الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

وإنه يستحق القتل على فظيع تصرفه ، فإنها صيغة تقبيح وتفضيح ، وإفادة إنه يستوجب القتل لشناعته وبشاعته ، إن قتلا لأخلاقه التي قتلت انسانيته ، أو قتلا وازهاقا لروحه الجهنمية التي سواء عليها الإنذار وعدم الإنذار :

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى).

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) :

استفهام انكاري : ما الذي ستره؟ ستر عقله وضميره وفطرته وبصيرته فأعماه! .. أم فعل التعجب : عجب منه كيف يكفر بربه ناس؟؟؟ ا كيانه؟ كيف كان وكيف صار؟ ..

علام يستغني ويستكبر؟ ولم يتصدى له من يدعي الإيمان ، عابسا في وجه المؤمن؟!

والكفر هنا يعم كل ستر وحجاب على بصيرة الإنسان بجنب ربه ، شاملا دافة ألوان العصيان ودرجاته تجاه رب العالمين (١).

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (٧٦ : ١) كان شيئا لا يذكر لتفاهته وقذارته لحدّ كان يستحى من ذكره باسمه وقتذاك «مني» * .. خلقه من هذا الذي لم يكن يذكر ، أصل لا قوام له ولا قيمة ، عفن نتن رجس مهين ، نطفة من منيّ يمنى.

نطفة عجيبة في خلقها وشكلها على حين مهانتها ، نطفة أمشاج من بحر لجي من علق. (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) : الدودات الصغيرة السابحة في البحر المنوي

__________________

(١) من كفران النعم وإن كان من الموحد المسلم ، ومن كفر العصيان كذلك ، إلى آخر درجات الكفر ، فللشيطان خطوات في الإضلال كلها كفر وظلام.

١٢١

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) : نطفة في وحدتها أمشاج : أخلاط من عناصر عدة ، ومن أشكال عدة من اخرياتها الخلط الثنوي بين الحيوان المنوي والبويضة (١) ، فلما ذا يستغني وأوله نطفة قذرة ، وآخره جيفة مذرة ، وهو بينهما حمال عذرة؟! ولماذا يستغني وأوله دليل على قدرة الله وحكمته أن كيف خلق النطفة؟ وتقديره وتيسره وإلى نهاية أمره ، كل ذلك دليل على إتقان الصنع وإحكامه.

(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢٣ : ١٤) .. هكذا خلقه من نطفة وهكذا قدره جسدانيا وروحيا دون أن يكون خلقه فوضى ، دون تقدير ولا غاية.

خلقه من نطفة فقدّره إنسانا ، بدّله من دودة تافهة نتنة إلى أحسن المخلوقين ، ولأنه أحسن الخالقين .. قدّره وهيأه لتفهم السبيل وتقبّل السبيل.

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) :

يسر السبيل ذاته لا أنه يسره لها أو يسرها له. ليت السبيل منفصلة عن ذاته ، إنما هي في ذاته ـ فطرته وعقله ـ ومن ثم يتزود زيادة الهدى من آفاقه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٤١ : ٥٣).

إن السبيل هي الدين : المعرفة فالطاعة لله لا سواه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ

__________________

(١) تجد تفصيل البحث عن كيان المني والنطفة في مناسبات أخرى.

١٢٢

حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠).

كذلك ويسره سبيل الشر ليجتنبه كما يسره سبيل الخير ليسلكه : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٩٠ : ١٠).

والتيسير هنا وهناك علمي وتطبيقي ، يسرهما الله تعالى له في ذاته (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٩١ : ٩).

والهدف الأصيل هو سلوك سبيل الخير على بصيرة (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣).

وأي تيسير أقرب وأسهل من كون السبيل المقصودة مندغمة في ذوات المكلفين ، دون حاجة في ابتغائها إلى طي مسافة وغور مفازة ، وإنها لهي النعمة الكبرى والحجة العظمى الربانية أن زوّدنا بسفراء في ذواتنا ، ومن ثمّ سفراؤهم كرام بررة يذكروننا بما فطرنا ربنا عليه ، ثم الكائنات كلها شهود صدق لهؤلاء السفراء في أنفسنا وفي الآفاق.

يسره سبيله تعالى وسبل الحياة كلها ، لرحلات الحياة وللاهتداء فيها : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٨٧ : ٣ ـ ٤).

