بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

الطوسي قدس‌سره نقل في قواعد العقائد أن الاسلام أعم في الحكم من الايمان لكنه في الحقيقة هو الايمان ، وهذه عبارته رحمه الله تعالى :

قالوا الاسلام أعم في الحكم من الايمان ، لان من أقر بالشهادتين كان حكمه حكم المسلمين ، لقوله تعالى « قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا » (١) وأما كون الاسلام في الحقيقة هو الايمان ، فلقوله تعالى « إن الدين عند الله الاسلام » (٢) ثم قال : واختلفوا في معناه يعني الايمان فقال بعض السلف كذا وقالت المعتزلة : اصول الايمان خمسة وعدها ، وقالت الشيعة : اصول الايمان ثلاثة وعدها أيضا وقال أهل السنة : هو التصديق بالله تعالى إما على ما تقدم تفصيله فليراجع. أقول ظاهره قوله رحمه‌الله : « قالوا » أي هؤلاء المختلفون في معنى الايمان كما يدل عليه قوله « واختلفوا » وظاهر هذا النقل يعطي أنه لانزاع في أن حقيقتهما واحدة والمغايرة إنما هي في الحكم فقط بمعنى أنا قد نحكم على شخص في ظاهر الشرع بكونه مسلما لاقراره بالشهادتين ولا نحكم عليه بالايمان حتى نعلم من حاله التصديق وما نقلناه من المذهبين الاولين يقتضي وقوع النزاع في الحقيقة والحكم.

أما أهل المذهب الاول وهم القائلون باتحادهما مطلقا صدقا ومفهوما أو صدقا فقط ، فانهم صرحوا باتحادهما في الحكم أيضا حيث قالوا : لا يصح في الشرع أن يحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم ، أو مسلم وليس بمؤمن ، ولا نعني بوحدتهما سوى هذا وأما أهل المذهب الثاني وهم القائلون بالتغاير ، فانهم صرحوا بتغايرهما صدقا ومفهوما وحكما ، حيث قالوا : إن حقيقة الاسلام هي الانقياد والاذعان باظهار الشهادتين ، سواء اعترف مع ذلك بباقي المعارف أم لا ، فيكون أعم مفهوما من الايمان ، فتبين مما حررناه أن المذاهب في بيان حقيقة الاسلام ثلاثة.

احتج أهل المذهب الاول بقوله تعالى « فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين » (٣) وجه الاستدلال أن غير « هذا للاستثناء بمعنى

__________________

(١) الحجرات : ١٣. (٢) آل عمران : ١٩.

(٣) الذاريات : ٣٥ و ٣٦.

٣٠١

إلا ، وهذا استثناء مفرغ متصل ، فيكون من الجنس إذ المعنى والله أعلم : فما وجدنا فيها بيتا من بيوت المؤمنين إلا بيتا من المسلمين ، وبيت المسلم إنما يكون بيت المؤمن إذا صدق المؤمن على المسلم كما هو مقتضى الاتحاد في الجنس إذ من المعلوم أن المراد من البيت هنا أهله لا الجدران ، على حد قوله تعالى واسئل القرية » (١) وصدق المؤمن على المسلم يقتضي كون الايمان أعم من الاسلام أو مساويا له ، لكن لا قائل بالاول فتعين الثاني ، واعترض بأن المصحح للاستثناء هو تصادق المستثنى والمستثنى منه في الفرد المخرج ، لا في كل فرد ، وهو يتحقق بكون الاسلام أعم كما يتحقق بكونه مساويا والامر هنا كذلك فانه على تقدير كون الايمان أخص يتصادق المؤمن والمسلم في البيت المخرج الموجود ، فانه بيت لوط عليه وعلى نبينا السلام على أن دلالة هذه الاية معارضة بقوله تعالى « قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا » فوصفهم تعالى بالاسلام حيث جوز لهم الاخبار عن أنفسهم به ، ونفى عنهم الايمان ، فدل على تغايرهما.

واحتج أهل المذهب الثاني على المغايرة بهذه الاية ، والتقريب ما تقدم في بيان المعارضة ، وبما تواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة رضي الله عن المؤمنين منهم أنهم كانوا يكتفون في الاسلام باظهار الشهادتين ثم بعد ذلك ينبهون المسلم على بعض المعارف الدينية التي يتحقق بها الايمان.

أقول : إن الاية الكريمة إنما تدل على المغايرة في الجملة وكما يجوز أن يكون بحسب الحقيقة ، يجوز أن يكون في الحكم دون الحقيقة ، كما اختاره أهل المذهب الثالث ، ويؤيد ذلك أن الله سبحانه لم يثبت لهم الاسلام صريحا ولا وصفهم به ، حيث لم يقل ولكن أسلمتم كما قال لم تؤمنوا ، بل أحال الاخبار به على مقالتهم فقال تعالى : « ولكن قولوا أسلمنا » وحينئذ فيجوز أن يكون المراد والله أعلم أنكم لم تؤمنوا حتى تدخل المعارف قلوبكم ولما تدخل ، لكن ما زعمتموه من الايمان فانما هو إسلام ظاهري ، يمكن الحكم عليكم به في ظاهر الشرع ، حيث أقررتم

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

٣٠٢

بألسنتكم دون قلوبكم. فلكم أن تخبروا عن أنفسكم وأما الاسلام الحقيقي فلم يثبت لكم عند الله تعالى كالايمان ، فلذا لم يخبر عنكم به ، وقد يظهر من ذلك الجواب عن الثاني أيضا.

إن قلت : إن الاسلام من الحقائق الاعبتارية للشارع ، كالايمان ، فلا يعلم إلا منه ، وحيث أذن لم في أن يخبروا عن أنفسهم بأنهم أسلموا مع أن الايمان لم يكن دخل قلوبهم كما دل عليه آخر الاية ، تدل على أنه لم يكن له حقيقة وراء ذلك عند الشارع ، وإلا لما جوز لهم ذلك الاخبار ، واحتمال المجاز يدفعه أن الاصل في الاطلاق الحقيقة ، ولزوم الاشتراك على تقدير الحقيقة ، يدفعه أنه متواطئ أو مشكك ، حيث بينا أن مفهومه هو الانقياد والاذعان بالشهادتين ، سواء اقترن بالمعارف أم لا ، فيكون إسلام الاعراب فردا منه.

