الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

إذا فما هي الحاجة لإثبات وحي القرآن أن يقسم له بالخنس الجواري الكنس والليل إذا عسعس ، حتى والصبح إذا تنفس (١)؟.

فهل في الخنس : (المنقبض المتأخر المستتر) والجواري الكنس : (المختبئ الداخل في كناسه) هل فيهما دلالة لإثبات وحي القرآن؟ والكائنات كلها منقبضة متأخرة مستترة تجاه نور القرآن ، وبرهانه ، وهو المنشرح المتقدم الظاهر الباهر كالشمس في رايعة النهار؟!

كلا ؛ ولا في الصبح إذا تنفس لأنه أول النفس والقرآن بلغ من أنفاس الحياة المعنوية منتهاها.

كلا ؛ ولا بمواقع النجوم وهي الظاهرة لكل ذي بصر ، رغم أنه لقسم لو تعلمون عظيم!

كلا ؛ ولا بأيّ من كائنات العالم : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) إذ لا أظهر من القرآن حتى يظهره ويدل عليه ، ألغيره من الظهور ما ليس له؟ عميت عين لا تراه!

ثم وما هي النسبة الدلالية بين الخنس الجواري الكنس لإثبات وحي القرآن ، والآية تصرح بنفي القسم : (فَلا أُقْسِمُ) : تفريعا على الآيات الكونية السابقة كالشمس المكوّرة والنجوم المنكدرة ، أنهما وأمثالهما من نيّرات الكون مصيرها إلى التكوير والانكدار ، وشمس القرآن لا تكوّر ولا تنكدر ، وقد تتلألأ أكثر وأكثر حينما النيرات تنكدر ، فهي أيضا من الخنّس الجواري

__________________

(١) وقد يشهد له المروي عن علي (ع) في (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) قال : «يعني بذلك الأوصياء ، يقول : إن علمهم أنور وأبين من الصبح إذا تنفس» (البرهان ٤ : ٤٣٣ ح ٤) أقول وهو يؤيد اللاقسم ، إذا لا يقسم بالنور لاثبات الأنور ، وعلم الأوصياء هنا مثل عن علم القرآن.

الفرقان في تفسير القرآن (١١)

١٦١

الكنس ، وكيف يقسم بها لإثبات وحي القرآن وضوئه الذي لا يكنس ولا يخنس! : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ).

وقد يجوز ـ فيما لا يجوز ـ كون الليل المعسعس والصبح المتنفس مقسما بهما لمكان. الواو : «والليل ـ والصبح» كما في (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٩٣ : ١ ـ ٣) : ليس ترك الوحي للفترة التي ترك فيها ـ وهو سجي ليل النبوة ـ ليس إعراضا عن النبي بتوديع ولا قلي ، إنما هو من الله ، لحكمة قضت ، وكما أنّ استمرارية الوحي ـ وهو ضحى نهار النبوة ـ إنه من الله تعالى.

كذلك ليس وحي القرآن إلّا كالصبح إذا تنفس ، في حين أن ما سواه من وحي الأرض هو الليل إذا عسعس : أن ميزة وحي السماء في نورها كميّزة الصبح أن يشق نوره ظلم الليل الدامس العسعس.

فهذا هو الكتاب المنير ، وعلى حدّ تعبير الرسول البشير النذير : «هو النور المبين والحبل المتين والعروة الوثقى والدرجة العليا والشفاء الأشفى والفضيلة الكبرى والسعادة العظمى ، من استضاء به نوره ومن عقد به أموره عصمه الله ومن تمسك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ومن آثره على ما سواه هداه الله ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوله الذي ينتهي إليه أداه الله إلى جنات النعيم والعيش السليم» و «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن .. له نجوم وعلى نجومه نجوم .. فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ولبلغ الصفة نظره ينج من عطب ويتخلص من نشب ، فإن التفكر حياة قلب القصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ..».

وعلى حد تعبير علي أمير المؤمنين عليه السّلام : «نور لا تطفأ مصابيحه وسراج

١٦٢

لا يخبؤ توقده ، وبحر لا يدرك قعره ، ومنهاج لا يضل نهجه ، وشعاع لا يظلم ضوؤه ، وفرقان لا يخمد برهانه ، وبنيان لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعز لا تهزم أنصاره وحق لا تخذل أعوانه ..».

