الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٨

١
٢

٣
٤

(٢٩) سُورة العَنكبوُتِ مَكِيَّة

وَآيَاتها سبع وَسِتونَ

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ

٧

بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣)

سورة متماسكة الآيات بدء ختم ، قهرمانتها المسماة هي باسمها «العنكبوت» وهي أضعف حشرة نعرفها ولا سيما في بيتها التي هي أوهن

٨

البيوت ، تدليلا على أن بيت الإشراك بالله والإلحاد في الله هو أهون من بيت العنكبوت (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

ملامح السورة ومصارحها بمسارحها تشهد انها مدنية كلها ، والجهاد لا تختص بالقتال حتى تتخذ آياته فيها دليل أنها مدنية ـ فإن المؤمن حياته الجهاد كما تقتضيه ظروفه ـ فإنما الدلالة الجامعة من جو السورة أنها نزلت في غضون الهجرة وهي أحرج الحالات للنبي والذين آمنوا معه.

تتخلل السورة من مطلعها إلى ختامها إيقاعات عميقة المدى ، قوية الصدى حول حق الإيمان ، وباطل الكفر ، مما تهزّ الإنسان هزا وتفزه فزا ابتلاء صارما أمام تكاليف الايمان وقضاياه ورزاياه وعقباته الكئودة الملتوية من المتربصين دوائر السوء ضده وضد كتلة الإيمان.

فقد ابتدأت بإيقاعه ما أقواها : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ..) واختتمت بما يقضي على كل العراقيل في سبيل الله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) وبينهما عرض لمصارع المجاهدين والجاحدين ـ واين مصارع من مصارع ـ؟ وعرض لما يتوجب على كتلة الإيمان أمام كتلة الكفر والنكران.

لقد سبق في أخريات القصص وعد ردّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى معادة ، وأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصمود في الدعوة سلبيا وإيجابيا ، مما قد يبهّج سواذج المؤمنين ، فهنا العنكبوت تحمّلهم شاقة التكاليف في هذه السبيل الشاقة الطويلة ، بينهم وبين فتح مكة ، في عشرة كاملة ، ومن ثم إلى يوم الرجعة وإلى يوم القيامة الكبرى أن نعيش حياة الجهاد في سبيل الله صامدين غير خامدين.

(الم)(١)

وهذه مكرورة مرات خمس ، مرة يتيمة في مدنية : البقرة ، وأربعا في

٩

مكيات اربع ، قد تكون هذه أخراها ، والباقية هي الروم ولقمان والسجدة.

وقد تربط «الم» العنكبوت وهي المكية الأخيرة ، ب «الم» البقرة وهي المدنية الأولى ، تترابطان هما بمشترك الحروف الرمزية هذه ، بتقارب الجوين ، على تغارب البلدين : مكة والمدينة ، وإلى م ترمز «الم» هنا وهناك وفي الثلاثة الأخرى؟ ما ندري إلّا ما يدرينا الله ، ومن هم المرموز إليهم فيها وسواها من مفاتيح كنوز القرآن.

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ٢.

إنه لحسبان جاهل قاحل ، ان القول «آمنا» يؤمّنهم عن كل العقبات والعقوبات ، بل هم ـ بمراتبهم ـ يفتنون ، فتنة الذهب بالنار ، وإنها فتنة للمؤمنين على طول الخط ، في الزمن الرسولي والرسالي على مختلف الظروف ، وهي «الفتنة في الدين ، يفتنون كما يفتن الذهب ، يخلصون كما يخلص الذهب» (١) من فتن عقائدية وثقافية وسياسية وأخلاقية واقتصادية اماهيه من فتن هي كلها داخلة في نطاق الدين ، المحلق على كل الحقول الحيوية ، فلقد فتن المؤمنون في العهد المكي بأحرج الفتن ، وعذّبوا بأشد العذاب ، (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٢).

__________________

(١)نور الثقلين ٤ : ١٤٨ في اصول الكافي عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد عن معمر بن خلاد قال : سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول (الم أَحَسِبَ النَّاسُ ..) ثم قال لي : ما الفتنة؟ قلت : جعلت فداك الفتنة في الدين ، فقال : يفتنون ..

