الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

سورة العلق ـ مكية ـ وآياتها تسع عشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)

* * *

٣٦١

ناصية الآيات الخمس الأول تشهد ، ومعها الروايات ، والمفسرون أجمع يشهدون : أنها أوّل ما نزلت من القرآن على الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهي تحمل معنى البسملة بوجوب قراءتها قبل القرآن ، فلا تنافيها الروايات القائلة أن الحمد هي الأولى ، إذ أمر فيها بقراءة البسملة قبل الحمد كما قبل السور كلها ، والحمد بما تحمل بحمل القرآن توحي أنها الأولى ، وأما المدثر فليس إلا بعد تدثّر الرسول إثر نزول أوّل الوحي المباغت ، فليست هي ـ إذا ـ إلا أوّل المفصل.

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) :

وقد يوحي «اقرأ» أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن قارئا قبله ، فتأمره الآية أن يقرء القرآن مبتدئا بالبسملة ، ف (بِاسْمِ رَبِّكَ) يشير إلى (بِسْمِ اللهِ) و (الَّذِي خَلَقَ) : الرحمان ، فإنه الرحمة العامة المدلول عليها بالخلق ، فلا أعمّ منه ، و (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ .. عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) : هو الرحيم ، فإنه الرحمة الرحيمية الخاصة : خلق الإنسان وتعليمه ما لم يعلم ، فما كان الرسول يتلو من قبله من كتاب ، فأخذ يتلوه هنا اقرأ» وما كان يعلم (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) فأخذ يتعلمه هنا : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

وتنقل الروايات عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله ـ إذ أمره ملك الوحي بالقراءة ـ : «ما أنا بقارئ ، يقولها ثلاثا فيضمه إلى صدره إيناسا بالوحي ، فقال أخيرا : ما أقرء؟ قال : اقرأ باسم ربك ..» ولم يبين هنا ماذا يقرء ، إلا أصل قراءة الوحي باسم الله (١) ما يدل أيضا على أنه بداية الوحي ، فقرء بإقراء الله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ..) وإلى سائر القرآن ، واعتبارا أن البسملة من القرآن فليستعذ بالله قبلها (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١٦ : ٩٨) مهما كان الأمر بها سابقا أم لا حقا.

إن الإنسان بجزئيه : النفسي والجسدي ، ليس كيانه ـ وكسائر الكائنات ـ

__________________

(١) لما قال (ص): «ما ان بقارئى» دل على انه ما كان ليقرء لا بالوحي ولا بغير الوحي ، فكيف يقرأ وماذا يقرأ؟ فلما ضمه ملك الوحي الى صدره ثلاثا ، أجابه اقرأ بالوحي : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ..) : أقرأ باسم الله الذي رباك

٣٦٢

إلا تعلقا بالله ، لا يستقل عنه ولا آنا. وليس انفصاله عن هذه العلقة إلا انفصاله عن الوجود ، فهو في خلقه وعلمه وكل معطياته علق بالله ، وهو يعيش علقا منذ خلق وفي كل مراحل الحياة ، وخلقه أيضا من علق :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) :

علق لا علقة ، فإنها الحالة الثانية للجنين ، الناشئة عن العلق : جنس الدودات الصغيرة العالقة وجمعها ، وهو منيّ يمنى ، فهذا المني علق مجموعه ، إذ يعلق بما يلحقه من ثوب أو بدن أو جدار الرحم ، وعلق جميعه ، إذ هو بحر لجّي من ملايين النطف : الدودات العلقية ، العالقة بعضها ببعض ، والعالقة كلها بجدار الرحم ، وليست الجرثومة الأولى هي العلقة : الحالة الثانية للجنين ، ولا العلق : مجموعة الدودات ، وإنما واحدة من العلق ، إن كانت واحدة ، وأكثر إن كانت أكثر ، لذلك (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) : بعض من البحر المنوي السابحة فيه ملايين العلقات : الدودات المنوية ، لا كله ، وهذا البعض هو النطفة من مني يمنى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) (٧٥ : ٣٨).

فهنا علق ، وهنا واحدة من العلق هي النطفة ، وهنا علقة خلقت من هذه النطفة ، فالعلقة : النقطة الدموية العالقة ، هي الحالة الثانية الجنينية ، والثالثة المنوية ، ومن المضحك المبكي تفسير العلق بالعلقة ، خلاف اللغة ، وخلاف ترتيب الخلقة ، وخلاف كافة الآيات المستعرضة لخلق الجنين ، المبتدأة بالمني والنطفة والمثنية بالعلقة (١)! ولم يكن هكذا تفسير إلا لقصور العلم مسبقا عن أن المني يحمل ملايين الدودات ، يخلق من كل واحدة جنين واحد ، لا من المني كله.

