الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

والبهجة والضحك والبكاء والخوف والرجاء والرغبة والسأمة والجوع والشبع ، تعالى أن يخرج منه شيء. وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف ، ولم يولد : لم يتولد من شيء ، ولم يخرج من شيء ، كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها ، كالشيء من الشيء ، والدابة من الدابة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والأثمار من الأشجار ، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من عناصرها ، كالبصر من العين ، والسمع من الأذن ، والشمّ من الأنف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنار من الحجر ، لا! بل هو الله الصمد الذي لا من شيء ولا في شيء ، ولا على شيء ، مبدع الأشياء ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم الله الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(١).

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) :

لم يكن : ـ في الأزل ومن الأزل ولن يكون في الأبد والى الأبد ـ : من يكافئه في ألوهيته ، أو يضاهيه ويناصره ويعاضده ، أو يعارضه ، رغم خرافة أزلية إله الابن في صيغة متناقضة : «مولود غير مخلوق» فإنه لا يعني إلا أنه : مولود غير مولود!

إنه ليس له كفو ، سواء أكان والدا له ، أو ولدا منه ، أو من يتخذه ولدا ، أو كائنا مستقلا بجنبه (٢) ، أيا كان ، فهو الوحيد السرمدي في ألوهيته ، لا يشرك فيها أحدا من خلقه ، فهو الخالق والرازق والموفق والمؤيد والديان والهادي ، و.. لا سواه ، إلا رسلا يدعون إليه ، وليس لهم من الأمر شيء.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٧١٣ عن كتاب التوحيد للصدوق.

(٢) من جواب الامام الباقر (ع) لأهل فلسطين : ولم يكن له كفوا أحد فيعازه في سلطانه ، أي يشاركه في عز الألوهية.

٥٢١

فهذه الآية الأخيرة تعم دلالة على عدم ولادته ، وعدم اتخاذه ولدا ، إذ هما يشاركان في لزوم الكفؤ له تعالى ، والقرآن ينفيهما هنا إجمالا وفي سائر الآيات تفصيلا.

فهذه السورة تنفي عن الله تعالى ما يحق نفيه عن ساحة قدسه ، وتثبت له ما يحق لألوهيته ، دون أن تنقص شيئا منهما على قلة ألفاظها .. ثم نجد التفاصيل منبثّة في الذكر الحكيم قرابة ثلث القرآن أو ربعه.

ثم نجدها براهين قاطعة للتوحيد الحق ، كل آية تفسّر ما قبلها وتفسرها ما بعدها ، ف «الله» * يفسر «هو» * : أن الذي هو غيب مطلق ، اسمه الله ، لا ما ما تختلقون من أسماء لمن تدعونهم آلهة ، و «الله» * أحد ـ فإن الأحدية الحقيقية المطلقة لزام من هو غائب عن ادراك الحواس. ف «هو» * : الله ـ و (هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، ثم «الأحد» «صمد» لا محاله ، فلو كان له جوف كان متعددا ولم يكن أحدا ، ولو كان له جوف روحاني بمعنى النقص ، لم يكن أحدا في الكمالات ، ولو كان له جوف : بإضافة الصفات إلى الذات ، لم يكن أحدا في الصفات ، ثم لزام «الصمد» أنه (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) .. لأن الوالد ـ مهما كان ـ إنه أجوف مزدوج الكيان ، وليس صمدا : لا جوف له ، وهو تعالى صمد لا جوف له : سواء الجوف المادي أم سواه ، فلا يخرج منه شيء كثيف ولا لطيف لأنه صمد لا جزء له ولا أجزاء ، لا حد ولا حدود.

(وَلَمْ يُولَدْ) إذ إن الحاجة إلى الولادة والحدوث ، هي خاصة بالكائن الفقير ، وهو المادي الأجوف ، فإذا كان صمدا فلا يحتاج أن يولد كما يستحيل أن يلد.

__________________

ـ وعن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث : لم يلد لأن الولد يشبه أباه ، ولم يولد فيشبه من كان قبله ـ ولم يكن له من خلقه كفوا أحد ـ تعالى عن صنعة من سواه علوا كبيرا(نور الثقلين ج ٥).

٥٢٢

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) إذ إن الكفؤ إما هو ذات يخرج من ذاته ، فهو (لَمْ يَلِدْ) فيكون في العز مشاركا ، أو من يتخذه ولدا فأسوء حالا وأضل سبيلا ، فإذا كان الولد ـ الذي هو من جوهر ذات الوالد ـ منفيا عنه تعالى ، فبالأحرى من يتخذه ولدا ، ولماذا يتخذ؟

أو أن الكفؤ كائن مستقل عن ذات الله وعن اتخاذه شريكا ، فهو أيضا يتناقض وتجرديته المطلقة اللامحدودة ، حيث اللامحدود لا يتعدد ـ ومحال أن يتعدد ـ فإن العدد إنما هو في المحدودات.

