الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

أو أن الشاهد ابن آدم والمشهود يوم الدين ، فبما أن الإنسان بأعضائه يتلقى أعماله ويلقيها يوم تقوم الأشهاد (١).

أو أن الشاهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمشهود أمير المؤمنين عليه السّلام فلأن الرسول يجاء به شهيدا على كافة المكلفين ولهم ، فهو يشهد لعلي ـ فيمن يشهد لهم ـ أنه أدّى ما عليه ولم ينقص (٢).

أو أن الشاهد يوم الجمعة وعرفة والمشهود يوم القيامة ، فلأن الأيام ـ بها وبأماكنها وبمن فيها ـ تشهد لنا أو علينا ، في يوم القيامة (٣) ، وقس عليها غيرها (٤).

كما وأن عليا ـ حسب القرآن ـ من شهود الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (١١ : ١٧) فقد تلاه : تبعه في رسالته ، وخلفه في أمته طوال الرسالة وبعدها حتى قبض.

* * *

قسما بالسماء ذات القصور المدرّعة القاذفة للشياطين يوم الدنيا ويوم الدين :

__________________

(١) عن مجاهد.

(٢) عن الامام الصادق (ع).

(٣) عن النبي (ص) والباقر (ع).

(٤) كيوم الغدير ، يوم شاهد ومشهود ، مصباح الشريعة عن خطبة لعلي (ع) ، وأن الشاهد محمد والمشهود يوم عرفة ، عن الامام الحسن (ع) وروى أن رجلا دخل مسجد رسول الله (ص) فإذا رجل يحدث عن رسول الله (ص) ، قال : فسألته عن الشاهد والمشهود ، فقال : أما الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم النحر ، فجزتهما إلى غلام كأن وجهه الدينار وهو يحدث عن رسول الله (ص) فقلت : أخبرني عن شاهد ومشهود ، فقال : نعم ، أما الشاهد فمحمد وأما المشهود فيوم القيامة ، أما سمعت الله سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وقال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) فسألت عن الأول فقالوا : ابن عباس ، وسألت عن الثاني فقالوا : ابن عمر ، وسألت عن الثالث فقالوا : الحسن بن علي (ع) ، (نور الثقلين ٥ : ٥٤٢ ـ ٥٤٣).

٢٦١

«إن الذين كفروا لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» (٧ : ٤٠).

وقسما باليوم الموعود الذي تعرض فيه الأعمال والخلائق ، وقسما بشاهد ومشهود ، إذ يغرق المكلفون في جو الشهود ، وإذ تلتقي السماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود.

قسما بهذه وتلك لقد حدث حادث في تاريخ الإنسان يجرح الأكباد ويقرح العيون : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ..) أفهل تزعم أن ظلامتهم تذهب هدرا ، والكون بمن فيه وما فيه شهود؟ :

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) :

الأخدود شقّ في الأرض مستطيل غائص ، وجمعه أخاديد ، والنار ذات الوقود هي التي أضرمت وأوقدت في الأخدود ، لحدّ أصبح الأخدود كأنه نار ذات وقود ، إيحاء بتلهّب النار في الأخدود كله ، كأن لم يبق أخدود إلا الوقود (١) فنفس الأخدود ضيق ، ثم قلبه نارا ضيق على ضيق وعذاب فوق العذاب.

وأصحاب الأخدود هم الجبابرة الذين أوقدوا النار في الأخدود ، لا المؤمنون الذين أحرقوا فيها ، لأن أصحاب الأخدود ـ حسب النص ـ قتلوا ، والمؤمنون أحرقوا ، ولا يعبّر عن الحرق بالقتل ، وإن كان هو أيضا قتلا ولكنه بالحرف ،

__________________

(١) النار ذات الوقود بدل الاشتمال عن الأخدود ، جيء به كبدل الكل مبالغة في الوقود ، وهنا رواية في النار لطيفة : عن الخصال عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته عن النيران فقال «أربعة : نار تأكل وتشرب ، ونار تأكل ولا تشرب ، ونار تشرب ولا تأكل ، ونار لا تأكل ولا تشرب ، فالتي تأكل وتشرب فنار ابن آدم وجميع الحيوان ، والتي تأكل ولا تشرب فنار الوقود ، والتي تشرب ولا تأكل فنار الشجر ، والتي لا تأكل ولا تشرب فهي نار القداحة والحباحب» (نور الثقلين ٥ : ٥٤٧).

