لا تكون إلّا في آلة جسمية وهي قد يفسد بإدراك مدركاتها القويّة ؛ فإنّ لذّة العين في الضوء وألمها في الظلمة ؛ والضوء القويّ يفسدها وكذا الصوت القويّ يفسد السمع ؛ وأمّا القوّة العقلية فلقيامها بنفسها وبرائتها عن التغيّر والاستحالة يتقوّى ويزداد نورا بإدراك مدركاتها القويّة وكلّما أدركت معنى عقليا أجلى وأقوى صارت قوّته أكثر ؛ وهي أقرب الموجودات الأرضية إلى الحقّ الأوّل وأشدّها مناسبة له.
وممّا يدلّ أيضا على المطلوب أنّ العقل يدرك الشيء على ما هو عليه وينال حاقّ جوهرة ولبّ ذاته مجرّدا عن القشور والمقرّبات ؛ وأمّا الحسّ فلا يدرك جوهر الشيء مجرّدا عن قرائبها القريبة ، بل إنّما يدرك الأشياء مختلطة مشوبة بغيرها ؛ فلا يحسّ باللون ما لم يحسّ معه الطول والعرض والوضع والأين وامور اخرى خارجة عن حقيقة اللون.
وأيضا إدراك العقل يطابق ما عليه المدرك في الواقع ولا يتفاوت ، وإدراك الحسّ يتفاوت ؛ فيرى الشيء الواحد مختلفا في العظم والصّغر لأجل اختلاف القرب والبعد ؛ وقد يغلط بحيث يرى العظيم (١) في غاية العظمة صغيرا في غاية الصغر ؛ فإنّه يرى الشمس بقدر اترجّة (٢) مع أنّه يقرب مائة وسبعين مثلا لمقدار كرة الأرض والعقل إذا راعى القوانين المرآتية وخلص عن القوّة الوهمية لا يقربه الغلط والخطأ ؛ وقد تقدّم أيضا أنّ مدركات العقل الذوات المجرّدة النورية وذات الحقّ الأوّل الذي يصدر عنه كلّ كمال وجمال وبهاء وجلال والماهيّات الكلّية الأزلية ، ومدركات الحسّ الأجسام وعوارضها ولواحقها ؛ ولا ريب في أنّ المدرك كلّما كان أشرف وأكمل كان اللذّة أقوى وأتمّ ؛ فإذن لا قياس للذّات الحسّية إلى العقلية.
__________________
(١). س : العظيمة.
(٢). أترجة : ثمر شجر معروف ، ذو رائحة طيّبة.