلها اسماكا ولم تمت ، لأصبحت البحار جامدة من زحامها ، فامتنعت الحياة عليها كلها.

ولو ان الجراثيم استمرت على التوالد خمسة ايام دون انقطاع ولا موت لملأت المحيط الى عمق ميل ، فكيف الحياة؟!

ولو ان ميكروب الوباء (الكوليرا) ـ الذي يتضاعف كل عشرين دقيقة ـ لو مضى عليه يوم واحد دون عائق ، لبلغ وزنه ٧٣٦٦ طنا ، وعدده رقم ٥ مع ٢١ صفرا ، فأين الحياة!

ان بعض المحار في البحار تبيض الواحدة منها ستين مليونا ، لو بقيت انسالها بين عام وعامين لزادت على الكرة الارضية ، فكيف الحياة!

والذباب الذي ينغص عيش الإنسان ، تبيض أنثاه خمس او ست مرات ، في كل مرة ١٢٠ ـ ١٥٠ بيضة ، فلو عاشت دون موت لم يعش على وجه الأرض انسان ولا حيوان!

فلو لا الموت لم تكن حياة ، وانه يتبنى الحياة مادية ومعنوية ، خلقية وخلقية ، (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) سبحان الخلاق العظيم ، فهل لا يستحق الموت ـ إذا ـ ان يحتل الرتبة السابقة على الحياة : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ)؟ فان الموت رحمة للأحياء وللأموات!.

١٣

المغفرة لا تنافي عدله ، ويكفي أن مصير الموحدين كلهم الجنة ، بعد المغفرة ، أو والعذاب فيما لا يتحمل المغفرة ثم الجنة ، فرحمته وسعت كل شيء (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).

أجل : وإن الخلق عامة ، وخلق الموت والحياة خاصة ، ليس جزافا دون هدف ، وإنما هو الابتلاء لإظهار المكنون في علم الله من سلوك المكلفين على الأرض ، بلوى : «بتكليف طاعته وعبادته ، لا على سبيل الامتحان والتجربة ، لأنه لم يزل عليما بكل شيء» (١) و «أكيس المؤمنين أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا» «فليأخذ الإنسان من حياته لموته» واستقرار هذه الحقيقة الحية من واقع الموت في ضمائر الأحياء ، يدعهم أبدا يقظين منتبهين حذرين واعين ، للصغيرة والكبيرة ، في النية المستسرة ، والعمل الظاهر ، لا يدعه يطمئن أو يستريح ، إلا أن يسامح عن عقله وضميره ، فإن حسن العمل ليس إلا من حسن العقل ، وعلى حد تفسير الرسول الأقدس (ص): «أيكم أحسن عقلا ، ثم قال : أتمكم عقلا ، وأشدكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله عز وجل به ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلكم تطوعا» (٢).

__________________

(١) «نور الثقلين» عن الاحتجاج للطبرسي عن الرضا ـ عليه السلام ـ في الآية : «فإنه عز وجل خلق خلقه ..».

(٢) «مجمع البيان» : أبو قتادة قال : سألت النبي (ص) عن قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ما عنى به؟ فقال : يقول : أيكم أحسن عقلا.

وفيه عن ابن عمر عنه (ص) قال : «أيكم أحسن عقلا ، وأروع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله» ، وفي الكافي عن الصادق (ع): «ليس يعني أكثركم عملا ، ولكن أصوبكم عملا ، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة ، ثم قال : الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد العمل ، الا والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله ، والنية أفضل من العمل ، ألا وإن النية هي العمل ، تم تلا قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) يعني على نيته.

١٤

السماوات السبع الطباق :

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) : الآراء حول السماوات بين مفرط يزعمها مليارات ، عدد الأجواء المحيطة بالكواكب ، زعم أن السماء تعني الجو المحيط بكل كوكب ، وبين مفرّط يزعمها الأجواء المحيطة بالسيارات السبع ، معتذرا عن الجديدين «بلوتو ـ نبتون» أنهما غير مرئيين غالبا ، بالعين المجردة ، رغم أن سبع المفرّط ومليارات المفرط ، هي كلها في السماء الدنيا : الأولى ، حسب القرآن.

نجد السماء في القرآن ، تذكر ١٢٠ مرة ، والسماوات ١٨٣ ، والسبع سبعا بسبعها ، ومرتين بسبع شداد وسبع طرائق (١).

فالسماء تعني مطلق الجو المحيط حول الأرض ، سواء في حالتها الأولى الغازية الدخانية قبل تسبيعها أم بعدها ، والسماوات تعني السبع ، لا أقل ولا أكثر ، ولأن الآيات التسع التي تعتبرها سبعا إنما هي بصدد عرض عدد السماوات المخلوقة : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢ : ٢٩) (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ..) (٦٥ : ١٢) قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين .. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين. (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١٢).