ويتناقض أحديته وصمديته ، فإن الصمد : غير المحتاج إطلاقا ، ليس له شريك إطلاقا من أي الثلاثة : ولدا ، أو من يتخذه ولدا ، أو إلها مستقلا عن كيانه تعالى ، فلم يكن له كفوا أحد (١).

وإليكم إجمالا بعد تفصيل في تفسير هذه السورة كلام الإمام أمير المؤمنين علي عليه أفضل التحية والسلام : «سأل رجل عليا عليه السلام عن تفسير هذه السورة فقال : هو الله أحد بلا تأويل عدد ، الصمد بلا تبعيض بدد ، لم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد فيكون في العز مشاركا ، ولم يكن له من خلقه كفوا أحد» (٢).

__________________

(١) التفصيل العقلي في كتابنا «حوار بين الإلهيين والماديين».

(٢) نور الثقلين ٥ : ٧١٥ ح ٨٥ عن عبد خير عنه (ع).

٥٢٣

توحيد الثالوث!

وفي ختام البحث عن طرف من التوحيد القرآني ، لنطرح هذا السؤال في محكمة العقل والنقل الكتابي ونتبع وحي الكتاب على ضوء العقل ..

مما لا يشك فيه أي عاقل : أن الثالوث يختلف عن الواحد ، ضرورة اختلافهما عند من يميز الواحد عن الثلاثة.

ذلك ، بالرغم من أن كثيرا من الكنائس في العالم المسيحي تعلّم : أن الله «ثالوث» مع أن كلمة ثالوث لا وجود لها في الكتاب المقدس.

إن الدستور «الأثنايوسي» يؤيد وجود (إله واحد) : «الأب والابن والروح القدس ـ أي ثلاثة أقانيم في إله واحد» : ـ

هذا الدستور ـ نحو القرن الثامن للميلاد ـ يقول : إن الأب والابن والروح القدس ، هؤلاء هم كلهم من نفس الجوهر ، والثلاثة هم سرمديون وقادرون على كل شيء!!

إلا أن هذه العقيدة لم تكن تعرف عند الأنبياء العبرانيين والرسل المسيحيين ، وتعترف دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة (ط ١٩٦٧ ج ١٤ ص ٣٠٦) بأن عقيدة الثالوث لا يجري تعليمها في العهد القديم ، كما وتعترف أنها يرجع تاريخها إلى نحو ثلاثمائة وخمسين سنة بعد المسيح ، لذلك فإن المسيحيين الأولين الذين تطمّوا مباشرة من يسوع المسيح لم يؤمنوا أن الله ثالوث.

وفوق ذلك نرى المسيح لا يرضى أن يخاطب بكلمة الرب ، ويعتبر قائلها شيطانا ، إذ قال له بطرس : «حاشاك يا رب ، فالتفت وقال لبطرس : اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (متى ١٦ : ٢٢ ـ ٢٣).

٥٢٤

فالسيد المسيح عليه السّلام هنا يصرح : أن الإعتقاد في ربوبيته معثرة شيطانية من بطرس.

كذلك ويندد بمن يعتبره معادلا لله ، حيث اليهود اعترضوا عليه إذ شفى مريضا في السبت ، فأجابهم : آبي يعمل وأنا أعمل ، فمن أجل هذا قالوا : إنه كسر السبت وجعل نفسه معادلا لله (يوحنا ف ١٧).

يعني : خالقي يعمل وأنا أعمل ، وليس عملي عمل الخالق ، إنما هو بإذنه وأمره ، فلست إذا معادلا للخالق.

إذ إن الأب ـ بالمد ـ لغة يونانية تعني الخالق ، وليست عربية حتى تعني الوالد ، إلا إذا أريد بها شهر الآب أو مثله من الآب!

ومن عجيب الخلط أن الكنائس تفسّر الآب دائما بمعنى الوالد! فيا ليتهم حذفوا المدّ حتى يصح لهم هكذا تفسير خادع! إن السيد المسيح لا يرضى أن يقال له : حتى : أنه صالح ، فكيف بالرب الإله؟ : «وإذا واحد تقدم وقال له : أيها المعلم الصالح! .. فقال له : لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله» (متى ١٩ : ١٦ ـ ١٩).

فهل إن هذا العبد الخاضع المتواضع بجنب ربه يدعي الربوبية والألوهية ، وتساويه في الجوهر مع الله؟ كلا! وإنه حسب الأناجيل ، يعترف بعبوديته وأنه ابن الإنسان كما في ثمانين موضعا (١).

كما ويصرّح : أن الحياة الأبدية معرفة الله بالوحدانية ، وأن المسيح رسوله (يوحنا ١٧ : ٣) و : «أن أول الأحكام أن نعرف أن إلهنا واحدا» (مرقس

__________________

(١) ومنها متى ٨ : ٢٠ و ٩ : ٦ و ١٦ : ١٣ ، ٢٧ و ١٧ : ٩ و ١٢ و ٢٢ و ١٨ : ١١ و ١٩ : ٢٨ و ٢٠ : ١٨ و ٢٠ و ٢٤ : ٢٧ و ٢٦ : ٢٤ و ٤٥ و ٤٦ في الأناجيل الثلاثة الاخرى.