إنه ليس تقديره الإنسان بالذي ينافيه اهتداء السبيل التي يسره : فإنه تقدير لخلقه ، ثم تقدير لأفعاله أن يحصل عديد منها دون اختياره وهي التي لا يثاب عليها ولا يعاقب ، وأخرى باختياره وهي التي يعاقب عليها ويثاب ، تقديرا وقضاء بالاختيار ، ونفس الاختيار من التقدير.

يسره السبيل وأمره بسلوك السبيل وأمهله وعمّره ما يتذكر فيه من تذكر حتى إذا قضى نحبه.

١٢٣

(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) :

فكما الخلق والتقدير في الحياة الدنيا نعمة ، كذلك الموت فإنه قفزة إلى حياة أوسع وأرقى ، حياة البرزخ التي تظهر لنا حقائق أعمالنا : رحمه للمؤمنين إذ انتقلوا إلى رحمة الله ، ولمن سواهم أيضا إذا انقطع بموتهم المزيد من دوافع وأسباب العذاب ، ورحمة للباقين أن يتخلصوا من أذاه ، ورحمة بصورة عامة إذ لو لا الموت لأصبحت الحياة عذابا فوق العذاب ، كيف لا ومع واقع الموت نرى كيف يظلم بعضهم البعض؟ وكيف يفترسون؟! فالموت إذا من رحمات الله كما الحياة الدنيا ولأنها مدرسة الآخرة.

وكما الموت له نعمة كذلك قبره بعد الموت ـ وعلى حدّ تعبير الإمام الرضا عليه السّلام : «لئلا يظهر الناس على فساد جسده وقبح منظره وتغير ريحه ولا تتأذى به الأحياء بريحه وبما يدخل به الآفة والدنس والفساد ، وليكون مستورا عن الأولياء والأعداء فلا يشمت عدو ولا يحزن صديق» (١).

«فأقبره» : ينسب قبره إلى نفسه تعالى إذ هو علّمنا كيف نواري سوآت موتانا ، «فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين» (٥ : ٣١) فهذه بداية معرفة الإنسان كيف يواري سوآت الأموات تحت التراب ، ومن ثم أمر الله تعالى بدفن الأموات كرامة لهم ورعاية ، فلم يجعل السنة أن يتركوا على ظهر الأرض للجوارح والكواسر ، والأمر بالقبر هو الإقبار كما الدفن وهو فعل الإنسان هو القبر ، فلذلك نسب الإقبار إلى نفسه لا القبر.

ثم نعمة أخيرة هي مفتاح نعمة الخلود لمن عرف قيمة الحياة ولم يمهلها سدى.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٠ علل الشرائع فضل بن شاذان سمع الرضا (ع) فإن قال فلم أمر بدفنه؟ قيل : لئلا يظهر ..

١٢٤

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) :

بمشيئته خلقه وقدّره ثم السبيل يسره ثم أماته وأقبره ، ثم بمشيئته ينشره مرة أخرى ، قفزة إلى الحياة الأخيرة الخالدة ، و (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى).

«أنشره» : بجسمه وروحه وحيث يجمع أجزاءه الأصلية المتوفاة المكفولة عنده وعند ملك الموت وملائكته : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١١) توفّيا في الأجساد والأرواح ، فلا تضل عن رب العالمين وعن ملائكة الموت مهما ضلت عنّا (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ ..).

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٧٥ : ٣٦) كلا : إنه سوف ينشر للحساب بمشيئة من إليه الحساب.

أنشره للحساب بعد طيّه في التراب ، والإنشار هو الإحياء للتصرف : تصرف رب العالمين في الحساب ، وتصرف المربوبين فيما قدموه لأنفسهم ، فليس هو الإحياء دون قيد وكما يدلنا قرنه بالحياة : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣٠ : ٢٥). وإذا (جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) فبما أنه حياة التصرف ، وإن كان ليس كاملا كحياة النشور يوم النشور ، وكما لا ترى الآيات في خلق الإنسان تعبر عنه بالنشور.

ثم ـ وبعد هذه النعم ، وبعد هذه الحجج ، هل يا ترى الإنسان قاضيا ما أمره ربه ، أمره لصالحه في مختلف مراحل الحياة ، لا لصالحه سبحانه.

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) :

الإنسان ككلّ ، الإنسان كعامة النوع ، إن كيانه هو كونه. «كلا» * :

١٢٥

ليس كما اراده الله فيما هداه .. «لما» * : وحتى قبره .. وحتى نشره (لَمَّا يَقْضِ) لم يؤدّ (ما أَمَرَهُ) الله ربه ، لم يقض هذه المرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب .. وهو هكذا بطبعه الثاني المتخلف ، رغم خطوته المهتدية ، فهو هكذا في مجموعه ، فوق أن الكثرة تستغني ولا تتزكى ، وتتكبر على الهدى ، ومعها من يعبس في وجه الهدى ، ثم لمن استغنى تتصدى.