٢٦٢

كما المقتول بالصلب يقال عنه مصلوب ، لا مقتول : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

هذا ـ ولأن الضمائر التالية كلها ترجع إلى المحرقين لا المحرقين : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ ..).

«قتل» * : إنه إخبار عن قتل أرواحهم وضمائرهم لما أقدموا على إحراق المؤمنين ، فهم قتلوا إذ قتلوا ، رغم حياتهم في الجسد ، قتلوا ضمائرهم قبل أن يقتلوا المؤمنين ، فالضمائر الإنسانية الحية ، والأرواح الطاهرة ، لا تسمح لأصحابها هكذا قساوة وضراوة ، أن يلقوا المؤمنين والمؤمنات ـ بأطفالهم وضعفائهم ـ في النار ، وهم قريبون من عملية التعذيب البشعة ، يشاهدون أطوارها ، وفعلة النار في هذه الأجسام الطاهرة ، وهم في لذة وسعار.

أجل إنه إخبار بقتلهم وليس دعاء ، فإنه لا يليق بساحة الربوبية ، إخبار عن ماضيهم يوم الدنيا ، وعن مستقبلهم يوم الدين ، كيف يلاقون جزاءهم الوفاق يوم التلاق.

قصة أصحاب الأخدود :

تختلف الروايات في : من هم أصحاب الأخدود؟ أنه مهرويه بن بخت نصر؟

حفر أخدودا لدانيال وأصحابه ، وأوقد لهم نارا فلم يحرقوا ، فاستودعهم فيه بين الأسد والسباع بألوان العذاب حتى خلصهم الله منه كما عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

أقول : إنه لا يلائم سياق الآيات الظاهرة في وقوع النقمة عليهم (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا ..) (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا ..) أي : أحرقوا ، فلا نصدق أنه عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم.

أو «أنه ذو نواس ـ آخر ملوك حمير ـ تهود واجتمعت معه حمير ،

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٤٣ في كتاب كمال الدين وإتمام النعمة باسناده عنه (ص).

٢٦٣

ثم حمل من بقي على النصرانية بنجران أن يتهودوا فأبوا ، فاتخذ لهم أخدودا وأشعل فيه النار ، فمنهم من أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف ، ومثل بهم كل مثلة ، وبلغ عدد الضحايا عشرين ألفا» (١).

أقول : وما سوى أخدود النار لا يلائم الآيات.

ورويت روايات أخرى مختلفة في أصحاب القصة وكيفيتها ، لا تهمنا تفاصيلها ، فنجمل عنها كما القرآن أجمل ، ولندرس فيها درس التضحية والفداء في سبيل الله ، وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «ما ذكرت أصحاب الأخدود إلا تعوذت بالله من جهد البلاء» (٢).

وعن حفيده الإمام الصادق عليه السّلام قوله : «قد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير ، وتضيق عليهم الأرض برحبها ، فما يردهم عما هم عليه شيء مما هم فيه ، من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى ، بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فاسألوا ربكم درجاتهم ، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم»(٣).

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) : قتلوا (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) على الأخدود ـ لا فيه ـ على شفير النار ومشارفها ، البعيدة عنها عرضا وعمقا ، دون أن يتأثروا بها ، إلا تفرّجا ونزهة ، فالداخل في النار لا يقعد فيها ، إنما يقوم ويقعد ويقفز محاولة الفرار.

(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) : حضور يسمعون صرخاتهم

__________________

(١) نور الثقلين ٥٤٤ في تفسير علي بن ابراهيم القمي.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣٣٣ ، أخرجه عبد الحميد عن الحسن عنه (ص) ، وابن أبي شيبة عن عوف عنه (ص).

(٣) نور الثقلين ٥٤٧ في روضة الكافي محمد بن سالم بن أبي سلمة عن أحمد بن الريان عن أبيه عن جميل بن دراج عنه (ع).

٢٦٤

وتسبيحاتهم ، ويرون ما تفعل النار بجسومهم الطاهرة ، شهود : شهادة تلق مما فعلوا ، وشهود ـ يوم تقوم الأشهاد ـ شهادة إلقاء بأعضائهم وأجزائهم ، بألسنتهم وأسماعهم وأبصارهم ، فهم شهود هنا وهناك ، وهم مشهود عليهم بأعمالهم هناك في اليوم المشهود : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١ : ٢٢).

