الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

سورة اللهب ـ مكية ـ وآياتها خمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (٥)

* * *

هذه السورة تفنّد القومية والقرابة اللتين لا تحملان الإيمان ، فلا قيمة لهما في الإسلام ، وفيما إذا اعتبرتا ذريعة للصد عن سبيل الله ، فالقرآن يعاديهما ويعلن ريفهما وانحرافهما ، ففي الحديث : «إن ولي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من والى الله ورسوله وإن بعدت لحمته ، وإن عدو محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عادى الله ورسوله وإن قربت لحمته» ، ومن الشواهد القرآنية على ذلك ابن نوح وامرأته وامرأة لوط ، فلا حرمة ولا كرامة لأي قريب إلى الرسول ما لم يحمل الإيمان ، فحرمته على قدر ما يحمل من الإيمان ويعمل من الصالحات.

وأبو لهب (١) هذا عم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن زعماء قريش ، لكنه وامرأته معه ،

__________________

(١) ٤٠٩ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (ص): بعثت ولي أربع عمومة ، فأما العباس فيكنى بأبي الفضل ولولده الفضل إلى يوم القيامة ، وأما حمزة فيكنى بأبي يعلى فأعلى الله قدره في الدنيا والآخرة ، وأما عبد العزى فيكنى بأبي لهب فأدخله الله النار وألهبها عليه ، وأما عبد مناف فيكنى بأبي طالب فله ولولده المطولة والرفعة إلى يوم القيامة.

٥٠١

كانا من ألدّ أعداء النبي والدعوة الإسلامية ، يجندان كافة طاقاتهما في سبيل تشويه سمعة النبي الأقدس ويعارضانه وجها بوجه ، ولقد اتخذ أبو لهب موقفه هذا من الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم منذ اليوم الأول للدعوة ، لكيلا تنمو ، ولتخبو وراء الستار فتدفن! وكون أبي لهب عما للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنه من زعماء قريش ، وأن بيته كان قريبا من بيته ، هذه كلها جعلت أذاه على النبي أشد.

يقول ربيعة بن عباد الديلمي : إني لمع أبي ـ رجل شاب ـ أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول وضيء الوجه ذو جمة ، يقف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على القبيلة فيقول : يا بني فلان إني رسول الله آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به ، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه ، فقلت لأبي : من هذا؟ قال : عمه أبو لهب (١).

وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى يا صباحاه ، فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا؟ تبا لك ، فأنزل الله تبّت يدا أبي لهب (٢).

__________________

(١). رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٤٠٨ ، وفيه عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ..) خرج النبي (ص) حتى صعد الصفا فهتف : يا صباحاه! فاجتمعوا إليه ، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك إنما جمعتنا لهذا ، ثم قام ، فنزلت هذه السورة.

٥٠٢

وزوجته أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكانت تمشي بالنميمة ضد النبي الأقدس ، وتوري نيران العداوة والبغضاء ضده صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أن نزلت هذه السورة للقضاء على هذه الدعايات الفاتكة ضد الدعوة الإسلامية ، وتشهير المضلين الذين كانوا يؤثرون على الناس ، فلما سمعت السورة جاءت إلى المسجد فلم تر النبي وهو جالس وأخذت تقول : مذمّما (تريد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا.

وكان من عظيم خطر أبي لهب ضد الدعوة الإسلامية أنه كلما جاء وفد إلى النبي يسألون عنه عمه أبا لهب ـ اعتبارا بكبره وقرابته وأهميته ـ كان يقول لهم : إنه ساحر ، فيرجعون ولا يلقونه ، فأتاه وفد فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ، فقال : إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبا له وتعسا.

فهذا نموذج من نماذج كيد أبي لهب على الدعوة الإسلامية ، هو وزوجته ، في عونه في هذه الحملة الدائبة ، يثيران حربا شعواء على النبي وعلى الدعوة الإسلامية ، لا هوادة فيها ولا هدنة.

تنزل هذه السورة مصرحة بهما وبكيدهما ، رادّة على هذه الحرب المعلنة منهما ، وتولى الله عن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر المعركة ، فلم يكد يسمع إليهما الوفود بعد تشهيرهما هكذا.

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) :

آية قصيرة في مطلع السورة ، فيها تصدر الدعوة وتحقق وتنتهي المعركة ويسدل الستار.

أبو لهب اسمه عبد العزى ، كره الله أن يذكره باسمه كرها لمعناه ، فأبدل به من كناه هذا ، لكي يدل على التهابه ضد الدعوة ليحرق صالح الإنسان ، فهو لهيب النار كالجحيم : لا تبقي ولا تذر ، لا شأن لها إلا الإحراق ، بل إنه أبو لهب : أبو الإحراق.