قلت : لا ريب أنه لو علم عدم تصديق من أقر بالشهادتين لم يعتبر ذلك الاقرار شرعا ولم نحكم باسلام فاعله ، لانه حينئذ يكون مستهزئا أو مشككا ، وإنما حكم الشارع باسلامه ظاهرا في صورة عدم علمنا بموافقة قلبه للسانه ، بالنسبة إلينا تسهيلا ودفعا للحرج عنا ، حيث لا يعلم السرائر إلا هو ، وأما عنده تعالى فالمسلم من طابق قلبه لسانه كما قال تعالى « إن الدين عند الله الاسلام » (١) مع أن الدين لا يكون إلا مع الاخلاص لقوله تعالى « وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين » (٢) إلى قوله تعالى « وذلك دين القيمة ».

فالاسلام لا يكون إلا مع الاخلاص أيضا بقرينة أنه ذكر الاسلام معرفا و ذلك يفيد حصر الاسلام في الدين المخلص ، فكأن المعنى والله أعلم : لا إسلام إلا ما هو دين عند الله تعالى كما يقال زيد العالم أي لا غيره ، والفرق ظاهر بين أن يقال الدين المخلص إسلام ، أو هو الاسلام كما قررناه ، فعلم أن الاسلام اللساني ليس داخلا في حقيقة الاسلام عند الله ، والكلام إنما هو فيما يعد إسلاما وإيمانا عند الشارع لا عندنا ، بحيث لا يجتمع مع ضده الذي هو الكفر في موضع واحد

__________________

(١) آل عمران : ١٩. (٢) البينة : ٥.

٣٠٣

في زمان واحد ، والاقرار باللسان دون القلب يجامع الكفر فلا يكون إسلاما حقيقة ، ولعل هذا هو السر في إحالة الاخبار بالاسلام على قول الاعراب دون قوله تعالى ، كما أشرنا إليه سابقا ،

إن قلت : إذا لم يكن إسلام الاعراب إسلاما عند الله تعالى كان مغريا لهم بالكذب حيث أمرهم أن يخبروا عن أنفسهم بالاسلام فقال : « قولوا أسلمنا » وهو محال عليه تعالى.

قلت : إنما أمرهم أمرا إرشاديا بأن يخبروا بالاسلام الظاهري وهو حق في الظاهر ، فلم يكن مغريا لهم بالكذب. حيث لم يأمرهم بأن يخبروا بأنهم مسلمون عند الله تعالى بالاسلام مطلقا ، وقد تقدم ما يصلح دليلا لما ادعيناه من التخصيص ، على أنه يمكن أن يقال إن الله سبحانه وتعالى لم يأمرهم بالاخبار أصلا لا ظاهرا ، ولا غيره ، بل أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمرهم ، حيث قال تعالى « قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا » (١) أي ولكن قل لهم قولوا أسلمنا ، فالامر لهم بقول أسلمنا إنما هو من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا من الله تعالى لما تقرر في الاصول من أن الامر بالامر بالشئ ليس أمرا بذلك الشئ.

واحتج أهل المذهب الثالث على كل من جزءي مدعاهم أما على أن الاسلام أعم في الحكم فبآية الاعراب المتقدمة ، والتقريب ما تقدم ، لكن لا يرد عليهم شئ مما أوردناه على استدلال أهل المذهب الثاني بها لانهم يدعون دلالتها على مغايرة الاسلام للايمان حقيقة ، وهم يدعون المغايرة في الحكم ظاهرا دون الحقيقة ، بل ما ذكرناه من الايرادات محقق لاستدلالهم بها ، إذ لا يتم لهم بدونه كما لا يخفى على من أحاط بما ذكرناه في بيان معنى هذاه الاية مما من به الواهب الكريم.

إن قلت : إن الشارع حكم بايمان من أقر بالمعارف الاصولية ظاهرا وإن كان في نفس الامر غير معتقد لذلك ، إذا لم يطلع عليه ، على حد ما ذكرتم في الاسلام فكما أن الايمان والاسلام الاعتقاديين متحدان فكذا الظاهريان ، فما وجه عموم

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

٣٠٤

الاسلام في الحكم وما معناه؟.

قلت : الاسلام يكفي في الحكم به ظاهرا الاقرار بالشهادتين ، مع عدم علم الاستهزاء والشك من لمعتبر ، بخلاف الايمان ، فانه لا بد في الحكم به ظاهرا مع ذلك من الاعتراف بأنه يعتقد الاصول الخمسة ، مع إقراره بها ، أو يقتصر على الاقرار بها مع عدم علمنا منه بما ينافي ذلك من استهزاء أو شك ، فهو أخص حكما من الاسلام ، وهذا الذي ذكرناه يشهد به كثير من الاحاديث ، وحكم علماء الامامية أيضا باسلام أهل الخلاف وعدم إيمانهم ، يؤيد ما قلناه.

وأما على أن الاسلام في الحقيقة هو الايمان فبقوله تعالى « فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين » (١) الاية والتقريب ما تقدم في بيان استدلال أهل المذهب الاول بها ، والاعتراض الاعترض ، لكن ما ذكر هناك من المعارضة بآية الاعراب لا يرد هنا لانا بينا أنها إنما تدل على المغايرة في الحكم ، وهو لاينافي الاتحاد في الحقيقة وأما هناك فلما كان المدعى الاتحاد مطلقا حكما وحقيقة ، أمكن المعارضة بها في الجملة.

وقد تقدم في كلام المحقق الطوسي قدس‌سره : أنهم استدلوا على كون حقيقتهما واحدة بقوله تعالى إن الدين عند الله الاسلام ويمكن تقريره بوجهين أحدهما : أن الايمان هو الدين والدين هو الاسلام ، فالايمان هو الاسلام أما الكبرى فللاية وأما الصغرى فلقوله تعالى « ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه » (٢) ولا ريب أن الايمان مقبول من يبتغيه دينا للاجماع ، فيكون الايمان دينا فيكون هو الاسلام ، وفيه أنه لا يلزم من صحة حمل الاسلام عليه كونهما واحدا في الحقيقة لجواز كون المحمول أعم ، ويمكن الجواب بما ذكرناه سابقا من إفادة مثل ذلك حصر الاسلام في الدين ، لكن يرد على دليل الصغرى أن اللازم منه كون الايمان دينا أما كونه نفس الدين ليكون هو الاسلام ، فلا ، لجواز أن يكون جزءا منه أو جزئيا له ، أو شرعا كذلك ، ولا ريب أن جزء الشئ أو جزئيه أو شرطه

__________________

(١) الذاريات : ٣٥. (٢) آل عمران : ٨٥.