٥٢٥

١٢ : ١٩) «وقال له الكاتب : لقد قلت حسنا : إن الله إله واحد وليس غيره من إله ، ولما رآه المسيح عاقلا في جوابه وكلامه خاطبه قائلا : لست بعيدا عن ملكوت الله» (مرقس ١٢ : ٣٢ و ٣٤).

ونرى كذلك في الكتب المقدسة أنه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) زمور ١٠٢ : ٢٦) ولا تجوز الصلاة لغير الله (متى ٤ : ١٠ مقابلة مع تثنية ٦ : ١٣ و ١٠ : ٢٠) ولربما راح المنجي يسوع إلى الصحراء منفردا يدعو (متى ١٤ : ٢٣ و ٢٦ : ٢٩ ومرقس ١ : ٣٥ ولوقا ٥ : ١٦) وأرفع صلاة وأعلاها التي تربو على صلواته كلّها ، ما صلّاها أخيرا مع الحواريين (يوحنا ١٧ : ١ ـ ٥ و ٦ : ١٩ و ٢٠ : ٢٦) وشكر ربه حيث استجاب دعوته (يوحنا ١١ : ٤١ ـ ٤٢) واستعان بربه حينما سلّم إلى الصليب (يوحنا ١٢ : ٢٧) وسأله : إلهي إلهي لم تركتني ، وذلك حينما صلب.! زعمهم.

أفهل كان يصلي لنفسه لأنه الرب نفسه؟ أم لمعادله؟ لأنه معادل الله! أم كان يستعين بنفسه إذ سلم إلى الصليب؟! ..

هذه الآيات المقدسات تؤيد وتتأيد بالمئات المئات من آيات الله البينات في كتابات الوحي طوال القرون الرسالية دون خلاف ، فخلافها إذا مقحمة بأيدي الدسّ والتحريف كالتالي :

.. أنه : ابن الله (متى ٣ : ١٧) وأوّل مواليده (عبرانيين ١ : ٩) ابن الله المبارك (مرقس ١٤ : ٦١) وأنه هو الله (يوحنا ١ : ١) الأزلي (عبرانيين ٩ : ١٤) والرب ومثل الله (متى ٢٣ : ٣٤ لوقا ١١ : ٤٩).

ومثل الله هو رب الشريعة ، فبقدرته الشخصية يتم ناموس موسى ويعدّله (متى ٥ : ٢١) ومثله يعتمد عهدا مع البشر (متى ٢٦ : ٢٨) فالإيمان الذي يقتضيه مسيح الإنجيل في البعض من آياته المقحمة ، إنما يقتضيه لنفسه لا لربه ،

٥٢٦

فيريد أن يكون هو موضوع الإيمان وسببه (لوقا ٩ : ٢٦) ويرضى بأن تقدّم له عبادة دينية فيقبل السجود لنفسه ، ذلك السجود الذي ـ بحسب العقلية اليهودية والمسيحية (استير ١٣ : ١٢ ، أعمال ١٠ : ٢٦ ، رؤيا يوحنا ١٩ : ١٠ ـ ٢٢ : ٩) ـ ذلك الذي يعود ويختص بالإله الحق وحده ، (انظر : متى ١٥ : ٢٥ و ٨ : ٢ و ٩ : ١٨ و ١٤ : ٣٣ و ٢٨ : ٩ و ١٧).

هذه الآيات الأخيرة بعضها مقحمة كالمصرحة بما ينافي توحيد الإله ، والأخرى متشابهة أو غير دالة (١).

والقرآن إذ يصدق الإنجيل ، فإنما يصدق ما فيه من وحي السماء ، لا المقحمات مثل التثليث ، وكما يندد بالثالوث في آيات ، ويعتبره من الوثنية ، ويصرّح أن المسيح من أعظم الموحدين المعارضين للخرافات الشركية قائلا :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٥ : ٨١) (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٣ : ٥٧) (وَقالَ الْمَسِيحُ : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (٥ : ٧٢) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥ : ٧٢ ـ ٧٣) (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٩ : ٣١).

فالنصرانية ـ حسب الآية الأولى والأخيرة ـ منذ القرن الثالث وحتى

__________________

(١) راجع «حوار» و «عقائدنا» باب التثليث.

٥٢٧

الآن ، تقلّد قوما مثلثين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا ، وهم الثلث الثالوثيون من مجلس «نيقية» وعلى رأسهم «اثناسيوس» وهؤلاء أيضا يضاهئون في خرافة الثالوث (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) وهم من يذكرهم تاريخ الأديان الوثنية طوال قرونها ، كالثواليث التالية :

الثالوث الفرعوني : (اوزيرس ـ ايزس ـ حورس).

