ثمّ بالغ في توصيفهم ومدحهم بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ ويصدّقون تصديقا حقيقيّا لسانيّا وجنانيّا ﴿بِما أُنْزِلَ﴾ من السّماء متدرّجا ﴿إِلَيْكَ﴾ من القرآن وجميع أحكام شريعتك ، أنّه كلام الله ، ودينه المرضيّ عنده ، وهذا الإيمان مستلزم للايمان بالرّسالة ﴿وَما أُنْزِلَ﴾ من الكتب على سائر الأنبياء ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ أنّ جميعها كانت حجّة من الله على اممهم وإن نسخت.
ولعلّ ذكر الإيمان بالكتب بعد الإيمان بالغيب ، لتنزيله منزلة الإيمان بالمحسوس لوفور دلائل صدقها وحقّانيّتها ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ والمعاد لجزاء الأعمال ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ لا يدخل في قلوبهم شكّ ولا ريب.
قيل : نزلت في مؤمني أهل الكتاب (١) ، وتخصيص اليقين بالآخرة بالذكر مع كونه داخلا في الإيمان بالغيب لكمال مدخليّته في تكميل النفس واستقامة العمل ، فإنّ ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها.
في أن المغرورين عشرة
قيل : عشرة من المغرورين : من أيقن أنّ الله خالقه ولا يعبده ، ومن أيقن أنّ الله رازقه ولا يطمئنّ به ، ومن أيقن أنّ الدنيا زائلة ويعتمد عليها ، ومن أيقن أنّ الورثة أعداؤه ويجمع لهم ، ومن أيقن أنّ الموت آت ولا يستعدّ له ، ومن أيقن أنّ القبر منزله ولا يعمّره ، ومن أيقن أنّ الدّيّان يحاسبه ولا يصحّح حجّته ، ومن أيقن أنّ الصّراط ممرّه ولا يخفّف ثقله ، ومن أيقن أنّ النّار دار الفجّار ولا يهرب منها ، ومن أيقن أنّ الجنّة دار الأبرار ولا يعمل لها (٢) .
قال بعض : إنّ اليقين بالآخرة داع إلى قصر الأمل ، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد ، والزهد يورث الحكمة ، والحكمة تورث النّظر في العواقب (٣) .
وفي الآية تعريض على أهل الكتاب حيث إنّهم يثبتون أمر الآخرة على خلاف حقيقته ، وإنّ قولهم به ليس عن إيقان ، وإنّ اليقين ما عليه المتّقون من المؤمنين بخاتم النبيّين صلىاللهعليهوآله.
ويبالي فإنّ في رواية : « ما قسّم بين العباد شيء أقلّ من اليقين » (٤) .
في بيان الملازمة بين الإيمان بالمبدأ والإيمان بالمعاد
ثمّ لا يذهب عليك أنّ اليقين بالمعاد مستلزم لليقين بالمبدأ ، كما أنّ اليقين بالمبدأ مستلزم لليقين بالمعاد ، لأنّ اليقين بالصانع يلازم اليقين بحكمته ، والحكمة مقتضية لأن يكون بعد هذا العالم عالم آخر يثاب فيه المؤمن ، ويعاقب فيه العاصي ، وإلّا يلزم
__________________
(١) تفسير روح البيان ١ : ٤٠.
(٢) تفسير روح البيان ١ : ٤٢.
(٣) تفسير روح البيان ١ : ٤٢.
(٤) الكافي ٢ : ٤٣ / ٦.