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) :

إن نقمة الإيمان هي دور المؤمنين طوال تاريخ الإنسان ، فليطلب المؤمنون أن يفرغ عليهم ربهم صبرا ويتوفاهم مسلمين : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (٧ : ١٢٦) (قُلْ ... هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) (٥ : ٥٩).

إن قتل المؤمن لإيمانه هو أشد الكفر : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٤ : ٩٣) : يقتل مؤمنا لإيمانه وإن كان القاتل في زمرة المؤمنين! فكيف بالكافر!.

فيا حمقاء الطغيان! هل إن الإيمان بالله يستوجب النقمة : والنكران بالعقوبة وباللسان؟ وهو الله العزيز في ألوهيته فأحرى أن يؤمن به ، وهو الحميد في عزته فأحرى أن يؤمن له! الله العزيز الحميد.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) :

يملك الكون كلّه ، ويشهد عليه كلّه ، وسوف يشهد قبل الشهود ومعهم يوم تقوم الأشهاد ، ماذا نقمتم من المؤمنين به؟ فهو شاهد يوم ذاك ، وأعمالكم مشهود بها ، وأنتم مشهود عليكم ، والقيامة مشهود فيها.

٢٦٥

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) :

«فتنوا» * : أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ، واستعمل في إدخال الإنسان النار ، وعله أيضا لهذه الغاية ، قصدت أم لا.

فأصحاب الأخدود أحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار نقما منهم وكراهية لهم ، فلم يقصدوا تخليصهم بهذه الفتنة عما ربما يلتصق بالمؤمن من رداءة ، ولكن الله فوقهم ، حقق فيهم معنى الفتنة فصبروا عليها وماتوا مخلصين ، ذهبا خالصة عن الأخلاط ، فلاقوا ربهم خلّصا عن الرداءة.

هذا ـ وعلى سبيل التهكم ـ يفتن الكافر أيضا على النار : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ..) (٥١ : ١٣) : فتنة بفتنة ، تتشاركان في الحرق ، وتختلفان في نتاجه صالحا وطالحا ، فالفتنة ، منها مفلحة كما للمؤمنين ، ومنها مسقطة كما للكافرين (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٩ : ٤٩).

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بمختلف العذاب وعذاب الحريق ، (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ) الجزاء الوفاق : (عَذابُ جَهَنَّمَ) كمبدأ العذاب الذي ذاقه المؤمنون منهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) بما أحرقوهم في الأخدود ، جهنم بما فعلوا ، وحريق بالأخدود ، ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته ومدته ، في؟؟؟؟ ، وعدّته ، في عذابه ورحمته!.

فحريق الأخدود نار أوقدها إنسانها للعبه ، وحريق جهنم نار سجّرها جبارها لغضبه ، ثم الأوّل تنتهي للحظات ، والآخر آباد لا يعلمها إلا الله ، ومع حريق الأخدود رضي الله عن المؤمنين ، وانتصار لحق الإيمان ، ومع حريق الآخرة غضب الله والارتكاس الهابط الذميم.

٢٦٦

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) :

فالمؤمن حياته الجنة ، والكافر حياته النار ، وجنة الأبرار لا تختص بدار القرار ، إنهم يلتذون بما ينقم منهم في سبيل الله ، فطالما أجسادهم تعذب في جحيم الدنيا ، لكنما الأرواح تلتذ بالفداء ، ثم لا تحس آلام الأجساد ، ثم هم يوم القيامة ينعمون ، وذلك الفوز الكبير : الظفر بالخير مع حصول السلامة ، وهذه هي النجاة الحقيقية ، والنجاح الكبير في معارك الحياة.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) :

بطش رباني ما له من فواق ، دون بطشهم الهزيل الصغير ، بطش الضعاف المهازيل ، بطش الأحمق الذليل!

البطش هو تناول الشيء بصولة ، منها ظالمة ومنها عادلة ، وبطش الرب جزاء عن صولتهم الظالمة ، بصولة عادلة ، وفي (بَطْشَ رَبِّكَ) تطييب لنفس النبي الأقدس ، ولكي لا يحسب لهؤلاء البطاشين حسابا : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١٤ : ٤٣).