٥٠٣

والآية تشير أن ذاتيته النارية المحرقة لا تحرق إلا نفسه ، في الدنيا وفي الآخرة ، دون أن يقدر على إطفاء نور الله ، فالله متم نوره ولو كره الكافرون.

تبت يداه : استمرت طاقاته تماما في الخسران ، فما كيده إلا في تباب.

فاليدان هنا ـ وفي كثير مثله ـ يعنى بهما كافة الطاقات ، فقد تصرفان للخير فهما مباركتان ، وقد تصرفان للشر فهما مبتورتان متبوبتان ، وبما أن التبّ لغويا هو الاستمرار في الخسران ، فالآية تشير إلى الاستمرارية الخاسرة للطاقات اللهبية ، أنها خاسرة ترجع بالخسار إلى أبي لهب ، دون أن تكون مخسرة للدعوة الإسلامية ، إلا زمنا ما : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).

فمن الخاسرين من يخسر دنياه دون عقباه ، كالمؤمنين المضطهدين ، ومنهم من يخسر عقباه دون دنياه ، كالكافرين المترفين المرحين الفرحين ، ومنهم من يخسر الدارين كأمثال أبي لهب ، يتعب نفسه في دنياه في حسد دائم وحسرة دائبة ، ثم ينتقل في عقباه إلى عاقبة أسوأ ، وإن تباب أبي لهب جمع بين العقيدة والقول والعمل.

وقد تكون اليدان هنا كناية عن قوة الجذب والدفع ، الإيجاب والسلب ، والدين والدنيا ، والدنيا والآخرة ، اليد غير المرئية ، وهي الطاقات الروحية ، واليد المرئية وهي الأعمال الجسدانية ، والآية تتحمل الكل ، فقد تبت يداه عن كل نتاج صالح بالنسبة لهذه النواحي الحيوية إطلاقا ، فلم يحصّل إلا خسارا دائما وبوارا دائبا.

«وتب» * : تبّ هو : تبت ذاته ، كما تبت يداه ، فتباب الأعمال هكذا تنتج عن تباب الذات على قدره ، فذات الإنسان وأعماله يتعاكسان مع بعض في التأثير ، فمكاسب السوء تؤثر رينا في القلب : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ثم تزداد مكاسب السوء من جرّاء الإزدياد في رين القلب

٥٠٤

إلى حيث لا يكاد يقبل صاحبه النصيحة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢ : ٧).

فرين القلب وختمه ليسا إلا من جراء مكاسب السوء الاختيارية للإنسان ، فقد خلقه الله تعالى ـ إذ خلقه ـ مؤمنا ذا فطرة نيرة موحدة : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ (١) الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠).

وفي تقدم تباب اليدين على تباب الذات إيحاء لطيف إلى أن ذاتية الإنسان ليست شريرة خلقيا ، وإنما من جراء الأعمال غير الصالحة ، ولا سيما العامدة ، «تبت يداه وتب هو» ، الله يترك هكذا إنسان في غيّه يتردى (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)(٦١ : ٥).

وكما عرفناه ليست الآية دعاء من الله على أبي لهب ، إنما هو إخبار عن واقعه الشائن ، فممن يلتمس ربنا لتباب أبي لهب؟ أمن نفسه أم من إله سواه فوقه؟! فهذا الرأي من بعض المفسرين مسّ من كرامة الربوبية دون أن يعرف المفسر ماذا يرجع بقوله ، وإنما تقليدا عن أضرابه ..

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) :

لقد تبت يداه وهلكتا ، وتب هو وهلك ، فلم يغن عنه ماله وسعيه ، ولم يدفع عنه الهلاك والدمار : لا ماله الذي ورثه أو كسبه ، ولا ما كسبه بما له وبماله من طاقات عقلانية وجسدانية ، ولا ما كسبه من أولاده ، فبدل أن تغنيه هذه المعطيات ، أخسرته وجعلته في تباب من أعماله ومن ذاته.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) :

فأهل النار ـ في تقسيم مختصر أوّلي ـ على طائفتين : خالد فيها غير خارج

٥٠٥

عنها ، وداخل فيها خارج عنها بعد زمن قريب أو بعيد ، فالخالد يصلى النار ، أي : يوقدها ، وغيره يصطلى بها ويتوقد منها ، فالذات التي هي تباب كلها ، والأعمال التي هي في تباب كلها : إنها حصب جهنم وحطبه ، ليس للنار وقود إلا هذه الذوات الشريرة العاتية ، كما القرآن يصرح بهكذا وقود في آيات عدة.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) كما كانت ذاته لهبا ، وأعماله وأفكاره لهبا : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) حينما كان في الحياة الدنيا ، وإن كان لهيبه خافيا ـ حينذاك ـ عند الجاهلين .. كذلك يوم الجزاء ، فيظهر لهبه في منظر النار التي تحرق نفسه وتحرق غيره ، يصلى النار ويصطلي به غيره ممن كان يتابعه في كفره وفساده ، فرعا طبق الأصل جزاء وفاقا ، فما النار يوم الجزاء إلا صورة واقعية عن واقع الإنسان في حياة التكليف يوم الدنيا ، وإن كان في غفلة من هذه النار يومها (١).