فيا له مراما ما أبعده (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ)! (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١٤ : ٣٤) وأكفر من كل كفّار : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٣٣ : ٧٢) .. فالأمانة قد تؤدّى وقد تحمل ، وليس الإنسان بمؤدّ للأمانات الإلهية لأنه ظلوم جهول ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وقليل ما هم ، والباقون يحملون أمانة الله ولا يؤدونها.

* * *

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢)

.. فلكي ينتبه الإنسان لشكر الخالق ، لينظر إلى طعامه كيف خلق ، وما هو الجدير بطعمه لصالحه ، نظرات عدة من جهات عدة لكي يصبح طعامه طعام الإنسان.

فلينظر الإنسان إلى طعامه : هنا الآيات تنبهنا على كيفية خلق طعام الأبدان

١٢٦

ثم يتلوها ـ وبالأحرى ـ وجوب النظر إلى كيفية تحصيله من حلاله وحرامه ، من ضاره ونافعه ، جسدانيا.

فثم إذا ما كان النظر إلى طعام الأبدان واجبا شرعيا ، فهل يا ترى النظر إلى طعام الأرواح ليس واجبا ، والبدن مدرسة الروح وقنطرة لكماله؟! .. لذلك ترى الإمامين الصادقين يسألان عن معنى الطعام يجيبان : «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه» (١) تفسيرا موسّعا وبالمصداق الخفي ، أو تأويلا وما أحسنه تنبيها لغير الخالدين إلى الأرض.

إن الطعام ألصق شيء بالإنسان بعد خلقه ، وألزمه له استبقاء لكيانه كحيوان. فهلّا يلصق به كإنسان طعام الإنسان ، طعام الروح : المعرفة والعلم ، وغذاء القلب : الإيمان ، فإذ «لا» * فإنه قسمة ضيزى ، وإلا فلينظر الإنسان إلى طعام الروح ماذا يجب أن يكون وممن؟ .. إنه من الله ، من وحيه وإلهامه ، من مصادر الوحي والإلهام ، حيث لا يخالطه مثوب الأرض ، طعام من الصحف المكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة.

فلو لم ينظر الإنسان إلى طعامه المادي وفي صلوحه لغذائه ، مرض ، أو أنه مسموم ، مات ، أو في أنه من حل أو حرام عصى ربه ، وكل ذلك قابل للجيران وغايته فيما سوى الأخير فناء الجسم وما عليه لو سلّم القلب من كدر الكفر والعصيان.

وأما إذا لم ينظر في طعام الروح في أصله فيبقى الروح جائعا ، أو في نوعه فسمّ الروح أو قتل ، فهناك الطامة الكبرى مهما كان الجسم قويا صحيحا ناضجا.

__________________

(١) تفسير البرهان ٤ : ٤٢٩ محمد بن يعقوب بسنده عن زيد الشحام عن الصادق (ع) والشيخ المفيد في الاختصاص بسنده عنه عن الباقر (ع).

١٢٧

قد تؤخذ المعرفة من مصدر الضلالة على غرة الجهالة دون نظرة عميقة فتصبح الروح جهنمية شاردة عن مصدر المعرفة ، فتقتل بسمها القاتل طول الحياة وإلى الخلود ، كهؤلاء الذين يتبعون كل ناعق وناطق بهواه ، همج رعاع ، لا ينظرون إليهم نظر العقل ، يميلون مع كل ريح ولا يستضيئون بنور العلم ، هؤلاء هم المقتولون بذات أيديهم إذ لا ينظرون إلى طعامهم.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) :

هنا نستوحي من النظر إلى طعام الجسم ، إلى أصوله ومهيئاته ، نستوحي نظرا إلى طعام الروح.

(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) : عله أو أنه هو الصب الأوّل على كرتنا الأرضية ، إذ كانت محترقة عطشانة ، صبّ عليها ماء ثجاجا ، ليخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا.