ولقد بدر الوحي من الرسول الأمي لأول ما بدر ، بهذه المعجزة العلمية ،

__________________

(١) كالآيات (٧٥ : ٣٧) (٨٠ : ١٩) (١٨ : ٣٧) (٢٣ : ٥) (٣٥ : ١٠١) (٤٠ : ٦٧) (٣٥ : ١١). ليوحي إليك .. بحول الله وقوة الله اقرأ : أصل القراءة الوحي فأنه باسم ربك الموحي إليك ، وكل قراءة هي بالوحي فعليك ان تبدء فيها بالبسملة ـ ف «كل امر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» واي بال فوق بال الوحي؟

٣٦٣

التي اكتشف أخيرا شيء منها قليل ، وبجنبه الكثير الكثير ، مما على الإنسان أن ينظر فيه : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ)؟.

فلقد كان أصل الوحي عليه معجزة ، تحمل معجزة علمية خالدة ، والرسول كيانه الرسالي معجزة ، فكيان الرسالة المحمدية مجذور مكعب من المعجزات!.

إن النطفة الأمشاج هي المجموعة من نطفة الذكر والأنثى ، تتزاوجان فتصبحان واحدة ، فكيف الزواج؟ وكيف النطفتان قبل الزواج وبعده؟ لقد أمرنا نحن أن ننظر كيف خلقنا ، فنظرنا ووجدنا طرفا من الخلقة العجيبة الطريفة ، ما يزدادنا معرفة بالذي خلق. خلق الإنسان من علق (١).

__________________

(١) لقد كشف العلم طرفا من هذه المعجزة الأولى للقرآن ، والخلق العجيب الطريف الظريف لمنزل القرآن ، ولوحظ بالعيون المسلحة ان كيف النطفتان؟ وكيف تتزاوجان؟ ..

الجينات : بيضات دافقة من ترائب الأنثى ، كل منها كبيضة الدجاجة ، إلا ان قطرها يتراوح بين جزء أو جزئين من عشرة اجزاء من الميليمترات (١ / ١٠ أو ٢ / ١٠) ووزنها جزء من مليون جزء من الغرام ، وفيها مح (Cytoplame) وفي المح الحويصلة الجرثومية (Nuelede) التي يبلغ قطرها جزء من ثلاثة آلاف جزء من القيراط ، فيها تكمن النطفة الجرثومية (Noyau) التي يبلغ قطرها (١ / ٣٠٠٠) من القيراط.

هذه البيضة تتكون في ظلمة المبيض ضمن حويصلة تسبح في سائلها الألبوميني ، فإذا نمت هذه الحويصلة ، وازداد السائل الذي في باطنها ، يتمدد غشاءها ويرق ثم ينفجر وتخرج البيضة منها ومن المبيض كله ، فإلى اين تذهب هذه البيضة الصغيرة العزيزة العذراء وحدها في هذا الظلام؟.

إنها على موعد مع العشير الذي تحلم به دون معرفة مسبقة بينهما ، يتسارعان إلى بعض ويتلاقيان في الطريق ، ثم يسيران متعانقين متراوحين إلى بيت الزوجية ، المهيأ لهما ، فهل لنا أن نعرف هذا العشير ايضا كما عرفنا العشيرة ، وقبل أن نعرف زواجهما؟.

انها الكروموزومات ، قطر كل منها لا يزيد عن ستين جزء من ألف ميلى متر (٦٠ / ١٠٠٠) فهو أصغر من خطيبه بكثير ، وله عقبات في هذا الزواج : انها أصغر من عشيقتها بكثير ، انها بين ملايين الخطاب الآخرين : الدودات المنوية الكروموزومية ، والملتقى ايضا بوق مظلم مظلم ـ ضيق ضيق ـ رفيع رفيع ، قطره كشعرة يختبئ وراء الرحم ، ويمتد فيه إلى المبيض ، إذا فكيف بالإمكان الزواج مع هذه العقبات؟ :

٣٦٤

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) :

إن نعمة العلم بعد الخلق تحتل المنزلة الأولى بين النعم ، وكما أنه تعالى أحسن الخالقين في خلق الإنسان ، كذلك هو الأكرم في تعليمه ، وكما أن الإنسان علق بربه في كيان الخلق ، كذلك في انسانيته القائمة على العلم ، فكافة علوم الإنسان

__________________

ـ ليس هناك إلا الخلق العجيب لكل واحدة منها ، حيث خلق الله لها رأسا مكورا له عنق لولبي وذنب طويل يضرب به الماء ويتبلط ، وجعل هذا الذيل معقودا بأنشوطة لينفك عنه إذ دخل إلى البيضة!.

فكر واحد من هؤلاء الذكور الكروموزومية كان اسرع وأقوى في هذا السباق ، سبق مناوئيه إلى جدار البيضة العذراء ، فيضرب برأسه الجدار بغية دخول الدار ، من باب الجاذبية (Coneduttuaction) فإذا دخل أغلقت العذراء بابها ، وقطعت جذبها وأحصنت فرجها ، وصدت الملائين الآخرين من الخطاب الآخرين ليموتوا حزنا ، أو يحيوا خداما لزميلهم السابق ، ولكي يخلق جنينا كاملا!.