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) :

وتبّت يدا امرأته وتبت نفسها كتبا به سواء ، إذ ساعدته وسايرته في تهريج موقف النبي والعداء السافر ضد الدعوة الإسلامية.

يذكر هنا من صفاتها السيئة : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) حال أنها ما كان شغلها حمل الحطب كتاجره وعاملة ، وليس العمل ـ أي ـ عمل ـ مذموما في الإسلام ، لكي يؤنّب به العامل ، فما كان العمل حلّا تكسب به المعيشة فهو حلال ، وهو من العبادات.

__________________

(١) لقد سبق طرف من البحث حول انعكاسات الأعمال في سورتي الزلزال والقارعة وتجد تفاصيل أخرى في غيرهما.

٥٠٦

وأما إذا اتّخذ العمل ذريعة للإفساد فلا أفسد منه ، كما كانت أم جميل امرأة أبي لهب تحمل الشوك والحطب وتضعها في طريق الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم لكي تؤذيه ، وعلّها توقعه فتؤلمه صلّى الله عليه وآله وسلّم وتحطّ من كرامته.

وكما كانت تمشي بالنميمة عامة ، وضد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة لتهريج موقفه ، والنميمة من شر الأحطاب ، إذ إن الحطب يحرق الإنسان وماله ، والنميمة تحرق عليه عيشه ودعوته وحياته ، وتحرق المجتمع الإنساني.

وكما كانت تلدغ بلسانها النبي الأقدس فتذمّه وتعيّره بالفقر أو السحر والجنون ، تلميذة لزوجها ، فرعا طبق الأصل.

فكانت بذلك كله ، تحمل مختلف ألوان الخطايا والآثام ، فهي إذا حمالة الحطب لا حاملته ، حمالة لكثرة مزاولتها لحمله ، وأنها استغرقت حمل كافة ألوان الأحطاب لتحرق على الرسول دعوته ، فهي لهبة كما زوجها لهب (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ).

(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) :

المسد هو الليف : فهل هو هنا حبل من ليف النخل ، أم حبل من ذهب شبّه بالليف؟ أم حبل الشيطان يقودها حيث يشاء؟

إن حمل الحطب بحاجة إلى ليف يشد به ، فلكل نوع من الأحطاب ليفه المناسب له.

فحملها للأشواك لتلقيها في طريق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كان بليف من النخل ، وحملها بالنميمة والتهمة ضد الرسول كان بحبل من الشيطان في عنقها ، وحملتها على الرسول وتعييرها إياه كانت بدافع ثروتها التي اعتزت بها ، ولكن الذهب ما

٥٠٧

كانت لترفع من شأنها كما الليف من النخل ، فما أغنى عنها مالها وما كسبت ، كما لم يغن زوجها ، فحكم العقد الذهبي في جيدها كحبل من مسد سواء ، فإن الحيوان حيوان ما لم يحمل صفات الإنسان ، وإن لم يحمل على ظهره ثياب الإنسان الفاخرة ، والإنسان إنسان ما حمل صفات الإنسان وإن لم يحمل من ثياب الإنسان وزخرفات الحياة شيئا.

إذا فحق التعبير عما كانت تعلق في جيدها : أنه حبل من مسد ، بكل مصاديقه : حبل الأشواك ، وحبل الشيطان ، وحبل الذهب!

إنه : حين انتشرت هذه السورة ـ وما تحمله من تهديد ومذمة وتصوير زري لأم جميل خاصة ، تصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها ، مدللة بحسبها ومالها ونسبها ، ثم ترتسم لها هذه الصورة (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) ـ.

حينها استنفرت ونهضت بأكثر مما كانت ضد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد يروى عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : لما نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر : (حجر قدر ملاء الكف) وهي تقول : مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا ، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جالس ومعه أبو بكر. فقال له (ص) أبو بكر : لو تنحيت لا تؤذيك بشيء ، فقال رسول الله (ص): إنه سيحال بيني وبينها ، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر فقالت : يا أبا بكر! هجانا صاحبك ، فقال أبو بكر : لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به .. فلما ولت قال أبو بكر : ما رآك؟ قال (ص) : لا! ما زال ملك يسترني حتى ولت ، وروي عنه (ص) أنه قال : صرف الله سبحانه وتعالى عني ، ثم إنهم يذمون مذمما وأنا محمد (١)

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٩٨ ح ٦.