(٢) الدر المنثور ٥ : ١٤١ ـ اخرج ابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : نزلت في عمار بن ياسر يعذب في الله (أَحَسِبَ النَّاسُ.) وفيه اخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال سمعت ابن عمير وغيره يقولون : كان ابو جهل ـ

١٠

وكما فتنوا في العهد المدني بغزوات وبكتلة النفاق ، ثم فتنوا برحلة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قصة الخلافة الخلاعة ، ولقد «جاء العباس إلى امير المؤمنين (عليه السلام) فقال انطلق بنا نبايع لك الناس ، فقال (عليه السلام) أو تراهم فاعلون؟ قال : نعم ـ قال : فأين قوله عز وجل : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا ... وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (١) ومن أشد الفتنة ما حصلت وتحصل بعد رسول الله (صلى الله

__________________

ـ لعنه الله يعذب عمار بن ياسر وامه ويجعل على عمار درعا من حديد في اليوم الصائف وطعن في حيا أمه برمح ففي ذلك نزلت هذه الآية ، وفيه اخرج ابن ماجة وابن مردويه عن ابن مسعود قال : اوّل من اظهر إسلامه سبعه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابو بكر وسمية ام عمار وعمار وصهيب وبلال والمقداد فاما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فمنعه الله بعمه أبي طالب واما ابو بكر فمنعه الله بقومه واما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم درع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم احد إلّا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فانه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد».

أقول : تركهم هنا عليا (عليه السلام) وهو اوّل من اسلم خيانة تاريخية ، ثم «أتاهم على ما أرادوا» تعني التقية حتى لا يقتلوا وكان الفوز بينهم لبلال!.

(١) نور الثقلين ٤ : ١٤٧ في تفسير القمي حدثني أبي عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : ... وفي مجمع البيان عند قوله تعالى (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) وفي تفسير الكلبي انه لما نزلت هذه الآية قام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتوضأ وأسبغ ثم قام وصلى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه ان لا يبعث عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض فنزل جبرئيل (عليه السلام) ولم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين فقال (عليه السلام) : يا جبرئيل ما بقاء امتي مع قتل بعضهم بعضا؟ فقام وعاد إلى الدعاء فنزل : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ ..) الآيتين فقال لا بد من فتنة تبتلى بها الأمة بعد نبيها ليتعين الصادق من الكاذب لأن الوحي انقطع وبقي السيف وافتراق الكلمة الى يوم القيامة.

١١

عليه وآله وسلم) حول قيادة الأمة الإسلامية وإمارتها : كما و «قام اليه (عليه السلام) رجل فقال : أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عنها؟ فقال : لما انزل الله سبحانه قوله (الم أَحَسِبَ النَّاسُ ...) علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : يا علي! إن امتي سيفتنون من بعدي ، فقلت : يا رسول الله أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وأحيزت عني الشهادة فشق ذلك عليّ فقلت لي : أبشر فإن الشهادة من ورائك ، فقال لي : إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذا؟ فقلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر ، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : يا علي! سيفتنون بعدي بأموالهم ويمنّون بدينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ويأمنون سطوته ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية ، فيستحلون الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية والربا بالبيع ، قلت : يا رسول الله فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك ، أبمنزلة ردّة ام بمنزلة فتنة؟ قال : بمنزلة فتنة» (١).

__________________

ـ وفي ارشاد المفيد وقد جاءت الرواية انه لما تم لأبي بكر ما تم وبايعه من بايعه جاء رجل الى امير المؤمنين (عليه السلام) وهو يسوي قبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بمسحاة في يده وقال له : ان القوم قد بايعوا أبا بكر ووقعت الخذلة في الأنصار لاختلافهم وبدر الطلقاء للعقد للرجل خوفا من ادراككم الأمر؟ فوضع طرف المسحاة على الأرض ويده عليها ثم قال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

(١) نور الثقلين ٤ : ١٤٨ في نهج البلاغة وقام اليه ... وفي ملحقات احقاق الحق : قال ـ

١٢

وفي التوقيع الشريف عن صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه «.. وأنا أعوذ بالله من العمى بعد الجلاء ومن الضلالة بعد الهدى ومن موبقات الأعمال ومرديات الفتن ، وإنه عز وجل يقول : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ ...) كيف يتساقطون في الفتنة ، ويترددون في الحيرة ، ويأخذون يمينا وشمالا ، فارقوا دينهم أم ارتابوا أم عاندوا الحق أم جهلوا ما جاءت به الروايات الصادقة والأخبار الصحيحة وعلموا فتناسوا ...» (١)!