من هنا وهناك نستوحي غنى القرآن البرهان عن أي شاهد وبرهان ، اللهمّ إلا لمن كلت بصيرته ، فليستدل لأنواره المعرفية المعنوية بالأنوار المادية المحسوسة كالضحى والصبح إذا تنفس ، ويستدل لظلمات ما سواه بالليل إذا سجى وعسعس ، بما أنهما باهران في المثال ، دون الخنّس الجواري الكنّس ، إذ الخفي المذبذب ، المستتر المختبئ ، لا يمثّل الظاهر الجلي ، اللهم إلا للدلالة على وحي الأرض الخانس العسّ ، ف (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) : فقد يكون ، إذن ، قسما ولا قسما : (فَلا أُقْسِمُ ..) للدلالة على نور الوحي ، ولو أقسمت فإنما لظلمة وحي الأرض ، ولكي يعرف تجاهه وحي السماء.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) :

إن الجواري الكنس هي الخنس بشاهد عدم العطف ، خلافا لكافة المفسرين الفاصلين بينهما ، كأن الثاني غير الأول وهما واحد! فالخنس هي التي تقبع وتستسر وتخفى وتستتر ، كما الكنس هي المتوارية المستخفية : سواء في ذلك النجوم الظاهرة الزاهرة بالليل ، والمستسرة المتتبعة بالليل (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٠ عن علي (ع) في قوله تعالى : فلا أقسم بالخنس ، قال : هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى.

أقول : هذا من التفسير بالمصداق الظاهر ، وجمع الخنس والكنس للكواكب يشهد لما استوحيناه من وحدتهما.

وفيه أخرج الحاكم أبو أحمد في الكنى عن العدبس قال : كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما الجواري الكنس ، فطعن عمر مخصرة معه في عمامة الرجل فألقاها عن ـ

١٦٣

وكذلك الشمس الخانسة يوميا ، المكورة نهائيا ، كما وإن كل طالع في الحياة من الكائنات ، إنه بين طلوع وغروب حتى تغرب نهائيا ، وقد ذكرت منها مسبقا الشمس والنجوم والبحار والوحوش والسماء والجبال ، وهي من أبرز وأقوى الخنس الجواري الكنس ، تجري دوما طلوعا وغروبا وإلى الغروب الدائب.

لا أقسم بها مهما كانت نجوما وشموسا ، وهي مثال لشموس الفصاحة والبلاغة التي خفيت ، خنست وكنست ، عند بزوغ شمس الرسالة المحمدية في أفق الجزيرة ، إذ إن القرآن شمس لا تخنس ولا تكنس ، تحريضا للجهال لكي يستيقظوا ، واستنهاضا لهم أن يفكروا في القرآن نفسه ولكي ينتبهوا أنه هو برهان وحيه بنفسه ، دون حاجة إلى سواه ، حيث البراهين كلها خانسة كانسة تجاه القرآن الذي كله برهان ، وكيانه ـ ككل ـ أنه نور وبرهان.

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) :

«عسعس» لفظة مؤلفة من «عس» مرتين ، وأصله طلب الشيء بالليل ، والعسعسة من الأضداد ، فهي الإقبال والإدبار : إقبال الليل وإدباره ، وإقبال الطالب بالليل وإدباره فيه للحصول على المطلوب (١).

__________________

ـ رأسه ، فقال عمر : أحرورى! والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقا لأنحيت القمل عن رأسك».

أقول : أفهكذا يجاب من يسأل عن القرآن؟ فإذا جهل الخليفة معنى آية من القرآن فلما ذا يهتك من يستعلمه؟ ولماذا يفتري عليه؟.

على الحق مع الخليفة يؤدب من يستعلمه وليس المسؤول من أهل الذكر ، والله تعالى يقول : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .. ولكنه هل من الخطأ أن يظن بخليفة المسلمين بعض الخير : أنه يعلم بعض الشيء من القرآن فيستعلم؟ أنا لا أدري!

(راجع كتابنا علي والحاكمون في باب ثقافة الخليفة).

(١) في لسان العرب : العسعاس الخفيف من كل شيء ، والعسعسة قيل هي الإقبال ، وقيل هي الأدبار ، وقيل هو من الأضداد كما عن أبي إسحاق.

١٦٤

والليل المعسعس هنا مثال لزمن الفترة الرسالية بين السيد المسيح وسيدنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كان يقبل أحيانا بظلمات الجهل العارمة ، ويدبر أخرى تخفيفا عنها ، ولقد كان طلاب الحقيقة في هذه الفترة العس الداعس ، كانوا حيارى ، بين من لا يجد إلا الظلام ، ومن يجد خليطا منه ومن النور عن كتابات الوحي الخليطة من الغث والسمين.

والصبح إذا تنفس بالنور والحياة والحركة إذ أخذ يفجر ظلم الليل العس ، والتنفس هنا خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل ، فكأنه متنفس من كرب ، أو متروح من همّ ، ومن ذلك قولهم : قد نفس عن فلان الخناق أي انجلى كربه وانفسح قلبه .. أو بمعنى انشق وانصدع من قولهم : تنفس الإناء إذا انشق وتنفست القوس إذا انصعدت.