والثالوث البرهمي : (برهمة ـ فشنو ـ سيفا) ومثله البوذي والصيني والهندي والمصري واليوناني والروماني وثالوث الفرس : (أورمزد ـ مترات ـ اهرمان) والفنلندي : (تريكلاف) والاسكندنافي (اورين ـ تورا ـ فري) والدردي : (تولاك ـ فان ـ مولا) والأوقيانوسي والمكسيكي والكندي (١).

أنا والآب واحد!

ومن الآيات الإنجيلية التي توهم إلى الشرك ، هي القائلة عن السيد المسيح : «أنا والآب واحد» (يوحنا ١٠ : ٣٠).

لكنها لا تدل على الثالوث ، إنما على التثنية ـ لو دلت ـ (أنا والآب) ولكنها أيضا لا تعني الوحدة في جوهر الذات والكيان الإلهي ، وإنما وحدة الهدف والاتجاه ، فلا شك أن يسوع لم يكن يناقض الآيات المقدسة التي سبقت في التوحيد ، وما عناه هنا إنما أوضحه هو نفسه فيما بعد ، عند ما صلى لأجل أتباعه : «ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد» (يوحنا ١٧ :) فيسوع وآبوه خالقه ، هما واحد ، بمعنى أن يسوع على وفاق تام مع خالقه ، وصلى ليكون كل أتباعه على وفاق مع الخالق ومع يسوع بعضهم مع بعض.

فهناك في الكتب المقدسة آيات مقحمات كالمصرحة بربوبية المسيح ، وآخر متشابهات كهذه ، وثالثة محكمات ، فالمفروض إرجاع متشابهاتها إلى محكماتها ، ورفض مقحماتها.

__________________

(١) راجع «حوار» و «عقائدنا».

٥٢٨

فمن المقحمات الآية : «ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب في ، لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال» (يوحنا ١٤ : ١٠) أو يقال إنها يفسرها قول السيد المسيح عليه السّلام : «كما أنك أيها الآب في وأنا فيك ، ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يوحنا ١٧ : ٢١).

وترى كذلك بجنبها محكمات في التوراة وفي الإنجيل قائلة :

«قال الله لن تسكن روحي في الإنسان إلى الأبد لأنه لحم» (تكوين ٦ : ٣) «وفيما هم يتكلمون بهذا أوقف يسوع نفسه في وسطهم ، وقال لهم : سلام لكم. فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحا. فقال لهم ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم. انظروا يدي ورجلي أني أنا هو. جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم أعندكم هاهنا طعام. فناولوه جزءا من سمك مشوي وشيئا من عسل فأخذ وأكل قدامهم» (لوقا ٢٤ : ٣٦ ـ ٤٣).

فالآية التوراتية تحيل حلول الإله المجرد عن الجسم في الجسم ـ أيا كان ـ لأنه جسم ، فإن المحدود لا يشمل اللامحدود ، والمجرد لا يحوي الجسم.

وكذلك الآيات الإنجيلية تحيل هكذا حلول ، إذا فالمعني من الآية : «الآب في وأنا فيه» ليس هو التداخل الجوهري ، وإنما يعني كمال العبودية والذلة : ألّا يعتبر السيد المسيح نفسه في جنب ربه شيئا مذكورا ، فكأنه فيه «أنا فيه» وأنه لا ينطق ولا يعمل إلا حسب مخططات الوحي الإلهي ليس إلّا : «الآب في» لا سيما مع كون الآب يعني : الخالق ، ومن المستحيل اتحاد الخالق والمخلوق في الجوهر.

٥٢٩

ويزيد توضيحا للآية : «أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا» (يوحنا ٥ : ٣٠).

فالسيد المسيح ـ ومعه النبيون أجمع ـ يسلب عن نفسه الربوبية والشرك بالله ، والقدرة الإلهية والحول والقوة المستقلة ، وإنما يصرح : «أنه إنسان نبي» (لوقا ٢٤ : ١٩) وليس أحد صالحا إلا إله واحد وهو الله» (متى ١٩ : ١٧) «وأما ذلك اليوم فلا يعلم أحد به ولا الملائكة ولا الابن إلا الآب الخالق» (لوقا ٥ : ١٤ و ٤ : ١٢) «والله لم يره أحد قط» (يوحنا ١ : ٨) «ولا يقدر أحد أن يراه» (اتيموثاوس ٦ : ١٦) «ولا يقدر أحد أن يخدم سيدين» (متى ٤ : ٢٦).

وفي التوراة : «أن الله ليس له مكان» (أشعيا ٦٦ : ١ ـ ٢) «ولا يعبد إلا هو ، ومن عبد غيره يقتل» (خروج ٢٠ : ٣٤ وتثنية ١٣ و ١٨).

