والاشتغال بالطاعات الشرعية والوظائف الدينية ، والمواظبة على العبادات ، والاجتهاد في تحصيل السعادات ، والمداومة على الصمت وقلّة الكلام ، وتقليل الأكل والشرب والمنام ، وصرف الأوقات في الذكر والفكر والانس بالله تعالى إلى غير ذلك من أسباب لا تحصى ؛ فإنّ من وفّقه الله لتحصيل هذه الشرائط يحصل من طرفه القرب إلى ربّه تعالى وتحصل له المناسبة بينه وبين الحقّ ؛ وإذا قطع مثله جميع المقامات والمراتب وحصل له الاتّصال التامّ بالعالم العلوي وإن ارتفع المناسبة بينه وبين الكثرات إلّا أنّه تمكّن حصولها بعد إنزاله عن مرتبة العليّة بخلاف حصولها بين الله تعالى وبين الكثرات ؛ فإنّه غير ممكن.
فالأنبياء عليهمالسلام بعد طيّهم جميع المقامات وارتباطهم بعالم القدس واتّصالهم بالعلويات والملكوت الأعلى أنزلهم الله سبحانه تفضّلا منه على عباده من معارج القدس إلى مهابط الأكوان ؛ فصاروا متوسّطين بين أوج الوجوب وحضيض الإمكان حتّى يتمكّنوا من الأخذ من العالم العلوي والإيصال إلى سكّان العالم السفلي بإصعادهم من حضيض عالم الناسوت إلى أوج قدس صقع الجبروت وردعهم عن مشاركة سكّان عالم الزور وإيصالهم إلى مرافقة قطّان دار السرور بحسب استعداد كلّ شخص وقابلية كلّ عبد لزمرة الرسل كلتا الملكتين والجنبتين ـ أعني ملكتي الصعود والهبوط وجنبتى العروج والنزول ـ لكنّهم لمّا صاروا بأمر (اهْبِطُوا) (١) وبحكم الحقّ ـ جلّ شأنه ـ مشتغلين بمصالح العباد ومتوغّلين في إصلاح البلاد ومرتبطين بالعالم السفلى ؛ فإذا حصل لهم التوجّه إلى العالم العلوي مع ذلك التقيّد والارتباط والتوغّل والإيصال / A ١١٦ / احتاجوا في التجلّيات غير الذاتية إلى توسّط ملك ليس له كلتا الجنبتين والملكتين ، بل له ملكة الصعود والعروج فقط ولذلك يكون النبيّ محتاجا في صعوده وعروجه إلى ذلك الملك مع
__________________
(١). البقرة / ٣٦ ، ٣٨ ، ٦١ والأعراف / ٢٤.