وهذا مثال للقرآن إذ أخذ يفجر منذ بزوغه ظلم الأوهام التي خنقت البشرية طوال الفترة الرسالية ، ففي الصبح الذي بزغ نور الوحي القرآني على القلب المحمدي ، لمست البشرية وتنفست بحياة جديدة بعد موت عارم خيم بظلمه على بني الإنسان إذ كانوا في ليل داج عسعس ، ولم تكن الأنوار في الأرض إلا خنسا كنسا : فأنوار وحي الأرض كانت غاربة ، وأنوار وحي السماء كانت خليطة بشيء كثير من وحي الأرض ، حتى تنفس صبح الرسالة القرآنية ، مهيمنة على وحي الرسالات كلها.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) :

ليس القرآن قول إنسان ومنه ، ولا قول ملك ومنه ، وإنما هو قول رسول إلهي ، يحمل هذه الرحمة الواسعة الربانية دون ابتغاء جزاء أو شكور ، وهذا هو معنى كرم الرسول ، فكما الوحي كرم من الله ، كذلك من يحمل الوحي كريم يبلغه مهما بلغت به الصعوبات في هذه السبيل دون قهر ولا أجر ولا أنفة ولا كبر ، وإنما حياته هي الرسالة الكريمة بدء ختم.

١٦٥

وهذه الحقيقة الناصعة لا يستشهد لها بأي من كائنات الوجود (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٩ : ٣٩ ـ ٤٤).

بل ولا بأظهر ما تبصرون (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٥٦ : ٧٥ ـ ٨٢).

فهذه النجوم السماوية الواقعة في عمق الفضاء ، من النيازك النارية التي تقذف الشياطين المسترقين السمع في الملأ الأعلى ، والأحجار السماوية التي تقذف شياطين الأرض ، ومن النجوم الواقعة في مداراتها لتطلع أو لتغرب ... لا أقسم بها لإثبات أن الآي القرآنية هي نجوم سماء الوحي الضاربة في أعماق الأفكار والقلوب ، المنيرة للمهتدين ، والمظلمة على المعاندين.

لا أقسم بها ، لأن نجوم القرآن هي أظهر للبصائر ، رغم الأبصار الكليلة التي تعمى عنها أو تتطمى ، وكيف يقسم للنجوم الزاهرة الخالدة بالخنس الجواري الكنس!.

وقد يكون لا أقسم في حين كونه «اللاقسم» توجيها لما يصلح أن يكون قسما لمن كان بصره أقوى من بصيرته ، جمعا بين جماع الناس ، فمن أراد أن يتذكر بالآيات الكونية لإثبات وحي القرآن ، فالكون كله يصلح له شاهدا مما يرى منه وما لا يرى : ما يرى من النجم والشمس والقمر ، وما لا يرى من العقول والفكر والفطر.

ومن أراد أن يستدل بالقرآن نفسه على وحيه فها هو القرآن أظهر برهان وأزهره (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

١٦٦

فسواء القسم واللّاقسم هنا وهناك ، فالقرآن برهان لا مردّ له على وحيه (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ..).

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) : فليس قول محمد ولا جبريل ، إنما قول الله يحمله الرسول كرسول ، فقول الرسول ليس إلا قول المرسل يحمله كما أوحي إليه ، فمن هو الرسول هنا؟ هل إنه جبريل رسول الله إلى الرسول؟ أم هو الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول الرسل ومعلم جبريل؟ أم هما المعنيان هنا من : (رَسُولٍ كَرِيمٍ) إذ إن الرسالة واحدة والقول واحد يحمله ملك الوحي إلى رسول الوحي؟

أقول : طالما الرسالة الإلهية تعم الرسولين ، ولكنها هنا ـ حسب القرائن الموجودة ـ ليست إلا الرسالة المحمدية ، حيث الأوصاف الإيجابية والسلبية المسرودة هنا للرسول تختصه بالرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فهنا إنه (كَرِيمٍ ـ ذِي قُوَّةٍ ـ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ـ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ـ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ـ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ـ وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ـ وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ).

وهناك «وما هو بقول شاعر ـ ولا بقول كاهن ـ (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦٩ : ٣٨ ـ ٤٣).

وجلّ هذه الصفات ـ أو كلّها ـ لا تنطبق إلا على الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن كان القرآن قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقول جبريل كرسولين ، ولكنما الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو موضوع البحث هنا أصالة كموضوع الرسالة (١).

__________________

(١) وعليه يحمل ما يروى من تفسير (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) بجبريل و (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) برسول الله كما في نور الثقلين ٥ : ٥١٨ ، القمي بالإسناد إلى الصادق (ع) فلا ينافيه ما عن الرسول (ص) أن (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ـ أيضا ـ هو جبريل (المصدر عن : المجمع) ـ

١٦٧

فكلنا نعلم أن جبريل لم يصاحب غير الرسول لكي تستدل بصحبته وعشرته للمخاطبين أنه غير مجنون ، ولم ينسب إليه الشعر ولا الكهانة ولا الشيطنة ولا الجنون لكي تنفى عنه ، فالمشركون لم يكونوا ليعترفوا بوجوده حتى ينسبوه إليها ، وأهل الكتاب كانوا يحترمونه فكيف يتهمونه بالشيطنة والجنون! في حين أنهم نسبوا إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كل هذه : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (٣٤ : ٨) (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٥٢ : ٢٩) (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) .. (٧ : ١٨٤)

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥١ : ٥٢).

ومن جهة أخرى نعلم أن جبريل ليس هو موضوع الرسالة والوحي لكي تحاول الآيات إثبات رسالته وأنه لا يسحر ولا يكذب ، وإنما دوره دور الوسيط في الوحي المفصّل ، ولا يثبت له كيان إلا بعد ثبوت الرسالة المحمدية وسواها ،

__________________

ـ ثم لا ينافيهما أن الآيات خاصة بالرسول تنزيلا ، وكما تدل القرائن فإن أمثال هذه الروايات تحمل تفسير التأويل : أن جبريل (ع) يحمل وحي القرآن كما يحمله الرسول محمد (ص) ، فتنزيل الآيات بشأن الرسول وتأويلها بشأن جبريل ، وكل من يحمل وحي القرآن من فروع الرسالة المحمدية من أئمة أهل بيته الكرام.

ثم رواية ثالثة تفسر (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) بالرسول (ص) كما في الدر المنثور (٦ : ٣٢١) ، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : قال النبي (ص) لجبريل ليلة الإسراء : أكشف عن النار ، فكشف عنها ، فنظر إليها ، فذلك قوله مطاع ثم أمين على الوحي وما صاحبكم بمجنون ، محمد (ص).

في حين نرى ابن عساكر يخرج عن معاوية بن قرة أن الرسول (ص) قال لجبريل : ما أحسن ما أثنى عليك ربي (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) فما كانت قوتك وما كانت أمانتك؟ ..

فليس من الواجب طرح الروايات التي تفسر الآيات بجبريل ، وإنما نقول إنها من تفسير الجري والتأويل ، نزلت في رسول الله وجرت في كل من يحمل وحي القرآن وأولهم جبريل ـ تأمل.

١٦٨

فهي التي تعرّفنا الغيب ومنه الوحي ومنه ملائكة الوحي الغائبون عن الإحساس.

إنما موضوع الرسالة هنا هو الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي صاحبهم عمرا قبلها ، وهم ينسبونه إلى الشعر والسحر والكهانة والشيطنة والجنون ، الصفات التي تتنافى والكرامة والمكانة عند الله والقوة الروحية التي تؤهله لتلقي الوحي ، والمعرفة الإلهية لحد الرؤية : كأنه رآه! (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) وكونه مطاعا في دوره الرسالي وأمينا في دعوته.

«ذي قوة» : فكما الله هو شديد القوى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) كذلك الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذو قوة : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) قوة معرفيه تؤهله لتلقي الوحي ، فليس ضعيفا يتشبث بالشعر والكهانة والسحر ، ولا ضعيف العقل مجنونا ، ولا ضعيف التمييز لكي لا يميز وحي الرحمان عن وحي الشيطان ، ولا ضعيف الإيمان لكي يخون في الوحي الإلهي ـ وإنما : «ذي قوة» وكما الله شديد القوى.

نلمس هذه القوى الروحية من القرآن نفسه ، دون أن تكون دعوى بلا برهان لرسول القرآن ، فقوة القرآن تشهد لقوة الرسول وكما قوة الرسول تشهد لقوة القرآن : قوتان متناصرتان.

(عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) : ذي قوة عند ذي العرش ، مكين عنده ، أو : ذي قوة ، مكين عند ذي العرش ، والأوّل أولى وأليق ، أن الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس ذا قوة في موازين الأرض : أنه قوي الساعد شجاع في الحروب ، وإنما (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) والقوة عند الله إله القوى ، قوة ربانية لا قبل لها ولا مثيل في ملإ العالمين من الملائكة ومن الجنة والناس أجمعين.

والقوة عند ذي العرش ـ وهو صاحب عرش الألوهية ـ إنها قوة عرشية تعلو سائر القوى وكما القدرة الإلهية تعلوها ، ولكن قوة ذي العرش (شَدِيدُ

١٦٩

الْقُوى) وهي من ذاته المقدسة ، وأما (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) فإنما له قوة من القوى غير شديدة ، وهي من ذي العرش ، دون أن يملك الرسول هذه القوة لذاته ، وإنما هي رحمة من الله خاصة لرسوله الكريم الأمين.

لكنما القوة هذه على قلتها وعدم شدتها تجاه القوة الإلهية ، إنها تعلو القوى غير الإلهية كلها ، ملائكية وبشرية وسواهما.

«مكين» * : عند ذي العرش ، إن له مكانة عرشية خاصة عند ذي العرش ليست لغيره من ذوي المكانات من خملة الرسالات الإلهية.

(مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) :

«مطاع» عند ذي العرش يطيعه من عنده من أصحاب القوى وذوي المكانات ، وكما نرى جبريل ، رسول الله إلى الرسل ، يخدمه ويطيعه ، فليس كيانه إلا كيان الوسيط بينه وبين الله ، لا لأن الرسول بحاجة إلى وساطته ـ إذ هو أقرب إلى الله وأقوى ـ وإنما لكي لا يظن به الناس ما ظنوه في بعض المرسلين من الألوهية كأنهم يقولون من عند أنفسهم دونما وحي ، فإذ يصرح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن جبريل هو الوسيط بينه وبين ربه في وحيه ، فهنا تنطمس الظنون : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦ : ١٠٢).