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) :

قسما بالسماء ذات البروج. واليوم الموعود. وشاهد ومشهود : قتل أصحاب الأخدود .. إن الذين فتنوا .. إن بطش ربك لشديد. إنه هو يبدئ ويعيد. فهي كلها أجوبة الأقسام كلها ، لأنها تصلح لها ، والصلة بينها وبينها معلومة بما سبق.

٢٦٧

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) :

وحتى لأمثال أصحاب الأخدود لو تابوا وآمنوا وأصلحوا ، فإنه منبع الغفران والود ، بودّه يغفر ، وبمغفرته يودّ ، أفلا تائب يتوب وآئب يؤوب!.

فتأخير بطش الرب ـ الشديد ـ ليس للغفلة أو الإهمال ، فالظالم في قبضته بدءا وعودا فأين يفر؟ فقد يؤخر علّ البطاشين المتخلفين يتوبون ، ولأن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل.

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) :

صاحب عرش الألوهية ، ولقد ذكر العرش في واحد وعشرين موضعا من القرآن ، مقرونة بقرائن قاطعة لفظية وعقلية ، تدل على أنه ليس عرشا يتكى عليه ، وإنما هو كناية عن ملكه تعالى ، ونفاذ أمره في مملكة الوجود ، واستيلاء سلطانه على رعيته.

إن ألوهيته تعالى ونزاهته عن ذوات المخلوقين وصفاتهم ، إنها برهان لا مرد له ـ عقليا ـ أن الذات والصفات والأفعال المنسوبة إليه ، مجردة عما للمخلوقين ، فإذ ينسب إليه العرش فهو إذا يجرد عن عروش المخلوقين المحتاجين إليها ، والمتكئين عليها ، فهو مجيد في ألوهيته وفي عرشه (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) وعروش الخلق ليست مجيدة : متسعة في الكرم والجلال ، وإنما ضيّقة داثرة متواضعة.

ولمجده تعالى في عرشه ، هو (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وغيره تعالى من أصحاب العروش مغلوب على أمرهم ، لا يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون ، إذ ليسوا أمجادا في ذواتهم وصفاتهم وعروشهم (١).

إنه ليس إمهاله المجرمين لعجز أو جهل أو بخل أو نسيان أو ظلم وأمثالها ،

__________________

(١) تجد البحث الفصل عن العرش في المواضيع الأنسب فالأنسب.

٢٦٨

وإنما إملاء وابتلاء ، ولكي يثبت أنه (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يفعل ـ أحيانا ـ بالمجرمين ما لا يمكن أن يفسّر بالصدفة أو العادة ، وإنما القصد الخارق للعادة ، ولكي ينتبه الغافلون.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ. وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) :

فقد أغرق الله فرعون وجنوده في اليمّ بعد ما نجّى بني إسرائيل ، ونجّى فرعون ببدنه ليكون لمن خلفه آية : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٢٠ : ٧٨).

وقد أخذ الله ثمود بعذاب بئيس بعد ما أوعدهم ، بما كذبوا صالحا وعقروا الناقة : «ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب. فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز. وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود» (١١ : ٦٨).

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وأخذ الكفر شغاف قلوبهم ، إنهم (فِي تَكْذِيبٍ) يعيشون التكذيب كأنهم غريقون في يمّه (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) لا فيهم ، إذ هو بعيد عن ذواتهم بعد القرب والمعرفة ، وبعد الذات والصفة ، فهو من وراءهم محيط ، نافذ فيهم علمه ، غالبة عليهم قدرته ، قريب في بعده ، وبعيد في قربه ، محيط بهم وبعالمهم ، لا يفلت منه أحد ، ولا يغيب عنه أحد ، وبيده ناصية كلّ شيء.

٢٦٩

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) :

«بل» * ليس كما يزعم أن القرآن قد ينال منه بزيادة أو نقصان ، كما أن أمة القرآن ينال منهم بين الأمم ، (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) : واسع في الكرم والجلال ، كما الله مجيد ، ولا نجد وصف المجد في القرآن إلا للقرآن بعد الله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ، قُرْآنٌ مَجِيدٌ) ، فكما من المستحيل أن ينال من ذات الله وصفاته وأفعاله (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) ، وليس مغلوبا في أمره ، كذلك القرآن ـ حسب هذا النص ـ مجيد : واسع في كرمه وهدايته سعة الرحمة الإلهية ، جليل عزيز لا يذل ولا يغلب ، وما أكذوبة تحريف القرآن إلا ذلا ودمارا ، يتنافى ومجده ، وهو المجيد الرفيع العريق الكريم ، وهل أمجد من قول الله ذي العرش المجيد؟

ومن لطيف الأمر أن الله تعالى يسوّي بين مجده ومجد كتابه في الأصل وفي العدد : مرتين مرتين (١).

