الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

يَعْلَمُ) وقتئذ : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) خبرة إدانة وجزاء ، كما كان خبيرا يوم الدنيا ، خبرة علم واطلاع.

يومئذ يصبح الإنسان خبيرا أن ربه به لخبير ، يعلمه خبيرا بعد ما كان يجهل أو يتجاهل بخبرة الربوبية ، إذا لم يكن ليحافظ على كرامة الربوبية ، فلقد كان يعمل كأنه لا ربّ ، وكان حرا كأنه ليس عبدا ، ثم يوم القيامة سوف تظهر له ربوبية الرب علميا وواقعيا وإدانة وجزاء وفاقا.

٤٢١

سورة القارعة ـ مكية ـ وآياتها عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ)(١١)

* * *

سورة تقرأها فتقرعك بقارعة القيامة ، ولكي تعد لها ما استطعت من أثقال الموازين فتخف قارعتها عنك ، وتصبح بها في عيشة راضية.

(الْقارِعَةُ) :

إنها قارعة في الأولى ، واخرى في الحياة الأخرى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٣ : ٣١).

٤٢٢

قارعة يوم الدنيا تتلوها قارعة ـ ما أعظمها ـ في الآخرة : (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) بالقارعة الأخيرة الهائلة.

إنها قوارع تتبع ما صنعوا ، في أولاهم يسيرا ، وفي أخراهم كثيرا : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) (٦٩ : ٤) والقارعة مبالغة في القرع ، وهو ضرب شيء على شيء ، والآخرة هي يوم التضارب والتداق ، يتضارب الكون ويضطرب : بقرع الأنجم والكواكب بعضها ببعض لحد الانتثار : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) : فينتصر في هذه المعركة الشاملة أمر الله ، إن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وكان أمر الله مفعولا.

إنها تقرع إنسانها بما قدمت نفسه من قوارع الأفكار والأعمال ، رغم أنها ما كانت تقرع صاحبها يومها إلا يسيرا ، لكنها تقرعه يوم الآخرة كثيرا ، جزاء وفاقا.

والقارعة اسم من أسماء القيامة الكبرى تشير إلى سمته ، كأضرابها من أسمائه التي تشير : كلّ إلى سمة وحالة خاصة (١).

__________________

(١) منها اسماء مفردة ك : الواقعة ـ الصاخة ، ومنها مركبة إضافية : ك : اليوم الموعود ـ اليوم الآخر ـ يوم عظيم ـ يوم كبير ـ يوم الجمع ـ يوم أليم ـ يوم عصيب ـ يوم مشهود ـ يوم الحساب ـ يوم الدين ـ يوم يلقونه ـ يوم الحسرة ـ يوم الآزفة ـ يوم الفتح ـ يوم التناد ـ يوم الفصل ـ يوم محيط ـ يوم الخلود ـ .. ومنها مركبة بيانية ك : يوم تبلى السرائر ـ يوم لا بيع فيه ولا خلة ، يوم ينفخ في الصور ، يوم تشخص فيه الأبصار ، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، يوم يقوم الأشهاد ، يوم ترجف الراجفة ، يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ، يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه ، يوم توفي كل نفس ما عملت ، يوم تدعو كل أناس بإمامهم ، يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة.

ويوم القيامة يومان : يوم الإماتة ويوم الإحياء ، والآيات تبحث عن اليومين وتعبر عنهما جميعا بيوم القيامة.

٤٢٣

(مَا الْقارِعَةُ؟) :

كسؤال يصوّر رهبة الموقف ، لحد كأنه خفي على الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟).

إن القارعة توحي بقرع ولطم شديدين ، تقرعان الكون قلبا وقالبا ، القلوب المقلوبة التي تذرعتها الشياطين لقرع الحياة وقلبها إلى غير ما تعنيه ، والقوالب كلها مقروعة في هذه الدكة العظيمة الشاملة .. وإنما تسلم القلوب السليمة ، الثقيلة الموازين ، الشديدة الرباط بالله العظيم.