ليس القول «آمنا» سياجا مطمئنا عما تطرء من فتن ، حتى ولا حقّ الايمان ، فقد يفتن المؤمن ليبرز صدقه في دعواه أو كذبه ، وأخرى ليتكامل في حظيرة الايمان ، وثالثة هي طبيعة الحال لكتلة الايمان حيث العقبات من الكتلة الأخرى ضدهم دائبة ، فهم إذا في مثلث الفتنة.

فليس الايمان كلمة تقال ، فانما هي تعبيرة عنه صادقة ام كاذبة ، بل

__________________

ـ علي (عليه السلام) يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما هذه الفتنة؟ قال يا علي بك وأنت مخاصم فاعتد للخصومة» ذكره الحافظ ابن مردويه في المناقب كما في كشف الغمة ٩٣ ، وذكره المير محمد صالح الكشفي في مناقب مرتضوي ٦١ قال روي عن علي (عليه السلام) في الآية قال سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بم يفتنون؟ قال : بتصديق ولايتك.

(١) المصدر في كتاب كمال الدين وتمام النقمة توقيع من صاحب الزمان (عج) كان خرج إلى العمري وابنه رضي الله عنهما رواه سعد بن عبد الله قال الشيخ ابو جعفر وجدت ثبتا بخط سعد بن عبد الله رحمه الله : «وفقكما الله وثبتكما على دينه وأسعدكما مرضاته ، انتهى إلينا بما ذكرتما ان المسمى أخبركما عن المختار ومناظرته من لقى واحتجاجه بانه لا خلف غير جعفر بن علي وتصديقه وفهمت جميع ما كتبتما به مما قال أصحابكم عنه وانا أعوذ بالله ..

١٣

هو حقيقة ذات تكاليف وذات أعباء ومشاق لا يتحملها إلا قليل (١) حين يتمحّلها كثير ، ويا ويلاها من فتن لا تقوم لها قائمة كفتنة الأحباء والأهلين إذ يهتفون به ليسالم أو ليستسلم أمام الباطل حفاظا عليهم ، هتافا باسم الله في الرحم ، ومن أبرزها الفتنة مع الوالدين كما أتت في هذه السورة.

وفتنة إقبال الدنيا على المبطلين ، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم أهلوها وهو المؤمن مهمل منكر لا يحس به من احد ، ثاويا في غربته ووحدته بوهدته ، يرى الذين حوله غارقين في تيه الضلالة وتيار الجهالة.

وأعظم من كل الفتن وافتن هي فتنة الإمرة على الأمة والعلو في الأرض ، أعاذنا الله من شرها ، ورزقنا خيرها تحقيقا للحق وابطالا للباطل.

فهذه الآية ضابطة عامة للذين قالوا آمنا ، أنهم يفتنون فيما قالوا على أية حال ، فمنهم ساقطون فيها ومنهم ثابتون ومنهم عوان ، وليست الفتنة فقط ، بعدم المال والحال والمنال ، بل هم في وجدها أشد فتنة وبلاء ، يفتنون بمختلف الأحوال في كل حل وترحال ، بل الحياة الدنيا كلهما فتنة وبلاء بخيرها وشرها ، بإقبالها وادبارها ، والإمرة من أشرّ الفتن وأمرّها! : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧ : ١٦٨) (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢١ : ٣٥) فمن الحسنات الخير ما يوافق الطبع ويوافره ، كما من السيآت الشر ما يخالف الطبع وينافره ، وفي كلّ سقوط ونجاح ، فالأول من السيآت الشر بوجه آخر مهما وافق الطبع ، والثاني كذلك

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٥٠ عن ارشاد المفيد عن الفضل بن شاذان عن احمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال : لا يكون ما تمدون اليه أعناقكم حتى تميزوا وتمحصوا ولا يبقى منكم إلا القليل ثم قرء الآية ثم قال : ان من علامات الفرج حدث يكون بين المسجدين ويقتل فلان من ولد فلان خمسة عشر كبشا من العرب.

