وأيضا : الاختلاف بنفس الماهيّة كالذراع والذراعين من المقدار لا يوجب تغايرها. على أنّ الاختلاف في أيّ حقيقة فرضت من الوجود أو العلم أو غيرهما بكونها في شيء أقدم أو أقوى أو أشدّ أو أولى راجع إلى الاختلاف في الظهور دون الحقيقة الظاهرة. فظهورها من حيث هي في قابل أتمّ من ظهورها في قابل آخر. مع أنّ الحقيقة واحدة في الكلّ ؛ والاختلاف بين ظهوراتها لأجل المظاهر المقتضية لاختلاف تعيّناتها فيها. فلا تعدّد فيها من حيث هي ولا تجزية ولا تبعيض.
ومستند الصوفية في ذلك هو الكشف والعيان دون النظر والبرهان. فإنّهم لمّا توجّهوا بشراشرهم إلى جناب الحقّ بتفريغ القلب بالكلّية عن التعلّقات الكونية ورفض القوانين العلمية مع توحيد العزمية ودوام الجمعية والمواظبة على هذه الطريقة قذف الله في قلوبهم نورا يريهم الأشياء كما هي ؛ (١) وهذا النور يظهر في الباطن عند ظهور طور وراء طور العقل ؛ ولا يستبعد وجود ذلك ؛ إذ وراء العقل أطوار كثيرة لا يعرفها إلّا الله ؛ ونسبة العقل إلى ذلك النور كنسبة الوهم إلى العقل. فكما يمكن أن يحكم العقل بصحّة ما لا يدركه الوهم كوجود موجود لا في داخل العالم ولا في خارجه كذلك يمكن أن يحكم ذلك النور الكاشف بصحّة ما لا يدركه العقل كوجود حقيقة مطلقة محيطة لا يحصرها التقيّد ولا يقيّدها التعيّن مع أنّ وجود حقيقة كذلك ليس ممّا لا يدركه العقل بوجه. فإنّ أكثر العقلاء أثبتوا وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، ووجود حقيقة الوجود مثله.
والمقصود من التمثيل رفع الاستحالة والاستبعاد دون الإثبات بالبرهان. إذ أدلّة وجود الطبيعي لا يفيد المطلوب على القطع ، بل على الاحتمال. فالمناط في إثباته الكشف. نعم يمكن أن يستدلّ عليه بأنّ مبدأ الموجودات موجود ولا يمكن
__________________
(١). إشارة إلى الحديث الشريف النبوّي : «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء.»