اقتضى إفاضة الموجودات وترشّحها منه ؛ ففعل الله تعالى معلّل بالغاية إلّا أنّ الغاية نفس ذاته. فما ذهب إليه الحكماء من أنّ أفعال الله تعالى غير معلّلة بالغرض إنّما أرادوا به غاية هي غير نفس ذاته من كرامة أو محمدة أو لذّة أو إيصال نفع إلى ذاته أو غيره أو غير ذلك ممّا يترتّب على الفعل ؛ لأنّ الغرض بهذا المعنى يوجب استكمال الفاعل به والله تعالى متقدّس عن ذلك ، بل الحقّ أنّ كلّ فاعل يفعل ليس له غرض حقّ في ما دونه ولا قصد صادق لأجل معلوله ؛ لأنّ ما يكون لأجله قصد يكون ذلك المقصود أعلى من القصد بالضرورة ؛ فلو كان إلى معلول قصد صادق غير مظنون لكان القصد معطيا لوجود ما هو أكمل منه وهو محال ؛ وما يرى من وقوع القصد كثيرا إلى ما هو أحسن من القاصد وقصده فإنّما هو على سبيل الغلط والخفاء والجزاف وإلّا عند التحقيق والإتقان وصدق القصد والغرض الحقّ يكون الغرض والمقصود أكمل من القاصد.
فإن قيل : لو لم يكن للواجب غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها فكيف يحصل منه الوجود على غاية من الإتقان ونهاية من التدبير والإحكام ؛ ولا يمكن لأحد أن ينكر الآثار العجيبة والأفعال الدقيقة الحاصلة في العالم من تكوّن الأشياء على وجه تترتّب عليه الحكم والمصالح ، كما يظهر من التدبير في الآيات الآفاقية والأنفسية / A ١٤٦ / ومنافعها التي ظاهرة لكلّ ذي عين ظاهرة فضلا عن ذي عين باطنة ، كوجود الحاسّة للإحساس ومقدّم الدماغ للتخيّل ووسطه للتفكّر ومؤخّره للتذكّر والحنجرة للقوت والخيشوم لاستنشاق (١) الهواء والأسنان للمضغ والرية للتنفّس وغير ذلك من المصالح المودعة في بدن الإنسان والمنافع المشتملة عليه حركات الأفلاك وأوضاع مناطقها ومنافع النيّرين وساير الكواكب ممّا لا تفي بذكره الألسنة والدفاتر؟!
__________________
(١). س : للاستشاق.