١٤

من الحسنات الخير مهما خالف الطبع ، وأبلى البلاء هو في الموافق للطبع ، والكل ابتلاء : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ. كَلَّا ..) (٨٩ : ١٥) «ولو أراد الله جل ثناءه بأنبيائه حيث بعثهم ان يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن البلدان ومغارس الجنان ، وان يحشر طير السماء ووحش الأرض معهم لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحل الابتلاء ، ولما وجب للقائلين اجر المبتلين ، ولا لحق المؤمنين ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبين ، ولذلك لو أنزل الله من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ، ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين ، ولكن الله جل ثناءه جعل رسله اولي قوة في عزائم نياتهم ، وضعفه فيما ترى الأعين من حالاتهم من قناعة تملأ القلوب والعيون غناءه وخصائصه يملأ الأسماع والأبصار أداءه ، ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام وعزة لا تضام وملك يمد نحوه أعناق الرجال ويشد إليه عقد الرحال لكان أهون على الخلق في الاختبار وأبعد لهم في الاستكبار ، ولآمنوا عن رغبة قاهرة لهم ، أو رهبة مائلة بهم ، فكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة ، ولكن الله أراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام اليه أمورا خاصة لا يشويها من غيرها شائبة ، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل» (٧).

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣).

__________________

(٧) نور الثقلين ٤ : ١٥٠ في الكافي وروى ان امير المؤمنين (عليه السلام) قال في خطبة له : ...

١٥

ليست الفتنة لتختص بكم ، بل هي تحلق على كافة المكلفين منذ البداية وإلى يوم الدين : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) طول التاريخ الرسالي دونما استثناء مهما اختلفت صور الفتنة (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ ..) أتراه علما هو بالطبع بعد جهل؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا! أم ظهورا لمعلومه لمن لا يعلم؟ وصيغته الصالحة «فليعلم الذين صدقوا ..»! ولا يناسب الفصاحة القمة لكتاب البيان ان يعبر عن ذلك بغير تعبيره الفاصح! ام هي علمه الفعلي دون الفاعلي ، وهو نفس الأمر الخارجي ، فانه من مراتب علمه تعالى؟ وتعبيره الصحيح ـ إن صح انه من مراتب علمه ـ فليحققن الله صدق الصادقين وكذب الكاذبين! ام هي «فليعلمن» بضم الياء وكسر اللام فيهما من الإعلام (١) حيث الفتنة تعلم المجاهيل بواقع الأمر؟ وهو في نفسه صحيح ولكنه خلاف متواتر القراءة!

انها كما هيه بنفس الصيغة المتواترة ، ولكنها من العلم فتحا : العلامة ، دون العلم (٢) ومن آياته انفراد المفعول ، وليس مفعول العلم إلّا جملة تامة ، و «الذين صدقوا ـ كما ـ الكاذبين» ليست تامة ، فقد تعني التأكيد الأكيد للعلامة صدقا في الصادقين وكذبا في الكاذبين ، ف «ل» تأكيد اوّل ، ونون التأكيد ثان ، بهما تتأكد الغاية المقصودة من الفتنة أنها العلامة على الفريقين ، خروجا عن المساوات في (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) مواصلة بين القول والعمل للصادقين ، ومفاصلة للكاذبين ، علما لهم ولسائر المجاهيل الذين لا

__________________

(١) في مجمع البيان قرء علي (عليه السلام) «فليعلمن» بضم الياء وكسر اللام فيهما وهو المروي عن جعفر بن محمد ومحمد بن عبد الله بن الحسن.

(٢) وهكذا نرى في عشر أخرى من الآيات انها تعني العلم ومفاعيلها مفردات كقوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.

١٦

يعلمون صدق القول في دعوى الايمان وكذبه ف «عند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال»!.