(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) :

ليس لها مثيل في دنيا الحياة حتى يدركها في عقباها ، وإنما هو الوحي ، وحي السماء : يدريك ما هي القارعة.

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) :

إنها إجابة عن سؤالها بما يحصل فيها ، لا بماهيتها ، فإنها فوق التحمل يوم الدنيا ولو في تصورها .. يوم يكون الناس : من هيبته وشدة وطأته وقارعته ، كالفراش المبثوث : الجراد المنتشر : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٥٤ : ٧). والجراد المنتشر هي الفراش المبثوث ، تنبث وتنتشر وتنفرش بعضها بعضا ، وتركب بعضها بعضا ، دون أن تتجه لجهة واحدة ، لهول القارعة ، ولأنهم كانوا يوم الدنيا في اتجاهات شتى ، فكل إنسان يعمل على شاكلته ، ويرجع إلى شاكلته ، شاء أم أبى.

إن الفراش المبثوث مثل لغاية الضعف والحمق واللاهدف ، وهكذا يصير مصير الإنسان الذي عاش حياته كالفراش المبثوث ، إلا من ثقلت موازينه ،

٤٢٤

فهذا هو مصير أقوى إنسان في الكون ، ثم ماذا يكون مصير سائر الكون ، لنأخذ هنا مثالا من الجبال :

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) :

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٧٠ : ٨ ـ ٩) .. فيا لها من وقعة قارعة ودكة مفرغة تهزم الجبال فتهزم في هذه المعركة الدامية ، فهذه سماؤه كالمهل : حمراء كالمطلوم المجروح ، وهذه جباله كالعهن المنفوش : الصوف ذو ألوان ، نشر بندف ، فنداف القارعة هكذا يندف وينفش الجبال.

فيا له من مشهد تطير له القلوب ، وترجف منه الأوصال ، وي كأن كل شيء في الكون يطير حول الإنسان هباء ، فما ذا إذا حال الإنسان في الختام :

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) :

الموازين جمع ميزان وهو ما يوزن به وما يوزن أيضا ، ولا يعنى به هنا وزن الجسد ، وإنما ما به الإنسان إنسان ، من موازين العقل والإيمان وأعمال الإيمان ، وعلى حد تعبير الإمام الصادق (ع) «الموازين هي موازين الإنسانية».

والميزان هو آلة الوزن والقياس ، ما يوزن به الشيء ويقاس ، فإن كان ذلك الشيء جسما فالميزان الجسماني على اختلاف حالات الأجسام فاختلاف موازينها ، فلا يوزن ما يسوى غراما بما يوزن به أطنان ، ولا يوزن النور بما يوزن به سائر الأجسام غير النورانية ، وكما لا توزن الدوائر والقسي أو الحرارة والبرودة أو الأعمدة والخطوط أو الشعر والفلسفة ، لا توزن هذه وأمثالها بالقبّان وغيره من موازين الأثقال المادية.

٤٢٥

ثم الروحانيات والصفات والعقول والأرواح ، إنها أحرى أن توزن بالمثل العليا من أمثالها ، وفي هذا الباب ليس الثقل إلا للصالحات دون الطالحات.

فالصالحات هي ثقل الميزان ، والسيئات هي خفتها ، إذ ليس للسيئات ثقل ، فإنما الوزن هو الحق والموازين هي القسط : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (٧ : ٩) لا : الوزن حق ، مع أنه حق ، إنما : الوزن هو الحق ، فالحق هو الميزان والميزان هو الحق ، دون أن يكون وزن أو ميزان للباطل (١) فلا يقام للكافر ميزان لحبط أعماله : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٨ : ١٠٥) وكما عن الإمام زين العابدين عليه السّلام سنادا إلى القرآن (٢).

فالقسط والحق هما الميزان ، وهما ثقل الميزان : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٢١ : ٤٧).

