فإن قيل : لذّة أكثر الناس بالحسّيات من المطاعم والمناكح وبالرئاسات الوهمية وآلامهم / A ١٥٥ / بفقدها أشدّ من لذّتهم بالعلوم وألمهم بالجهل.
قلنا : قد يحصل للإنسان موجب اللذّة ولا يشعر بها لغفلته عنه أو اشتغاله بغيره ، كالمتوغّل في الكفر ؛ فإنّه لا يشعر بما يذكر عنده ويسمعه من الألحان والنغمات الطيّبة ؛ فلا يلتذّ بها أو لآفة غيّرت مزاجه ؛ فلا يحسّ لشهوة الطعام كالذي عرض له بوليموس أو لضعف القوّة المدركة كالبصر الضعيف ، فإنّه لا يلتذّ بالضوء ، بل يتأذّى به وإن كان موافقا لذيذا بالنسبة إلى البصر السليم.
وعلى هذا نقول : سبب كون اللذّة الحسّية في الأكثر أقوى وأشدّ من العقلية خروج أنفسهم عن مقتضى الأصل ، لأجل الإلف بالمحسوسات والمادّيات وعروض ما أخرجها عن جبلّتها وحقيقتها من العادات الرديّة والآفات العظيمة والعوارض المنافية لجوهرها وصحّتها ؛ فهذه الآفات والعوارض لها بمنزلة المرض والخدر (١) للعضو ؛ فكما أنّ العضو الخدر لا يحسّ بالنار المحرقة وإذا زال الخدر أحسّ بها فكذلك عوارض البدن وعوائق المحسوسات أوجبت للنفس مرضا يمنعه عن الالتذاذ بما هو ملائم لأصلها وموافق لجوهرها ، وإذا زالت (٢) تلك العوارض بمفارقة النفس عن البدن أدرك لذّة العلم إن كان عالما حسن الخلق وألم الجهل إن كان جاهلا رديّ الخلق.
وإذ ظهر أنّ اللذّة العقلية أقوى من اللذّتين الاخريين وأنّ مراتب العقلية مختلفة باختلاف العقل والعاقل والمعقول ؛ فكلّما كان العاقل أقوى وتعقّله أشدّ وأجلى ومعقوله أشرف وأجلّ كان لذّته أقوى وأتمّ ؛ فيظهر من ذلك أنّ الواجب تعالى أجلّ مبتهج بشيء ؛ لأنّه عاقل لذاته على ما هو عليه من البهاء والجمال ولما ينشأ من ذاته ـ أي النظام الأعلى ـ من حيث إنّه ينشأ منها ؛ فهو من حيث كونه
__________________
(١). الخدر : التشنّج ، والكسل والفتور.
(٢). س : ازال.