فليست الغاية من نزول روح القدس إلا تثبيت المؤمنين ، لئلا يقولوا ما قيل من قبلهم للرسل إنهم آلهة كما ظنوا في المسيح عليه السّلام.

(ثَمَّ أَمِينٍ) : عند ذي العرش ، أمين على وحي الله ورسالة الله ودين الله ، ولقد عاش قبل الرسالة أيضا أمينا لحدّ سموه محمّد الأمين ، وهذه الأمانة المسبقة في الناس وعند الناس ، تجعله ـ وبالأحرى ـ أمينا عند الله : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

١٧٠

(١٠ : ١٦) : عمرا بوفور العقل والأمانة ، فكيف تتهمونني الآن بالجنون والخيانة؟!

فالأمين عند الرعية أحرى له أن يكون أمينا عند ذي العرش ، فهو إذ لا يخون الناس وهم ضعفاء ، فكيف يخون الله وهو شديد القوى؟! ..

أجل وإن وحي القرآن ليس ليحمله إلا رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين.

فلو لا الكرم ـ وهو الرحمة العظيمة الواسعة دون ابتغاء أجر ـ لكان وحي القرآن في مضيق يختص بمن يؤتي الأجر دون الناس كافة!

ولو لا القوة العرشية لما كان بمستطاعه تلقي الوحي ـ فأين التراب ورب الأرباب ـ .. إنه لا بد من قلب عرشي قوي لكي يقوى على تلقي الوحي من ذي العرش.

ولو لا ها لما كان يقوى على إبلاغ الوحي كما يجب ، صبرا على المزالق والمشاق في سبيل الدعوة الشاقة.

ولو لا مكانته العظيمة عند الله لما كان يستحق هذه الكرامة الخاصة في تحمل الوحي الأخير وحمله إلى الناس كافة.

ولو لا أنه مطاع في دوره الرسالي ، وعند وسائط الرسالة وعمال رب العالمين ، لما استطاع أن يحقق ويطبق الرسالة الخالدة.

ولو لا الأمانة لكانت منه الخيانة ، أو ممن كانوا يتربصون الدوائر بوحي القرآن أن يبدلوه ويحرفوه كما حرفوا كتب السماء من قبل.

ولكن أمانته وقوته وصموده وصلابته ومكانته جعلت وحي القرآن خالصا عن كل شين ، خالدا إلى يوم الدين.

١٧١

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) :

لقد اتهموه ـ فيما اتهموه ـ بالجنون ، لا المشركون فحسب ، بل وأهل الكتاب أيضا ، وهم يعلمون أنه صاحب وحي وإلهام كما التوراة تشير :

ففي الأصل العبراني من «كتاب هوشع ٩ : ٥ ـ ٩» :

(مه تعسو ليّوم موعد وليّوم حك ادوناي ٥ كي هنيّه هالخو ميشود ميصرييم تقبصم موف تقبرم محمّد لكسفام قيموش ييراشم حوح باهاليهم ٦ بائوا يمّي هفقوداه بائوا يمّي هشّلوم يدعو ييسرائل إويل هنابئ مشوكاع إيش هاروح عل رب عونحا وربّاه مسطماه ٧ صوفّه إفرييم عم إلوهاي نابىء فح ياقوش عل كال دراخايو مسطماه ببيت إلوهايو ٨ هعميقوا شيحمطو كيم هكيبعاه ييزكور عونام ييفقود هطوتام ٩) :

أي : «ما ذا تصنعون يوم الاحتفال ويوم عيد الرب ٥ ها إنهم يرتحلون لأجل الخراب ، فمصر تجمعهم وموف تدفنهم و «محمد» * لفضتهم والقرّاص يرثهم والعوسج يستولي على أخبيتهم ٦ تأتي أيام التمييز ، تأتي أيام الجزاء ، سيعلم إسرائيل : ـ

أن النبي السفيه ورجل الروح مجنون لكثرة إثمك وشدة الحنق ٧ إن النبي رقيب ، أفرأيتم عند إلهي قد صار فخ صيّاد على جميع طرقه وحنقا في بيت إلهه ٨ لقد توغّلوا في الإفساد كما في أيام جبعة فهو يذكر إثمهم ويفتقد خطاياهم ٩» (١).

هذه الآيات المبشرة بسيدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم تندد باليهود الذين اتهموه بالجنون

__________________

(١) تفسير هذه الآيات إلى كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» ص ٧٣ ـ ٧٩.

١٧٢

وهم يعلمون أنه صاحب الروح الرسالية ، اتهموه لكثرة إثمهم وحنقهم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢ : ١٤٦). (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٦٨ : ٥١).

وتقول التوراة أيضا : «يدعو ييسرائيل إوايل حنبيا مشوكاع إيش هاروح عل روب عونخا ورباه مسطماه» :

«بنو إسرائيل يعلمون ويعرفون أن النبي الأمي المجنون صاحب روح إلهامي وصاحب وحي».