فإفراد القسط هنا لجمع الموازين يوحي لنا أن مجموعة الموازين تتحد في أنها القسط ، دون أن يكون للظلم ميزان ولا وزن حتى توزن به السيئات ، إنما هو ميزان واحد هو الحق والقسط والعدل ، وكما الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام يصرح بسناد الآيات ويحذو حذو حفيده الإمام الصادق عليه السّلام.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٢ ص ٥ ح ١٣ عن مصباح الشريعة قال الصادق (ع) في كلام طويل : فإذا أردت أن تعلم أصادق أنت أم كاذب فأنظر في قصد معناك وغور دعواك وعيرهما بقسطاس من الله عز وجل كأنك في القيامة ـ قال الله تعالى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) فإذا اعتدل معناك بدعواك ثبت لك الصدق.

(٢) كما في التوحيد عن علي (ع) وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات وأما قوله تبارك وتعالى (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة ، يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين.

٤٢٦

وإذا كان القسط والحق والعدل هي الميزان : فأحرى أن يكون الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلفاؤه المعصومون هم الموازين ، كما النبيون وأوصياؤهم موازين ، وعلى حد تعبير الإمام الصادق عليه السّلام : إن الموازين هم الأنبياء والأوصياء (١).

فلا الموازين تكون مادية ، ولا ما يوزن فيه الموازين ، إنما هي القيم والمثل العليا للإنسان ـ أيا كان.

وإنها ـ رغم اختلافها صوريا ـ تتحد في كونها حقا وقسطا ، تظهر في مظاهر عدة حسب عديد الأعمال والأقوال ومراتب الإيمان والأحوال ، فالحق الذي يوزن به الإيمان هو حق الإيمان ، وما توزن به الصلاة هو حق الصلاة وأمثالها لأمثاله.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) : عيشة كأنها الرضا كلها ، دون أن يحملها شيء سواها ، فهي هي الرضا بعينها : رضى العبد ورضوان من الله ، رضوان مزدوج.

ثم ما هو مصير الحابطين أعمالا ، الخابطين أحوالا ، الأخسرين أعمالا ، الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها! :

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ) :

هؤلاء هم الذين لا وزن لهم إطلاقا ، بين ما لم يعملوا من الصالحات وما لم يؤمنوا بها ، وبين ما حبطت من أعمالهم الصالحة أحيانا ، لكفرهم : (أُولئِكَ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ باب الميزان ص ٢٤٨ ح ٦.

٤٢٧

الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٨ : ١٠٥).

أعمالهم حابطة قياسا إلى الآخرة ، ولو كانت مثابا عليها يوم الدنيا وهم فيها لا يبخسون : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١ : ١٥ ـ ١٦).

هنا وهناك تتحدث الآيات عمن محّض الإيمان محضا ، ومن محض الكفر محضا ، دون من (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٠٢).

(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)(١) كما كانت الهاوية أمه : ملجأه ومرجعه ، مصدره ومورده ، أعماله وأفكاره ، كانت كلها هاوية : نارا حامية : تحرق ما تبلعه (٢) ، فسوف

__________________

(١) الدر المنثور (ج ٦ ص ٣٨٥) أخرج الحاكم عن الحسن قال : قال رسول الله (ص): إذا مات العبد تلقى روحه أرواح المؤمنين فيقولون له : ما فعل فلان؟ فإذا قال : مات ـ قالوا : ذهب إلى أمه الهاوية. فبئست الأم. وبئست المربية.

(٢) وفيه أخرج أبو يعلي قال كان رسول الله (ص) إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له وإن كان شاهدا زاره ، وإن كان مريضا عاده ، ففقد رجلا من الأنصار في اليوم الثالث فسأل عنه فقالوا : تركناه مثل الفرخ لا يدخل في رأسه شيء إلا خرج من دبره ، قال عودوا أخاكم ، فخرجنا مع رسول الله (ص) نعوده فلما دخلنا عليه قال رسول الله (ص) : كيف تجدك؟ قال : لا يدخل في رأسي شيء إلا خرج من دبري قال : ومم ذاك؟ قال : يا رسول الله (ص)! مررت بك وأنت تصلي المغرب فصليت معك وأنت تقرأ هذه السورة (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) إلى آخرها : (نارٌ حامِيَةٌ) فقلت اللهم ما كان من ذنب أنت معذبي في الآخرة فعجل لي عقوبته في الدنيا فنزل بي ما ترى ، قال رسول الله (ص) : بئس ما قلت ، ألا سألت الله أن يؤتيك في الدنيا حسنة ويقيك النار ، فأمره النبي (ص) فدعا بذلك ودعا له النبي (ص) فقام كأنما نشط من عقال.