إذا فإلى كلمة سواء :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

أصحابنا المسيحيين! تعالوا اتبعوا المسيح والنبيين في توحيد الإله ورفض خرافة الثالوث اللامعقولة ، والمضادة لنصوص الكتب المقدسة ، هذه الخرافة الوثنية التي أصبحت كأنها من أصول الديانة المسيحية ... تعالوا إلى كلمة سواء.

الثالوث في مختلف الأديان الوثنية :

«إن أقدم ما نعثر عليه في تاريخ الفراعنة ، الثالوث المكوّن من الآلهة (اوزيريس ـ ايزيس ـ حورس) الأب والأم والولد ، ثم المكوّن من «آمون»

٥٣٠

وزوجه «موت» * وابنه «خونس» وهو تثليث بلدة «تب» * وهم الأب والأم والولد ، ثم المكوّن من (فتاح ـ سنحت ـ ايموس) وهو لبلدة «منف» ثم المكوّن من (انوبيس ـ معات ـ توت) ثم المكوّن من (آنوا ـ بعل ـ آيا) وهو ثالوث الكلدانيين ، ثم المكوّن من (سن ـ شمش ـ عشتار) الأب والابن والأم ، ثم المكوّن من (مينوسن ـ رادامانت ـ ايبال) أولاد «زوس» الإله الأعظم ، ثم المكوّن من (الأب والابن وروح القدس) وهو للمسيحيين (١)(يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

ولقد «كان عند أكثر الأمم البائدة الوثنية تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثالوثي ، أي الإله ذو الأقانيم الثلاثة» (٢).

وحقا إنه عزيز علينا اتباع الديانات الكتابية الإلهية هكذا أن يتبع بعضها الأمم البائدة الوثنية في الأصول الإلهية ..

فإلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، يرضاها العقل والدين!

بداية الثالوث المسيحي :

إن أقدم صيغة تعليمية رسمية لإيمان الكنيسة بشأن الثالوث (حسب ما في مختصر في علم اللاهوت العقائدي) هي قانون الرسل الذي اتخذته الكنيسة منذ القرن الثاني في شكل قانون العماد الروماني القديم كأساس لتعليم الموعوظين ، ولاعتراف الإيمان في حفلة العماد عند اللاتين.

ثم .. قانون نيقية القسطنطنية (٣٨١ م) وقد نشأ ضد مذهبي آريوس ومقدونيوس ، ثم المجمع الروماني برئاسة البابا القديس (داماسيوس) (٣٨٢)

__________________

(١) حياة السيد المسيح ل : فاروق الدملوجي ، ص ١٦٢.

(٢) موريس في كتابه «خرافات المصريين الوثنيين» ص ٢٨٥ ـ ينقله عنه محمد طاهر التنير البيروتي في كتابه «العقائد الوثنية».

٥٣١

يدين بصورة اجمالية أضاليل القرون الأولى في الثالوث الأقدس! ثم إلى القرن ٥ و ٦ قانون أثناسيوس ، ثم قانون مجمع طليطلة الحادي عشر (٧٦٥ م) ثم في القرون الوسطى قانون المجمع اللاتراني الرابع (١٢١٥ م) ثم مجمع فلورنس (١٤٤١ م) ثم في العصر الحديث تعليم لبيوس السادس (١٧٩٤ م).

وإن أول من دسّ في فكرة الكنيسة فكرة الأبوة والبنوّة الإلهيين ، هو الخصي الكوسج المصري خادم الرهبان «اوريفين» (١) إلى أن تشكل مجمع «نيقية» (٣٢٥ م) إذ جاءت من الجماعات الروحية المسيحية من مختلف الأقطار من يزيدون على ألف مبعوث لانتخاب الأناجيل التي يجب أن تعتبر قانونية ، ولقد كان ٣١٨ شخصا من هؤلاء من القائلين بألوهية المسيح.

وقد اجتهد آريوس رئيس الموحدين على أن المسيح مخلوق ، وأنه عبد الله ، مستدلا بما لديه من الآيات الانجيلية وبتفاسير الأعزة والآباء من ايقليسيا ، واعترف بهذه الحقيقة الثلثان الباقون من الألف ، أعضاء المجمع.

ومن ناحية أخرى قام رؤساء الثالوثيين (وعلى رأسهم اثناسيوس) للبرهنة على أن المسيح إله تام ، وأنه متحد الجوهر مع الله ، وأخيرا ترجّح رأي المثلثين ، لا لشيء إلا للسلطة الجبارة آنذاك من قسطنطين (قونسطنطينوس) تحت ستار إيجاد الأمن بين المتخالفين ، وأن قسطنطين هذا يرجح رأي صديقه البابا كاهن رومية الأعظم ، وهو من الأقلية الثالوثية في النيقية ، ويأمر بإخراج أكثر من سبعمائة من الرؤساء الروحيين الباقين الموحدين من المجمع ، ويقتل آريوس رئيس الموحدين لكي يصفّي جو المجمع (٣١٨) الباقين المثلثين.

