الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٢٤

١
٢

٣
٤

سورة الشعراء مكيّة

وآياتها سبع وعشرون ومائتان

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩))

٧

تتسمى هذه السورة ب «الشعراء» إذ تحمل آية الشعراء ، تنديدا بالذين يتبعهم الغاوون ، حيث ينبع الشعر من الخربطة والغواية ، ويستخدم للإغواء والضلالة وما أكثره! ثم وتمجيدا بالذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات حينما الشعر ينبع من الايمان ويستخدم لعمل الايمان ، وما أقله!.

الشعراء هي من الطواسين الثلاث (١) المتشابهة في هذه الافتتاحية ، إلّا ناقص الميم في النمل.

وهيكل السورة هو السرد القصصي الشاغل جوّها في ثمانين ومائة آية ، والباقية من آياتها هي كمقدمات وتعقيبات ، والكل تؤلّف وحدة متناسقة متجاوبة تلتقي عند هدف واحد واتجاه فارد هو تصحيح العقيدة بزواياها الثلاث : المبدء والمعاد وما بين المبدء والمعاد : من الوحي بنازله ومنزله ، ناضرة ناظرة إلى الرسالة الموسوية في البداية ، ناحية ـ في ذلك التأشير العشير ـ منحى الرسالة المحمدية السامية ، فقد يصدّق ما يروى عن رسول الهدى (ص) «وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى» (٢) أوان «الطاء» هي طور

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٥ في كتاب ثواب الأعمال باسناده عن أبي عبد الله (ع) قال : من قرأ سور الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله في جواره وكنفه ولم يصبه في الدنيا بؤس أبدا وأعطي في الآخرة من الجنة حتى يرضى وفوق رضاه وزوجه الله مأة من الحور العين ، وفي المجمع أبي بن كعب قال : قال رسول الله (ص) من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وابراهيم وبعدد كل من كذب بعيسى وصدق بمحمد (ص).

(٢) نور الثقلين ٤ : ٤٥ عن كتاب ثواب الأعمال عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) قال قلت لجعفر بن محمد عليهما السلام يا ابن رسول الله (ص) ، معنى قول الله عز وجل «طس وطسم»؟ قال : واما «طس» فمعناه أنا الطالب السميع وأما «طسم» فمعناه انا الطالب السميع المبدئ المعيد.

٨

سيناء ـ أم شجرة طوبى ، والسين : سدرة المنتهى ، والميم محمد المصطفى» (١) مما يجمعه أن:

«طسم» (٢) خطاب للرسول الأقدس محمد (ص) فان شجرة طوبى المتشجرة عن روحه القدسية كل الطوباويات الرسالية ، وهو الناحي منحى السدرة المنتهى ، إذ كان من ربه قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى ، فهو منتهى السدرة الرسالية معرفية وفي التقوى أمّا هيه ، كما وأنها من أسماء الله الحسنى والرسول (ص) نفسه القدسية منها بأعلى قمتها ، وكما يروي «نحن الأسماء الحسنى» فكما ان لله اسماء ذاتية هي صفاته الذاتية الثلاث ، ومن ثم فعلية هي فاعلياته الخلقية ، كذلك له اسماء عينية تدل عليه هي الحقائق الآفاقية ومحمد (ص) في أعلى قممها! وقد يلوح اليه ظاهر الخطاب من الآيات التالية لها ، ف (طسم) إذا ـ تعني محمدا (ص) الطوبى والسدرة المنتهى ، كما تعني بضمنه طور سيناء حيث الآيات الآتية تتحدث عن صاحبها موسى (عليه السلام).

وكما أن لمعانيها معالي ، كذلك لرسمها وألفاظها مجالي ترسمها روايات عن المصطفى (ص) (٣) وإن للقرآن ككلّ جلوات في مختلف المجالات ، محلّقة

__________________

(١) المصدر روى عن ابن الحنفية عن علي (ع) عن النبي (ص) لما نزلت «طسم» قال : الطاء طور سيناء. وقال الطاء شجرة طوبى ...

(٢) وفي تفسير البرهان ٣ : ١٧٩ ابن عبد الله في معاني الأخبار بسند متصل عن سفيان بن سعيد الثوري أقول : وقد يعني انها صورة عن السيرة الموسوية الموحاة اليه في الألواح ، لا أنها هي ، حيث التعبير القرآني ، بما يحويه هو منقطع النظير عن كل سفر لكل بشير ونذير!.