٤٢٨

تكون يوم الآخر هاوية كما كانت ، صورة طبق الأصل ، فيا لها من أثقال إنسانية! تكافح قارعة الآخرة فينتصر إنسانها في هذه المعركة الدامية .. لا نعني إنسان الجسد فإنه يموت ويبعثر ، ثم يحيى فيجازى ، إنما إنسان الروح ، فهو الذي سوف ينتصر بموازينه ، فعيشته راضية ، رغم من سواه من أهل المعركة ، معركة القارعة ، المعركة القارحة ، فإنها تقرع قوما وتقرع من آخرين.

٤٢٩

سورة التكاثر ـ مكية ـ وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨)

* * *

تأنيب شديد بالمتكاثرين الذين اخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم ، أولئك الذين حسبوا الحياة كلها شهوات ، هؤلاء الأخسرون أفكارا وأعمالا ، المتكاثرون في حياتهم حتى جرهم تكاثرهم إلى المقابر! (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) :

اللهو من اصول المحرمات في كافة الشرائع الإلهية المقدسة ، سواء أكان دافع التكاثر

بالأموال والأولاد والنساء ، أم بالقمار والموسيقى وأضرابها ، وكما يعد القرآن

٤٣٠

أمثالها من اللهو تنديدا بها ومنعا عنها (١).

فمن الأشغال والأعمال ما تخص اللهو دون أن تأتي بصالح للحياة ، كالقمار والرقص والموسيقى ، فإنها تخسر الحياة ولا تربحها ، تخسرها معنويا وماديا ، فهي محرمة إطلاقا.

ومنها ما تختلف حسب اختلاف الأهداف والنيات ، كالأموال والأولاد والتجارة ، والحياة الدنيا كلها : فهي هي الدنيا وأموالها وأولادها ، بين الجنة والنار ، كما يهدفها الهادفون ويقصدها القاصدون.

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ..) فالحياة الدنيا بطبعها كلها لعب ولهو وتفاخر وتكاثر : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) (٥٧ : ٢٠).

إن الإنسان بطبعه يحب الاستكثار والاستئثار من الدنيا وبها (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ)

__________________

(١) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» (٢٣ : ٩) «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» (٢٤ : ٣٧) «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» (٤٥ : ٣) «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» (٦ : ٣٢) «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» (٦ : ٧٠) «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣١ : ٦ ـ ٧) «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (٦٠ : ١١).

هذه وأمثالها تنهي عن اللهو : وهو كل ما ينهي عن الله : عن ذكره وعبادته ، وعن القيام بواجبات الحياة السليمة ، وعما يعني الإنسان كإنسان ، ويهمه في تجميل الحياة وتجليلها ، ويرفعه ويخلصه عن دركات الحياة ، عن حيونية في الحياة وشيطنته.

٤٣١

ولكن عليه أن يجب التي تقربه إلى الله زلفي ، وتجعل حياته الدنيا حياتا عليا ، ثم لا يفتخر بالكثرة الخيرة أيضا إذ ليس له حول ولا قوة إلا بالله.

وأما إذا جهل أمر الكثرة هنا وهناك ، فاختصها بالكثرة الكاسرة لكيان الإنسان ، ثم تفاخر بها تفاخرا بدافع الكبرياء ، فهو إذا مسامح عن إنسانيته.

والتكاثر له درجات عدة ومنها ما لا تقف لحد : تكاثر يتعدى الحياة والأحياء إلى الأموات ، فإذا تساوى المتكاثرون ، أو اختلفوا أيضا ، أخذوا في زيارة القبور : نحن أكثر رجالا وأولادا منكم بين أصحاب القبور ، وإن كنا حاليا على سواء ، أو أنتم أكثر منا ، مفتخرين بمصارع الآباء وقبور الهلكى ، رغم أنهم من الهلكى في حياتهم.