فهكذا تتكون النطفة الأمشاج في بداية مشجها ، ثم هناك أمشاج أخرى نبحث عنها في آية الأمشاج ، وإليكم منها اشارة :

ان الرحم ـ البيت الزوجي ـ مضياف كريم ، يستعد كل شهر لاستقبال العروسين وايواءهما وإطعامهما ، فتنفتح خلايا غشاءه المخاطي ، ونتسع الشعيرات الدموية ، وتنشط الغدد ، فإذا تم الزواج استقبل لزوجين على الرحب والسعة ، وان تعرقل الزواج بسبب من الأسباب تميز غيظا وتمزق أسفا وبكى على البيضة الميتة دما غزيرا. ان الزواج بعد لا يكاد يتم حتى يبدأ العمل المشترك في بناء الإنسان الجديد. فيمشج الشريكان ، كل ما عنده بما عند الآخر من عناصر التخطيط : (الكروموزومات) ، وما فيها من الخلق المخلقة : (الجينات) التي خطتها وخلقتها يد القدرة الإلهية بأقلام الإرث المنحدر عبر الأجيال ، من الجدود والآباء الى الأبناء وأبناء الأبناء :

وأقل الأمشاج ثلاثة : مشج النطفتين قبل الزواج ، ومشجهما بالزواج في البوق ، ومشج الشريكين كل ما عنده ، فالنطفة على وحدتها أمشاج ، كما الماء الدافق من الصلب والترائب واحد ، وسوف نأتي بتفاصيل لخلق الإنسان في طيات الآيات المناسبة.

٣٦٥

من الله ، من العلوم الغريزية : الفطرية والعقلية ، ومن الاكتسابية الناشئة عنهما ، النامية بهما ، ومن علوم الوحي ، فائقة الفطرة والعقل ، المتحللة عن الاكتساب المعتاد ، وهي أعلاها ، الخاصة برجالات الوحي ، ولكي يعلّموا الناس ما لم يكونوا يعلمون : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢ : ١٥١).

وقيّد العلم بالقلم ، لأنه لا يقيّد إلا به ، وكما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «قيدوا العلم بالكتابة» وإنما هذا القيد في غير الوحي ، فإنه يقيّد في صفحات قلوب أصحابه دون حاجة إلى قيد القلم : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) فالله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وما لم يكن يعلم ، هو الذي يأمرك بقراءة الوحي ، ويعلمك ما لم تكن تعلم : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

وتأريخ الحضارات يشهد أن كافة التقدمات العلمية الحضارية مستوحاة من وحي السماء برجالاته الذين بيّضوا وجه التاريخ بتعاليمهم النيرة (١).

وهل العلم دون قيد العمل يكفي الإنسان كرما؟ فكيف لم يقيّد به هنا ، الجواب : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) و «إن العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل» (٢) ، وإن العلم من الله والعمل من الإنسان ، وإن كان هو أيضا بتوفيق الله.

والقلم ـ أي قلم ـ قلم الحبر ، أو الحديد الكاتب على الحجر ومثله ، أو قلم الأمواج المستخدمة لمسجلات الصوت والصور ، إنه مما يقيّد العلم كأحسن وأءمن ما يكون ، إلا قلم الوحي على قلوب النبيين ، فإنه في غنى عن الوسائل العادية والمحاولات البشرية ، فكما الوحي معجزه ، كذلك قلمه الذي يقيّده ، والأقلام كلها تخطئ إلا قلم الوحي!.

__________________

(١) راجع كتابنا (تاريخ الفكر والحضارة).

(٢) عن علي عليه السّلام وكما في روايات كثيرة ، تعني العلم الحقيقي.

٣٦٦

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى. إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) :

كلا : إنه لا ينتبه هذا الإنسان أنه علق خلق من علق ، وإن ربه علّمه ، فهو متعلق الذات والكمالات بربه ، ولكنه ينسى فيطغى أن رأى نفسه مستغنيا عن ربه وليس به!.

إن رؤية الاستغناء هي الدافعة للطغوى : أن يحسب الإنسان نفسه مستغنيا عن ربه فيطغى عليه ويعصيه ، ومستغنيا عن الخلق فيظلمهم ، فلا الغنى ولا الاستغناء ، ليس واقعا يعيشه أي إنسان ، وإنما الخطأ في الرؤية ، أن يراه كذلك وليس به : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) خطأ عامدا يندد به بأشده ، كيف لا ينتبه أنه فقير إلى الله كما كان بداية أمره! وأن رجوعه إلى ربه ، لا يستطيع الفرار عن رجعاه ، مهما كان مبتداه!.

هذه الرؤية الخاطئة قد تجعل الإنسان طاغيا على الله وعباده في حملة واحدة ، كالذي ينهى عبدا إذا صلى :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى. أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) :

أبو جهل الطاغية يرى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي عند البيت ويقول لحزبه : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم ، قال : فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ، فقيل له : ها هو ذلك يصلي ، فانطلق ليطأ على رقبته فما فجئهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويقي بيديه ، فقالوا : ما لك يا أبا الحكم! قال : إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة ، وقال نبي

٣٦٧

الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ، فأنزل الله سبحانه (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ..).