هكذا يجابه ويواجه أعقل العقلاء : أنه مجنون ـ مستور العقل ـ لا لشيء إلا لأنه يدعوهم إلى غير ما يشتهون؟ فهل لأنه يضاد آراءهم المفندة أصبح مجنونا؟ إذا فكل الناس مجانين لأنهم ـ كلهم ـ مختلفون في آرائهم ، يجنن بعضهم البعض! فمجانين بالإجماع!.

أو لأنه يعمل الأعمال المجنونة من ضرب وفتك وهتك وسب وقتل وحركات أخرى لا يصدقها العقل. فما هي؟ إنها ليست إلا التوجيهات التي تصدقها العقول والفكر والفطر ، فإذا دحض حججهم وفنّد آراءهم يتمسكون بما يزيف مكانته ، من الجنون والسحر والكهانة والشعر دونما حجة إلا الدعايات والعربدات الهمجية.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) : إنه لبث فيكم عمرا قبل الرسالة وصاحبكم عاقلا صادقا أمينا لحد سمّي بمحمد الأمين ، فهذه المصاحبة العاقلة الأمينة هي الكافية لدفع تهمة الجنون عن ساحته القدسية ، فإذا جاءكم بما يصلحكم تقولون إنه لمجنون؟ وما هو إلا ذكر للعالمين ، لمن شاء منكم أن يستقيم.

١٧٣

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ):

فمن هذا الذي رآه الرسول الكريم بالأفق المبين ، الرؤية التي عدّت من دلائل رسالته الإلهية ومن مفاخرة المعنوية؟

هل إنه جبريل وسيط الوحي؟ ولم يسبق له ذكر! والآيات المسرودة تركّز على رسول واحد ، محمد أم جبريل ، فهل رأى أحدهما نفسه في الأفق المبين؟ ثم رؤية الرسول لجبريل لا تختص بالأفق المبين ، فلقد كان يتشرف ملك الوحي بحضرة الرسول عدد الوحي المفصل ، مئات المئات من المرات ، ثم ليست رؤيته لجبريل من مفاخره ، ولا دليلا على رسالته ، وإنما سماع الوحي ومعدّاته الروحية ، وإنما رؤية الرسول هي مفخرة لجبريل ، رؤية التلميذ أستاذه في تعليم الوحي ، رغم أنه كان وسيطا في ألفاظ الوحي وشيئا من معانيه حسب مقدرته.

فإنما الرؤية هنا كمال المعرفة والزلفى الممكنة للممكنات ، للرسول الأمين ، أن رأى ربه بالأفق المبين : (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أعلى الآفاق المعرفية بأعلى الآفاق الكونية : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٥٣ : ١ ـ ٢٢).

١٧٤

هنا الآيات تركز على التعليم والرؤية ، وليس لرؤيته صلّى الله عليه وآله وسلّم جبريل ، ولا أنه وسيط وحيه ، ليست لهما كثير أهمية ، ولا أن هناك من ينكر الرؤية والوساطة : أبعد التصديق أنه نبي؟ أم مع نكران نبوته؟ فلا تصل النوبة ـ إذا ـ إلى نكران الرؤية!

وكما درسناه مسبقا في سورة النجم ، بشهادة الآيات أنفسها والروايات : ليس شديد القوى إلا الله (١) ، وإنما رسوله ـ أيا كان ـ هو ذو قوة ، لا شديد القوى.

وشديد القوى ـ هنا ـ أوحى إلى عبده ما أوحى ، فهل يا ترى أن محمدا تنزّل إلى درجة العبودية لوسيط الوحي المفصّل؟ .. ثم جبريل لم يصاحب الرسول إلى عمق المعراج ، إلى سدرة المنتهى ، فكيف رآه الرسول عند السدرة نزلة أخرى؟

ثم القسمة الضيزى بين رؤية محمد ما رأى ، وبين رؤية المشركين اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، ليست هذه القسمة الضيزى «الظالمة» إلا في رؤية الإله ، إن رؤية بالبصر كاللات والعزى ، أم بالبصيرة كما رأى الرسول ربه بنور المعرفة واليقين لآخر درجات الإمكان ، فنكران رؤيته صلّى الله عليه وآله وسلّم ربه هكذا ، في حين يرى المشركون أربابهم ، هذا هو القسمة الضيزى ، لا نكران رؤية جبرائيل!

فقد درج الرسول بكيانه ككل ، بجسمه وروحه ، درج فعرج إلى الأفق الأعلى ، ولأنه ذو مرة : (قوة) فاستوى : استولى على الكون أجمع ، وإلى أعلى الآفاق : الآفاق الكونية إذ وصل إلى سدرة المنتهى ، منتهى الكون وكاهله ، واضعا قدميه عليه فرأى من آيات ربه الكبرى.

__________________

(١) في دعاء الندبة «يا شديد القوى يا من على العرش استوى ـ وفي دعاء : يا شديد القوى ويا شديد المحال» وفي نهج البلاغة : شديد القوى يعني به الله وكما في تفسير القمي أيضا.