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) :

مقابر تزور مقابر اخرى (١) تفاخرا بأجساد طغاة البشرية!

وعلى حد تفسير إمام المتقين أمير المؤمنين علي عليه السّلام بعد تلاوته آية التكاثر :

__________________

(١) وليس المعنى من زيارة المقابر هو الموت ـ رغم ما قيل ـ لأن المخاطبين كانوا بعد أحياء ، فقد خوطبوا خطاب تنديد وتنبيه ، ولأن الموت ليس زيارة للمقابر ، إنما هو دخول القبر لمن يدفن في القبر ، وليس كل ميت يدفن ، ولأنه لم يقل مقابركم ، ومما يؤيد هذا المعنى أن السورة نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف بن قصي وبني سهم بن عمر ، تكاثروا وعدوا اشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف ، ثم قالوا نعد موتانا حتى زاروا القبور فعدوهم وقالوا : هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية ـ عن مقاتل والكلبي.

٤٣٢

«يا له مراما ما أبعده ، وزورا ما أغفله ، وخطرا ما أفظعه ، لقد استخلوا منهم أي مدكر ، وتناوشوهم من مكان بعيد ، أفبمصارع آبائهم يفخرون ، أم بعديد الهلكى يتكاثرون ، يرتجعون منهم أجسادا خوت ، وحركات سكنت ، ولأن يكونون عبرا أحق من أن يكونوا مفتخرا ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزة ، لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة ، وضربوا منهم في غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية ، والربوع الخالية ، لقالت : ذهبوا في الأرض ضلالا ، وذهبتم في أعقابهم جهالا ، تطوءون في هامهم ، وتستثبتون في أجسادهم ، وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خربوا.

* * *

وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم ، أولئك سلف غايتكم وفراط مناهلكم الذين كانت لهم مقاوم العز وحلبات الفخر ملوكا وسوقا ، سلكوا في بطون البرزخ سبيلا ، سلطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون وضمارا لا يوجدون ، لا يفزعهم ورود الأهوال ، ولا يحزنهم تنكر الأحوال ، ولا يحفلون بالرواجف ولا يأذنون للقواصف غيبا ، لا ينتظرون وشهودا لا يحضرون ، وانما كانوا جميعا فتشتتوا وآلافا فافترقوا ، وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم ، عميت أخبارهم وصمت ديارهم ، ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا وبالسمع صمما وبالحركات كونا ، فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات ، جيران يتآنسون». هذا هو التكاثر الذي يندد به الله ويخشى منه رسول الله على حد قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما أخشى عليكم الفقر ، ولكن أخشى عليكم التكاثر» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن زيد بن اسلم عن أبيه قال قرأ رسول الله (ص) ألهاكم متكاثر ، وأخرجه ابن مردويه عن عياض بن غنم عنه (ص) مثله.

٤٣٣

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) :

«لو قد دخلتم قبوركم» ، إذ يرتفع الحجاب وغشاوة الجهل المعمّد بالانخلاع عن ستار الدنيا وحياتها.

(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) :

«لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم» (١) علما هو أرقى ، علمان متتابعان يفوق بعضهما البعض ، بعد الجهل المتمادي ـ العامد ـ يوم الدنيا : كلا سوف تعلمون : عند سكرات الموت وهو بداية العلم ، وفي الكرّة : يوم قيام القائم (ع) ، بعد الموت ، ثم كلا سوف تعلمون ، في المحشر.