إنه ليس المحرم هو النهي عن الصلاة الصحيحة فحسب ، بل الباطلة أيضا. وكما أن عليا عليه السّلام ما نهى عنها سنادا إلى هذه الآية (١).

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) :

«أرأيت» الأولى ، وهذه الثالثة ، خطابان للنبي (ص) تسديدا له صمودا على تقواه وهداه ، والوسطى للذي كذب وتولى تنديدا به كيف ينهى عن الهدى والتقوى : ألم يعلم بأن الله يرى! «كلا» * فلو رأى ودرى لم يفعل فعلته الرديئة السافلة.

(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ).

السفع هو الأخذ بسفعة الفرس ، أي سواد ناصيته ، كناية عن تحديده على ما يرام ، ولقد سفع الله ناصية هذا الكذاب الأشر ، ووسم خرطومه يوم أحد إذ قتل ، وهنا إذ منعه عن وطئ رقبة الرسول (ص) حين يصلى ، معجزة حاضرة حاذرة ، وآية ترهب حزبه الخاطئين ، أن الله تعالى ليس بمهمل للمؤمنين ، وسوف يسفعه ويسم على خرطومه : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) يوم البرزخ والقيامة (فَلْيَدْعُ

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٦١٠ : خرج علي (ع) في يوم عيد فرأى أناسا يصلون فقال : أيها الناس قد شهدنا نبي الله (ص) في مثل هذا اليوم ، فلم يكن أحد يصلي قبل العيد ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين! ألا تنهى أن يصلوا قبل خروج الامام! فقال : لا أريد أن أنهى عبدا إذا صلى ، ولكنا نحدثهم بما شهدنا من النبي (ص) أو كما قال.

٣٦٨

نادِيَهُ) هناك ، كما هدد بها الرسول هنا (١) ، (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) : الملائكة الغلاظ الشداد التسعة عشر : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ).

(كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) :

ف «اقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا» (٢) هنا يسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلا في سجوده : «أعوذ بالله ، برضاك من سخطك ، وبما فاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، حتى لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك»(٣).

فهذه من آيات السجدة الواجبة ، والباقية هي : آية النجم (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٥٣ : ٦٢) وفصلت (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٤١ : ٣٧) والسجدة : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) (٣٢ : ١٥).

تسمى المجموعة العزائم الأربع ، فتجب السجدة عند تلاوتها : قراءة وسماعا واستماعا ، لإطلاق الآيات ، وتعارض الروايات في السماع إيجابا ونفيا يعالج بردها إلى القرآن فالأخذ بالأول لموافقة الآيات ، ولأن الناهية وغير الموجبة توافق سائر

__________________

(١) تقول الروايات أن أبا جهل هدد النبي قائلا : «لقد علمت ما بها أكثر ناديا مني» فنزلت الآية.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٦١١ عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله (ص) قال : ..

(٣) نور الثقلين ٥ : ٦١٢ من غوالي اللئالي روي في الحديث أنه لما نزل قوله تعالى : واسجد واقترب. سجد النبي (ص) فقال في سجوده : ..

٣٦٩

المذاهب وتخالف الآيات بخلاف الآمرة كالآيات ، سواء (١). وإذا كنت في صلاة فريضة فسمعت آية السجدة أو استمعت ، أو أومأت لها إيماء ولا تسجد لأنها تنقض الصلاة ، ولأنك سوف تسجد في الصلاة ، وهي واجبة سابقة على وجوب السجدة وسببها ، والحق لما تقدم كما هو لمن تقدم.

وبقية الآيات الآمرة بالسجود تحمل على الاستحباب ، ولأنها تضم قرائن تصرفها عن الوجوب (٢).

__________________

(١) الكافي والتهذيب عن أبي بصير قال قال : إذا قرئ شيء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد(الوسائل ب ٤٢ من قراءة القرآن) وفيه عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال سألته عن الرجل يكون في صلاة في جماعة فيقرء إنسان السجدة كيف يصنع؟ قال : يؤمي برأسه. قال : وسألته عن الرجل يكون في صلاته فيقرء آخر السجدة ، قال : يسجد إذا سمع من العزائم الأربع ثم يقوم فيتم صلاته إلا أن يكون في فريضة فيومئ برأسه إيماء.

(٢) كآية النمل : «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» (٢٧ : ٢٥) فإنها تنديد بتاركي السجدة لله إطلاقا ، وآية الحج : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ» (٢٢ : ٧٧) فإضافة الركوع والعبادة تجعلها آمرة بالعبادات المفروضة المعروفة بغير الآية وأشباهها ، فلا تشمل سجدة التلاوة ، وآية الرعد والنحل : «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» (١٣ : ١٥) (١٦ : ٤٩) وآية الحج : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» (٢٢ : ١٨) هذه الآيات انما تحكي سجود الكائنات لربها ، دون أمر حاضر زائد على ما يرام من العبادة والصلاة ، دون الآيات الأربع الماضية ، فإنها آمرة بالسجدة.