١٧٥

وإلى أعلى الآفاق العقلية والمعرفية من الملائكة والمرسلين ، فقد عرج الرسول الكريم إلى معراج تلكم الآفاق ، خارقا حجب الظلمات والنور ، فما زاغ بصره وبصيرته ، وما نقص في معرفة ربه ، (وَما طَغى) : ان يراه ببصر العيان ، أم يعرفه بالبصيرة حق المعرفة ، وإنما ازدلف إليه وعرفه كما يمكن ، خارقا كافة الحجب إلا حجاب ذات الألوهية ، المستحيل خرقه.

إن الرؤية هذه هي رؤية الفؤاد بنور اليقين (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)(١) فللقلوب أبصار كما للقوالب : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٧٩ : ٧ ـ ٨) : أبصار القلوب الكليلة أو البصيرة النيرة وكما في العلوي : «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق حجب النور فتصل إلى معدن العظمة» وعند ما يسأل : هل رأيت ربك؟ يجيب : كيف أعبد ربا لم أره ، لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».

وعن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين ثم تلا (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) وهذا جوابا عمن سأله هل رأيت ربك» (٢) وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم :

__________________

(١) في البحار ج ٦ ص ٣٨٠ ، عن ابن عباس قال : قال النبي (ص) فيما احتج على اليهود : .. حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش : إني أنا الله لا إله إلا أنا السّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤوف الرحيم ، فرأيته بقلبي وما رأيته بعيني.

وفي ٣٩٨ عن انس قال : قال رسول الله (ص) لما عرج بي إلى السماء دنوت من ربي حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى.

وفي ٣٩٩ عن حمران قال : سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله عز وجل في كتابه (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) فقال : أدنى الله محمدا منه فلم يكن بينه وبينه إلا قعص لؤلؤ فيه فراش يتلألأ.

أقول : اللؤلؤ هذا المتلألئ هو نور الذات الأزلية التي لا تظهر إلا له سبحانه لا سواه.

(٢) في الدر المنثور ٦ : ١٢٤ ، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي عن بعض أصحاب النبي (ص) قال : قالوا يا رسول الله (ص) ..

١٧٦

«نوراني أراه» (١) ، وقال : «رأيت نورا» .. كل ذلك إشارة إلى المعني من الرؤية : أنها كمال المعرفة بعد خرق الحجب الممكن خرقها لأفضل الكائنات وأشرف الموجودات.

والرسول الكريم وإن كان عارفا بربه حق المعرفة طوال حياته الرسالية ـ مهما اختلفت درجاتها طولها ـ إلا أن طبيعة الحال تقضي في معراج هكذا ، وإلى الأفق الأعلى ، واضعا قدميه على كاهل الكون ، تاركا ما سوى الله تحت قدميه وبقالبه ، بعد أن تركها بقلبه المنير ، متخليا متحللا منقطعا عما سوى الله وحتى عن نفسه المقدسة ، مشتغلا بربه دون سواه ، منعزلا عمن أرسل إليهم لهذه الفترة ، فهذه الحالة تقتضي أن يكون هناك من ربه (قابَ قَوْسَيْنِ) : ليس بينه وبين الله أحد ولا حجاب (أَوْ أَدْنى) : ليس وحتى نفسه المقدسة وهي أقدس الحجب النورانية :

«بيني وبينك إني ينازعني

فارفع بلطفك إني من البين»

فلم يبق آنذاك حجاب عن المعرفة إلا حجاب ذات الألوهية الذي لن يرتفع أبدا ، فقد خرق ـ إلى الأفق الأعلى وفيه ـ خرق حجب الظلمة وحجب النور ، ناسيا لها وتاركا إياها مشتغلا بربه ، ولو أن بقيت هذه الحالة التجردية للرسول الكريم لاشتغل عن الكون وعن رسالته وعن نفسه وقضى نحبه ، وهذا باب من المعرفة لا يعرفها إلا صاحب المعراج ، وهي التي استدعاها موسى فأجيب : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) إذ ليس في وسعه العروج إلى هذا الأفق المعرفي كما لا يتسع الجبل فوق ما يتحمل.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) : ليس الرب على غيبه بخيلا : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا

__________________

(١) المصدر أخرج مسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي ذر قال : سألت رسول الله (ص) هل رأيت ربك. فقال : نوراني أراه.

١٧٧

يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٧٢ : ٢٧).

ليس الرب ضنينا برسوله الكريم على غيبه الممكن كشفه على غيره ، كما وأن الرسول ليس على غيب ما أوحي إليه بضنين على الناس أجمعين ، فلا ضنة لا هنا ولا هناك ، فقد كشف الله عن غيب معرفته وعن غيب وحيه لرسوله الكريم ما لم يكشفه لأحد من العالمين ، ليس لأنه ضنين على من سواه من المرسلين ، وإنما لأن القلوب أوعية المعارف ، لا تعي إلا على قدرها ، فلو حملت فوق مستطاعها لتفتتت كما والجبل لم يتحمل لما تجلى ربه له فوق ما يتحمل ، مثالا لموسى إذ سأله منتهى المطاف في المعرفة ، أنه لا يتحمل.

