ثمّ استدلّ على ثبوت هذه الكثرة في العقول بوجوه :
منها : أنّه أدلّ على علوّ القدرة الإلهية.
ومنها : قاعدة / A ١٨٠ / الإمكان الأشرف ؛ فإنّها تقتضي وجود هذه الأرباب والأنواع النورية المجرّدة العقلية ؛ لأنّها أشرف من الأنواع المثالية والجسمانية لتجرّدها عن الموادّ والتقدّر والتكلّم بالكلّية ؛ وقد وجد الأخسّ ـ أعني عالم المثال وعالم الأفلاك والعناصر ـ فيجب أن يوجد الأشرف ـ أعني الأنواع المجرّدة النورية ـ قبلها.
وبالجملة : ما في العالم الجسماني من الذوات وعجائب الترتيبات والنظم البديع والترتيب المحكم وكذلك [ما] في عالم النفوس من العجائب الروحانية لا ريب في أنّهما في العالم النوري العقلي أشرف وأبدع ممّا في هذين العالمين ؛ فيجب نظيرها في ذلك العالم نظرا إلى القاعدة المذكورة. (١)
ومنها : أنّ الأنواع الموجودة في عالمنا هذا ليست عن مجرّد الاتّفاق ؛ لأنّ الاتّفاق لا يكون دائما ولا أكثريا ؛ وهذه الأنواع الموجودة عندنا دائمة محفوظة لا تتغيّر أبدا ؛ فإنّه لا يكون غير الإنسان عن الإنسان وغير البرّ عن البرّ وهكذا ؛ فالأنواع المحفوظة عندنا ليست عن مجرّد الاتّفاق ؛ لأنّ الامور الدائمة الثابتة على نهج واحد لا تنتهي إلى الاتّفاقات المحضة ؛ فلا بدّ لها من علل ولا يتصوّر لها علل غير تلك العقول العرضية القائمة بذاتها في عالم النور ؛ وهي الأنواع النورية التي هي علل هذه الأنواع المثالية والجسمانية وأربابها والمدبّرة لها وتغشى بها وتحفظها وتفيض عليها الهيئات المناسبة كالألوان الكثيرة العجيبة التي في رياش الطاوس ؛ فإنّ علّتها ربّ نوعه لا اختلاف أمزجة الرشية على ما يقوله المشّاءون ؛ إذ لا برهان لهم على ذلك ولا قدرة لهم على تعيين أسباب تلك الألوان وكذا
__________________
(١). انظر : مجموعه مصنّفات شيخ اشراق (حكمة الإشراق) ، ج ٢ ، صص ١٥٥ ـ ١٥٤.