٣٧٠

سورة القدر ـ مكية ـ وآياتها خمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٥)

* * *

... آيات خمس تبرز أهمية وحي القرآن ، والقلب الذي أنزل عليه ، والليلة التي أنزل فيها ، واستمرارية واقع القدر بإلهامات مستمرة على قلوب الطاهرين من آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم المكرمين ، تضم الحقائق من كل أمر.

لذلك تقول الروايات إنها نسبة أهل بيت العصمة المحمدية ، إلى يوم القيامة ، كما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله عن الله تعالى أنه قال : «اقرأ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) فإنها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦١٦ ح ٢١ ومثله الأحاديث في نفس المصدر كالتالي : ح ٩٥ ـ ٩٧ و ٩٩ و ١٠١ ـ ١٠٣ و ١٠٨ و ١١٠.

٣٧١

نسبة روحية قدسية كما وأن سورة الإخلاص نسبة رب العالمين.

في هذه السورة ندرس : ما هو النازل في ليلة القدر؟ وما هي ليلة القدر؟ ومتى هي؟ وما هي خيرتها من ألف شهر؟ ومن هو الروح المتنزل مع الملائكة فيها؟ وعلى من تتنزل؟ وبماذا تتنزل؟ وما هو السلام فيها حتى مطلع الفجر؟.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) :

هل هو نزول روح النبوة ـ القدسية ـ على الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ أم وحي القرآن النازل عليه بتمامه طوال الدعوة؟ أم بعض القرآن وعلّه هذه السورة نفسها؟ أم القرآن كله بصورة محكمة غير مفصلة ، متحللا عن هذه التعابير اللفظية والأمثال ، والتكررات والإخبارات عن المستقبل؟

لا نحتمل أنه بعض القرآن المفصّل ، ولا بعض المحكم ، لمكان «ه» * لا «بعضه» * : وعلى كونه بعضه لا نحتمل أنه نفس السورة ، لمكان «ه» * لا «ها» * ولأنه إخبار عما سبق : «أنزلناه» * لا عن الحال : «ننزله» ف (أَنْزَلْناهُ) يحيل أن يكون النازل هو سورة القدر نفسها ، لذكورة الضمير ومضيّ الفعل.

إضافة إلى أن نزول البعض من القرآن ـ أيا كان ـ في ليلة القدر ، أنه من توضيح الواضحات ، إذ إن أبعاض القرآن منتشرة نزولا على أبعاض زمن الرسالة ، ومن أحراها ليلة القدر ، وإن نزول البعض منه فيها لا تكسبها فضيلة خاصة ، إذ الأبعاض كلها قرآن ، وكلها تكسب زمنها فضلا دون اختصاص ببعض دون بعض.

ولا نحتمل أيضا أنه القرآن المفصل ، النازل طوال الرسالة نجوما متفرقة ، فكثير من آياته لا تتحمل نزولها دفعة واحدة ، بداية البعثة ، كالمخبرة عما تحقق متأخرا عن ليلة القدر بصيغة الماضي : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) (٥٨ : ١) وأمثالها.

٣٧٢

والآيات الناهية عن استعجاله بالقرآن قبل أن يقضى إليه وحيه : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٢٠ : ١١٤) (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (٧٥ : ١٦).

ولو كان القرآن المفصل نازلا عليه جمله واحدة ليلة القدر ، لم يكن في قراءته قبل نزوله التدريجي استعجال ، وإنما حكاية عما أوحي إليه ، ونفس ما أوحي إليه ، إضافة إلى تصريحات أخرى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢٥ : ٣٢).

وأخيرا لا نحتمل أنه روح النبوة القدسية ، لأنها نزلت عليه منذ بداية الوحي فهل يا ترى إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم تكن له روح النبوة ، بينه وبين ليلة القدر الأولى من سني رسالته ، زهاء خمسين يوما أو يزيد (١)؟

فنحن هنا بين واقعين : واقع نزول القرآن في ليلة مباركة : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤٤ : ٣٦) وهي ليلة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وهي من رمضان : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٢ : ١٨٥).

وواقع نزوله نجوما متفرقة طول البعثة خلال ٢٣ سنة كما هو الواضح.

ولا بد أن يختلف النزولان مع بعض ، فهل هو نزوله المفصل مرتين؟ كلا! للدليل المسبق ، سواء أكان نزولا على قلب الرسول في هاتين المرتين ، أم في المرة الأولى إلى بيت المعمور في السماء الدنيا دفعة واحدة ، وفي الثانية على قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نجوما متفرقة (٢) ، وهذه أسطورة لا يقبلها العقل والدين ولا آي

__________________

(١) من ٢٧ رجب إلى ليلة القدر المردة بين ما يأتي.

