في بعض طرق بغداد وجعل الناس يمرون به وهو ممدود الرجل بين بني هاشم وفتيانهم ، والقواد وأبنائهم ، ووجوه أهل بغداد ، فكل يسلم عليه فلا يقوم إلى أحد منهم ، ولا يقبض رجله إليه ، إذ أقبل شيخ راكبا على حمار مريسي ، وعليه ثوبان دبيقيان ، قميص ورداء ، قد تقنع به ورده على أذنيه فوثب إليه أبو نواس ، وأمسك الشّيخ عليه حماره واعتنقا ، وجعل أبو نواس يحادثه وهو قائم على رجليه ، فمكثا بذلك مليا حتى رأيت أبا نواس يرفع إحدى رجليه ويضعها على الأخرى مستريحا من الإعياء ، ثم انصرف الشّيخ ، وأقبل أبو نواس فجلس في مكانه ، فقال له بعض من بالحضرة : من هذا الشّيخ الذي رأيتك تعظمه هذا الإعظام ، وتجله هذا الإجلال؟ فقال : هذا إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية ، فقال له السائل : لم أجللته هذا الإجلال؟ وساعة منك عند الناس أكثر منه! قال : ويحك لا تفعل ، فو الله ما رأيته قط إلّا توهمت أنه سماوي وأنا أرضي.
أخبرنا علي بن الحسين ـ صاحب العبّاسي ـ أخبرنا علي بن الحسن الرّازيّ. أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي ، حدّثنا ابن أبي سعد. قال : حدّثني محمّد بن عبد الرّحمن بن معاوية المهلّبي. حدّثني أبو تمام. قال : تكتب من شعر أبي العتاهية خمسة أبيات ، فإن أحدا لم يشركه فيها ولا تهيأ لأحد مثلها قوله :
النّاس في غفلاتهم |
|
ورحى المنيّة تطحن |
والذي قال في أحمد بن يوسف :
ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى |
|
وأنّ الغنى يخشى عليه من الفقر |
وقوله في موسى أمير المؤمنين :
ولمّا استقلّوا بأثقالهم |
|
وقد أزمعوا بالّذي أزمعوا |
قرنت التفاتي بآثارهم |
|
وأتبعتهم مقلة تدمع |
وقوله :
هب الدّنيا تساق إليك عفوا |
|
أليس مصير ذاك إلى زوال؟! |
أخبرني علي بن أيّوب القمي ، أخبرنا محمّد بن عمران المرزباني ، أخبرنا إبراهيم ابن محمّد بن عرفة ، عن محمّد بن يزيد النّحويّ. قال : لا أعلم شيئا من غزل أبي العتاهية ومديحه يخلو من صنعة ، وربما كانت من القصيدة في موضعين ، فمن شعره الذي كان يستطرف قوله :