إن درجة حرارة الكرة الأرضية ـ بداية ترسبها زبدا عن التفجر الأول للمادة الأولية «الماء» * ـ إنها كانت هائلة جدا ، لم تكن لتقبل الماء ولا أن يتحد جزءاه «الأوكسجين والهيدروجين» إلا بعد أن هبطت حرارتها إلى زهاء أربعة آلاف درجة حرارية ، حينذاك تكوّن الماء في الفضاء الخارجي البعيد عن كرتنا فصب عليها صبا ثجاجا لحدّ غرقت الأرض في ثجاجها ، ثم يبست بعد ما؟؟؟ من الماء وأبخرت الباقي فشقت الأرض شقا.

فانشقاق الأرض ، المهيأ لخروج النبات فيها ، كان متراخيا بزمن عن صب الماء عليها المشار إليه ب «ثم» *.

(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) :

بعد موجان ذائبها ، وموجان مياهها ، وبعد انجمادها شيئا مّا ، انشقت الأرض في ظواهرها.

١٢٨

فشقّ الأرض هو المرحلة التالية لصب الماء ، فما لم تشق لم ينفذ فيها الماء ولم يخرج منها الكلاء ، وبما أن الشق هو الخرم في الشيء ، فقد يشمل تفتت صخور القشرة الأرضية بسبب الفيضانات ومختلف العوامل الجوية التي تفرض انشقاقات الصخور الصلبة الكاسية وجه الأرض ، ولكي توجد الطبقة الطمية الصالحة للزرع.

ولا شك أن هذه الانشقاقات ابتدأت من دحو الأرض وقد عدّلت حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشم من صياخيدها ، وفي الدور الرابع من الأدوار الأرضية حسب التفصيل في الآيات من «فصلت» *.

(فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) :

صبّ ثم شقّ فإنبات الحبّ ، أول ما نبت على وجه الأرض وهو من أوليات ضرورات الحياة وأشملها.

الحب هو أصل المأكولات كلّها ، تنبت عنه ثم تنبته أيضا استبقاء لها ، لكي يبذر مرّ الحياة ، فينبت مختلف النبات.

فقد خلق الله تعالى حبوب النباتات أولا بعد شق الأرض ، ثم أنبت منها نبات الحبوب ونبات الفواكه والأشجار ، وكل نابتات الأرض :

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (٨٧ : ١٤ ـ ١٦).

(وَعِنَباً وَقَضْباً) :

عنبا وخضروات : بقولات تقضب ، أي تقطع مرة بعد أخرى ، خضروات متواصلة النبات ، تقطع فروعها وتترك أصولها.

١٢٩

(وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً) :

(شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) (٢٤ : ٣٥) (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٣ : ٢٠) .. إنها مباركة لحدّ يقسم بها ربها فيما يقسم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (٩٥ : ١) (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (٥٠ : ١٠) شجرتان مباركتان تختصان بالذكر من بين الشجر ، ولأنهما أهمها وأعمها وأتمها نفعا.

(وَحَدائِقَ غُلْباً) :

البساتين المحوطة ذات الأشجار العظيمة الغليظة.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا) :

«فاكهة» * يتفكه بها الإنسان بعد إدام الطعام ، عونا على انهضام الطعام ، وتصليحا وتغزيرا للحياة.

«وأبا» : عشبا وكلاء ، يتمتع بها أنعامكم ، وكما تتمتعون أنتم بالفواكه والحدائق الغلب والنخل والزيتون والحب وسائر النبات.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) :

هذه كلها لكم ، ولأنعامكم التي هي أيضا لكم ، والتعرف إلى المعني من الأب لا يكلّفنا أكثر من أن نميز بين أكلنا وأكل أنعامنا بين المذكورات ، فما هي أكل الأنعام منها؟ وما هي أكلنا؟ معلوم أن الفاكهة لنا فللأنعام الأب .. فهل الأنعام تتمتع إلّا بالأعشاب ، فلتكن هي الأبّ ، ثم للإنسان الفاكهة ، مهما اشتركا في البعض من هذه وتلك.

وهنا العجب العجاب من الجهالة المتواضعة! ممن تصدّروا أمور المسلمين ،

١٣٠

وادّعوا أنهم من خلفاء الإسلام ، كيف لا يعرفون ـ فيما لا يعرفون ـ معنى «الأب» كأنهم بدافع التواضع والحائطة على القرآن جهلوه!