(٢) في الكافي عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ، ثم نزل في طول عشرين سنة(نور الثقلين ج ٥ ص ٦٢٤ ج ٥٣). ـ

٣٧٣

القرآن المبين ، إضافة إلى الدليل المسبق من لزوم الكذب ، إلا أن يعنى منه قلب الرسول (ص) ، فأي بيت هو أعمر من قلبه المنير ، وهو أيضا في السماء الدنيا ، مع الخلق المكلفين ضرورة كونه في المرسل إليهم ، وإن كان كيانه فوق العالمين : بالأفق الأعلى.

ثم القرآن ليس طرأ يصعد أو ينزل إلى بيت في السماء! فليكن الرسول هو المعني بالبيت المعمور ، إذ عمر بقلبه المنير بوحي اللطيف الخبير.

أقول : لا سبيل إلى شيء من ذلك ، وإنما هو نزوله جملة واحدة بصورة محكمة دون تفاصيل ، في ليلة القدر على قلبه المنير ، ثم نجوما متفرقة طوال البعثة.

والقرآن يشير إلى هاتين المرتين في آيات ويصرح في أخرى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١ : ١) ف «ثم» * هنا ، تفصل بين القرآن المفصل والمحكم غير المفصل ، أن المفصل يتطلب نزوله زمنا بعيدا ، وهو مجموعة زمن الدعوة ، ولكن المحكم لا يتطلب إلا وقتا قصيرا يناسب أن يكون ليلة القدر.

ولقد كان الرسول خبيرا بالآيات قبل أن يقضى إليه وحيها : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ومن المحال الاستعجال فيما لم يسبق منه للرسول بال ، ولقد كان يحرك به لسانه ليعجل به ، أتحريكا دون أن يعلم منه شيئا! : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (٧٥ : ١٦ : ١٩). فقد نهي

__________________

ـ وهذه الرواية واحدة شاذة لا سبيل فيها إلا التأويل المسبق في المتن ، وسندها : حفص بن غياث ، عامي لم يوثق وكذلك الراوي عنه محمد بن سليمان.

ولو كانت صحيحة مستفيضة أيضا لم تكن تثبت بيتا جسمانيا من حجر ومدر نزل فيه القرآن ليلة القدر إذ المعنى لا ينزل على الجسم ، إلا جسما فيه معنى ـ بحسابه ـ كقلب النبي الأقدس (ص).

٣٧٤

عن الاستعجال في لفظا القرآن لينضم وحي اللفظ إلى وحي المعنى فيصبح القرآن وحيا مزدوجا ، وليكون تفصيل وحي المعنى أيضا بالوحي ، كما نرى في آيات تصرح : أن تفصيل الكتاب كمحكمه ، من الله (ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (٤١ : ٢).

ولقد سبق محكم القرآن أم الكتاب ، وفي هذه المرحلة المسبقة لم يكن كتابا ولا قرآنا ، وإنما علم الله المحكم دون أن يعلمه أحد : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١٣ : ٣٩) : أصل الكتاب ، وعند ذاك لم يكن قرآنا يقرء : ولا عربيا : واضحا ، وإنما الله جعله قرآنا عربيا : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٣ : ٢) ـ ٣) عليّ من أن تناله الأفهام ، حكيم من أن تتطرق اليه الأوهام.

وبعد هذه الحكمة البعيدة المدى قبل نزوله ، أنزله الله بصورة محكمة هي تفصيل ام الكتاب ، أنزله على رسوله ليلة القدر جملة واحدة ، ثم فصله له طوال البعثة نجوما متفرقة ، ولم يكن الرسول ليعلم قبله لا مفصله ولا محكمه : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) (١١ : ٤٩) (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ..) (٤٢ : ٥٢) (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (٤ : ١٣).

وهذه مراحل ثلاث للقرآن : ١ ـ القرآن المحكم لدى الله ، ٢ ـ القرآن المحكم لدى الرسول ، ٣ ـ القرآن المفصل لدى الرسول فلدى الناس : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ).

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) :

نستوحي من هذه التأكيدات الثلاث منزلة القرآن العالية ، ف «إن» * يؤكد النزول ، إذ لو لم يكن يتنزل القرآن عما عند الله من العلو والحكمة العالية ،

٣٧٥

لم يكن الرسول ليفهمه فضلا عمن سواه ، فليس النزول هنا من مكان عال ، وإنما من مكانة عالية هي مرحلة ام الكتاب.

وضمير الجمع «نا» * يؤكد لنا : أن هذا القرآن مجموعة الرحمات الإلهية الممكن نزولها على الإنسان ، فجمعية الصفات هنا ـ لا الذات ـ تدلنا على أن نزول القرآن تصاحبه كافة الإفاضات من كافة الصفات الإلهية في أمرين :

حمل القرآن لما يمكن حمله من العلوم والتوجيهات الإلهية أولا وأخيرا ، ووضوح آياته ونصوعها لآخر درجات الإمكان ، فلا أوضح منه بيانا ، كما لا أعمق منه برهانا وتبيانا.

وأخيرا ـ إضافة إلى الأدلة المسبقة ـ نستوحي من إنزال القرآن هنا نزوله الدفعي ، كما التنزيل هو التدريجي ـ تتبع موارد استعمالها.