فالسماء الدنيا ، وهي أدنى السماوات إلينا نحن المخاطبين في الآيات ، هذه السماء تحمل سماوات المفرطين والمفرّطين ، ثم لا ندري ماذا تحمل السماوات الست الباقية.

__________________

(١) راجع ص ٢٥ ـ من الجزء الثلاثين القسم الاول ففيه تفصيل عن السبع الشداد.

١٥

ولقد وصفت هذه السبع بأوصاف عدة ، كالشداد والطباق ، مما تدلنا على خروجها وتحللها عن الحالة الدخانية قبل تسبيعها ، إلى حالة أخرى وحالات ، ومن ذلك قصورها ومصابيحها ومدنها الشداد الطباق.

وإنها طباق لتطابقها بعضها على بعض ، وتشابهها مع بعض ، وتماسكها ببعض ، وترابطها ماديا ومعنويا مع بعض ، وتآخيها بما أنها ولدت من الدخان الأم : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ .. فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ).

فلما ذا تتهافت وتتفاوت؟ فإنها والخلق كله ـ كخلق الله ـ لم تخلق متفاوتة ، وإنما التفاوت من الخلق نفسه ، تخلفا عما خلق له ، وأراد الله منه :

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) :

إن رحمانيته تعالى ، وهي رحمته العامة الشاملة لخلقه أجمع ، إنها تشهد بعدم التفاوت والتهافت في خلقه كخلقه ، فللائتلاف خلقهم لا للاختلاف : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١ : ١٩) رحمة التآلف في التكوين ، وأخرى في التشريع ، وثالثة لمن يطبق التشريع ، توفيقا لما أراده من الرحمة «فالخير كله بيديه والشر ليس إليه» فالمخلوقون هم المتفاوتون المتضادون مع بعض ، تخلفا عن شرعة التكوين والتشريع ، ولكنما الخالق لا يخلق متفاوتا متهافتا ، مما يدلّ على وحدته ورحمته ، ف (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ).

هل ترى من فطور؟

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ).

هنا يؤمر من له بصر وبصيرة لينظر في خلق الرحمان نظر الناقد البصير ، هل يرى من اختلال وفطور؟ فلينظر نظرة أولى ف (ما تَرى) ثم ليرجع البصر عله يجد ما ضل عنه في الأولى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) ثم ثالثة هي الكرة الثانية :

١٦

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) وفي آخر المطاف : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)!

كرر أيها الناظر نظرك إلى السبع الطباق ، من بعيد ، وأحرى لك من قريب ، على ضوء غزو الفضاء ، مفكرا في عجائبها ، مستنبطا غوامض تراكيبها (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) : بعيدا عما طلبه ، من نقد في نظمها أو غور في ماهيتها (وَهُوَ حَسِيرٌ) : ذليل بفوت ما قدّره من تفاوت وتناحر : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠ : ١٠١) وأما المؤمنون من الناظرين في آيات الأرض ، ومن غزاة الفضاء ، فهم تغنيهم آياتها ، دلالة على مدبر واحد حكيم.

إن الخاسئ هو البعيد المرذول ، وكما يخسأ الكلب ، والحسير هو البعير المعيى ، الذي بلغ السير مجهوده ، واعتصر عوده ، فالبصر يرجع بعد كرتيه ، وسروحه في طلب مراده ، وإبعاده في غايات مرامه ، يرجع كالا معيى بعيدا مرذولا ذليلا من إدراك بغيته ، ونيل طلبته ، من اكتناه حكمة الخلق ، أو نقد زعم التفاوت فيه.

فليتجول الجوالون في غزوهم الجوي ، ولينظر الناظرون ، فليس آخر المطاف إلا عجزا عن الغور ، دون أن يدركوا فطورا وفتورا إلا في أنفسهم ، إذ لا تبلغ قمة المعرفة بخلق الرحمان ، وكيف بالنقد فيه ، أو شبهة فيما يحويه ، اللهم إلا لمن سامح عن عقله ، ولجّ في غيه ، فليخسأ وهو حسير!.

إن الكائنات ، رغم اختلافها في صفاتها وماهياتها ، وعناصرها ، وجزئياتها ، وذراتها ، فالاختلاف في آثارها وخواصها ، وتفاعلاتها ، إنها بالرغم من كل ذلك متلائمة متناسقة ، تحصل من ازدواجها وحدة ، ومن قربها وحدة ، ومن خلطها وحدة ، ومن بعدها وحدة ، تضرب ـ على تضاربها ظاهريا ـ إلى وحدة أنيسة رحيمة أليفة ، مما يدل على مدبر ومكون واحد.

