الله سبحانه من دون قدرة وتمكّن للعباد فيها ؛ وهذا جبر صريح يبطل التكليف والثواب والعقاب والجنّة والنار ؛ فالموحّدون تبعوا آدم في قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١) والأشاعرة تبعوا الشيطان في قوله : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) (٢) وعلى هذا فما اعتقده العارفون من التوحيد الوجودي الأفعالي يكون أحد التوجيهات للأمر بين الأمرين الوارد عن أمّتنا الراشدين صلوات الله عليهم.
وحاصله : أنّ الأفعال مع كونها بأسرها مستهلكة في جنب فعله تعالى صادرة عن محالّها ؛ فالفعل ثابت للعبد لمباشرته إيّاه وصدوره منه وقيامه به ؛ فلا جبر ؛ ومسلوب عنه من حيث هو هو ومن حيث وجوده في نفسه ؛ إذ لو قطع النظر عن ارتباطه بوجود الحقّ لكان معدوما وكذا فعله ؛ إذ كلّ فعل متقوّم بوجود فاعله ؛ وعلى هذا فلا تفويض أيضا ؛ وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٣) حيث أسند الفعل إلى العبد ومع ذلك نفاه عنه وأسنده إلى الله ؛ فإنّ هذا إنّما يصحّ إذا كان الفعل بالاعتبار الظاهري وفي بادئ النظر صادرا عن العبد وبالاعتبار الواقعي وفي دقيق النظر صادرا عنه سبحانه.
وغير خفيّ أنّ هذا التوحيد الصحيح للأمر بين الأمرين وإن كان في نفسه أظهر وأحسن من التوجيهات التي أبداها العلماء الإمامية له ؛ إذ لا ريب في ثبوت الاعتبارين لفعل العبد واستهلاكه وعدميته بأحد الاعتبارين وثبوته وتحقّقه بالاعتبار الآخر إلّا أنّه لا تندفع به شبهة الجبرية ويرد عليه مثل ما يرد على ساير التوجيهات من لزوم الجبر وعدم التمكّن من ترك فعل أو فعل ما ترك أو لزوم الترجيح بلا مرجّح ؛ إذ نقول : صدور الفعل من العبد من حيث هو منسوب إليه وصادر عنه لا من حيث استهلاكه واضمحلاله في فعل الحقّ إن كان واجبا لازما بحيث لا يتمكّن / B ١١٧ / العبد من خلافه لزم الجبر وإن لم يكن واجبا وتمكّن العبد
__________________
(١). الأعراف / ٢٣.
(٢). الحجر / ٣٩.
(٣). الأنفال / ١٧.