ثم لماذا أشير هنا بالضمير «أنزلناه» * دون تصريح بالقرآن؟ اعتبارا بأن القرآن المحكم ضمير مستتر ، وأنه لا يحق أن يعنى بالضمير المجهول ، إلا الوحي الأخير ، فكما ان «هو» * في الأشخاص لا يعني إلا الهوية المطلقة الإلهية ، لأنه «هو» * على الإطلاق ، كذلك «هو» * في النازل من وحي السماء لا يحق إلا للهوية المطلقة الكتابية ، فكتاب الله إله الكتب لأنه أنزله بعلمه.

واستنتاج ثان وهو أن النازل ليلة القدر لم يكن هذا القرآن المفصل حتى يصح القول : إنا أنزلنا هذا القرآن ، وإنما روحه المجمل ، ومحكمه المجهول عنا ، الغائب عن عقولنا ، ولذلك كله يستحق ضمير الغائب المطلق «هو» * تأمل.

(فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) :

فما هو القدر؟ وكم هي ليلة القدر؟ وما هي؟ وهل هي تتكرر طوال الزمن؟ أم إنها ليلة مضت دون تكرار؟ أم تكررت زمن الرسول ثم انقطعت؟.

٣٧٦

بحوث قيمة ذات قدر حول ليلة القدر ، علنا ندرسها معمقة ، على أسهل تعبير وكما هي دأبنا في هذا التفسير :

ف «القدر» * : علّه المنزلة والمقام ، اعتبارا بما حصل في ليلته وما يحصل ، فليس الزمان ذا قدر ومنزلة ذاتيا ، اللهم إلا بما يحل فيه من عظائم الأحداث الجليلة ، ولهذا الحدث العظيم : حدث نزول القرآن الكريم ، حدث الوحي والرسالة الأخيرة ، إن له منزلة لا أعظم منها ولا يساويها أيّ من أحداث التاريخ ، .. إن منزلتها تفوق كل المنزلات طوال الزمن ، إذ لم يأت بما أتته كل الزمن.

إن هذه الليلة المباركة تفوق عظمتها الإدراك البشري ، وإدراك الرسول أيضا كبشر ، وإنما هو يدركها كرسول : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) : ألف شهر يقام فيها في سبيل الله ، وألف شهر يعارض فيها شريعة الله ، خير من التاريخ بأسره ، من شرّه إذ تكافحه ، ومن خيره إذ تفوقه.

و «القدر» * عله ـ أيضا ـ التقدير : تقدير قيم الإنسان ، وتدبير حياة الإنسان لأعمق أبعاد التاريخ ، تقدير ما أشمله ، من تفريق كل أمر حكيم : (.. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٤ : ٣) وهذا مما يستمر طوال الرسالات والرسالة الإسلامية حتى آخر زمن التكليف ، وتقدير يخص زمن الرسول ، بنزول القرآن الحاوي لكل الأقدار وكل ما تتطلبه الحياة كل الحياة.

ونجد تفاسير أخرى لمعنى القدر في المروي عن أهل بيت الرسالة المحمدية ، من : أنها ليلة قدرت فيها السماوات والأرض ، وقدرت ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام

٣٧٧

فيها (١) إيحاء إلى نوعي التقدير تكوينا وتشريعا ، باعتبار أن ولاية علي عليه السّلام تضم كافة الولايات التشريعية لأنها تمثل الولاية القدسية المحمدية التي هي خاتمة الولايات وجامعة النبوات.

وأنها ليلة تقدير الأرزاق والآجال كما عن جعفر بن محمد عليه السّلام (٢) وهي من فروع تقدير السماوات والأرض ، وقد يعم تقديرهما تقدير ما هو كائن إلى يوم القيامة كل ليلة قدر بسنتها بما فيه المقامات الروحية كما عن الرسول الأقدس (ص) (٣) والإمام الرضا عليه السّلام (٤).

(لَيْلَةِ الْقَدْرِ) :

إنها ليلة واحدة في السنة لمكان تاء الوحدة «ليلة» * لا «الليل» * حتى يفيد الجنس الملائم لأكثر من ليلة ، ولا «ليال» حتى ينص على العدد .. إنما «ليلة» *.

__________________

(١) كما في معاني الأخبار عن المفضل قال ذكر أبو عبد الله (ع) (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال : ما أبين فضلها على المشهود قال قلت : وأي شيء فضلها؟ قال : نزلت ولاية أمير المؤمنين (ع) فيها ، قلت : في ليلة القدر التي نرتجيها في شهر رمضان؟ قال نعم هي ليلة قدرت فيها السماوات والأرض ، وقدرت ولاية أمير المؤمنين (ع) فيها(نور الثقلين ح ٥ ص ٦١٧ ح ٢٣).

(٢) المصدر ص ٦١٨ ح ٢٩.