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ضمن الله تعالى حفظه عن التحريف والتصريف ، أيا كان ، بزيادة أو نقصان ، أو أي تحوير وتغيير : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٥ : ٩) تأكيدات ست في جماع من القدرة والرحمة الربانية تؤكد حفظ القرآن عن الضياع والتحريف.

فلقد حفظ القرآن المجيد ، في لوح محفوظ : صفحة لائحة ظاهرة لمن يتمجد به من المكلفين ، لا في لوح عند الله ، أو عند رسول الله وعترته المعصومين فحسب ، فإنّ ما هنا لك ليس لائحا إلا عند أهله ، ولوح القرآن مجيد واسع الكرم ، فهو محفوظ في كافة الألواح ، ألواح الصدور والصحف ،

__________________

(١) ق والقرآن المجيد (٥٠ : ١) بل هو قرآن مجيد ، إنه حميد مجيد (١١ : ٧٣) ، ذو العرش المجيد. وقد بحثنا عن صيانة القرآن عن التحريف في كتابنا (المقارنات) ص ٢٢٧ ونبحث في طيات الآيات المناسبة هنا.

٢٧٠

وألواح الألسن الناطقة به ، ولا يقدر أحد أن يغيره فإنه مضمون الحفظ بالقدرة الإلهية.

وكما الله عزيز : غالب ممدوح ، كذلك كتابه عزيز : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢).

فالقرآن عزيز كمن أنزله ، لا يغلب في الحجاج ولا من أيّ تغلّب ، عزيز في دوامه ، عزيز في تبيانه وأحكامه ، فلا يأتيه الباطل وإن أتاه المبطلون ، نور لا تطفأ مصابيحه ، وسراج لا يخبؤ توقّده ، يذهب كل قائل بقوله ضياعا ، والله بقوله ثابت لا يضيع.

٢٧١

سورة الطارق ـ مكية ـ وآياتها سبع عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ. وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ) :

قسما بالسماء : الأجواء الواسعة الحاملة لمواكيد الكواكب ، وقسما بالطارق : النجم الثاقب ، فما هو الطارق؟ وما هو النجم الثاقب؟ وما هو الرباط بين السماء والطارق ، وبين الحفاظ الإلهي على كل نفس؟.

٢٧٢

الطارق هو الإنسان الذي يطرق ليلا فيدق الباب ، فإن الطرق هو الدّقّ ، كما المطرقة هي المدقة ، ويسمى الآتي ليلا طارقا لأنه يأتي في وقت يحتاج فيه إلى الدق أو ما يقوم مقامه ، للتنبيه على طروقه والإيذان بوروده.

والنجم هو الكوكب الطالع بنوره ـ وعله بطلوع التمدن فيه أيضا ـ والثاقب : هو النافذ بنوره وبطرقه ، يثقب ظلام الليل بنوره ، ويظلم الحياة على مسترقي السمع الشياطين ، بوقعه : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ).

فالسماء حفيظة لأولادها الكواكب ، وطوارقها الثواقب ، حفيظة للملإ الأعلى أن يسّمّع إليهم : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) : المدرعات الجويّة التي تثقب بنيازكها النارية النورية سرّاق السمع.

فالنجوم الثاقبة الطارقة ليلا هي نور حياة للمهتدين ، وظلم على حياة المعتدين كما وأن آيات الوحي تثقب بأنوارها ظلمات الضلالات ، وتثقب بوقعها كيان الشياطين ، ومن أثقب النجوم في سماء الوحي هو الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

قسما بهذه النيازك النارية والطوارق النورية ، الثاقبات الحافظات للكيان السماوي ، إن واقع الحفاظ لا يختصها ، وإنما يعم كل نفس : بشري وملائكي وجني وحيواني وسواها ، حفظا عن الأخطار الموجهة إليها ، ومن أخطارها الموجهة إلى غيرها :

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) :

إن كل نفس إلا (٢) عليها حافظ إلهي ، أو ملائكي وبشري بأمر الله ،

__________________

(١) كما في نور الثقلين ٥ : ٥٥٠ ح ٣ عن تفسير القمي عن الصادق (ع).