(٣) تفسير البرهان ٣ : ١٣٨ ابن بابويه قال رسول الله (ص) من أدمن قرائتها لم يدخل بيته ـ

٩

في إنارتها وإدارتها كل دوائر الكون تكوينيا وتشريعيا ، كيف لا؟ وهي نازلة بعلم الله ، حاملة كل رحمات الله!

ثم وفي (طسم) رموز غيبية لم يكشف لنا عنها النقاب ، فانها بسائر الحروف المقطعة مفاتيح كنوز القرآن ، لا يعرفها حق معرفتها إلّا من خوطب بها ، والمذكورة منها هنا بسناد روايات في شأنها لا تصدّق تماما ولا تكذّب ، لأنها ليست قطيعة الصدور ولا الاختلاق ، اللهم إلّا نفس الخطاب المستفاد من الكتاب ، انه (ص) هو المخاطب ب (سم) فتصبح تلك الروايات قريبة التصديق ، فواجهة الخطاب فيها هي الرسول (ص) ومن يحذو محذاه وينحو منحاه.

ولماذا تذكر هذه الحروف في القرآن البيان ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، إذا لم يكن فيها لهم بيان؟.

لأن القرآن بيان لجميع العالمين ومنهم وفي قمتهم رسول القرآن ، فليختص به من ذلك البيان قسم من القرآن ، مهما يعمه والمعصومين من عترته وهم مستمرون لحد الآن وإلى أن يقوم قائمهم ، حيث يتمثلون فيه

__________________

ـ سارق ولا حريق ولا غريق ومن كتبها وشربها شفاه الله من كل داء ومن كتبها وعلقها على ديك ابيض أفرق فإن الديك يسير ولا يقف إلا على كنز أو سحر ويحفره بمنقاره حتى يظهره. وفيه عن الصادق (ع) من كتبها وعلقها على ديك ابيض أفرق وأطلقه فإنه يمشي ويقف موضعا حيث ما يقف فانه يحفر موضعه فيه يلقى كنز أو سحر مدفون وإذا علقت على مطلقة يصعب عليها الطلاق وربما خيف فليتق فاعله فإذا رش ماؤها في موضع خرب ذلك الموضع بإذن الله تعالى.

أقول : قصة الديك مشكوكة الصدور عن الرسول (ص) حيث التجربة الواقعية لا تصدقها تماما فليرجع علمه إلى قائله.

١٠

كلهم ، فليكن له نصيب في هذا الإختصاص.

وإن لسائر العالمين منها نصيب على أقدارهم وقدراتهم المعرفية في زوايا ثلاث ثالثتها ما قد يتنبّه لها الذين يأتون بعدنا فان «للقرآن آيات متشابهات يفسرها الزمن».

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ)(٢).

«تلك» النازلة عليك من قبل والتي تنزل عليك الآن ومن بعد ، فهي هي النازلة عليك في مثلث زمن الرسالة القرآنية بعهديها المكي والمدني ، «تلك» ككلّ هي (آياتُ الْكِتابِ) : القرآن ، فهو الكتاب المفصل وهذه أبعاض الآيات إضافة للآيات إلى أنفسها : الكتاب ، اعتبارا لها أبعاضا منفردات وله مجموعا يحويها ، كما يقال أبعاضي ، وإجزاء الدار.

«المبين» ما يحق إبانته من الحق المرام ، أنها من آيات الله دونما اختلاق إذ ليس فيها اختلاف ، وأنها تبين احكام الفطرة والعقل والشرعة ، وتبين الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق من ربهم ، فلا قصور ـ إذا ـ في إبانته ما يبين ولا تقصير ، مهما قصروا هم أولاء أو قصّروا بجنبه. وقد لا يعني (الْكِتابِ الْمُبِينِ) ما كان لدى الله قبل إنزاله أو تنزيله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ، فلمن هو ـ إذا ـ مبين؟ ولا المنزل على الرسول ليلة القدر فانه ليس مبينا إلّا له ، اللهم إلّا ان يعنى المبين له اجمالا عن المفصل ، وهذه هي آياته المفصلات حيث الكتاب يبين فيها معارفه تفصيل البيان والإبانة عن أيّ كان.

