البعيدة ، من ظهور قدرة الله وحكمته ورحمته ما لا يخفى على ذي لبّ ، حيث إنّه لو لا تبعيّة السّفن بتعليم الله وجريانها في البحار ، وحفظهما من تلاطم الأمواج ، ووكوف الأمطار (١) ، ومصادمة الحيوانات العظيمة ، والجبال والأشجار من خرق الألواح ، ومخالفة عواصف الرّياح ، لما وصلت سفينة إلى ساحل سليمة ، ولما كثرت في البلاد نعمة ووقع (٢) الخلق في مشقّة عظيمة وكلفة وخيمة.
﴿وَ﴾ كذا في ﴿ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ﴾ المطلّة أو من جهة العلوّ ، الأمطار التي تكون ﴿مِنَ﴾ جنس ﴿ماءٍ﴾ عظيم النّفع به حياة كلّ شيء وبقاؤه ورزقه ، فإنّ دلالة خلق الماء البارد العذب وإنزاله من السّماء حتّى يحيط بجميع الأرض على كمال القدرة والحكمة أوضح من أن يحتاج إلى البيان.
في أنّ غالب الأمطار نازل من السماء ، لا أنّ كلّها متكوّن من الأبخرة
ثمّ اعلم أنّ ظاهر كثير من الآيات والأخبار أنّ المطر نازل من السّماء المعروفة إلى السّحاب ، ومنه إلى الأرض.
وقال الطّبيعيّون : إنّه من أبخرة متصاعدة من الأرض إلى الجوّ البارد بتأثير الشمس فيها فتبرد حينئذ وتنقلب بذرّات الماء فتتّصل الذّرّات فتكون قطرات ، وليس السّحاب إلّا تلك الأبخرة المتراكمة. وادّعوا أنّه محسوس لمن مارس ، وهذا القول وإن كان في نفسه غير بعيد إلّا أنّه مخالف لظواهر الآيات وصريح الرّوايات ، ولا وجه لرفع اليد عنها بعد إمكان تحقّق مضمونها. نعم يمكن القول بأنّ الأغلب أنّه نازل من السّماء المعروفة ، وقد يوجد بالمبادئ التي ذكروها ، والله العالم بحقائق الامور.
﴿فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ﴾ وأنبت فيها به أنواع النّباتات والأزهار والزّروع والأشجار ، وحصل لها به حسن ورونق ونضارة ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ ويبوستها حسب ما
تقتضيه طبيعتها.
قيل : إنّ إطلاق الحياة على حصول النّماء والإثمار استعارة بعلاقة أنّ الحياة الحقيقيّة - وهي الرّوح في الأحياء - منشأ لوجود الآثار والنّماء والنزهة والبهاء ، وفيه أنّ الظاهر أنّ لفظ الحياة حقيقة في كون الشيء مبدءا للآثار المتوقّعة منه. وبهذا المعنى يطلق الحيّ على الله تعالى ، وعلى القلوب ، والموت الذي هو ضدّه حقيقة في سقوط الشيء عن قابليّة تلك الآثار.
ولمّا كان الرّوح مبدأ للآثار يطلق عليه الحياة ، فعلى هذا يكون لكلّ شيء ، ولو كان من الجمادات ،
__________________
(١) وكف المطر : سال وقطر.
(٢) كذا ، والظاهر : ولوقع.