وكما عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام إذ بلغه جهل أبي بكر بالأب : «سبحان الله!أما علم أن الأب هو الكلاء والمرعى وأن قوله تعالى (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) اعتداد من الله بإنعامه على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم»(١).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥١١ في ارشاد المفيد ، ينقل الرواية التالية دون الذيل الذي نقلناه في المتن ، وقصة «الأب» مشهورة متضافرة عن خليفتي المسلمين «أبي بكر وعمر» : فقد «سئل الخليفة أبو بكر عن قوله تعالى (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : أية سماء تظلني أو أية أرض تقلني أم أين أذهب؟ أم كيف أصنع إذا قلت في كتاب الله بما لم أعلم؟ أما الفاكهة فأعرفها وأما الأب فالله أعلم فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليا (ع) فقال : إن الأب هو الكلأ والمرعى».

ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ : ٢٥٣ ، والقرطبي ١ : ٢٩ ، وابن تيمية في مقدمة أصول التفسير ٣٠ ، وابن كثير في تفسيره ١ : ٥ وصححه في ٦ ، وابن القيم ١٥٨ ـ ١٥٩ ، والحافظ أبو نعيم الأصبهاني ٤٢٠ وحلية الأولياء ٢ : ٤٠ ، والبيهقي في إعلام الموقعين ٢٩ وصححه ، والخازن في تفسيره ٤ : ٣٧٤ ، والنسفي في هامش الرازي ٨ : ٣٨٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ : ٣١٧ ، وابن حجر في فتح الباري ١٣ : ٢٣ ، والكلبي في تفسيره ٤ : ١٨. وقد قرأ الخليفة عمر على المنبر : «فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وفاكهة وأبا» قال : كل هذا عرفناه فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك أن لا تدري ما الأب ، اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه».

أخرجه سعيد بن منصور في سننه وأبو نعيم في المستخرج وابن سعد وعبد بن حميد وابن الأنباري وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وابن جرير في تفسيره ٣٥ : ٣٨ والحاكم في المستدرك ٢ : ٥١٤ وصححه هو وأقره الذهبي في تلخيصه والخطيب في تاريخه ١١ : ٤٦٨ والزمخشري في الكشاف ٣ : ٢٥٣ ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة ٢ : ٤٩ والشاطبي في الموافقات ١ : ٢١ و ٢٥ وابن الجوزي في تفسيره ٤٥ : ٣٧٤ والسيوطي في الدر المنثور ٦ : ٣١٧ وكنز العمال ١ : ٢٢٧ وابن سعد في طبقاته والبيهقي في شعب الايمان وأبو السعود في تفسيره والقسطلاني في ارشاد الساري ١٠ : ٢٩٨ والعيني في عمدة القاري ١١ : ٤٦٨ وابن حجر في فتح الباري ١٣ : ٢٣.

١٣١

نرى هنا وهناك كيف نؤمر بالنظر إلى الكون ، نظر البصر والبصيرة ، النظرة العلمية والاعتبارية ، كل نظر ممكن لنا فيما وهبه الله إيانا ، ولكننا مع الأسف ، تركنا النظرات العلمية في الكائنات لغيرنا ، ثم ولم نعتبر بالعبر ، عبر هذه الكائنات ، ومن الناحية الروحية لأنفسنا.

.. إن النباتات التي أنبتها الله من حبوبها ، لا تحصى عددا وأنواعا ، مهما يعددها علم النبات اليوم إلى نصف مليون صنفا ، إضافة إلى الأصناف المنقرضة المحفوظ بعضها في المتاحف دون أن يسميها الإنسان باسم (١).

ثم منها ما هو للتغذية ، وما هو للبس ، أو للدواء ، أو فاكهة ، أو ما هو للبهائم.

وإذا ما فتحنا القلع المغلقة علينا في مختلف الحبوب ؛ لوجدنا عالما من مختلف العناصر ، ليس اختلاف الأصناف فيها إلا لاختلاف المقادير ، فالكل متشابهة العناصر.

لنأخذ مثالا حبة القمح التي لا يهمنا إلا أكلها ، فإذ نحلل ألف غرام منها نجد الماء فيها ١٣٤ غراما والنشاء ٦٦٣ غ وملح النوشادر ٦٠ غ والخشب ٣٠ غ والزيت ١٥ غ والمانيزيا ٢ و ٢ غ والبوتاسا الكاوية ٦ و ٦ غ والسفور المائي ٢٧ و ٩ غ وكبريت العمود المائي ١٥ غ وإلى عناصر أخرى كالصوديوم .. ثم ونجد أكثر هذه المواد باختلاف المقادير في القطن ، فأصبح من الملابس بعد أن كانت في القمح مطاعم ، وهكذا في الفواكه : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ).