ف «تلك» إذا تعني كل القرآن المفصل ، فانه آيات الكتاب المحكم النازل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد يعني (الْكِتابِ

١١

الْمُبِينِ) القرآن ككل ، و (آياتُ الْكِتابِ) أبعاضه.

أم ويعني ام الكتاب عند الله فانه بشأن الإبانة للرسول وللأمة ، فهو مبين بعلاقة الأول.

وعلّ الثلاثة كلها معنية ، فهذه الآيات المفصلات ، هي آيات القرآن المفصل ، وهي ـ ككل ـ آيات القرآن المحكم المنزل الى الرسول ليلة القدر ، وهي آيات ام الكتاب. والكل هي آيات ام الكتاب المقدر نزوله للمكلفين الى يوم الدين دون زيادة أو نقيصة.

فالقرآن حجة كافية وآية وافية تبين الحقائق لكل العقول وفي كل الحقول ، لمن ألقى السمع وهو شهيد ، كما وان نبي القرآن حجة صافية ضافية يتبنى حجة القرآن ، حجتان بارعتان تحلّقان على كافة الحجج دون قصور ولا تقصير ، فلما ذا إذا البخوع؟ :

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٣).

البخع هو قتل النفس غمّا ، و (لَعَلَّكَ باخِعٌ ..) توحي بمدى اهتمام الداعية الرسالية في حمل الناس على الايمان ولمّا يسطع ـ ولن ـ إلا ما شاء الله ، فحين لا يحملهم الكتاب المبين على الايمان لعتوّهم وتصلّبهم على اللّاإيمان ، كذلك ـ وباحرى ـ ليس ليحملهم الرسول المبين على الايمان بنفس السند (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (١٨ : ٦) (.. أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

و «لعل» هنا حكاية لحال الترجي لو بقيت حالته كما هي ، والأصل في الدعوة هو تأثيرها ببقاء الداعية ، وأما أن تبخع نفس الداعية دونما تأثير للدعوة فهو دعوة فاضية بدل ان تكون فائضة!.

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها

١٢

خاضِعِينَ)(٤).

صيغة التعبير عن الآية الرسالية التي هي لزامها «نشأ ان ننزل آية» وعن الآية المستحيلة المقترحة (إِنْ نَشَأْ) ف «إن» هنا دون «لو» توحي بامكانية هذه المشيئة وقوعيا ، أن تتحقق حالا أو استقبالا ، ومن الثاني آية قيام المهدي عجّل الله تعالى فرجه حيث تخضع أعناقهم (١).

إنه تعالى لا يشاء مبدئيا أن ينزّل عليهم من السماء آية بعد آية القرآن

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٦ في ارشاد المفيد وهب بن صفي عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول في الآية سيفعل الله ذلك بهم ، قلت ومن هم؟ قال : بنو أمية وشيعتهم ، قلت : وما الآية؟ قال : ركود الشمس ما بين زوال الشمس إلى وقت العصر وخروج صدر ووجه في عين الشمس يعرف بحسبه ونسبه وذلك في زمان السفياني وعندها يكون بواره وبوار قومه ، وفي روضة الكافي بسند عن عمر بن حنظلة قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : خمس علامات قبل قيام القائم (ع) الصيحة والسفياني والخسفة وقتل النفس الزكية واليماني ، قلت : جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال : لا ـ فلما كان من الغد تلوت هذه الآية : (إِنْ نَشَأْ ...) فقلت له : أهي الصيحة؟ فقال : أما لو كانت خضعت أعناق اعداء الله عز وجل ، وفي كتاب الغيبة للطوسي باسناده إلى الحسن بن زياد الصيقل قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول : إنّ القائم لا يقوم حتى ينادي مناد من السماء يسمع الفتاة في خدرها ويسمع أهل المشرق والمغرب وفيه نزلت هذه الآية : (إِنْ نَشَأْ ...) وفي تفسير القمي عن أبي عبد الله (ع) قال في الآية ، تخضع رقابهم يعني بني امية وهي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر صلوات الله عليه ، وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة بسند متصل قال علي بن موسى الرضا (ع) في وصف القائم (غ) وهو الذي ينادي مناد من السماء يسمعه جميع أهل الأرض بالدعاء اليه يقول : ألا ان حجة الله قد ظهرت عند بيت الله فاتبعوه فان الحق والايمان عند الأولى يفيد وهو عند الثانية غير مفيد لأنه ايمان عند رؤية البأس.