٥٠٨

إنها قالت وتقولت فزالت عن الوجود بما حملت ، ولكن الصورة الزرية المثيرة للسخرية التي شاعت في هذه الآيات عن هذين الزوجين ، قد سجلت في الكتاب الخالد ، وسجلتها صفحات الوجود أيضا ، تنطق بغضب الله وحربه لأبي لهب وزوجته وحزبه ، جزاء الكيد لدعوة الله ورسوله جزاء وفاقا ، ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار.

٥٠٩

سورة الإخلاص ـ مكية ـ وآياتها أربع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٤)

* * *

هذه السورة تحمل إجابة وافية عن كافة الأسئلة التي تدور حول توحيد الله وسواه ، من الحقائق المعرفية الإلهية ، على قلة آيها.

يأتيه صلّى الله عليه وآله وسلّم قادة الأحزاب الخمسة : الماديين ، المشركين ، الثنوية ، اليهود ، النصارى يسألونه أن ينسب ربه كما ينسبون (١) فتنزل سورة الإخلاص مجيبة عن متطلباتهم ، قارعة أسماعهم بقوارع بوارع من آي التوحيد ، هي نماذج شاملة عن قرآن التوحيد ، وكما عن باقر العلوم عليه السّلام : «إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل هذه السورة» (٢) ، ولأنها عميقة أنيقة على اختصارها تعتبر بوحدتها ثلثا من القرآن (٣) والإنجيل والتوراة ، توحيدا خالصا جامعا في الديانات الثلاث.

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٤٠٩ ـ ٤١٢ ـ أخرجه عن جماعة من ارباب السنن بصور متفرقة.

(٢) ، وفي أصول الكافي بالإسناد عن علي بن الحسين زين العابدين (ع) مثله : سئل عن التوحيد فقال : إن الله عز وجل علم انه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والآيات من سورة الحديد «هو الله الذين لا إله إلا هو» إلى قوله (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

(٣) الدر المنثور ٦ : ٤١١ عن أبي بن كعب قال ، قال النبي (ص) من قرأ قل هو الله احد فكأنما قرأ ثلث القرآن.

٥١٠

إنها تتضمن أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة التوحيد قرآنيا ، ولأعمق ما بالإمكان أن ينزل من وحي السماء بشأن التوحيد ، جارفة كافة التصورات الباطلة من وحي الأرض وإنسانها وشيطانها حول الكيان الإلهي.

إنها إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية ، كما أن سورة «الكافرون» سلب لأي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وخرافة الشرك ، وهما توضحان كلمة التوحيد الشاملة لكلي السلب والإيجاب : «لا إله إلا الله» التي تصف الله تعالى في مختلف الآيات التي تحويها كالتالية :

«لا إله إلا الله ـ الرحمان الرحيم» (٢ : ١٦٣) (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٢ : ٥٥) (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣ : ٦) (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٦ : ١٠٢) (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢٠ : ٨) (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٧ : ٦) (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٢٠ : ٩٨) (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٤٠ : ٦٥) يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٤٤ : ٨) (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ .. الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، ... هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٥٩ : ٢٥) ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٤٠ : ٦٢).

فكلمة التوحيد هذه ، القيّمة ، المنقطعة النظير بين كلمات التوحيد ، تجمع بين السلب والإيجاب : سلب الألوهية عما ـ سوى الله بما لها من صفات وأفعال ، وإيجابها لذات واحدة جامعة لكافة الصفات الكمالية ، على وجه الحصر الحقيقي ، في ذات واحدة قيومة سرمدية.

فالله تعالى حسب الأوصاف المسبّقة في كلمة التوحيد : واحد في كونه :

__________________

ـ فمن رام وراء ذلك فقد هلك ، والحديث الثاني ـ انها ثلث القرآن ـ تحده في نفس المصدر ص ٧٠١ ح ١٩ بإسناده إلى ابن بصير عنه (ع).

٥١١

رحمانا ـ رحيما ـ حيّا ـ قيوما ـ حكيما ـ خالقا ـ عليما ـ محييا ـ مميتا ـ ملكا ـ سلاما ـ مؤمنا ـ مهيمنا ـ عزيزا ـ جبارا ـ متكبرا ـ له العرش وله الأسماء الحسنى.

كما وأنها تسلب عنه تعالى ما يتنافى وكيان الألوهية ذاتا وصفات وأفعالا : وإليكم تفسيرا مختصرا لسورة التوحيد :

«قل» * .. أظهر كما تضمر (١) في جواب الضالين التائهين عن معرفة الله ، في جواب الناكرين لوجوده ، والمشركين به والمثنّين له ، والمثلّثين إياه والمتبنّين عليه : قل : مقالة عاقلة تقضي على الأفكار الضالة العالقة بالأذهان : إن إلهي يختلف عن إلهكم وآلهتكم تماما.