٣٠٥

يقبل معه ، وإن كان مغايرا له ، فعلم أن المراد من الغير في الاية الكريمة غير ذلك.

وأيضا يرد عليه : أن هذا الدليل إنما يستقيم على مذهب من يقول : إن الطاعات جزء من الايمان ، وذلك لان الظاهر أن الدين المحمول عليه الاسلام هو دين القيمة في قوله تعالى « وذلك دين القيمة » (١) والمشار إليه بذلك ما تقدم من الاخلاص في الدين ، مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

وثانيهما أن العبادات المعتبرة شرعا هي الدين ، والدين هو الاسلام ، والاسلام هو الايمان ، أما الاولى فلقوله تعالى « وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين » (٢) وأما الثانية فلقوله تعالى « إن الدين عند الله الاسلام » وأما الثالثة فلقوله تعالى « ومن يبتغ غير الاسلام دينا » الاية ، وقد تقدم بيان ذلك ، ويرد عليه جميع ما يرد على الوجه الاول ، ويزيد عليه أن النتيجة كون العبادات هي الايمان والمدعى كون الاسلام هو الايمان أو عكسه ، ولا ينطبق على المدعى. ولو سلم استلزامه للمدعى لاقتضاء المقدمة الثالث ذلك ، قلنا فبقية المقدمات مستدركة إذ يكفي أن يقال : الاسلام ، هو الايمان لقوله تعالى « ومن يبتغ » الاية.

أقول : قد عرفت أن هذا الاستدلال بوجهيه إنما يستقيم على مذهب من يجعل الطاعات الايمان أو جزءا منه ، فان كان المستدل به هؤلاء ، فذلك قد علم مع ما يرد عليه ، وإن كان غيرهم فهو ساقط الدلالة أصلا ورأسا ، ثم نقول على تقدير تسليم دلالة هذه الايات على اتحادهما : إن الحكم بعموم الاسلام في الحكم على مذهب من يجعل الطاعات الايمان ظاهرا أن الايات دلت على اتحادهما في الحقيقة عند الله تعالى ، وعلى هذا من لم يأت بالطاعات أو بعضها فلا دين له ، فلا إسلام ، فلا إيمان له عند الله تعالى ولا في الظاهر ، إذا لم يعرف منه ذلك.

وأما من اكتفى بالتدصيق في تحقق حقيقة الايمان ، وجعل الاتيان بالطاعات من المكملات ، فيلزم عليه بمقتضى هذه الايات أن يسلمه بأن يكون بين الاسلام

__________________

(١ و ٢) البينة : ٥.

٣٠٦

والايمان عموم من وجه ، لتحققهما فيمن صدق بالمسائل الاصولية ، وأتى بالطاعات مخلصا ، وانفراد الاسلام فيمن أقر بالشهادتين ظاهرا مع كونه غير مصدق بقلبه وانفراد الايمان فيمن صدق بقلبه بالمعارف ، وترك الطاعات غير مستحل ، فانه لا دين له حيث لم يقم الصلاة ولا آتى الزكاة كما هو المفروض ، فلا إسلام له ، لان الدين عند الله الاسلام ، وهو في غاية البعد والاستهجان ولم يذهب أحد إلى أنه قد يكون المكلف مؤمنا ولا يكون مسلما.

هذا إن اعتبرنا النسبة بين مطلق الاسلام والايمان حقيقيا أو ظاهريا وإن اعتبرنا النسبة بين الحقيقيين فقط أي ما هو إسلام وإيمان عند الله تعالى ، كانا متحدين عند من جعلهما الطاعات ، وعند من اكتفى بالتصديق يكون الايمان أعم مطلقا وهو أيضا غريب ، إذ لم يذهب إليه أحد ، ولا مخلص له عن هذا الالزام إلا بالتزامه إذ يدعي أن تارك الطاعات غير مستحل مسلم أيضا ويتأول الدين في قوله تعالى « وذلك دين القيمة » بالدين الكامل ، ويكون المراد بالدين في قوله تعالى : « إن الدين عند الله الاسلام » الدين الاصلي الذي لا يتحقق أصل الايمان إلا به ، وحينئذ فيكون الاسلام والايمان الحقيقيان متحدين أيضا عنده ، ويؤيد ذلك ما ذكره بعضهم من أن الاستدلال بآية الاخلاص إنما يتم باضمار لفظ المذكر ، ونحوه ، فان الاشارة في قوله تعالى : « وذلك دين القيمة » يرجع إلى متعدد ، وهو العبادة مع الاخلاص في الدين ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، بل مع جميع الطاعات ، بناء على أنه اكتفى عن ذكرها بذكر الاعظم منها ، وأنها قد ذكرت إجمالا في قوله تعالى : « ليعبدوا » وذكر إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة لشدة الاعتناء بهما فكان حق الاشارة أن يكون « اولئك » ونحوه تطابقا بين الاشارة والمشار إليه ، ولما كانت الاشارة مفردة ارتكب المذكور ، وحيث لا بد من الاضمار فللخصم أن يضمر الاخلاص أو التدين المدلول عليهما بقوله « مخلصين له الدين » والترجيح لهذه ، لقربه من المعنى اللغوى للايمان ، وبعد ذلك فلم يكن في الاية دلالة على أن الطاعات هي الايمان ، فلم يتكرر الاوسط في قولنا عبادة الله تعالى مع الاخلاص وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كالدين

٣٠٧

والدين هو الاسلام ، والاسلام هو الايمان ، لقوله تعالى « ومن يبتغ » الاية فالطاعات هي الاسلام والايمان ، لانه يقال : لا نسلم أن المراد من الدين في المقدمة الاولى ما يراد في المقدمة الثانية.