ولأن اللّام هنا هي لام القسم فقد تعني «ليعلمن» تأكيد علمه الصادقين والكاذبين ، إضافة إلى علمه ، فذلك تأكيد أكيد لعلمه وعلمه مهما دلت وحدة المفعول على أصالة العلم ، فانما عناية العلم ضمن العلم تسمح لوحدة المفعول.

وهذه بخلاف الآيات التي تجعل العلم غاية الابتلاء ك (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ ...) فانه العلم دون العلم ..

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ٤.

هنا لك مهلة ماحلة للذين يعملون السيآت ، يحسبونهم بها سابقين على الله وعلى أهل الله ، غافلين أو متغافلين أنها إمهال من الله وإملال بكيد متين : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣) (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) وفي ان الإملاء هو من الشيطان ، يمضيه الله بحق الظالمين فيذرهم في طغيانهم يعمهون ، حيث (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٤٧ : ٢٥) ف (لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٨ : ٥٩) ، كما وذلك الحسبان الغاوي الخاوي من الشيطان (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) «ان يسبقونا» إذ لا فارق لنا في ذلك الميدان حتى يكون سباق فيسبقونا أو نسبقهم ، وإنما يصبغهم الشيطان بما سول لهم بهذه العقلية القاحلة ، فحسبوا ان يسبقونا ، وعامل السيئة لا مفلت ولا سابق ، ومن يحسب هذا أو ذاك فقد ساء حكمه وفسد تقديره واختل تصويره ، وحلّ تكويره وتكديره. ولأن «أم» منقطعة تعطف إلى محذوف معروف من الحسبانات السيئة ، فقد يكون هو نكران الله ، او

١٧

الإشراك بالله ، ام حسبان جهله عما يعملون ، أم هتك حرمته على حضوره ، ام الأمن من عقابه بعفو او شفاعة أمّا هيه من حسبانات خاوية ، هي التي تسمح لهم ان يعملوا السيآت (أَمْ ... أَنْ يَسْبِقُونا).

فهي ـ إذا ـ تشمل كل هؤلاء (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) دون اختصاص ، مهما اختلفت دركاتها ، فاختلفت التهديدات بهم والتنديدات.

وعمل السيآت ـ ككل ـ ناتج عن البعد عن الله ، في أية دركة من دركاته ، كما أن لقاء الله درجات :

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ٥.

(لِقاءَ اللهِ) وما أدراك ما (لِقاءَ اللهِ)؟ هل هو الاتصال بالله دون أي حجاب حتى حجاب الذات؟ ولا يتيسر لأحد ممن سوى الله حتى أوّل العابدين وأفضل العارفين وكما قال : ما عبدناك حق عبادتك ولا عرفناك حق معرفتك»!

أم هو لقاء ثوابه ـ فقط ـ ورحمته هنا وفي الأخرى (١)؟ وتعبيره الصحيح (ثَوابُ اللهِ) ام (لِقاءَ رَبِّهِ) (١٨ : ١١٠) أم (لِقاءِ الْآخِرَةِ)

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ١٥٣ في كتاب التوحيد حديث طويل عن علي (عليه السلام) يقول فيه ـ وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات : وقوله : من كان يرجو لقاء الله فإن اجل الله لآت ، يعني بقوله : من كان يؤمن بانه مبعوث فان وعد الله لآت من الثواب والعقاب فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية ، واللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقاءه فإنه يعني بذلك البعث». أقول : انما نفى هنا لقاء الرؤية دون سائر اللقاء ، فإثباته لقاء الثواب في الآخرة لا ينافي اثبات سائر اللقاء إلا الرؤية واضرابها ، وانما ذكر لقاء الثواب كمصداق تتقن متيقن مفهوم لكل احد ، والأكثرية الساحقة من آيات لقاء الله ولقاء الرب تعني الآخرة بثوابها وعقابها.