إن النظر التام إلى الطعام لا يتم إلا بدراسة علم الكيمياء وعلم النبات وهما أيضا لا يتمان إلا بدراسة علوم عدة ، وهذه هي النظرة الأدنى إلى الطعام ،

__________________

(١) من مقالات «اللوود أفبرأ» في كتابه «محاسن الطبيعة».

١٣٢

قنطرة لما هو أعلى نطاقا وهو الوصول إلى معرفة أعلى في الحكمة والقدرة الإلهيه ، ومنه النظرة العميقة الأنيقة إلى طعام الروح : العلم ـ وكما عن باقر العلوم عليه السّلام «إلى علمه الذي يأخذه عمن يأخذه».

* * *

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) :

الصاخة هي الصاكّة ـ بشدة صوتها ـ الآذان ؛ فتصمّها ، وكما أن لفظها أيضا ذو جرس صاكّ يخرق صماخ الآذان ، تناصر اللفظ والمعنى ، ولكي نشهد المشهد الهائل ، مشهد الفرار دون قرار ، للذين تربطهم يوم الدنيا روابط لا تنفصم ، ولكن الصاخة تمزقها تمزيقا بما أن لكلّ يومئذ شأن يغنيه ، ولحدّ كأنه ينسى حتى نفسه.

إنها يوم الفصل ، ومنه فصل الأنساب والأحساب ، روابط القرابات والصداقات ، لا يحكم فيها حاكم الأنساب ولا يتساءلون عنها : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٢٣ : ١٠١) وإنما العداء هي التي تنوب كل هذه وتلك إلا للمتقين : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧).

١٣٣

إنها هي الساعة الصاخة (صيحة الإحياء) فإذا هم إلى ربهم ينسلون ، صيحة تصخّ الأسماع وتقرعها ، وتجعل الإنسان يفر من ذويه ، لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه.

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ...) :

ولأن الهول هناك هول نفسي يفزع النفس ويفصلها عن محيطها وعنها أيضا : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢٢ : ٢) ، لذلك تراه ـ وبالأحرى ـ يفر من ذويه الأقربين والأنسبين (مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ).

فهل يا ترى لماذا الفرار (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٤٠ : ٣٩)؟

فهل لأن كلّا ظالم بحقوقهم فيفر ؛ كيلا يطالبوه بظلمهم؟ وليس كل امرء ظالما!

أم مخافة أن يطالبوه بشفاعة ولأنه من أهلها؟ وليسوا إلا قلة قليلة!

أم لأنهم لا ينفعونه شيئا؟ وهذا لا يستوجب الفرار.

أم لأنهم لا يعرفونهم (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ)؟ فكذلك الأمر!

أم مخافة أن يتعلقوا به لماذا قصرت تجاهنا؟ وليس الكل هكذا!

إذا فلما ذا؟ لا نجد أخصر وأشمل من هذا التعبير الذي يشغل الحس والضمير :

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) :

يكفيه ـ شأنه الشائن ، وهوله الكائن إثر الصاخة القارعة ، هذا يكفيه عما سواه وعمن سواه.

١٣٤

هول أول مفاجئ لا يدع الإنسان ـ أيا كان ـ أن يفكر في غيره ، فهو يفرّ وحتى عن أقاربه ، فرارا فكريا فبالأقدام ، ولحدّ لا يكاد يرى بعضهم البعض ، وكما يروى عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «يبعث الناس حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان ، قيل : يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ، الرجال إلى النساء؟ قال : شغل الناس عن ذلك نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)(١).

شأن يغنيه ، إضافة إلى المحتملات المسبّقة حسب الدرجات : فرارا عن المطالبة بالتبعات ، يقول الأخ : ما واسيتني ، والأبوان : قصرت في حقنا ، والصاحبة : لم تصاحبني كما يجب ، والبنون : ما ربيتنا كما يحق.

أو فرارا عن الشفاعات ، والأصل الشامل هو الذي قال الله (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) :

تقسيم ثنائي لوجوه الناس إلى مسفرة ، والتي عليها غبرة : مسفرة مشرقة بعد الهول العام ، إذ نعرف نجاحها يومذاك ، مسفرة لأنها سافرت مع السفرة ، كرام بررة ، فتلت صحفهم المطهرة ، وطبّقتها وعاشتها حياتها ، ولأنها اتجهت حياتها إلى الوجهات الربانية وأعرضت عن الشيطانية.