(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ٢)

١٧

هذه الآيات تتحدى الناقدين ، أن ينظروا في خلق الرحمان ، هل يقع نظرهم ، بعدّته وعدّته ، على شق أو صدع أو خلل؟ .. (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) : من وهي أو وهن ، به يتصدع أو ينصدم ، وهذه النظرة الفاحصة المتأملة هي التي يريدها الله : للمؤمنين لكي يزدادوا إيمانا ، ولغيرهم ليزدادوا حجة تحسم مواد الشك والريبة عن قلوبهم ، وغشاوات الأوهام عن أبصارهم ، فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الجليل ، لا تشبع العيون من تملّي جماله وروعته ، ولا القلب من تلقّي إيماءاته وإيحاءاته ، ولا العقل من تدبر نظامه بقوانينه ، فليعش الإنسان نظرا في خلق الرحمان ، ولكي يعرف عجزه وقدرة الرحمان ، وجهله يجنب علمه ، ونقصه حيال كماله.

ومن الرائع جدا أن قراءة كتاب التكوين لا تحتاج إلى ثقافة زائدة ، ودراسة خاصة ، وإنما بصر وبصيرة منح الله الإنسان إياهما وإن كانا في درجات ، وإن كان للعلم أثرا عميقا في مزيد المعرفة ، ولكنما القرآن يخاطب ساكن الغابة والصحراء ، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار وغازي الفضاء على سواء! ولأنه كتاب الناس أجمع ، يحمل هداية الناس أجمع.

وكما قلناه مسبقا : إن التفاوت المنفي هنا هو التضاد والتنافي وعدم انسجام والتحام أجزاء الكون ، في أصل الكيان والنظام ، فهذه أرضنا تحول حول نفسها وحول شمسها في جادة فضائية ، لا تنزلق عنها ، ولا تبطئ ولا تزيد عما قرر لها من حراكها ، ونرى كذلك كافة السابحات في يمّ الفضاء ، بالمليارات المليارات ، فكل في فلك يسبحون ، دون اصطدام واصطكاك واحتكاك ، مما يدل على أن عليها سائق واحد مدبر حكيم.

فكلما تواترت الأنظار الدقيقة إلى خلق الرحمان ، لم تزدد إلا زيادة المعرفة بنظمه الشامل ، وتنسيقه الكامل ، دون تفاوت فيه ، ولا نقص يعتريه.

ترى رحمانية الخالق ـ نتيجة كرور الأنظار ـ من خلال هذا الكون ،

١٨

ف (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) : أيا كانت الرؤية ومن أي كانت ، (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)؟ تأكدا وتثبتا ، في رجوع نافذ ناقد أعمق من النظرة الأولى ، عله فاتك شيء فلتجده هنا ، هل ترى من فطور : من فروج وشقوق وفتوق وخروق؟.

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) : بغية الإحاطة على ما عله خفي عنك من فطور ، أو رجاء الإحاطة على خفيات الكون الغامضة : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) مبعدا مصغرا ذليلا كليلا عما يهواه (وَهُوَ حَسِيرٌ) : ذليل أسير كليل أن يتعاطى نقدا ، أو تحيط علما!

إن الأنظار المتجهة إلى الكون ، كلما تغرق في يمه المتلاطم ، حائرة ، لا يزداد أصحابها في سبرهم غوره إلا حيرة وبهرا ، يذعنون أنهم خاسئون يجنب هذه العظمة الباهرة ، وإذا عميت عليها حكمة فيه ، كما في الكثير منه ، فالناظر المنصف لا يتسرع بالنقد ، لما يعلمه بإتقان أن صانعه أعلم منه وأحكم مهما تسرّع الجاهلون الملحدون والمتسامحون عن عقولهم وعن فطرهم وضمائرهم.

وقد تكون النظرة الأولى ، المأمور بها هنا ، النظرة البصرية الميسورة لكل واحد ، والثانية النظرة العقلية على ضوء الفلسفات العقلية والعلوم التجريبية ، والثالثة هي النظرة في ملكوت السماوات والأرض ، في حقيقة كيانها ، وأصل كونها ، وكيفية تكونها وتعلقها في ذواتها بالرحمان ، سواء أكانت النظرة من بعيد ، أو وأحرى من قريب على ضوء غزو الفضاء: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (٧ : ١٨٥) (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٥٠ : ٦).

هذه نظرات ثلاث أمرنا بها هل نرى من فطور ، ولو كان كياننا كله نظرا

١٩

إلى الكون وكررناه إلى يوم الدين ، لم نرجع في نقدنا إلا خاسئين ، ونرجع في استكشاف القدرة العجيبة الرائعة الإلهية إلى معرفة أسمى وبصيرة أنفذ وأسنى ، إن الخلقة تملك كمالا دون نقص من حيث الصنعة الإلهية ، ثم نجد له جمالا فوق الكمال وكما الآيات التالية تتحدث عن ذلك الجمال الرائع ، بعد ما برهنت الآيات المسبقة لكمالها وعدم فتورها :

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤)

٢٠