(٣) المصدر عن معاني الأخبار عن أمير المؤمنين على (ع) قال قال رسول الله (ص) يا علي أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت : لا يا رسول الله (ص)! فقال إن الله تبارك وتعالى قدر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة فكان فيما قدر عز وجل ولايتك وولاية الأئمة من ولدك إلى يوم القيامة(المصدر ص ٢٩٦ ح ٨٠ عن معاني الأخبار).

(٤) نور الثقلين عن عيون الأخبار في مجلس الرضا (ع) مع سليمان المروزي ـ قال سليمان للرضا (ع) : ألا تخبرني عن (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) في أي شيء نزلت؟ قال يا سليمان ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة ، من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق. وفي ح ٨٤ عن الباقر (ع) مثله.

٣٧٨

هذا ـ ولكننا ماذا نصنع بواقع اختلاف الآفاق ، وعله حوالي يوم أو يومين في الكرة الأرضية ، إضافة إلى اختلاف الليل والنهار في وقتيهما أيضا حسب اختلاف الآفاق ، فنهار النصف من الكرة ليل في النصف الآخر ، وحسب طوال الليل أو النهار إلى قرابة ستة أشهر ، فما هو المناط في ليلة القدر من هذه الآفاق؟

قد يقال : إن لكل أفق ليلة قدر يخصه ، فهي ليال حسب مجموعة الآفاق رغم كونها ليلة حسب كل أفق ، ويشكل أن الآية لا تتحدث عن كل أفق قبال الآفاق ، وإنما عن كافة الآفاق ، حيث المعنيين بالآيات كافة سكنة الأرض.

ومن جهة أخرى ، إن تنزل الملائكة والروح فيها ليس إلا مرة في ليلة واحدة فما هي بين ليالي الآفاق؟.

نقول : بما أن ليلة القدر واحدة ، وتنزّل الملائكة والروح ليس إلا فيها على قلب الرسول محمد (ص) أو على قلب محمدي للإمام المعصوم ، من هنا وهناك نستوحي أن المناط في القدر هو الأفق الذي فيه الإمام ، ثم يقاس عليه سائر الآفاق ليلا أو نهارا ، ولا تبقى إذا إلا مشكلة اختصاص ليلة القدر ببعض الآفاق وحرمان الأخر منها ، والحلّ أن التردد فيها بين ليال عدة كما يأتي ، هذا التردد يكسب كل أهالي المعمورة ، ليلة القدر.

لنفرض أن ليلة القدر هي التاسعة عشرة من رمضان ، وهي في أفق الإمام ليلة الإحدى والعشرين منه ، أو بالعكس ، فهي واحدة رغم اختلاف الأفق : تسعة عشرة وإحدى وعشرين.

وفيما إذا كانت لا تقارن ليلة القدر في أفق الإمام ليلة في أفق آخر ، كأن يكون نهارا قران ليلة القدر ، فلأهالي أفق النهار أجرهم إذا كانوا في طاعة الله ، رغم جهلهم بها ، وبالإمكان أن الإمام يتنقّل كل سنة إلى مختلف الآفاق ليكسب الكلّ فضيلة القدر.

٣٧٩

وأخيرا لا دليل على استيعاب ليلة القدر كلّ سكنة الأرض.

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) : إن لهذه الليلة المباركة فضلا سابقا : هو نزول القرآن فيها ، ويكفيها قدرا أن تفوق ليالي التاريخ ، ولها فضل لاحق ، هو تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ، وأخيرا : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).

فيا لها من كرامة منقطعة النظير لم تسبق في التاريخ ولا تلحقه أيضا.

هنا ندرس ألف شهر ، التي ليلة القدر خير منها : إن ليلة القدر هي ليلة واحدة من السنة ، لا من شهر ، فلما ذا لا تقول : خير من أربع وثمانين سنة؟

الجواب : لزوم التهافت حينذاك ، لأن لكل سنة من هذه السنين ليلة قدر ، فكيف تفضّل ليلة القدر على نفسها بمضاعفات ، ولما قال : خير من ألف شهر ، عرفنا أنها الشهور التي ليست فيها ليلة القدر ، فلا يعني من المفضّل عليه ألف شهر على التوالي ، إنما مقداره على حساب الأيام وهي ثلاثون ألف يوم ، أو ستون ألفا بانضمام النهار ، وهناك روايات متضافرة عن الرسول (ص) وأهل بيته الكرام تصرح بما توحيه الآية.

وهل إن الألف هنا حدّ لا يزيد ولا ينقص ، أم إنه رمز للكثرة اللانهائية ، بما أن حدث هذه الليلة العظيمة يربو على كافة الأحداث العظيمة في الأزمان كلها ، من خيرها ومن شرها؟

قد لا نستطيع أن نتأكد من أحدهما ، إذ إن رمز هذه الكثرة الكثيرة لا بد أن يكون أكثر من الألف بكثير ، فلتكن الألف حدا ثابتا.

وإن ليلة القدر لا تقف خيريتها على ألف شهر ، فما هو الألف بين آلاف السنين من تاريخ الرسالات الإلهية ، وما هو بين آلاف السنين من الدعايات المضادة!

٣٨٠