وقد ظهر من هذا تزييف الاستدلال بهذه الايات على كون الطاعات معتبرة في حقيقة الايمان ، لانه لم يناف ما نحن فيه من اتحاد الاسلام والايمان ، لكن لا يخفى أنه مناف لما قد بيناه من أن البحث كله على تقدير تسليم دلالة هذه الايات وما ذكر من التأويل مناف للتسليم المذكور ، ويمكن الجواب عنه فتأمل.

وههنا بحيث يصلح لتزييف الاستدلال بهذه الايات على المطلبين : مطلب كون الطاعات معتبرة في حقيقة الايمان ، ومطلب اتحادهما في الحقيقة فنقول : لو سلمنا أن المراد من الدين في الايات الثلاث واحد وأن الطاعات معتبرة في أصل حقيقة الاسلام ، فلا يلزم أن تكون معتبرة في أصل حقيقة الايمان ، ولا أن يكون الاسلام والايمان متحدين حقيقة ، وذلك لان الاية الكريمة إنما دلت على أن من ابتغى أي طلب غير دين الاسلام دينا له فلن يقبل منه ذلك المطلوب ، ولم تدل على أن من صدق بما أوجبه الشارع عليه ، لكنه ترك بعض الطاعات غير مستحل أنه طالب لغير دين الاسلام ، إذ ترك الفعل يجتمع مع طلبه ، لعدم المنافاة بينهما ، فان الشخص قد يكون طالبا للطاعة مريدا لها ، لكنه تركها إهمالا وتقصيرا ولا يخرج بذلك عن ابتغائها ، وقد تقدم هذا الاعتراض في المقالة الاولى على دليل القائلين بالاتحاد.

إن قلت : على تقدير تسليم اتحاد معنى الدين في الايات فما يصنع من اكتفى في الايمان بالتصديق ، فيما إذا صدق شخص بجميع ما أمره الله تعالى به ولو إجمالا لكنه لم يفعل بعد شيئا من الطاعات لعدم وجوبها عليه ، كما لو توقفت على سبب أو شرط ولم يحصل أووجد مانع من ذلك فانه يسمى مؤمنا ولا يسمى مسلما لعدم الاتيان بالطاعات التي هي معتبرة في حقيقة الاسلام ، وكذا الحكم على من وجبت عليه وتركها تقصيرا غير مستحل مع كونه مصدقا بجميع ما امر به ومريدا للطاعات

٣٠٨

فانه يسمي حينئذ مؤمنا لا مسلما ، ويلزم الاستهجان المذكور سابقا.

قلت : الامر على ما ذكرت ، ولا مخلص من هذا إلا بالتزام ارتكاب عدم تسليم اتحاد معنى الدين في الايات ، أو التزامه ، ونمنع من استهجانه ، فانه لما كان حصول التصديق مع ترك الطاعات فردا نادر الوقوع ، لم تلتفت النفس إليه فلذا لم يتوجهوا إلى بيان النسبة بين الاسلام والايمان على تقديره ، وبالجمله فظواهر الايات تعطي قوة القول بأن الاسلام والايمان الحقيقيان تعتبر فيهما الطاعات ، وتحقق حصول الايمان في صورة حصول التصديق قبل وجوب الطاعات يفيد قوة القول بأن الايمان هو التصديق فقط والطاعات مكملات.

انتهى كلامه ضوعف في الجنة إكرامه ، ولم نتعرض لتبيين ما حققه وما يخطر بالبال في كل منها لخروجه عن موضع كتابنا وفي بالي ـ إن فرغني الله تعالى عن بعض ما يصدني عن الوصول إلى آمالي ـ أن أكتب في ذلك كتابا مفردا إنشاء الله تعالى ، وهو الموفق للخير والصواب ، وإليه المرجع والمآب.

٢٥

* ( باب ) *

* «( نسبة الاسلام ) »*

١ ـ مع ، لى : عن ما جيلويه ، عن عمه ، عن البرقي ، عن أبيه ، عن محمد بن يحيى الخزاز ، عن غياث بن إبراهيم ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لانسبن الاسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي : الاسلام هو التسليم ، والتسليم هو التصديق ، والتصديق هو اليقين ، واليقين هو الاداء ، والاداء هو العمل ، إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ، ولم يأخذه عن رأيه أيها الناس دينكم دينكم ، تمسكوا به لا يزيلكم أحد عنه ، لان السيئة فيه خير من الحسنة في غيره لان (١) السيئة فيه تغفر ، والحسنة في غيره

__________________

(١) تعليل لقوله عليه‌السلام : « لان السيئة فيه خير من الحسنة في غيره » وذلك لان

٣٠٩

لا تقبل (١).

بيان : « دينكم » نصب على الاغراء ، أي خذوا دينكم وتمسكوا به ، قوله عليه‌السلام : « لان السيئة فيه تغفر » أقول : يحتمل وجهين الاول أن يكون مبنيا على أن العمل غير المقبول ربما يعاقب عليه ، فانه كالصلاة بغير وضوء ، فهو بدعة يستحق عليها العقاب وأيضا ترك العمل الذي وجب عليه ، لانه لم يأت به مع شرائطه فيستحق عقابين أحدهما بفعل العمل المبتدع ، وثانيهما بترك العمل المقبول ، و هو لعدم الايمان لا يستحق العفو ، والسيئة من المؤمن مما يمكن أن يغفر له إن لم يوجب له المغفرة ، فهذه السيئة خير من تلك الحسنة ، وأقرب إلى المغفرة ، و الثاني أن يكون المراد خيرية المؤمن المسيئ بالنسبة إلى المخالف المحسن في مذهبه لان الاول يمكن المغفرة في حقه ، ومع عدمها لا يدوم عقابه ، بخلاف المخالف المتعبد ، فانه لا تنفعه عبادته ، ويخلد في النار بسوء اعتقاده ، وكلاهما مما خطر بالبال وكأن الاول أظهر.

٢ ـ ما : باسناد المجاشعي ، عن الصادق ، عن آبائه ، عن على عليه‌السلام قال : الاسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الاقرار والاقرار هو الاداء ، والاداء هو العمل (٢).