يا ويلاه! فهل إلى تحصيل هذا العلم يوم الدنيا من سبيل ، لنموت قبل أن نموت كما أمرنا : «موتوا قبل أن تموتوا» : ولنرى الجحيم قبل أن ندخلها فنتحرّز عن أسبابها؟ فهل من سبيل؟

أجل ـ لو أن حاول الملتهون بالتكاثر أن يعلموا علم اليقين ، فتحللوا عن

__________________

(١) هنا في الآية : كلا سوف تعلمون إلخ .. وجوه أقواها ما ذكرناه ، ويؤيده العلوي (ع): سوف تعلمون في القبر ثم سوف تعلمون في الحشر(نور الثقلين ج ٥ ح ٧) ومثله النبوي (نفس المصدر) وفي الدر المنثور ج ٦ ص ٣٨٧ في روايتين عنه (ص) مثله.

واحتمال ثان أن العلم الأول في الدنيا والثاني بعد الموت ، ويبعده أن كل المخاطبين هنا ليسوا من الذين سوف يعلمون وينتهبون ، اللهم إلا في سكرات الموت حين لا يفيدهم العلم ، ويقربه المروي عن الصادق (ع) قال يعني مرة في الكرة ومرة في يوم القيامة(البرهان ج ٤ ص ٥٠١ ح ٣) أقول الكرة هنا هي الرجعة في دولة الامام المهدى (ع) وليست للكل ، وقد يقال بما أن المخاطبين هنا هم الكفرة الذين محضوا الكفر محضا ، فهم كلهم حسب الروايات يرجعون ، ثم أقول : لا مانع من كون المرة الأولى للعلم شاملة للكرة ولسكرات الموت وما بعد الموت ، وبذلك يجمع بين الروايات ، إلا أن العلم بعد الكرة ـ إذا ـ تحصيل للحاصل قبل الكره بعد الموت ، إذا فما العلم هنا إلا عند الموت وبعده.

واحتمال ثالث أن الأول عند الموت والثاني في سؤال القبر ويبعده انهما على سواء ، فخط الموت وخطته واحدة ، لا تفاضل في الانتباه عنده وبعده.

٤٣٤

هذه الغشاوات الحائلة بينهم وبين درك الحقيقة : حقيقة الحياة ، وحقيقة الموت.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) :

(عِلْمَ الْيَقِينِ) : من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي : يقين العلم ، العلم الذي يطمئن الإنسان ويخرجه عن زلزال العقيدة وشكوكها ، وهو أولى مراتب اليقين ، ثم عين اليقين ، ثم حق اليقين.

وأصل اليقين هو سكون الفهم مع ثبات الحكم وهو خلاف الظن ، فلو أن المتكاثرين الملتهين علموا الحقيقة علم اليقين ، لكانوا يرون الجحيم في علمهم ، رؤية علمية دون ارتياب ، فكانوا إذ ذاك يرونهم في الجحيم ، ويرون آمالهم وأعمالهم وأموالهم وأصحاب القبور الذين تكاثروا وتفاخروا بهم ، كانوا يرونهم كلهم في الجحيم.

هذا لو كانت الرؤية صادقة بما علموا ولم يعملوا ، ولو علموا علم اليقين وعملوا ، لكانوا يرون أنفسهم في الجنة ، ويرون من تفاخروا بهم في الجحيم.

(لَوْ تَعْلَمُونَ) : محال أن تعلموا : استحالة بالاختيار ، دون تسيير وإجبار ، وإذ لم تعلموا يوم الدنيا فسوف تعلمون بعده.

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) :

إذ دخلتموها ووجدتم أنفسكم في يقين الجحيم نفسه ، فقد كان لكم أن تروها علم اليقين لكي تتحرزوا عنها فلا ترونها عين اليقين.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) :

النعيم الذي تجاهلتموه حتى وردتم موردكم في الجحيم ، فترك النعيم جحيم أينما كان ، ولا سيما النعيم الذي يهم الإنسان في شريعة الله.

٤٣٥

إنه النعيم الذي أخلدكم التحلل والتغافل عنه في التكاثر : من نعيم العقل الذي عقلتموه وحبستموه في أسر الشهوات ، ونعيم الحياة التي أخلدتموها فى الحيونات : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٤٦ : ٢٠).