(٢) تجيء «لما» * بمعنى «إلا» * في موضعين : أن ، والقسم كقولك سألتك بالله لما فعلت ، ويحتمل أنها مخففة فاللام للتأكيد و «ما» * صلة مؤكدة ، والأول أصح والثاني مشوه.

٢٧٣

أو كوني كذلك : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٢ : ٦٤) وهذه مقتضى ربوبيته : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٣٤ : ١١) هو حفيظ : و (هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (٦ : ٦١) : حفظة يحفظونهم في حياتهم ، صادرين من أمر الله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (١٣ : ١١) : يحفظون نفوسهم بأبدانهم طوال الحياة وبعد الممات ، فلا تذهب سدى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ويحفظون أعمالهم ويكتبون : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ).

إن كل نفس إلا عليها حافظ ، عليها دنيا وعقبى ، عليها روحا وجسما ، عليها أعمالا وأقوالا ، وعليها دينا ودنيا ، فإن نجوم الاهتداء تثقب القلوب المقلوبة المظلمة ببوارق الهداية : من عقله وفطرته : رسولان هما لزام الإنسان ، ومن آفاقه المحيطة به : رسالة الكون ، ومن رجالات الوحي : رسالة السماء ، فيا قبحا لمن لا يحسب لهذه الحفظة حسابا ، فينفلت من حزب الرحمان إلى حزب الشيطان ، وإلى حرب الرحمان!

وهذه النجوم تثقب الضالين بحيلهم فينهزمون : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١٧ : ٨٢).

فليست هنا لك ـ إذا ـ هيصة وفوضى ، دون حراسة إلهية ولا حفيظ ، إنما هو الحفاظ الدقيق المباشر وغير المباشر ، وسوف يظهر يوم تقوم الأشهاد.

ولكي يعلم الإنسان أنه محفوظ بعمله ليوم تقوم الأشهاد فلا ينكر البعث والمعاد ، فلينظر :

٢٧٤

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) :

«لينظر مم خلق»؟ ولكي يعرف مصيره ، فمبتدء الخلق ـ دائما ـ آية مصيره ، فعبر هذا النظر سوف يعتبر أنه ما هو في ماضيه؟ وكيف يكون مصيره ومرجعه؟.

لينظر مم خلق؟ بعد ما يعلم أنه خلق : هل خلق هو نفسه؟ أم خلق مثله؟ أم خلق من غير خالق؟ : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٥٢ : ٣٥).

ثم لينظر من أية مادة خلق؟ خلق من ماء دافق : يخرج بدفق ، ورغم أنه ماءان : ـ يخرجان من بين صلب الرجل : عظام ظهره الفقارية ، ومن ترائب المرأة : عظام صدرها العلوية ـ رغم ذاك يعبّر هنا عنها بماء واحد ، علّه بما أصبحا واحدا من أمشاج : أخلاط : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) (٨٦ : ٧) :

فهما ماءان وأمشاج ، أصبحا وأصبحت ماء واحدا لوحدة التشكيل والاتجاه إذ مزجا ومشجت.

ما كانت البشرية ـ طوال تاريخها ـ لتعرف أن الجنين مخلوق من هذين الماءين ، إنما المزعوم : أنه من ماء أبيه ، أو الذكر من الذكر والأنثى من الأنثى ، كانوا يزعمونه هكذا حتى نزول القرآن ، إذ صرح هنا وهناك أن الجنين ـ أيا كان ـ مخلوق من الماءين ، واكتشفوا علميا في منتصف القرن الأخير : أن في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل ، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة ، حيث يلتقيان في قرار مكين فيصبحان ماء الجنين! فمن الماء الدافق إلى الإنسان العاقل الناطق!

٢٧٥

(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) :

الصلب ما فيه النخاع الشوكي الذي فيه مجمع الأعصاب ، فلو انكسر الصلب أو اصطدم لم يقدر الإنسان على الجماع والتوليد ، فمنشأ النطفة الرجولية إنما هو الصلب ، وإن كان المني ينحدر منه دوما إلى البيضتين : الخزانتين الاحتياطيتين ، والماء الدافق يدفق من الصلب والترائب ، ومن خزينتي الاحتياط ، وعلها كمساعدة لنشوء الجنين.