فكما الصبح يسفر بعد الظلام بخرقه ، فينير ، كذلك هذه الوجوه تسفر بعد ظلام الصاخة ، العام ، منيرة متهللة مشرقة ، تتغير شأنها الذي كان يهمّها ويغنيها ، ثم ـ علّها ـ تنعطف إلى الذين يلتصقون بها لشفاعتهم ، إن قريبا أو بعيدا ، ف (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣١٧ ، عن سودة بنت زمعة وسهل بن سعد وأم سلمة وعائشة عن النبي (ص) نقلنا المجموع كرواية واحدة رعاية للإضافات.

١٣٥

إنها مسفرة ضاحكة فرحة مستبشرة ، تتطلب بشارات الرحمة كما الله بشرها يوم الدنيا لهذا اليوم ، ولأنها عرفت مصيرها وتبيّن لها مكانها ومكانتها بعد حريتها من هول الصاخة المذهل المبكي.

وإنها الوجوه الناعمة الراضية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ) (٨٨ : ٧ ـ ٨).

والناضرة الناظرة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٧٥ : ٢١ ـ ٢٢).

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) :

تعلوها غبرة الحزن والحسرة وسواد الذل والانقباض والانكماش ، فهي إذا : (باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٧٥ : ٢٥ ـ ٢٤) وهي : (خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٨٨ : ٢ ـ ٣).

وجوه مغبرة عليها غبرة الحزن والأسى ، ترهقها : تغشاها ـ قترة : هي سواد الذل ـ وترغمها ، يبقى عليها هول الصاخة ، ويزيد إذ عرفت ما قدمت لأنفسها ـ من سخط شديد وعذاب عتيد.

إن هذه الغبرة الظاهرة على تلك الوجوه هي شيء من فوضى الحياة المغبرة التي عاشوها ، وهنا يعرفون بها (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٥٥ : ٤١) وكما المؤمنون (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (٤٨ : ٢٩).

(أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) : كفروا بالله وأنعمه ، وفجروا حرمات الله وما راعوها.

١٣٦

سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤)

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) :

أحداث كونية ضخام جسام تشير إلى أن هذه الكائنات المنسّقة في نظامها وحركاتها سوف ينفرط عقد نظامها وتتناثر أجزاؤها.

فهذه الشمس التي هي نور كل ظلام ، وحياة الأحياء مع الماء ، هذه النبعة

١٣٧

الحيوية النورية الحرارية سوف تموت وتنقرض ، تكوّر وتدوّر ، فما هو كورها؟ وما هو دورها؟

فهل إنّ كورها أن يحاط عليها؟ كما : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩ : ٧) إحاطة الليل على النهار بظلامه ، والنهار على الليل بضوئه ، إحاطة ماحية لكيان كلّ منهما بكل منهما ، فكذلك يحاط على الشمس بما يدمرها ويظلم عليها ، وهذا هو كور الطاقات المدمّرة للشمس؟

أو كورها في نفس ذاتها بضم بعضها إلى بعض ككور العمامة ولفّها بنحو الإدارة؟

أو انه جمعها وصرعها ، بنقص كيانها ونورها؟

أو زيادتها في حرارتها وسرعتها عند احتضارها كما عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «أعوذ من الحور بعد الكور» ، أي من النقص بعد الزيادة.

أو كورها على أخيها الأصغر : القمر ، بشمولها عليه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٧٥ : ٨) (١)؟

كلّ محتمل (٢) ، أو أنها مرادة جمعاء ، فإن قيامة الشمس تضم ضمها ولفها وجمعها وصرعها ونقصها في كيانها وزيادة سرعتها ونورها في اللحظات الأخيرة من عمرها (٣) ، ثم برودتها وانطفاء شعلتها وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد الآن

__________________

(١) وفي كور القمر أخرج البخاري عن النبي (ص) قوله : الشمس والقمر مكوران يوم القيامة(الدر ٦ : ٣١٨).

(٢) هذه المعاني اللغوية للكور المستفاد بعضها من القرآن والحديث ، ذكرت في لسان العرب. وعن ابن عباس تفسير الكور بالانظلام والاغورار وكما عن مجاهد وسعيد بن جبير الأخير وعن أبي صالح «نكست» وعن مجاهد اضمحلت وعن الضحاك وقتادة ذهب ضوؤها ، ومرجع الكل واحد كما عرفناه.

(٣) ولعلها المعنية مما روي عن الرسول (ص) «كورت في جهنم (المصدر)» إن اللحظات الأخيرة من عمرها تصبح كأنها جهنم من شدة حرارتها ، إذ تنقبض إلى النهاية فتحترق إلى النهاية.