ومن نعيم النبيين ، فنعمة الرسالة هي أهم النعم التي يسأل عنها : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٥ : ١٠٩).

فهذه الثلاث هي أصول النعم الروحانية التي يسأل عنها.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ) سؤال تقريع وتبكيت (يَوْمَئِذٍ) يوم إذ رأيتم الجحيم عين اليقين : (عَنِ النَّعِيمِ) لماذا ضيعتموه؟

هذه هي النعم التي يسأل عنها وكما رواتها الأئمة من أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، دون النعم المادية ، وكما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : ثلاث لا يحاسب بهن العبد : «ظل خص يستظل به ، وكسر يشد بها صلبه ، وثوب يواري به عورته» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٩١ ، وهذه الرواية هي الوحيدة في الدر المنثور ، ويعارضها عديد من الروايات فيه ، تعزي إليه (ص) أن النعيم هو الكسر والظل والنعل ، دون أن تذكر أو تشير إلى النعم الأصيلة للإنسان ، التي يرويها أئمة أهل البيت عن الرسول الأقدس (ص) وكما نرى أن القرآن لا يمن على المؤمنين إلا بنعمة الرسالة وأمثالها.

٤٣٦

سورة العصر ـ مكية ـ وآياتها ثلاث

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣)

* * *

إن الله يحلف : (وَالْعَصْرِ) فهل كما نحلف وعند فقدان الدليل؟ والله خالق المدلول والدليل؟ كلا فإنما يأتي بصيغة الحلف ليوجهنا إلى مهمة فيما يحلف به ، هي برهان ساطع للإثبات : عقليا أو علميا أو اعتباريا ، أو أيا من صنوف البراهين المناسبة لإثبات المطلوب ، بصورة مجردة عن صيغ البراهين المصطلحة ، لكي لا يهابها غير المثقفين ، فيأنسوا بها ، وكأنها من محاوراتهم السوقية.

فقد يحلف بالدليل : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) حلفا بحكمة القرآن لفظيا وعلميا وتقنينيا و.. لتدل هذه الحكمة على نبوة من انزل عليه ، لكي يصلح للخطاب : «يس» * : أيها السامع للوحي ، ثم على رسالته على صراط مستقيم ، فيا لها من برهان ما أتقنه!

٤٣٧

وقد يحلف بموجبات المدلول أو دوافعه أو روافعه أو ... طالما الدليل واضح بمجرد التنبيه ، أو أنه بحاجة إلى تأمل وتعمّل ، ومجموعة الأقسام في القرآن أربعون قسما ، بين ما هو قسم بالأجرام العلوية أو السفلية ، وما هو قسم بالأدلة العقلية أو الحسية ، ولينظر الإنسان في واقع البراهين ، وليدرس العلل والمعاليل.

وهنا لإثبات خسر الإنسان يحلف بما يعم الدافع والرافع ، والسورة تبحث عن واقع الخسر للإنسان ودوافعه وروافعه ، فيعالج خسره بدعائم أربع.

(وَالْعَصْرِ) :

«والعصر» علّه الزمان ، أو نوائبه بعصرها ، وشياطين الجن والإنس فإنهم يعصرون الإنسان ، ليخسروه ماء الحياة ويدفعوه إلى الخسران ، والنفس الأمارة بالسوء فإنها تعصر وتحصر العقل حتى تخسره ، وكل دوافع الخسران فإنها عصر وقسر على الإنسان لتغرقه في الخسر.

فدوافع الخسر هذه ، المحسوسة منها والمعقولة ، تبرهن على واقع الخسر ، فإنها تخسر الإنسان في حياته ، ومعطياتها ، ولا بد للمبتلى أن يعرف ابتلاءه ، بأصله ونوعه ، ليفكر ويحاول في علاجه ، فكثير من الخاسرين في الحياة يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وهم الأخسرون أعمالا ، وعن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله هنا : «والعصر ونوائب الدهر» ، وعن علي عليه السّلام قوله : «والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر» (١).

وعلّه حلف برافع الخسران أيضا ، كما هو حلف بدافعه ، دلالة على البلاء وعلاجه جملة واحدة :

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٩٢.