١٣

الباهرة الكافية (١) فإنه الآية الخالدة لهذه الرسالة المفتوحة للأمم بأسرها ، فليست رسالة محدودة مغلقة على أهل زمان دون آخرين ، والآية القاهرة البصرية مهما عظمت وعلت لا تلوي وتخضع إلّا أعناق المستكبرين زمنها حيث يشاهدونها ، ثم تبقى بعدهم قصة تروى ، وواقعا يشهد فيستشهد به لصدق الرسالة ، فآية (إِنْ نَشَأْ) وهي غير محتومة تخضع أعناقهم شاءوا أم أبوا ، وآية القرآن تهديهم إلى الحق (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) فآية التسيير محتومة ، وآية التخيير غير محتومة.

وهذا القرآن كتاب مفتوح وآية خالدة تمشي مع الزمن ، يستمد منها كل الأجيال طول الزمان وعرض المكان لكل جن وانسان ، مستمرا برصيده لا ينفد ، بل ويتجدد ولا يتبدّد أو يتلبّد ويتبلّد ، فهو أمام كل حق جديد وإمام كلّ قديم وجديد ، فطبيعته ـ إذا ـ هي طبيعة رسالته الدائبة ، لا يحرم عن حجته أي ذي حجى ، إلّا من تنازل عن حجاه ، وتروى إلى رداه ، إذا ف (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ).

وترى كيف يصح «خاضعين» خبرا عن «أعناقهم»؟ علّه حال عن ضمير الجمع والخبر المحذوف «خاضعة» فان خضوع أعناقهم من مظاهر

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٤٦ في الكافي وروي ان امير المؤمنين (ع) قال في خطبة له : ولو أراد الله حل ثناءه حيث بعثهم ان يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن البلدان ومغارس الجنان وأن يحشر طير السماء ووحش الأرض معهم لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحل الابتلاء ولما وجب للقائلين أجور المبتلين ولا لحق المؤمنين ثواب المحسنين ولا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبين ولذلك لو انزل الله من السماء آية (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين ...» أقول : «لو» هنا للتأشير الى القسم المستحيل من نزول آية معه وفيه وهو قول الله عز وجل «ان نشأ ..».

١٤

خضوعهم في أنفسهم! أو أن «أعناقهم» تعني أعناق الأجساد إلى أعناق الأرواح ، فهي اصول العقول!

أم الأعناق هنا هم رؤساؤهم الأصلاء في الضلالة والإضلال (١)! أم هم جماعات منهم ضخمة هائلة! أو ان «أعناقهم» هي مربعة الأضلاع ، تعنيها بأسرها.

والقرآن آية سماوية روحية نازلة من سماء الوحي ، كافية لمن يعقل ، ولكنهم قوم لا يعقلون ، ف (نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ) المادية «آية» بصرية (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ) شاءوا أم أبوا (لَها خاضِعِينَ).

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)(٥).

وهذه هي طبيعة هذا الجيل الصّلت من الناس النسناس أنهم لا يتذكرون بأي ذكر من الرحمن ، بل هم عنه معرضون ، إذ هم عنه عمون ، فلما ذا ـ إذا «ننزل عليهم آية من السماء؟» اللهم إلّا عذابا وبلاء ، فآية السماء المخضعة الأعناق ، هي للمؤمنين نور على نور ، وللمعاندين نار على نار ، فحين تظل أعناقهم لها خاضعين ليسوا ليؤمنوا بها ، ولو آمنوا فهو إيمان عند رؤية البأس ليس ليفيدهم ، فليس الله ـ إذا ـ لينزل عليهم آية من السماء بعد آية القرآن ، حجة بعد حجة ، وإنما لجة غارقة ، أو نار حارقة.

و «محدث» تعني فيما تعنيه أن ذكر الرحمن محدث أيا كان ، إذا فكلام الرحمن محدث ، وما اسطورة القدم في كلام الله قرآنا وسواه إلّا هرطقة هراء مهما سمي به علم الكلام.

__________________

(١) وهذا الأخير يناسب زمن الرجعة حيث يرجع فيها من محض الكفر محضا ، وهم أعناق الضلالة واساطينها.