إنها سورة تبرز المعاني التي تسمّت بأسمائها ، ويا لها من أسماء سامية سمتها بسماتها :

إنها سورة : التفريد ١ ، التجريد ٢ ، الإخلاص ٣ ، التوحيد ٤ ، الولاية ٥ ، النجاة ٦ ، النسبة ٧ ، المعرفة ٨ ، الجمال ٩ ، المقشقشة ١٠ ، المعوذة ١١ ،

__________________

(١) الأمر بالقول هنا يرمز لأمور عدة : منها ان الرسول لا يقول إلا عن الوحي وبالوحي وإن كان عنده جواب حسب العقلية البشرية ، فإنه إذاعة وحي السماء حتى في قوله «قل» * ، ومنها أن القول إبراز ما في الجنان باللسان ولا بد أن تبرز عقيدة التوحيد بكافة وسائل الإبراز ، ولكي يعرف الموحد بعقيدة التوحيد بين جماهير المشركين ، ومنها وجوب الدعوة إلى التوحيد ، دون اكتفاء بالعقيدة القلبية البارزة ، فانها لا بد أن تبرز موجهه للضالين» الناكرين توحيد الله ، بروزا بالحجة البالغة الدامغة كما نراها في هذه السورة ، ويشير إلى ذلك الحديث التالي :

التوحيد عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه الباقر (ع) في قول الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال : قل ـ أي : أظهر ما أوحينا إليك ونبأناك بتأليف الحروف التي قرأناها لك لتهدي به من ألقى السمع وهو شهيد.

٥١٢

الصمد ١٢ ، الأساس ١٣ ، المانعة ١٤ ، المحضرة ١٥ ، المنفرة ١٦ ، البراءة ١٧ ، المذكرة ١٨ ، النور ١٩ ، الأمان ٢٠ (١).

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) :

إنه تعالى : «هو» * لا هذا ولا ذاك ولا ذلك ، ولا هما ولا هم .. ولا أي مشار إليه بالاشارة الحسية أو العقلية أو إشارة التثنية والجمع ف «هو» * محجوب لأبعد أغوار الحجب ، احتجابا لا يرجى معه ظهوره في أي من العوالم ، ولأيّ من العالمين ، فهو لا يدرك بأيّ من وسائل الإدراك : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (٦ : ١٠٣).

إنه الاحتجاب التام عن الحواس والعقول والأوهام : «لا يحس ولا يجس ولا يمس ولا يدرك بالحواس الخمس».

ف «هو» * (هنا) اسم يرمز به إلى حقيقة مرموزة ، كنهه في غاية الخفاء ، وهويته تختلف عن سائر الهويات ، وعلى حد تعبير باقر العلوم عليه السّلام : «هو» * اسم مكنى ومشار إلى غائب» (٢) وكما في دعاء الإمام علي عليه السّلام : «يا هو يا من لا هو إلا هو ..» ، فإنه لا هويّة مطلقة ، غائبة بإطلاق الغيب ، إلا ذاته

__________________

(١) .. ٥ الولاية تعني هنا ولاية الله معرفيا وفي العبادة والطاعة ، ٦ والنجاة : من كافة ألوان الشرك والانجراف في عقيدة الإله ، ٧ والنسبة : لأنها نسبة رب العالمين كما يمكن دركه للعالمين ، ٨ المعرفة : لأنها تحمل الغاية القصوى في معرفة الله ، ٩ والجمال : لأنها جمال الله تعالى بما تعرفه كما يمكن ، ١٢ الصمد ـ لأنها لا جوف لها ولا نقص في تعريف التوحيد الالهي ، ١٣ والأساس ـ لأنها أساس الدين ، ١٤ والمانعة لأنها تمنع عن الانحراف في معرفة الله وتوحيده ..

(٢) التوحيد للصدوق بإسناده إلى باقر العلوم (ع): .. و «هو» * اسم مكنى ومشار إلى غائب ، فالهاء تنبيه عن معنى ثابت ، والواو إشارة إلى الغائب عن الحواس ، كما ان قولك : هذا ـ إشارة إلى الشاهد عند الحواس ـ وذلك أن الكفار نبهوا عن آلهتهم المحسوسة بحرف إشارة الشاهد المدرك ، فقالوا : هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار ، فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الذي تدعو اليه حتى نراه وندركه ولا نأله فيه : فأنزل الله تبارك وتعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فالهاء تثبيت للثابت ، ـ

٥١٣

المقدسة ، أجل وإنه شيء لا كالأشياء : «خارج عن الحدين ، حد الإبطال وحد الثشبيه» (١) ، غائب بالذات وظاهر بالآيات.

فمن المحجوبين ما هو محجوب لبعد مكانه رغم أنه محسوس ملموس ، ومنها المحجوب لبعد زمانه : ماضيا أو مستقبلا ، ومنها المحجوب لصغرة كالذرة ، ومنها المحجوب لخلل أو كلل في البصر ، ومنها المحجوب لعدم وسيلة إبصاره ، المناسبة له ، ومنها ومنها .. وإن هي إلا حاضرة رغم احتجابها أو غيابها ، مشهودة في ذواتها ، غائبة لحواجب يمكن زوالها.