والترائب جمع تريبة وهي موضع القلادة من صدر المرأة ، فهي ضلوع صدرها ، أو مقاديم بدنها من الثديين إلى الوركين : استيحاء من جمع التريبة ، فالترائب ـ إذا ـ هي مقاديمها كلها ابتداء من موضع القلادة ، وسوف نوافيكم في بحث فصل عن النطفة وتطوراتها في سورة العلق.

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) :

إن الذي قدر على بدئه ، لقادر أيضا على رجعه : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) إنه على رجعه : إرجاعه إلى ما كان ـ كيفما كان ـ لقادر.

رجع أوّل : أن يرجعه الله إلى ما كان من ماء دافق : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢١ : ١٠٤) (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٧ : ٢٩) : ودون رجع إلى الصلب والترائب.

ورجع ثان إلى ما كان من الخلق الكامل : يخلق من هذا الماء كما خلق أول مرة ، دون الزوائد غير الثابتة ، وإنما البدن الذي عاشه طواه حياة التكليف ، وكما «سئل الإمام الصادق عليه السلام عن الميت يبلى جسده؟ قال : نعم ، حتى

٢٧٦

لا يبقى لحم ولا عظم إلا طينته التي خلق منها فإنها لا تبلى ، تبقى مستديرة في القبر حتى يخلق منها كما خلق أول مرة» (١) : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٣١ : ٢٨).

ورجع ثالث ترجع فيه روحه إلى قالبه الأصيل ، الذي عمل فيه ما عمل حياته.

ورجع رابع ترجع فيه أعماله وأقواله كما صدرت ، ذلك بأن الله كان حفيظا عليه بروحه وببدنه الأصيل وبأعماله ، دون أن تضل منها شيء وحتى عن ملك الموت : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١١).

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) : السرائر جمع السريرة وهي الطوية في النفس أو غيرها ، من أسرار وأفكار ، وإبلائها إظهارها ، فإنه ظهور الحقيقة بعد خفائها ، وبالبلاء يظهر الخفاء ، فعامة السرائر سوف تظهر كأشهاد ، يوم تقوم الأشهاد : مما أسره الإنسان في نفسه أو أبداه : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (٢ : ٢٨٤) فما يبديه أيضا يبقى سرا يسجّل في المسجلات الإلهية ، ثم لا يبقى سر مما أسره أو أبداه إلا ويبلى يوم تبلى السرائر ، وقد يعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أمثال الصلاة والزكاة من السرائر التي سوف تبلى (٢) حال أنها ليست من الأسرار الخافية إلا شذرا نذرا فيما يخفيه صاحبه ، إلا الصوم الذي هو سر بطبعه ، وقد عده صلّى الله عليه وآله وسلّم في عداد غير الأسرار كالصلاة والزكاة.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ ص ٤٣ ح ٢١.

(٢) في الدر المنثور ٦ : ٣٣٦ ، أخرج البيهقي في شعب الايمان عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله (ص): ضمن الله خلقه أربعة : الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال الله (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ).

٢٧٧

إن السرائر المكنونة والمطوية سوف تبلى ، تخرج عن ظلمات الأسرار بطوارق الأشهاد ، بإرادة الله ، وكما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر ، وكما ينفذ الحافظ إلى المحجوبة بالسواتر ، كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة وكل ناصر :

(فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) : فلا هناك له قوة ذاتية تدافع عنه ، ولا ناصر عرضي يناصره ، فيا له من ضعف مضاعف حين تتكشف أسراره في نهاية المطاف ، وعند انقطاع الأعمال والآمال!

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ)(١) :

إن الكائنات كلها رجعيات ، ترجع إلى ما كانت ، وترجع أماناتها كما أخذت : فالسماء سوف ترجع دخانا كما كانت : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) وهي ترجع أماناتها إلى الأرض دوما : من أبخرة المياه الصاعدة إليها ، إذ تتحول ثلوجا ومياها ، ثم توزع في أكناف الأرض حقا وعدلا ، هذه السماء لا تتأبى عن رجوعها لقيامتها ، ولا عن رجعها أماناتها ، على عظمتها وسعتها! فهل إن هذا الإنسان الصغير الصغير يتأبى عن رجعه؟ أو يقدر أن يخبئ أعماله وأفكاره في نفسه وفي الأشهاد؟!