__________________

السيئة في دين الاسلام مغفور عنها لقوله تعالى : « ان الحسنات يذهبن السيئات » بل صاحبها موعود بالجنة لقوله تعالى : « ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما » أما الحسنة في غيره فليست بمقبولة حتى يثاب عليها ، بل هو خاسر في عمله لقوله تعالى : « ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه ، وهو في الاخرة من الخاسرين ».

ولا يذهب عليك ان كلامه عليه‌السلام هذا مبتن على كون السيئة بمعنى الصغائر كما هو الظاهر من المقابلة في قوله تعالى : « ان تجتنبوا » الخ فان السيئات جعلت في مقابلة الكبائر فكل ما كانت كبيرة فهى من الموبقات التى وعد عليها النار ، وكل ما كانت صغيرة وبعبارة أخرى سيئة فهى مكفرة لهذه الامة.

(١) معانى الاخبار ص ١٨٥ ، أمالى الصدوق ص ٢١١.

(٢) أمالى الطوسى ج ٢ ص ١٣٧ وفيه : الاداء هو العلم.

٣١٠

٣ ـ فس : عن محمد بن علي البغدادي رفع الحديث إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنه قال : لانسبن الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ولا ينسبها أحد بعدي : الاسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الاقرار ، والاقرار هو الاداء ، والاداء هو العمل ، المؤمن أخذ دينه عن ربه إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، وإن الكافر يعرف كفره بانكاره ، أيها الناس دينكم فان الحسنة فيه خير من الحسنة في غيره ، وإن السيئة فيه تغفر ، وإن الحسنة في غيره لا تقبل (١).

٤ ـ سن : عن بعض أصحابنا رفعه قال : قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : لانسبن اليوم الاسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلا بمثل ذلك : الاسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الاقرار ، و الاقرار هو العمل ، والعمل هو الاداء إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ، ولكن أتاه عن ربه وأخذ به ، إن المؤمن يرى يقينه في عمله ، والكافر يرى إنكاره في عمله فو الذي نفسي بيده ما عرفوا أمر ربهم ، فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين بأعمالهم الخبيثة (٢).

كا : عن العدة ، عن البرقي ، عن بعض أصحابنا مثله إلا أن فيه لانسبن الاسلام إلى قوله : أتاه من ربه فأخذه ، إلى قوله : ما عرفوا أمرهم (٣).

بيان : « لانسبن » يقال نسبت الرجل كنصرت أي ذكرت نسبه ، والمراد بيان الاسلام ، والكشف التام عن معناه ، وقيل : لما كان نسبة شئ إلى شئ يوضح أمره وحاله ، وما يؤول هو إليه ، اطلق هنا على الايضاح من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم.

__________________

(١) تفسير القمى : ٩١.

(٢) المحاسن ص ٢٢٢.

(٣) الكافى ج ٢ ص ٤٥.

٣١١

وأقول : كأن المراد بالاسلام هنا المعنى الاخص منه المرادف للايمان كما يومئ إليه قوله « إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه » وقوله « إن المؤمن يرى يقينه في عمله » وحاصل الخبر أن الاسلام هو التسليم والانقياد. والانقياد التام لا يكون إلا باليقين ، واليقين هو التصديق الجازم ، والاذعان الكامل بالاصول الخمسة أو تصديق الله ورسوله والائمة الهداة ، والتصديق لا يظهر أولا يفيد إلا بالاقرار الظاهري ، والاقرار التام لا يكون أولا يظهر إلا بالعمل بالجوارح ، فان الاعمال شهود الايمان ، والعمل الذي هو شاهد الايمان هو أداء ما كلف الله تعالى به لا اختراع الاعمال وإبداعها كما تفعله المبتدعة ، والاداء اسم المصدر الذي هو التأدية ، ويحتمل أن يكون المراد بالاداء تأديته وإيصاله إلى غيره ، فيدل على أن التعليم ينبغي أن يكون بعد العمل ، وأنه من لوازم الايمان ، فظهر أن الحمل في بعضها حقيقي وفي بعضها مجازي.

وقيل : أشار عليه‌السلام إلى أن الاسلام وهو دين الله الذي أشار إليه جل شأنه بقوله « إن الدين عند الله الاسلام » (١) يتوقف حصوله على ستة امور ، والعبارة لا تخلو من لطف ، وهو أنه جعل التصديق الذي هو الايمان الخالص الحقيقي بين ثلاثة وثلاثة واشتراك الثلاثة التي قبله في أنها من مقتضياته وأسباب حصوله ، و اشتراك الثلاثة التي بعده في أنها من لوازمه وآثاره وثمراته ، وبالجملة جعل التصديق الذي هو الايمان وسطا وجعل أول مراتبه الاسلام ، ثم التسليم ثم اليقين وجعل أول مراتبه من جهة المسببات الاقرار بما يجب الاقرار به ، ثم العمل بالجوارح ، ثم أداء ما افتراض الله به انتهى.

إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه كأنه بيان لما بين سابقا وقرره من أن الاسلام لا يكون إلا بالتسليم لائمة الهدى ، والانقياد لهم فيما أمروا به و هوا عنه ، وأنه لا يكون ذلك إلا بتصديق النبي والائمة صلوات الله عليهم ، و الاقرار بما صدر عنهم ، وأداء الاعمال على نهج ما بينوه لان الايمان ليس أمرا

__________________

(١) آل عمران : ١٩.

٣١٢

يمكن اختراعه بالرأي والنظر ، بل لابد من الاخذ عمن يؤدي عن الله « فالمؤمن يرى » على بناء المجهول أو المعلوم من باب الافعال « يقينه » بالرفع أو النصب « في عمله » بأن يكون موافقا لما صدر عنهم ، ولم يكن مأخوذا من الاراء والمقاييس الباطلة والكافر بعكس ذك « ما عرفوا » أي المخالفون أو المنافقون « أمرهم » أي امور دينهم فروعا واصولا فضلوا وأضلوا لعدم اتباعهم أئمة الهدى ، وأخذهم العلم منهم « فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين بأعمالهم الخبيثة » المخالفة لمحكمات الكتاب والسنة ، المبنية على آرائهم الفاسدة ، والمخالفون داخلون في الاول أو في الثاني ، بل فيهما حقيقة.