١٥

ف (ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ) أيا كان هو فعله ، وليس ذاته أو من صفات ذاته حتى يكون قديما أزليا ، فلا ذكر إلّا لمتذكر ، ليس قبله ولا بعده ، فكما المتذكر خلق محدث ، كذلك الذكر خلق محدث.

و «محدث» لها واجهة ذاتية هي الحدوث الذاتي فيشمل كل ذكر من الرحمن ، وأخرى نسبية تعني الحادثة الجديدة بعد القديمة ، فهؤلاء يرفضون محدث الذكر من الرحمن مخلدين إلى قديمه أيا كان ، كإخلاد أهل التوراة إلى التوراة رفضا لما بعدها ، وإخلاد أهل الإنجيل إلى الإنجيل رفضا للقرآن ، رغم أن الجديد من الرحمن كما القديم ، وفي الجديد تجديد وتقديم إلى ما ليس في القديم! والذي يعرض عن محدث الذكر هو ـ بطبعه ـ معرض عن قديمه مهما ترائى انه مقبل إليه.

وقد يشمل «محدث» أصله قديما وحديثا ، كما يشمل حديثه ، فذكر الرحمن سلسلة موصولة أخراها إلى أولاها ، والإعراض عن جانب منها اعراض عنها كلها.

وقد يعنى من «ذكر محدث» ـ فيما تعنيه ـ آي الذكر الحكيم التي تترى عليهم تلو بعض ولصق بعض ، بل هو أهمّ الذكر وأتمه ، وسائر الذكر توطئة له وتعبيد طريق! ..

أم ان «ذكر محدث» تحلّق على كل ذكر آفاقي وأنفسي (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ...).

ولماذا (ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ) والذكر رحمة رحيمية أيا كان؟ علّه لأن الذكر هو قضية الرحمة العامة حيث تعم كافة الآهلين له من أمن منهم ومن كفر ، ومن ثمّ هو لمن آمن رحمة رحيمية.

ف (ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ) ككل هو رحمة رحمانية حيث يعم المتذكر

١٦

والمعرض ، وهو لمن يتذكر رحمة رحيمية.

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٦).

(فَقَدْ كَذَّبُوا) بكل ذكر من الرحمن محدث أم أي ذكر (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا) : أخبار هامة (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يوم الدنيا كآية مخضعة لها ، إن في الرجعة أم قبلها ، أو يوم البرزخ والأخرى حيث يتجسد فيها ذلك التكذيب الكذيب (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(٧).

ألم يروا إلى ما خلق الله من شيء (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) فالواو هنا تعطف إلى آية البصيرة (مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) فان لم يتبصروا بها فليبصروا إلى آية حسية هي الأرض بنباتاتها من كل زوج كريم ، فالزوجية التي هي لزام الأرض باشياءها دليل الحاجة إلى الخالق الفرد الأحد ، ومختلف اشكال أزواجها دليل على التصميم ووحدته.

فهذه الأرض التي يعيشون عليها ، أم وسائر السبع مهما تطلبت الرؤية إليها أسفارا جوية (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) من جماد ونبات وحيوان ومن إنس وجان ، : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) فكل شيء من كائنات العالم أرضية وسماوية زوج ، مهما اختلفت الأزواج في كونها وكيانها ، ولا فرد حقيقيا إلّا الله.

(زَوْجٍ كَرِيمٍ) من فرد كريم واسع الرحمة ، فكل زوج كما خلق الله وأنبت كريم ، ولا لؤم ولا شؤم إلّا من أنفس الأزواج ، منها أو من نظائرها ، فالخير كله بيديه والشر ليس إليه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٩).

١٧

تعقيبة مكرورة في عرض لآيات كونية واخرى رسالية تشريعية ، تتكرّر مرات ثمان بمناسبات ثمان ، أولاها هي موقف الكفار أمام هذه الرسالة السامية ومن ثم موسى وابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، كما وتختم السورة بعرض الرسالة الإسلامية كما بدأت به.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) البعيد المدى القريب الصدى من نابت كل زوج كريم ومن كل ذكر محدث من الرحمن حيث يتجاوبان «لآية» تدل على مزوّجه ومزوّج كل ذكر (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) : المكذبين على مدار الزمن حيث يتغافلون عنها (مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الهدى «لهو» لا سواه «العزيز» القاهر الغالب «الرحيم» بعباده في موضع العفو والرحمة.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ

١٨

فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)

١٩

قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ

٢٠