ولكن الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يؤهل لهكذا كشف عن الغيوب المكنونة الممكن كشفها ، فإذ ليس الله على الغيوب هذه ضنينا ، وقلب محمد يعيها ، وإذ ليس محمد على بلاغ الغيب ضنينا ـ ولأنه يحمل الشريعة الإلهية كلها ، ويتحمل عبء الرسالات كلها ـ لهذا وذاك (رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : فهل الشيطان الرجيم يوحي بهذا المنهج القويم لحدّ يفوق سائر الوحي النازل على أنبياء الله من قبل؟

ثم هل الشيطان يعارض نفسه في شيطنة العقائد والتصرفات ـ طوال وحيه ـ ويحافظ على كرامة الله ودين الله كما نلمسه تماما في وحي القرآن؟

فوحي القرآن ليس صادرا إلا عن الله ـ قضية قياسها معها ـ فليس وحيا نفسيا من كاهن ولا مجنون ولا عاقل يتكلم عن وحي نفسه وإن كان عن عقل وصفاء ، وليس وحيا من كاهن ولا شاعر ولا ساحر ولا شيطان ولا مؤمن عاقل عبقري إليه ، فإننا لا نجد أيا من هذا وذاك يلمح من هذا الوحي العظيم ، وهو بنفسه

١٧٨

يشهد علميا وعقليا أنه وحي الله ألقاه إلى رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) :

أين تذهب بكم المذاهب وتتيه بكم عن هذه المواهب : عن هذا الوحي القويم وهذا الرسول النبي الكريم؟ أين تذهبون وأنى تأفكون ، من حيث لا تعلمون ولا تعقلون؟ أين تذهبون في أقوالكم وادعاءاتكم وأحكامكم : أين تذهبون منصرفين عن الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم وحيثما كنتم ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون؟.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) :

إن وحي السماء ورسل السماء ـ وبالأحرى رسول الرسل وأم الكتب ـ إنها لا تأتي بما ينافي العقول والفطر أو لا يلائمها ، وإنما كيانها : (ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ذكريات تذكرهم بما نسوا أو تناسوا ، بما درنت ورانت قلوبهم وكسفت عقولهم ومسخت فطرهم.

إن هذه الذكرى الرسالية تتركز على الأحكام الكلية العقلية والمصاديق الجزئية ، إزاحة لشبهات العقول ، وإنارة الدروب عليها ، لتسابق فيما هو خيرها في الأولى ، وإن كان الإنسان كإنسان الأرض لا يستطيع أن يعرف كافة الحكم في الأحكام الجزئية اللهم إلا ما يذكّرنا وحي السماء ..

فوحي القرآن ونبيّ القرآن ليس له كيان إلا (ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) تذكيرا عن الغفلة والغفوة والجهل والجهالة ، ذكرا بما هو منقوش في كتاب الفطرة ، وتعرفه العقول المستقيمة .. (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ).

١٧٩

فكما المقوّم يجب أن يكون مستقيما ، كذلك المقوّم ، عليه أن يشاء الاستقامة ويعمل لها : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠ : ٣٠).

فمشيئة الاستقامة تأخذ بالإنسان إليها حيث المقومات من وحي السماء ورسل السماء تترى و (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) :

هل إن آية المشيئة هذه تعلّق مشيئة الإنسان بمشيئة الله : أنه مسيّر في مشيئته وليس مخيّرا؟ وهذا خلاف الواقع الملموس ، ولا تلائمه الآية المسبّقة : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) إذ توحي باختيار الإنسان في مشيئة الاستقامة وسواها.

نقول انها ـ على احتمال ظاهر بين محتملاتها (١) ـ تخرج الإنسان عن استقلاله في مشيئته ، وتجعله بين أمرين : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» فلا هو

__________________

(١) واحتمال آخر : وما تشاؤون استقامة إلا أن يشاء الله ذلك الاستقامة ، فليست مشيئة الله لتحقيق الاستقامة والهداية إلا بعد مشيئة العبد وهذا عكس الاحتمال الأول إذ كانت المشيئة الالهية فيه هي السبب لمشيئة العبد المحققة للاستقامة والهداية.

ومشيئة العبد مشيئتان : مشيئة أولى في البداية ، وثانية لتحقيق الغاية ، ومشيئة الله كذلك هنا في مرحلتين : تشريعية وتكوينية ، فما لم تكن الأولى لم تتحقق المشيئة الثانية للعبد لعدم الدلالة ، وما لم تكن الثانية لم تتحقق كذلك لأمرين في الخير وأمر واحد في الشر ، يزيد الخير على الشر في مشيئة التوفيق ويشتركان في عدم تحقق المراد إلا بإرادة الله التي هي آخر المطاف في أسباب تحقق الغاية.

(راجع كتابنا حوار بين الآلهيين والماديين بات الأمر بين الأمرين).

١٨٠