٤٣٨

كعصر النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم عصر طلوع الإسلام من أفق الجزيرة إلى الآفاق ، وقد يؤيده إقسام الله بعمر النبي تارة وببلده أخرى ، فأحرى له أن يقسم بعصره المشعشع المجيد.

وظهورا تاما وتحقيقا عاما للرسالة المقدسة المحمدية : عصر القائم محمد بن الحسن المهدي عليه السّلام (١) ، عصر الكفاع التربوي بكامله ، ضد عناصر الخسران وأواصره (٢).

قسما بدوافع الخسران وروافعه أن واقع الخسر لا ينكر ، ويجب أن يتحذّر.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) :

تأكيدات ثلاث تستغرق الإنسان في يمّ متلاطم من الخسر (٣) ، تحت ضغوط نفسية وخارجية ، لا تسمح وتفسح له المجال أن يمشي على صراط مستقيم.

إن الإنسان ـ أيا كان ـ هو بطبعه ، تحت ضغوط دوافع الخسران ، إنه لفي خسر : غريق تضطرب به أمواج الحياة ، وتضطرب به إلى أعماق بعيدة من خسران الحياة ومعطياة الحياة : يخسر نفسه وحياته ، يخسر عقله وماله وولده ، يخسر كل وسائل التقدم في حياة الإنسان ، متذرعا بها إلى حياة الحيوان ، وإلى أسفل سافلين .. وإذا كان الإنسان في واقع الخسر ، فهل يعاقب إذا على خسره ، أو هل من مفر ومنجى؟ ومن هم الناجون؟ الجواب:

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٦ ح ٥ عن الامام الصادق (ع).

(٢) واعتبارا بلام الجنس في «العصر» وعدم ظهور عهد يخصه بعهد خاص من هذه العصور فقاعدة البلاغة تحتم تعميمه لكل عصر.

(٣) تأكيدات مستفادة من «إن» * و «ل» * في لفي و «في» * الدالة على أنه غريق الخسر.

٤٣٩

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) : فمن خسر الحياة ، الاضطراب في الحياة ، والإخلاد إلى الأرض ، وأعمق ما يؤمن الإنسان ويطمئنه ، هو أن يؤمن بالله ، يأمن اليه ويؤمن نفسه بردعها عن غوغائيات الحياة ، بالإيمان بخالق الحياة.

إن الإيمان بالله هو اتصال الكائن العاقل ، الفاني الصغير الصغير ، المحدود المحدود ، بمبدإ الكون ، المطلق الأزلي اللامحدود ، وإنه انطلاقة قيمة من حدود الذات الصغيرة اللاشيء ، إلى رحابة الكون الكبير ، الكائن الأزلي القدير ، الذي خلق كل شيء وقدّره تقديرا.

إنه يرفع الإنسان عن عبودية مثله وما هو دونه ، عن أرباب متفرقين ، إلى عبادة الواحد القهار ، فالأرباب المتشاكسون تخرج العابد عن الاطمئنان إلى تناقض في الحياة وتخلّف واختلاف ، والإله الواحد يطمئن الإنسان (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

وإنه يقيّم الإنسان ويقوّمه على منهج ذاتي يرضاه الله تعالى ، فلا يكون الخير عنده فلتة عارضة مندفعا عما يهدفه لنفسه ، وإنما عن دافع واحد أصيل هو مرضاة الله تعالى.

وأخيرا ـ لا آخرا ـ الإيمان ينبوع غزير للأفكار والأعمال الصالحة ، فهي نتاج الإيمان الصحيح الفائض ، والإيمان الفاضي عن العمل الصالح ليس إلا صورة الإيمان ، وكلما تم الإيمان واقعا كثرت الصالحات الفائضة عنه ، وكلما قل قلت.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) .. نرى العمل الصالح قرين الإيمان في الآيات التي تتعرض لأحدهما ، ويعني من الصالح ما يصلح ويصالح مع الإيمان ، (وَعَمِلُوا

٤٤٠