ولقد صرح السيد المسيح بهذا الحادث العظيم تنديدا بالمثلثين ، وترحما على الموحدين بقوله : «سيخرجونكم من المجامع ، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من

__________________

(١) هو راهب أعزب عارف باللغات عاش في القرن الثاني الميلادي.

٥٣٢

يقتلكم أنه يقدّم خدمة لله وسيفعلون بكم لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني (يوحنا ١٥ : ٢ ـ ٣ و ١٣ : ٩).

أي لم يعرفوا الآب «الخالق» بالوحدانية ، ولا عرفوني بالعبودية.

وقسطنطين هذا كان وثنيا ملحدا ، فإن «بوسيبوس» بسقيوس قيصرية (الذي تقدسه الكنيسة وتمنحه لقب سلطان المؤرخين) كان صديق الامبراطور ، وهو يصرح : أن الامبراطور اعتمد وتنصّر حين كان أسير الفراش قبيل وفاته ، وبناء على هذا نتأكد : أن خرافة الثالوث هذه ليست إلا من سلطان وثني ملحد ، وخصي كوسج مصري.

٥٣٣

سورة الفلق ـ مكية ـ وآياتها خمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٥)

* * *

ان هناك محاولات دائبة لإغلاق أبواب الخير والفلاح على من يبتغيهما ، فلا بد إذا من فالق وهو الخالق الذي خلق وفلق.

إن لشياطين الجن والإنس إيجابيات وسلبيات كلها تنحو منحى الشر ، غلقا لأبواب الخير ، وفلقا لأبواب الشر ، فسورة الناس تأمرنا بالاستعاذة من النوع الثاني ، وسورة الفلق منهما ، ولكي تتم المكافحة علّ المؤمنين ينتصرون.

فربّ الفلق هو الذي يفلق ما أغلقته الشياطين : من غاسق إذا وقب ، ومن النفاثات في العقد ، ومن حاسد إذا حسد :

«ثالوث الشر والفساد ، الذي هو في قمة الشر ، ولذلك تختص هي بالذكر بعد عموم الشر.

٥٣٤

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) :

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٦ : ٩٥ ـ ٩٦).

فالفلق هو شق الشيء واستخراج ما فيه ، ونحن نعوذ برب الفلق ليفلق لنا ما أغلقته الشياطين من أبواب الخير ، وعلينا أن نظل على الدروب : دروب الخير لنفتحها ، ودروب الشر لنغلقها ، مستعيذين برب الناس والفلق ، الذي يغلق للناس كل غلق ، إلى ما فيه خير.

والشر ـ أيا كان ـ قد يحصل بضم شيء إلى شيء ، ففلقه فتقه ، أو بفصله عنه ، ففلقه رتقه ، فكلاهما فلق اعتبارا بتحرير الخير الذي كان في أسر الشر ، ففالق الحب والنوى يحررهما عن جمود الحياة إلى حريتها ونضوبها ونضوجها ، وفالق الإصباح يشق بطن الليل ليوضح وضح النهار.

والشر ـ أيا كان ـ غلق على الحياة وأسر لها ، فالفالق يفتح الحياة المغلقة وينير الدرب على الأحرار ، الذين يحاولون الفرار عن حياة الحيونة المتأخرة أو المجمدة ، إلى حياة التقدم.

وكما يفلق الله تعالى الليل لإخراج النهار ، ويفلق الحب والنوى لإخراج الأشجار ، كذلك هو الذي يفلق كل شر ويفتقه ليخرج منه الخير ، كما ويخرج الحي من الميت بفلق الميت ، ويخرج الميت من الحي بفلق الحي ، ويخرج الجنين من المني بفلقه ، وغير ذلك من فلق خيّر.

هذا الإله هو الذي يحق أن يستعاذ به من شر ما خلق :

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) :

.. «ما خلق» * لا «خلقه» * إذ ليس في خلقه ـ وهو فعل من أفعاله ـ ليس

٥٣٥

فيه شر ، فالخير كله بيديه والشر ليس اليه : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وأما ما خلق : المخلوقون ، فهم الدين يفعلون الشر بسوء اختيارهم ، أو سوء الاختيار والتصرف فيهم من المتخلفين ، وشاهد مسبّق عليه ، الأمر بالاستعاذة برب الفلق ، فهل يستعاذ به تعالى مما فعل؟ كلا ـ وإنما مما يفعله ما خلق : الأشرار من خلقه.

فللخلائق شرور عدة في حالات اتصال بعضها ببعض وبعضهم ببعض ، والله يفلق هذه الشرور فصلا بين عماله وأعمالهم.

وشرور الخلق تعم التفكير السوء والعقيدة والعمل السيئين ، وتعم الجانب التشريعي والتكويني من الشر ، وهو الفالق هنا وهناك : أن يسن قوانين وأحكاما لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، حيث الشرور ناتجة عن الانفصالات والتضادات ، أو من الاتصالات السيئة ، وهو الفالق : أن يقدر ويدبر الخير رغم هجمات الشر وهمجاته.