فأقول روى السيد الرضي رضي‌الله‌عنه في نهج البلاغة جزءا من هذا الخبر هكذا وقال عليه‌السلام : لانسبن الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الاسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الاقرار ، والاقرار هو الاداء ، والاداء هو العمل (١).

وقال ابن أبي الحديد : خلاصة هذا الفصل يقتضي صحة مذهب أصحابنا المعتزلة في أن الاسلام والايمان عبارتان عن معنى واحد ، وأن العمل داخل في مفهوم هذه اللفظة ، ألا تراه جعل كل واحدة من اللفظات قائمة مقام الاخرى في إفادة المفهوم كما يقال الليث هو الاسد والاسد هو السبع والسبع هو أبوالحارث فلا شبهة أن الليث يكون أبا الحارث أي أن الاسماء مترادفة ، فاذا كان أول اللفظات الاسلام ، وآخرها العمل ، دل على أن العمل هو الاسلام ، وهكذا يقول أصحابنا : إن تارك العمل أي تارك الواجب لا يسمى مسلما.

فان قلت : كيف يدل على أن الاسلام هو الايمان؟ قلت : لان كل من قال إن العمل داخل في مسمى الاسلام ، قال إن الاسلام هو الايمان.

فان قلت : لم يقل عليه‌السلام كما تقوله المعتزلة ، لانهم يقولون الاسلام اسم واقع على العمل وغيره من الاعتقاد والنطق باللسان ، وهو جعل الاسلام هو العمل.

__________________

(١) نهج البلاغة عبده ط مصر ج ٢ ص ١٧١ ، تحت الرقم ١٢٥ من الحكم.

٣١٣

قلت : لا يجوز أن يريد غيره ، لان لفظ العمل يشمل الاعتقاد والنطق باللسان وحركات الاركان بالعبادات ، إذ كل ذلك عمل وفعل ، وإن كان بعضه من أفعال القلوب ، وبعضه من أفعال الجوارح ، والقول بأن الاسلام هو العمل بالاركان خاصة لم يقل به أحد ، انتهى (١).

وقال ابن ميثم : هذا قياس مفصول مركب من قياسات (٢) طويت نتائجها وينتج القياس الاول أن الاسلام هو اليقين ، والثاني أنه التصديق ، والثالث أنه الاقرار ، والرابع أنه الاداء ، والخامس أنه العمل أما المقدمة الاولى فلان الاسلام هو الدخول في الطاعة ، ويلزمه التسليم لله ، وصدق اللازم على ملزومه ظاهر ، وأما الثانية فلان التسليم الحق إنما يكون ممن تيقن استحقاق المطاع للتسليم له ، فاليقين من لوازم التسليم لله ، وأما الثالثة فلان اليقين بذلك مستلزم للتصديق بما جاء به على لسان رسوله ، من وجوب طاعته ، فصدق على اليقين به أنه تصديق له ، وأما الرابعة فلان التصديق لله في وجوب طاعته إقرار بصدق الله ، وأما الخامسة فلان الاقرار والاعتراف بوجوب أمر يستلزم أداء المقر المعترف لما أقر به ، وكان إقراره أداء لازما ، السادسة أن أداء ما اعترف به لله من الطاعة الواجبة لا يكون إلا عملا ، ويؤول حاصل هذا الترتيب إلى إنتاج أن الاسلام هو العمل لله ، بمقتضى أوامره ، وهو تفسير بالخاصة كما سبق بيانه انتهى (٣) وكأن ما ذكرنا أنسب وأوفق.

وقال الكيدري رحمه‌الله : « الاسلام هو التسليم » يعني : الدين هو الانقياد للحق والاذعان له « والتسليم هو اليقين » أي صادر عنه ولازم له ، فكأنه هو من فرط تعلقه به « والتصديق هو الاقرار » أي إقرار الذهن وحكمه « والاقرار هو الاداء » أي مستلزم للاداء وشديد الشبه بالعلة له ، لان من تيقن حقية الشئ ، وأن

__________________

(١) شرح النهج لابن أبى الحديد ج ٤ ص ٣٠٢.

(٢) يعنى بالمفصول : المفصول النتائج ، وهى من اقسام القياس المركب.

(٣) شرح النهج لابن ميثم البحرانى ص ٢٥٦.

٣١٤

مصالحه منوطة بفعله ، ومفاسده مترتبة على تركه ، كان ذلك مقويا لداعيه على فعله غاية التقوية يعني من حق المسلم الكامل في إسلامه أن يجمع بين علم اليقين ، و العمل الخالص ، ليحط رحله في المحل الارفع ، ويجاور الرفيق الاعلى.

وقال الشهيد الثاني رفع الله درجته في رسالة حقائق الايمان بعد إيراد هذا الكلام من أمير المؤمنين عليه‌السلام ما هذا لفظه : البحث عن هذا الكلام يتعلق بأمرين الاول ما المراد من هذا النسبة؟ الثاني ما المراد من هذا المنسوب؟

أما الاول فقد ذكر بعض الشارحين أن هذه النسبة بالتعريف أشبه منها بالقياس ، فعرف الاسلام بأنه التسليم لله ، والدخول في طاعته ، وهو تفسير لفظ بلفظه أعرف منه ، والتسليم بأنه اليقين ، وهو تعريف بلازم مساو ، إذ التسليم الحق إنما يكون ممن تيقن صدق من سلم له ، واستحقاقه التسليم ، واليقين بأنه التصديق أي التصديق الجازم المطابق البرهاني ، فذكر جنسه ونبه بذلك على حده أو رسمه والتصديق بأنه الاقرار بالله ورسله ، وما جاء من البينات وهو تعريف لفظ بلفظ أعرف ، والاقرار بأنه الاداء أي أداء ما أقر به من الطاعات ، وهو تعريف بخاصة له ، والاداء بأنه العمل ، وهو تعريف له ببعض خواصه انتهى.