(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) :

تتصدع لقيامتها ، وتنصدع عن مواليدها ، كأم تلد مواليدها بنطف المياه السماوية : ماء دافق يخرج من صلب السماء ، وبالبذور المخبئة في ترائب الأرض ، فتلد مواليد النباتات ، ومن ثمّ الحيوانات.

أفلا تدل السماء برجعها ، والأرض بصدعها ، والطارق بثقبها ، على إمكانية

__________________

(١) الرجع استعمل لازما ومتعديا «لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ» «لئن رجعك الله إلى طائفة» وهما المقصودان هنا معا.

٢٧٨

رجع الإنسان شاء أم أبى ، وعدل الله ورحمته يفرضان هذا الرجع ، ولتجزى كلّ نفس بما تسعى!

ثم قسما بسماء الرسالات الإلهية ، التي ترجع أمانات الوحي إلى أصحابها ، وقسما بأراضي القلوب المتصدعة بآيات الوحي النازلة لها :

(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) :

الهزل هو كل كلام لا تحصيل فيه تشبيها بالهزال ، فللقرآن تحصيل قولا ومصداقا ، فهو فصل مقالة وخبرا ، يفصل بين الغث والسمين والخائن والأمين ، فهو مقالة يدل بحكمته على أنه كلام الله جدا ، وليس هزلا ، وهو خبرا ـ ومن بين أخباره ـ خبر صدق : أن الإنسان سوف يرجع لفصل القضاء ، كما السماء والأرض راجعتان ، فالكائنات كلها راجعة إلى ربها ، مؤدية أماناتها! فليكيدوا ـ إذن ـ كيدهم ، فما ذا يؤثر كيدهم ، فما كيد الكافرين إلا في ثياب :

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) :

كيد بكيد ، جزاء وفاقا ، وأين كيد من كيد؟ فهم يكيدون جهالا عجزة خونة ، يظنونهم ألّا حراسة عليهم ولا حول ولا قوة! والله يكيد بتسجيل أعمالهم ، وإملائهم (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٧ : ١٨٣) ، وبالختم على قلوبهم ، وعدم تأييدهم للخير إذ تركوه عمدا ، وعدم الفصل بينهم وبين شرّهم إذ اقترفوه عمدا ، ثم يفاجئهم يوم تقوم الأشهاد بالأشهاد ، فما له من قوة ولا ناصر! (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (٥٢ : ٤٢).

فأنا «الله» * إذ أمهلهم ، ليس عن عجز وقصور ، أو جهل وفتور : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣ : ١٧٨) (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) .. أنا أمهلهم هكذا ، فأنت أيضا :

٢٧٩

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) : فقد يكفيهم كيدي رغم إمهالهم ، فمهّلهم مدى حياة التكليف دون جزاء وفاق ، فاليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل.

وامهلهم رويدا : قليلا : أترك كفاحهم إلى حين ، وحتى تؤمر به ، إذ كان الأمر في مكة تركا ، ولعدم الإمكانات الحربية ، وفي المدينة حربا ، دفاعا وانتقاما.

ثم ـ ولجزاء أشدّ وأنكى ـ أمهلهم إلى القيامة الوسطى : قيام القائم المهدي عليه السّلام الذي يدمّرهم تدميرا (١).

ثم أمهلهم للقيامة الأولى : الموت ، إلى العذاب ـ شيئا مّا ـ في البرزخ.

ثم للقيامة الكبرى ، إذ يلاقون فيها جزاءهم الوفاق ، ولا يظلمون فتيلا.

فهنا تمهيل إلى يوم الدين ، وهناك إمهال رويدا رويدا ، إلى الحرب وإلى دولة القائم ، وإلى نار البرزخ ، ثم إلى آخر المطاف في التمهيل (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٥٣ ح ١٩ في رواية القمي عن المعصوم في الآية : «لو قد بعث القائم (ع) فينتقم لي من الجبارين والطواغيت من قريش وبني أمية وسائر الناس» أقول وهذا من التفسير ببعض المصاديق.

(٢) بناء على ما فسرناه يختلف التمهيل عن الإمهال دون أن يكون تكرارا ، وقد يوحي إلى ذلك نفس صيغة التفعيل وهي للتكثير وهو يعني هنا المهلة الكثيرة ، وصيغة الإفعال وهي للدفعة ، وهي تعني المهلة القليلة.

٢٨٠