ولكن الهوية الإلهية هوية مطلقة ، غيبة مطلقة لا يرجى ظهورها بالذات ، اللهم إلا بالآيات ..

يا من هو اختفى لفرط نوره* الظاهر الباطن في ظهوره بنور وجهه استنار كل شيء* وعند نور وجهه سواه فيء (٢) ف «هو» * ضمير للتعريف بشأن الألوهية وليس ضمير الشأن بل هو ضمير يشير إلى أنه تعالى ضمير : محجوب بحقيقة الغيب ، رغم ظهوره وبهوره كالشمس في رايعة النهار ، ظهورا بالآيات دون الذات.

ف «هو» * من أسماء الغيب لله تعالى دلالة ومدلولا ، إذ لا يشار به إلا إلى الغائب ، مطلقا أو نسبيا ، والله هو الغيب المطلق ، فلو كان الاسم الأعظم لفظيا

__________________

ـ والواو إشارة إلى المحجوب عن درك الأبصار ولمس الحواس وانه تعالى عن ذلك بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواس (نور الثقلين ج ٥ ص ٧٠٨ ح ٥٥) ، والحديث الثاني نفس المصدر ص ٧٠٠ ح ٧ عن كتاب التوحيد للصدوق وفيه انه (ع) قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ثم قال مقالته تلك.

(١) التوحيد عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني في عرض دينه على الامام علي بن محمد التقي (ع).

(٢) من منظومة الحكيم الحاج ملا هادي السبزواري قدس الله سره.

٥١٤

أو أن لفظا يدل عليه ، لكان «هو» * أو أنه من أفضله ، ثم «الله» * وكما في روايات عدة (١).

(هُوَ اللهُ) الله تعريف ثان بالله : الاسم الأعظم الظاهر ، وهو من إله «إذ إله الخلق عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيته ، وهو المعبود الحق لا معبود سواه.

ومن أله : تحير ـ عجز ـ سكن ـ فزع ـ أولع : إذ عجزت الخلائق عن اكتناه ذاته المقدسة ، وسكنوا اليه وفزعوا إلى ساحة قدسه ، كما عن أئمتنا المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين (٢) وإنه اسم يخصه دون سواه ، وله من هذا الاسم في مختلف اللغات : ك «يهوه» العبراني و..

فكما لا يشاركه تعالى في ذاته وصفاته وفي أفعاله أحد ، كذلك في اسمه : توحيد مزدوج : اسما ومسمى : لا شريك له ، ولا اسميا.

نجد هذا الاسم المبارك للذات المقدسة الإلهية (٩٨٠) مرة مكررة في آي الذكر الحكيم ، دون غيره من أسماء أو أسماء غيره ، اهتماما بهذا الاسم الأعظم إلى مسماه.

ثم «الله» * كتفسير ل «هو» * كما «أحد» * تفسير ل «الله» * و «الصمد» يفسر (أَحَدٌ) وباقي ألفاظ السورة تفسير للصمد.

(اللهُ أَحَدٌ) إن بين الأحد والواحد فروقا شتى : فالأحد يفي بما لا يفي به

__________________

(١) التوحيد عن أمير المؤمنين (ع) رأيت الخضر (ع) في المنام قبل بدر بليلة فقلت له : علمني شيئا انصر به على الأعداء ، فقال : قل : يا هو يا من لا هو إلا هو ، فلما أصبحت قصصتها على رسول الله (ص) فقال لي : يا علي! علمت الاسم الأعظم ، فكان على لساني يوم بدر.

(٢) التوحيد عن أمير المؤمنين (ع): الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله اليه ، والله هو المستور عن درك الأبصار والمحجوب عن الأوهام والخطرات.

وفيه عن الباقر (ع) معناه المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته والاحاطة بكيفيته.

٥١٥

الواحد ، ولم يوصف الله تعالى ب «أحد» * إلا هنا ، وأما الواحد فكثير ، والأحد في توصيف الله يشمل كافة الوحدات الحقة في الذات المقدسة الإلهية ، وحدات لا كثرة فيها ، وليست عن عدد ، ولا في عدد ، ولا بتأويل عدد ، ولا بعدد ، على حد تعبير الإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام ، فما سوى الله لا توجد فيه وحدات إلا كهذه التي هي كثرات :

فالإنسان ـ مثلا ـ واحد عن عدد : من الآباء والأمهات ، وعن عدد من العناصر وعن ..

وواحد في عدد : لأنه مركب من مليارات الأجزاء ، لا يتمكن أن يتحلل عنها فيتوحد في جزء لا أجزاء له ، إلا أن يتحلل عن الوجود.