أقول : هذا بناء على أن المراد من الاسلام المعرف في كلامه عليه‌السلام ما هو الاسلام حقيقة عند الله تعالى في نفس الامر أو الاسلام الكامل عند الله تعالى أيضا و إلا فلا يخفى أن الاسلام يكفي في تحققه في ظاهر الشرع الاقرار بالشهادتين ، سواء علم من المقر التصديق بالله تعالى والدخول في طاعته أم لا؟ كما صرحوا به في تعريف الاسلام في كتب الفروع وغيرها ، فعلم أن الحكم بكون تعريف الاسلام بالتسليم لله الخ تعريفا لفظيا ، إنما يتم على المعنى الاول ، وهو الاسلام في نفس الامر أو الكامل.

ويمكن أن يقال إن التعريف حقيقي وذلك لان الاسلام لغة هو مطلق الانقياد والتسليم ، فاذا قيد التسليم بكونه لله تعالى والدخول في طاعته كان بيانا للماهية التي اعتبرها الشارع إسلاما فهو من قبيل ما ذكر جنسه ونبه على حده

٣١٥

أو رسمه.

وأقول أيضا : في جعله الاقرار بالله تعالى إلى آخره تعريف لفظ بلفظ أعرف للتصديق بحث لا يخفى لان المراد من التصديق المذكور هنا القلبي لا اللساني حيث فسره بأنه الجازم المطابق الخ والاقرار المراد منه الاعتراف باللسان ، إذ هو المتبادر منه ، ولذا جعله بعضهم قسيما للتصديق في تعريف الايمان ، حيث قال : هو التصديق مع الاقرار وحينئذ فيكون بين معنى اللفظين غاية المباينة ، فكيف يكون تعريف لفظ بلفظ؟ اللهم إلا أن يراد من الاقرار بالله ورسله مطلق الانقياد والتسليم بالقلب واللسان ، على طريق عموم المجاز ، ولا يخفى ما فيه.

والذي يظهر لي أنه تعريف بلازم عرفي ، وذلك لان من أذعن بالله و رسله وبيناتهم لا يكاد ينفك عن إظهار ذلك بلسانه ، فان الطبيعة جبلت على إظهار مضمرات القلوب ، كما دل عليه قوله عليه‌السلام « ما أضمر أحدكم شيئا إلا وأظهره الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه » (١) ولما كان هذا الاقرار هنا مطلوبا للشارع مع كونه في حكم ما هو من مقتضيات الطبيعة ، نبه عليه‌السلام على أن التصديق هو الاقرار مع تأكيد طلبه ، حتى كأن التصديق غير مقبول إلا به ، أو غير معلوم للناس إلا به ، وكذا أقول في جعله الاداء خاصة للاقرار ، فان خاصة الشئ لا تنفك عنه ، والاداء قد ينفك عن الاقرار ، فان المراد من الاداء هنا عمل الطاعات ، والاقرار لا يسلتزمه ، ويمكن الجواب بأنه عليه‌السلام أراد من الاقرار الكامل فكأنه لا يصير كاملا حتى يردفه بالاداء الذي هو العمل.

وأما الثانى : فقد علم من هذه النسبة الشارحة [ أن ] المنسوب أي المشروح هو الاسلام الكامل أو ما هو إسلام عند الله تعالى بحيث لا يتحقق بدون الاسلام في الظاهر ، وعلم أيضا أن هذا الاسلام هو الايمان إما الكامل ، أو ما لا يتحقق حقيقته المطلوبة للشارع في نفس الامر إلا به ، لكن الثاني لا ينطبق إلا على مذهب من قال بأن حقيقة الايمان هو تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالاركان ، وقد عرفت تزييف

__________________

(١) نهج البلاغة تحت الرقم ٢٥ من الحكم.

٣١٦

ذلك فيما تقدم ، وأن الحق عدم اعتبار جميع ذلك في أصل حقيقة الايمان ، نعم هو معتبر في كماله ، وعلى هذا فالمنسوب إن كان هو الاسلام الكامل كان الايمان والاسلام الكاملان واحدا ، وأما الاصليان فالظاهر اتحادهما أيضا مع احتمال التفاوت بينهما ، وإن كان هذا المنسوب ما اعتبره الشارع في نفس الامر إسلاما لا غيره ، لزم كون الايمان أعم من الاسلام ، ولزم ما تقدم من الاستهجان ، فيحصل من ذلك أن الاسلام إما مساو للايمان ، أو أخص ، وأما عمومه فلم يظهر له من ذلك احتمال إلا على وجه بعيد فليتأمل.

٢٦

( باب الشرايع )

١ ـ سن : عن أبي إسحاق الثقفي ، عن محمد بن مروان ، عن أبان بن عثمان عمن ذكره ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى أعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله شرايع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى : التوحيد ، والاخلاص ، وخلع الانداد ، والفطرة والحنيفية السمحة ، لارهبانية ولا سياحة ، أحل فيها الطيبات ، وحرم فيها الخبيثات ووضع عنهم إصرهم ، والاغلال التي كانت عليهم ، فعرف فضله بذلك ثم افترض عليها فيه الصلاة والزكاة والصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، و الحلال والحرام ، والمواريث والحدود والفرائض والجهاد في سبيل الله وزاده الوضوء وفضله بفاتحة الكتاب وبخواتيم سورة البقرة والمفصل وأحل له المغنم والفئ ، ونصره بالرعب وجعل له الارض مسجدا وطهورا ، وأرسله كافة إلى الابيض والاسود والجن والانس ، وأعطاه الجزية وأسر المشركين وفداهم ثم كلف مالم يكلف أحدا من الانبياء أنزل عليه سيفا من السماء في غير غمد ، و قيل له : « قاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ».

عباس بن عامر : وزاد فيه بعضهم : فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ، يعني الولاية (١).

__________________

(١) المحاسن ص ٢٨٧ والاية في النساء : ٨٤.

٣١٧

كا : عن علي ، عن أبيه ، عن البزنطي ; والعدة ، عن البرقي ، عن إبراهيم بن محمد الثقفي ، عن محمد بن مروان جميعا ، عن أبان مثله إلا أن فيه والفطرة الحنيفية ، وحرم فيها الخبائث ، إلى قوله ثم افترض عليه فيها الصلاة (١)

تبيين : قوله عليه‌السلام « شرايع نوح » يحتمل أن يكون المراد بالشرايع اصول الدين ، ويكون التوحيد والاخلاص وخلع الانداد بيانا لها « والفطرة الحنيفية » معطوفة على الشرايع وإنما خص عليه‌السلام ما به الاشتراك بهذه الثلاثة ، مع اشتراكه عليه‌السلام معهم في كثير من العبادات ، لاختلاف الكيفيات فيها ، دون هذه الثلاثة ولعله عليه‌السلام لم يرد حصر المشتركات فيما ذكر ، لعدم ذكر سائل اصول الدين كالعدل والمعاد ، مع أنه يمكن إدخالها في بعض ما ذكر ، لا سيما الاخلاص بتكلف (٢).

