وقيل : كتمان الشّهادة هو أن يضمرها ولا يتكلّم بها ، فلمّا كان (١) مقترفا بالقلب اسند إليه ، لوضوح أنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ، كما يقال : هذا ممّا أبصرته عيني ، وعرفه قلبي (٢) .
وقيل : هذا الإسناد ؛ لئلا يظنّ أنّه من الآثام المتعلّقة باللّسان فقط ، وليعلم أنّ القلب أصل متعلّقة ، ومعدن اقترافه ، واللّسان ترجمان عنه ، ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال الجوارح ، إذ هي لها كالأصل الذي تنشعب منه. ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيّئات الإيمان والكفر ، وهما من أفعال القلوب ، فإذا جعل كتمان الشّهادة من آثام القلب ، فقد شهد له بأنّه من معظّمات الذّنوب (٣) .
عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، لقوله تعالى : ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾(٤) وشهادة الزّور ، وكتمان الشّهادة (٥) .
وفي حديث مناهي النبيّ صلىاللهعليهوآله : « ونهى عن كتمان الشّهادة ... بقوله : ﴿وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾(٦) .
﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الطّاعة والمعصية ، والخيانة في الأمانة وردّها ، وكتمان الشّهادة وأدائها ﴿عَلِيمٌ﴾ فيجازيكم أوفق الجزاء. وفيه غاية التهديد.
﴿لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٢٨٤)﴾
ثمّ لزيادة التّرهيب على المخالفة والكتمان ، ذكّر العباد سعة قدرته وإحاطة علمه ، ونبّههم بهما. أما سعة قدرته فبقوله : ﴿لِلَّهِ﴾ بالملكية الحقيقية الإشراقيّة ، لا الاعتباريّة الإضافيّة ﴿ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ جميعا ، لا يخرج موجود من الموجودات - في عوالم الملك والملكوت ، قويّها وضعيفها وعظيمها وحقيرها - من تحت قدرته وسلطانه ، فلا عجز له من عقوبة من عصاه ، وإثابة من أطاعه ، هذا سعة قدرته.
وأمّا إحاطة علمه سبحانه فبقوله : ﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾ تظهروا بالقول أو الفعل ﴿ما فِي أَنْفُسِكُمْ﴾
__________________
(١) أي الكتمان.
(٢) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٣.
(٣) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٣.
(٤) المائدة : ٥ / ٧٢.
(٥) تفسير روح البيان ١ : ٤٤٣.
(٦) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٧ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٢٨٦.