١٨

(٧ : ١٤٧) حتى تعني لقاء ربوبية الجزاء! بل ولقاء الرب ايضا تعمها وسواها من لقاء يرجى لقبيل الايمان : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

بل ورجاء اللقاء دون يقينه قد يختصه بغير الحياة الآخرة لأنها متيقنة لأهلها حيث : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١٣ : ٢) ، فهو إذا رجاء اللقاء المعرفي ورجاء الثواب في الدارين ، ولا سيما في «لقا لله الله» ، وليس في القرآن رجاء اللقاء إلّا للمؤمنين (لِقاءَ اللهِ) كما هنا و (لِقاءَ رَبِّهِ) كما في الكهف ، ثم (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) (١٠ : ٧) للكافرين.

انه (لِقاءَ اللهِ) معرفيا بعبودية ، وعبوديا بمعرفة ، محلقا على كل درجات الزلفي إلى الله حسب درجات العبودية والمعرفة. و (كانَ يَرْجُوا) تضرب إلى أعماق الماضي كما وكيفا ، أن أصبح رجاء لقاء الله عشيرا له في حياته ، ولا يصح رجاء إلّا بتقديم أسباب للحصول على المرجو ، والعبودية والمعرفة الإيمانية هما السببان الرئيسيان للقاء الله في الآخرة والأولى ، و (أَجَلَ اللهِ) هنا هو الوقت المؤجل للقائه عاجلا أم آجلا ، كلما ازدادت المعرفة زادت العبودية ، وكلما ازدادت العبودية زادت المعرفة ، حتى يصبح العبد (أَوَّلُ الْعابِدِينَ) في عبوديته ، ومتدليا بالله في معرفته ، حيث لا يبقى بينه تعالى وبينه اي حجاب حتى حجاب نفسه إذ يتغافل عنها في تلك الجذبة الربانية ، فلا يبقى إلّا حجاب الذات ، حينما تفنى حجب الإنيات. فرجاء اللقاء بشروطه الصالحة يخلفه وبقدره ودونما تخلّف (أَجَلَ اللهِ) لذلك اللقاء (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) والراجي المفتاق المشتاق يلقى اجل الله أيا كان «وهو» لا سواه «السميع» صوت القال والحال وصيتهما «العليم» بكل حال وقال وأفعال.

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ٦

١٩

(وَمَنْ جاهَدَ) طبعا في سبيل الله وفي الله وإلّا لكانت على نفسه لا لنفسه «فانما» دونما إبقاء (يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) فانها سعي لصالحه نفسه في الحياتين ، وليسن لصالح ربه ف (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) والمجاهدة هي المبالغة في الجهاد فانها مفاعلة بين طرفي النزاع ، وليس جهادا دونما منازع ، فهنا نزعات النفس ورغباتها تعرقل المسير ، وكما هناك الرغبات والنزعات الإبليسية خارجة النفس ، والعقل المتبني الفطرة المتأيد بوحي السماء هو المجاهد الوحيد في ميادين السباق بهؤلاء الرفاق الأقوياء ، وحياة المؤمن هي سلسلة معارك الجهاد آفاقيا وانفسيا في سبيل الله ، دونما فترة ولا فطور ، وإلّا لكانت حياة جاهلة قاحلة ، مقلوبة في إنسانيتها فضلا عن إسلاميتها.

فقد تجاهد لله ولا عائدة منها إليك في أمرها إلّا أمرها فتتهاون ـ إذا ـ فيها ، أو قد يشاركك الله في تلك العائدة نصف لك ونصف له فكذلك الأمر وأقوى ، ولكن الله غني عن العالمين و (مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) وما الله إلّا دليل الرشاد وموفق العباد في كل جهاد ، فلما ذا إذا التهاون في سبيل الجهاد.

وما سبيل الله في جهاد وسواه ، إلّا سبيل صالح المجاهد في الله ، حيث يبلّغه مناه ، ويمده إلى مداه ، ويهديه هداه ، وما وعد الثواب للمجاهدين إلّا رحمة من الله وفضلا دونما استحقاق ، فالجهاد بالنفس والنفيس بكل غال ورخيص ، يصلح من نفس المجاهد وقلبه ، ويرفع من تصوراته وآفاقه ، فيستعلي به على الشح ، ويستجيش أفضل ما في كيانه وإمكانه من عدّات وعدّات.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) ٧.

٢٠