وداعية الشر يفحص عن مجالاته الملائمة وهي الظلمات ولا سيما الغاسقة ، يفحص عن ظلمات العقول والأجواء .. وليتمكن من تحقيق شره : ورب الفلق يفلق الظلمات إلى النور أيا كان :

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) :

فالليل له غسق وهو مرتفعة في الظلام : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (١٧ : ٧٨) والطعام له غسق وهو الذي يظلم على الإنسان حياته وكأنه يعميه من شدة الغصة : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) (٣٨ : ٥٧).

والغاسق ـ وهو الذي يدخل في غسق ـ ليس فيه كثير خطورة ما لم يقب ، والوقب هو النقرة في الجبل يسيل منها الماء ، فإذا وقب الغاسق ومكّن فهناك تمام الشر ووقعته.

٥٣٦

فالليل مجال الغاسق : ليل الأفق الخارجي ، وافق العقل والصدر والقلب ، فإذا وقب ونقر في واحد من هذه الآفاق فقد انتصر.

والليل حين يتدفق فيغمر البسيطة ، إنه مخوف بذاته ، فضلا عما يثيره من توقع المجهول الخافي من كل شيء : من وحش مفترس يهجم ، ولص فاتك يقتحم ، وعدو ماكر يتمكن ، وحشرة ضارية ، ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام ، وعقل قاصر ، وشهوة حاضرة ... كل ذلك ميدان لتجوال الغاسق ، فلو لا الإمداد الرباني والإعاذة الإلهية لكان يقب.

فليغلق المستعيذ برب الفلق على نفسه أولا دخول الغاسق : بخروجه عن الظلام أيا كان ، أو إخراج الظلام عن نفسه ، ثم إذا قصّر هنا فليستعذ برب الفلق من شر غاسق إذا وقب ... إذا دخل الظلام ونقر ، فرب الفلق هو الذي يفلق بعد الوقب ، كما أنه الذي يفلق قبله ...

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) :

.. النفاثات : أظنها جمع نفاثة كعلّامة ، مبالغة مضاعفة ، وهم الذين ينفثون وينفخون بكل ما يملكون من وسائل النفث والنفخ لتنفّج الباطل في غيه ، وفلج الحق في مضيه : ينفثون في عقد الحياة ، التي يعقدها غاسق إذا وقب : فهنا شيطان أول يحقق خطوة أولى : أنه يعقد في نقرته ، يعقد أمرا فيه تعقيد الحياة في أية مجالة من مجالاتها ، ثم شيطان ثان ـ أو شطنة ثانية ـ ينفث فيما عقده الأول ليحكم العقد كيلا ينحل بسهولة.

فالنفاثات تعم قبيلي الرجال والنساء ، دون اختصاص بالنساء ، وتعم السحر وسواه دون اختصاص بالسحر ، وتعم أية نفاثة تستحكم عقد الشر أو تحل عقد وعزائم الخير.

٥٣٧

ثم النفاثات : الطاقات التي تنفث وتنفخ في العقد لتنفج الباطل وتوهين الحق ـ إنها على ضروب شتى ، كما العقد تعم عقد الخير والشر ، فمن نفاثات في عقد الخير التي عقدها وحكمها الخيرون ـ ينفخون فيها لتوهينها ومحقها او تبديلها إلى شر ، ومن نفاثات في عقد الشر التي عقدها الشريرون ـ نفخا فيها لنفجها وتحكيمها ، أية عقد من أية نفاثة : من عقد تعقد بها حياة خيرة ، او تعقد عليها حياة شريرة.

فمن النفاثات في العقد السياسية محاولات تبعيد الدين ورجالات الدين عن السياسة ولكي تأخذ مجاريها الشريرة بفتح مجالاتها دونما رادع ولا مانع.

ومن ثقافية تجمد العقول والأفكار على مقالات الأولين من حق لم يكمل او من باطل ..

ومن اقتصادية هي ترك الفحص والبحث عن الأحكام الاقتصادية الاسلامية ، وترك تطبيق الاقتصاد الإسلامي ، اللذان ينفثان في مشكلة الاقتصاد ، ويفسحان المجال للاقتصاد الشيوعي والرأسمالي.

ومن حربية كالتقدم السريع في اصطناع الأدوات النارية ، بحرية وبرية وجوية ومنها الطائرات النفاثة التي نفثت في عقد الحرب ، التي يجب علينا مكافحتها بالمثل اعتداء بالمثل.