ويمكن أن يكون المراد منها الاصول ، واصول الفروع المشتركة ، وإن اختلفت في الخصوصيات والكيفيات ، وحينئذ يكون جميع تلك الفقرات إلى قوله عليه‌السلام « وزاده » بيانا للشرايع ، ويشكل حينئذ ذكر الرهبانية والسياحة ، إذ المشهور أن عدمهما من خصائص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا أن يقال المراد عدم الوجوب وهو مشترك أو يقال إنهما لم يكونا في شريعة عيسى عليه‌السلام أيضا وإن استشكل بالجهاد وأنه لم يجاهد عيسى عليه‌السلام فالجواب أنه يمكن أن يكون واجبا عليه لكن لم يتحقق شرائطه ، و لذا لم يجاهد ، ولعل قوله عليه‌السلام « زاده وفضله » بهذا الوجه أوفق ، وكأن المراد بالتوحيد نفي الشريك في الخلق ، وبالاخلاص نفي الشريك في العبادة ، و خلع الانداد تأكيد لهما ، أو المراد به ترك اتباع خلفاء الجور وأئمة الضلالة أو نفي الشرك الخفي ، أو المراد بالاخلاص نفي الشرك الخفي وبخلع الانداد نفي الشريك في استحقاق العبادة ، والانداد جمع ند ، وهو مثل الشئ الذي يضاده في اموره ، ويناده أي يخالفه.

والفطرة ملة الاسلام التي فطر الله الناس عليها ، كما مر ، والحنيفية : المائلة

__________________

(١) الكافى ج ٢ ص ١٧.

(٢) والذى يظهر لى من الخبر أن اولى العزم من الرسل وهم خمسة كانوا صاحب

٣١٨

من الباطل إلى الحق ، أو الموافقة لملة إبراهيم عليه‌السلام قال في النهاية : الحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم وأصل الحنف الميل ، ومنه الحديث بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ، وفي القاموس : السمحة الملة التي ما فيها ضيق.

وفي النهاية : فيه لا رهبانية في الاسلام ، وهي من رهبنة النصارى ، وأصله من الرهبة الخوف ، كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا ، وترك ملاذها و الزهد فيها ، والعزلة عن أهلها ، وتعمد مشاقها ، حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب ، فنفاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الاسلام ونهى المسلمين عنها انتهى.

وقال الطبرسي قدس‌سره في قوله تعالى : « ورهبانية ابتدعوها » (١) : هي الخصلة من العبادة يظهر فيها معنى الرهبة إما في لبسة ، أو انفراد عن الجماعة أو غير ذلك من الامور التي يظهر فيها نسك صاحبه ، والمعنى ابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم ، وقيل إن الرهبانية التي ابتدعوها في رفض النساء ، واتخاذ الصوامع عن قتادة ، قال : وتقديره ورهبانية ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها ، وقيل إن الرهبانية التي ابتدعوها لحاقهم بالبراري والجبال في خبر مرفوع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فما رعوها الذين بعدهم حق رعايتها ، وذلك لتكذيبهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ابن عباس ، وقيل : إن الرهبانية

__________________

شريعة ولكن اختص كل واحد منهم لاقتضاء الجو والمحيط بخصيصة ممتازة ظهر فيها كونه صاحب عزم وارادة كما خصص كل واحد منهم بمعجزة خاصة تظهره على أهل زمانه.

فقد قام نوح عليه‌السلام في جو الشرك وأهل الاشراك فخص بالتوحيد وكان جل سعيه وراء ذلك ، وقام ابراهيم عليه‌السلام بالاخلاص في العبادة وموسى بخلع الانداد مثل فرعون ذى الاوتاد ، وعيسى بالفطرة وتطهير الوجدان ، وخص محمد صلى الله عليه وآله بالحنيفية السمحة ، لا رهبانية ولا سياحة : وهى احلال الطيبات وتحريم الخبائث إلى آخر ما ذكر عليه‌السلام فتفطن.

(١) الحديد : ٢٧.

٣١٩

هي الانقطاع عن الناس للانفراد بالعبادة « ما كتبناها » أي ما فرضناها « عليهم » وقال الزجاج إن تقديره « ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله » وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر الله ، لهذا وجه ، قال : وفيها وجه آخر جاء في التفسير أنهم كانوا يرون من ملوكهم مالا يصبرون عليه ، وفاتخذوا أسرابا وصوامع ، وابتدعوا ذلك ، فلما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع ، ودخلوا عليه ، لزمهم إتمامه كما أن الانسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفرض عليه لزمه أن يتمه.

قال : وقوله « فما رعوها حق رعايتها » على ضربين أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم ، والاخر وهو الاجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يؤمنوا به ، وكانوا تاركين لطاعة الله ، فما رعوها [ أي ] تلك الرهبانية حق رعايتها ودليل ذلك قوله « فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم » يعني الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « وكثير منهم فاسقون » أي كافرون انتهى كلام الزجاج.

ويعضد هذا ما جاءت به الرواية عن ابن مسعود ، قال : كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على حمار فقال : يا ابن ام عبد ، هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل!! الرهبانية؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه‌السلام يعملون بمعاصي الله ، فغضب أهل الايمان فقاتلوهم فهزم أهل الايمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا هؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه ، فتعالوا نتفرق في الارض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه‌السلام يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ، ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الاية « ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم » إلى آخرها ثم قال يا ابن ام عبد أتدري ما رهبانية امتي؟ قلت : الله ورسله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة.

وفي حديث آخر عن ابن مسعود ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فاولئك هم الهالكون انتهى (١)

__________________

(١) مجمع البيان ج ٩ ص ٢٤٣.

٣٢٠