وواحد بعدد وبتأويل عدد ، تأويل المأخذ المسبّق ، وتأويل الحال الحاضرة ، وتأويل المستقبل ، فإنه سوف يتعدد في أولاده وأحفاده الذين ينفصلون عن صلبه ، وكما كان متعددا منبثّا في الأصلاب والأرحام وهو الآن في عدد.

ولكن الله تعالى ليست وحدته عن عدد ، لم يكن متعددا ثم توحّد ، إذ لم يولد ، ولا في عدد : لا أجزاء لذاته المقدسة ، ولا بتأويل عدد : إذ لم يلد ... إنه واحد أزليا ، وواحد أبديا ، وواحد ذاتيا ، وواحد صفاتيا ، وواحد أفعاليا وواحد .. وإنه أحدي كما نجده في جواب الإمام علي عليه السّلام عن سؤال الأعرابي في حرب الجمل (١) فكالتالي :

__________________

(١) التوحيد بالإسناد : ان أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (ع) فقال : يا أمير المؤمنين! أتقول : ان الله واحد؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا اعرابي! أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين (ع) : دعوه ، فإن الذي يريده الاعرابي هو الذي نريده من القوم ـ ثم قال : يا اعرابي! ان القول في أن الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل ، ووجهان يثبتان فيه ، فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد ـ يقصد به باب الأعداء ، فهذا ما لا يجوز ، لان ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، ألا ترى انه كفر من قال : ثالث ثلاثة؟ وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز عليه ، لأنه تشبيه ، وجل ربنا عن ذلك وتعالى .. وأما ـ

٥١٦

١) أحدي الذات ، إذ لا جزء له ولا أجزاء ، ولا حد ولا حدود ، فإنه مجرد عن الحدود والأجزاء ، فلا أحد إلا هو ، إذ لا مجرد حقيقيا إلا هو ، أحدية سرمدية : دون بداية ولا نهاية.

٢) أحدي الشخص : فلا ثاني له ولا شريك.

٣) أحدي الصفات في معنيين : أن لا مثيل له في صفاته : ـ

٤) وأن صفاته عين ذاته ، إذ لا تزيد على ذاته ، لا جوهرا على ذاته ، ولا معنى زائدا على ذاته ، ولا أية حقيقة سوى ذاته المقدسة ، فلا تعدد حقيقيا في صفاته ، ولا في ذاته وصفاته.

٥) أحدي السرمدية : فلا أزلي سواه ، ولا أبدي سواه : هو الأول والآخر ..

٦) أحدي في الخالقية : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣٥ : ٣) (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٣ : ١٦). فلا خالق سواه إلا بإذنه : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) (٥ : ١١٠) : خلقا بإذن الله دون استقلال.

٧) أحدي في المعبودية : لا معبود سواه (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٤٠ : ١٤).

وأحدي في كلمّا له من ذات وأفعال وصفات ، إن صح الكل لما ليس له جزء ، ف: «هو خلو من خلقه وخلقه خلو منه» «لا هو في خلقه ولا خلقه

__________________

ـ الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبيه ، كذلك ربنا ، وقول القائل : انه ربنا عز وجل أحدي المعنى ، يعني انه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربنا عز وجل.

٥١٧

فيه» «باين عن خلقه بينونة ذات وصفة ، لا بينونة عزلة : «في علم وقدرة» (حديث شريف).

إنه واحد لا بعدد ، وهو الأحد إذ لا ثاني له ، ولا يدخل في باب العدد ، إذ لا يقال: أحد اثنان .. إنما : واحد اثنان ، فهو واحد أحدي ، وليس واحدا عدديا ..

وإنه لا يتعدد في لفظ ولا معنى ، فهو «أحد» * رغم أن الواحد يتعدد فيهما : ١ ـ واحد اثنان ، ٢ ـ أنا واحد ، وقد تركبت من ملايين الأجزاء.

و «أحد» * في وصف الله ، يضم كافة الصفات الثبوتية والسلبية ، كما ويكملها «الصمد».

فالأحدية الذاتية والفاعلية والصفاتية والسرمدية والمعبودية ، كلهما معنية من «أحد» * دون اختصاص بناحية دون أخرى.

كما وتنفي كافة الكثرات عن ذاته وصفاته وأفعاله ..

(اللهُ الصَّمَدُ) :

تفسير للهوية الإلهية : «هو» * وإلهيته «الله» * وأحديته «أحد» * وكما يفسّر الصمد ب (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) .. خير مفسّر ومفسّر (١).