ومن عقد عقائدية كالقول بتحريف القرآن بزيادة او نقيصة ، ومن ذلك هنا القول : ان المعوذتين ليستا من القرآن! رغم وجودهما في القرآن المتواتر القاطع ، والسنة القاطعة : انهما من القرآن ومن أفضل القرآن (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٤١٦ ـ اخرج احمد والبزاز والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن عباس وابن مسعود انه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه انها ليست من كتاب الله ، انما امر النبي (ص) ان يتعوذ بهما وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما ، قال البزاز : لم يتابع ابن مسعود احد من الصحابة وقد صح عن النبي (ص) انه قرأ بهما في الصلاة وأثبتت في المصحف.

٥٣٨

ومن سائر الإسرائيليات والكنسيات والوثنيات والمختلقات الزور التي دخلت وتسربت في الروايات ، كما هنا فيما يروى : ان الرسول (ص) سحر ، سحره ابن الأعصم اليهودي في بئر ذروان ، ف «كان يرى انه يجامع وليس يجامع ، وكان يريد الباب ولا يبصره حتى يلمسه بيده» (١).

فنحن نضرب بهذه وتلك عرض الحائط ، مهما كثرت رواتها وقلت رعاتها ، ورغم انها رويت من طريق الفريقين عن النبي (ص) والائمة من اهل بيته (ع) ، فاننا نعتبرها من عقد عقائدية نفث فيها نفاثات الرواة.

كيف لا؟ (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٢٥ : ٩) (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (١٧ : ١٠١) فقولة السحر على النبي (ص) قولة فرعونية ظالمة فاتكة يعني توهين الرسالة المحمدية وتهوينها ، ولكي تتطرق فرية السحر إليها كلها ، وساحة هذه الرسالة السامية وسواها براء منها.

فإن السحر أيا كان ، هو من سلطان الشيطان ، وان كان الله لا يصده أحيانا

__________________

ـ وممن روى انهما من القرآن عن النبي (ص) أبي بن كعب وعكرمة ويزيد بن عبد الله الشخير وابن مسعود وعقبة بن عامر وابو حابس الجهني وابو سعيد الخدري وام سلمة ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وثابت بن قيس وقتادة وانس بن مالك وابو هريرة وابن عمر ، أخرجه عنهم اصحاب السنن والمسانيد بطرق متواترة ، وابن مسعود هذا الذي اخرج عنه قولة الزيادة ، سيخرج عنه هنا كما عن غيره من الاصحاب انهما من القرآن ومن أفضل القرآن ، وكما اجمع على ذلك أئمة اهل البيت عليهم السّلام ، كما أخرجه في نور الثقلين (٥ : ٧١٦) عن كتاب ثواب الأعمال عن الامام الباقر (ع) وعن اصول الكافي عن أبي الحسن الرضا (ع) وفيه عن الصادق (ع).

(١) كما أخرجه على نور الثقلين عن كتاب طب الائمة عن الصادق (ع) (٥ : ٧١٨).

وفي الدر المنثور (٥ : ٤١٧ : اخرج عبد بن حميد في مسندة عن زيد بن اسلم قال : سحر النبي (ص) واخرج ابن مردويه والجهني في الدلائل عن عائشة وابن مردوية من طريق عكرمة عن ابن عباس .. وابن مردويه عن انسى بن مالك ، ولقد رووها بألفاظ مختلفة.

٥٣٩

(وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ولكنه ليس من الرحمان ، فهل ان للشيطان سلطان على حس النبي (ص) وعقله وارادته ، ولحد يخطأ الباب ولا يبصره ويرى انه يجامع ولا يجامع؟ فكيف إذا ينير الدرب لمن يدقه الى الله! كيف يسحر هكذا وهو أول العابدين (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٦٥ : ٤٢).

على انه (ص) معجزة رب العالمين ، بقرآنه المبين وبيانه المتين ، فلو حاولوا ان يسحروه لم يك ليسحر او يتأثر ، اغلبا للسحر وهو سلطان الشيطان ، على المعجزة وهو سلطان الرحمان! والنبي بكيانه معجزة ، كما هو بقرآنه معجزة!.

ثم الرسول (ص) هو بجملته : في ذاته وصفاته وأفعاله وأقواله ، انه عودة من الشيطان وداعية حق الى الرحمان ، فكيف لا يعيذه رب الفلق من شر النفاثات في العقد؟ اجل وقد أعاذه بما انزل في كتابه انه لا يسحر ولن يسحر ، وان تهمة السحر الوقحة عليه قولة الفراعنة الظالمين النفاثين في العقد.

وإذا كان الامام من آل الرسول (ص) كما يقول الامام الصادق (ع):

«لم يزل مرعيا بعين الله ، يحفظه ويكلئوه بستره ، مطرودا عنه حبائل إبليس وجنوده ، مدفوعا عنه وقوب الفواسق ، ونفوث كل فاسق» (١)

فالرسول (ص) وهو امام الائمة بذلك أحرى!

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) :

.. خطوة ثالثة بعد فشل ما سبقتها ، أو لتحكيمها : ألا إنها حسد الحاسدين ، لا في أنفسهم فحسب ، إنما إذا حسدوا.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٧٢٢ عن اصول الكافي

٥٤٠