١٣٨

من جوانبها إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء ، فسوف تكوّر لا ألسنة لها حداد لها ولا امتداد ولا جريان ولا ضياء ، وهذا هو مصير الشموس كلها ، إذا جاء أجلها فتتّت ورجعت لحالها الأولى ، وأحيلت إلى المصانع الإلهية في العوالم الأثيرية ليصاغ منها عالم جديد.

نرى بعض علماء الفلك يؤكدون أن منبع الطاقة الحرارية للشمس ليس إلّا انقباضها وانكماشها وكورها التدريجي ، وهذا هو الأثر الملموس في كل انضغاط وانكماش ولا سيما في الجسم الحار في نفسه كالشمس.

وحسب قانون الجاذبيه ل (نيوتون) نتأكد أن التشعشعات الشمسية هي إلى النقصان المستمر ، زهاء كيلو مترين في كل قرنين ، وبهذا تتأكد نظرية الإنقاض ل (هلمولتز) ، وبالإمكان ألّا يدرك هكذا نقصان في الشمس طول تاريخ الإنسان ، لكنه قياسا إلى الزمان في أدوار معرفة الأرض ، يظهر كثيرا وملحوظا ، فالقدر الناقص عن جرم الشمس حتى الآن زهاء (١٠٤٧ / ٢) أرجا ، وهي أقل بآلاف المرات من الطاقات العامة المنفصلة عنها حتى الآن.

إن نظرية الانقباض وإن كانت بمحل من التصديق ، إلا أن من المؤكد وجود منبع آخر لها أثقل من الطاقة الكيماوية والثقالة ، ويقول (جورج قاموف) بعد تحقيقات عدة (١) أن حرارة الشمس من الطاقة تحت الذرية.

ويقول : «ليس بالإمكان أن يتجاوز عمر الشمس (٠٠٠ ، ١٠٠ / ١) مما هو الآن ، لو كان المنبع الحراري لها شيئا من المواد الكيماوية ، لذلك فليكن القسم الأكبر من منبعها الحراري من العناصر الخالصة التي هي آخر المطاف للتبدلات الكيماوية لكل العناصر غير الخالصة».

هذا ـ وحرارة الشمس الآن ـ في سطحها ثلاثة آلاف درجة وفي باطنها

__________________

(١) في كتابه موت الشمس.

١٣٩

سبعون مليونا ، ولو لا نزول الأمطار المتناوبة عليها لأحرقت الأرض وانقرضت هي أيضا قبل أجلها ، وكما عن باقر العلوم قوله : «إن الشمس تطلع ومعها أربعة أملاك ، ملك ينادي يا صاحب الخير أتمم وأبشر ، وملك ينادي يا صاحب الشر انزع وأقصر ، وملك ينادي أعط منفقا خلفا وآت ممسكا تلفا ، وملك ينزحها بالماء ، ولو لا ذلك اشتعلت الأرض(١)».

ويؤيد الرواية ما عن الدكتور (دونالد منزل) الفلكي الأميركي الشهير : «إن اختلاف الأشكال في القطع المرئية في وجه الشمس ، إنها نتيجة نزول أمطار غزيرة دائبة عليها ، وقد أظهر هو قطعة من الأفلام المصورة عن الشمس ، وفيها صورة أمطار شديدة تنزل على الشمس من ارتفاع ثمانين ألف كيلومتر ، رآها مرسلوا الفلكيين في المؤتمر المعني لذلك (٢).

إذا فالشمس في كور دائم شيئا فشيئا حتى يخلص دورها فتنتهي إلى كورها الأخير ، جارية في هذا الكور لمستقر لها ثم لا دور لها ولا كور : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٣٦ : ٣٨).

ومما يطوّل عمرها أكثر ، ما تسيل عليها من الأمطار الغزيرة ؛ فتمدها في تباطؤ كورها ؛ وتمنعها أن تحرق الأرض وسائر الكرات القريبة منها إلى أجل معدود.

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) :

النجم هو الكوكب الطالع ، وعلّه يعم طلوع التمدن فيه أيضا وأحرى ، والانكدار من الكدرة وهي الظلمة ، أو كانكدار الطائر إلى الأرض وهو انقضاضه وسقوطه نحوها.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٤ كمباني ص ١٢٤ عن الكافي روى الجابر عن الباقر (ع) ..

(٢) نقلته جريدة اطلاعات الايرانية المنشورة يوم الخميس ١٥ ربيع الاول ١٣٦٩ هجرية قمرية الموافق ١٩٥٠ ميلادية ، نقلته عن مكتوب الدكتور دونالد منزل.

١٤٠