و «الصمد» هو الذي ليس له جوف ، لا جسماني لأنه لا جسم له ، وكل جسم مجوّف! ولا روحاني ، لأنه جامع الصفات والكمالات الذاتية اللامحدودة ،

__________________

(١) التوحيد عن باقر العلوم (ع): أن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (ع) يسألونه عن الصمد ، فكتب إليهم : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تتكلموا فيه بغير علم فقد سمعت جدي رسول الله (ص) يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ، وأن الله سبحانه قد فسر الصمد ، فقال : (اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) ثم فسره فقال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

٥١٨

لا ينقص صفة ، ولا تنقصه صفة لائقة لذاته المقدسة ، حتى يكون أجوف معنويا ، وعلى حد تعبير الإمام الصادق (ع): صمد لا مدخل فيه»وكل مادة فيها مدخل! وعن أمير المؤمنين علي (ع): «الصمد بلا تبعيض بدد» فالصمد لا يبعض ولا مدخل فيه ، فليست المادة صمدا ، ولا الروح كذلك ، لأنها مدخل وداخلة ، وهي مبعضة.

إن المادة ، أية مادة ـ وإن كانت ذرة وأجزاءها ـ إنها جوفاء ، فكما التركب كيان المادة ، كذلك كونها جوفاء ، وكما المادة دون تركب هي لا مادة ، كذلك المادة دون جوف هي لا مادة.

فالمادة جوفاء بالمعنيين ، جوفاء ذاتيا : أن في ذاتها جوف وخلو ، وجوفاء معنويا لفقدانها الكثير الكثير من الكمالات.

إذا فالمادة ليست صمدا لا جوف له ، إنما الله هو الصمد الذي لا جوف له : سالبة بانتفاء الموضوع : ليس ماديا حتى يكون له جوف مادي ، وبذلك تسلب عنه الذات المادية بجميع مصاديقها ومراحلها ، ثم سالبة بوجود الموضوع : أن لو تصورنا كائنا مجردا ، ناقصا عن بعض الكمالات ، فالله ليس مجردا أجوف ، بل هو مجرد صمد : هو الكمال اللامحدود من ذات وصفات الألوهية.

والصمد بهذا المعنى لزامه السيادة التامة وأن يكون مرجعا وملجأ ، إليه ينتهي السؤدد ولا ينتهي سؤدده (١).

__________________

(١) التوحيد عن باقر العلوم (ع) عن أبيه عن جده الحسين بن علي (ع) انه قال : الصمد الذي لا جوف له ، والصمد الذي لا ينام ، والصمد الذي لم يزل ولا يزال.

وفي المجمع عن عبد خير قال : سأل رجل عليا (ع) عن تفسير هذه السورة فقال : قل هو الله أحد ، بلا تأويل عدد ، الصمد بلا تبعيض بدد.

أقول : ان كل تبعيض بدد والى بدد ، لمكان الحاجة ، والله ليس مبعضا فليس جسما ، إنه الصمد الذي ليس له جوف.

٥١٩

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) :

لا هو والد كما المسيحيون يزعمون : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) : الوثنيين الثالوثيين ، ولا هو ولد له والد ، كما هم يظنون : الإله الولد ، والإله روح القدس.

(لَمْ يَلِدْ) : ليس خلقه لما سواه في معنى الولادة ، سواء أكانت بانفصال النطفة ، أم بتبدّل الوالد ولدا ، أم .. كما يقال في خرافة الثالوث بما اختلقته الكنائس ، مضاهاة الوثنيين (١)!

لم يلد : وإنما خلق ـ أوّل ما خلق ـ لا من شيء وخلق منه سائر الخلق ، فليس خلقه من ذاته ، وإنما من شيء خلقه أولا ، كما خلق الأول لا من شيء ، لا من لا شيء ، حتى يكون مبدأ الخلق عدما ، ولا من شيء في البداية حتى يكون ذلك الشيء أزليا كمثله.

(وَلَمْ يُولَدْ) ليس الوجود الإلهي مولود الخيال لكي يصبح الإله خيالا لا حقيقة له ، ولا مولود إله آخر لكي يكون حادثا فمخلوقا ، «فسبحانه سبحانه من إله لم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد فيكون في العز مشاركا».

وعلى حد تفسير الإمام الحسين بن علي عليهما السلام : «لم يلد : لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا يتشعب من البدوات ، كالسنة والنوم والخطرة والهمّ والحزن

__________________

ـ وعن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال : إن اليهود سألوا رسول الله (ص) فقالوا : انسب لنا ربك فلبث ثلاثا لا يجيبهم ، ثم نزلت هذه السورة فقلت : ما الصمد؟ فقال : الذي ليس بمجوف (نور الثقلين ج ٥ ص ٧١٣) وروى مثله الفاضلان الحلبي وزرارة عن أبي عبد الله (ع) ، وروى هارون بن عبد الملك عنه (ع) .. وصمد لا مدخل فيه.

(١) انظر تحليلنا في آخر سورة الإخلاص بعنوان : «توحيد الثالوث».

٥٢٠