إلى الخليل ، فشكا إليه ما لقيه من حماد ، فقال له الخليل : صدق حماد ، ومثل حماد يقول هذا ، ورعف بضم العين لغة ضعيفة ، وقيل : إنه قدم البصرة من البيداء من قرى شيراز من عمل فارس ، وكان مولده ومنشؤه بها ، ليكتب الحديث ويرويه ، فلزم حلقة حماد بن سلمة ، فبينما هو يستملي على حماد قول النبي ، صلى الله عليه وسلم «ليس من أصحابي إلّا من لو شئت لأخذت (١) عليه ، ليس أبا الدرداء» فقال سيبويه «ليس أبو الدرداء» بالرفع ، وظنه (٢) اسم ليس ، فقال له حماد : لحنت يا سيبويه (٣) ، فقال سيبويه : سأطلب علما لا تلحنني فيه ، فلزم الخليل ، وبرع في العلم.
وأمّا سبب وفوده على الرشيد ببغداد وتعرّضه لمناظرة الكسائي والفراء ، فلما كانا عليه من تمكّن الحال ، والقرب من السلطان ، وعلوّ همّته ، وطلبه للظهور مع ثقته بعلمه ؛ لأنه كان أعلم أهل زمانه ، وكان بينه وبين البرامكة أقوى سبب ، فوفد على يحيى بن خالد بن برمك وابنيه جعفر والفضل ، فعرض عليهم ما ذهب إليه من مناظرة الكسائي وأصحابه فسعوا له في ذلك ، وأوصلوه إلى الرشيد ، فجرى بينه وبين الكسائي والفراء ما ذكر واشتهر ، وكان آخر أمره أنّ الكسائي وأصحابه لما ظهروا عليه بشهادة الأعراب على حسب ما لقّنوا أن قال يحيى بن خالد أو الكسائي للرشيد : يا أمير المؤمنين ، إن رأيت أن لا يرجع خائبا فعلت ، فأمر له بعشرة آلاف درهم ، وانصرف إلى الأهواز ، ولم يعرّج على البصرة ، وأقام هنالك مدّة (٤) إلى أن مات كمدا ، ويروى أنه ذربت (٥) معدته فمات ، فيرون أنه مات غمّا ، ويروى أنّ الكسائي لما بلغه موته قال للرشيد : ده (٦) يا أمير المؤمنين ، فإني أخاف أن أكون شاركت في دمه ، ولمّا احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فقطرت دمعة من دموعه على خدّه ، فرفع عينيه وقال : [الطويل]
أخيّين كنّا فرّق الدهر بيننا |
|
إلى الأمد الأقصى ، ومن يأمن الدهرا |
ومات على السنّة والجماعة ، رحمة الله تعالى!
وأمّا كتابه الجاري بين الناس فلم يصحّ أنه أنشأه بعد كتاب آخر قبله ، على أن ذلك قد ذكر.
__________________
(١) في ب ، ه : «لأقدت عليه».
(٢) في ب ، ه : «وخمنه» والتخمين : الظن.
(٣) في ب ، ه : «لحنت يا سيبويه ، ليس هذا حيث ذهبت ، إنما ليس ها هنا استثناء».
(٤) في ه : «وأقام هناك مديدة».
(٥) ذربت معدته : فسدت.
(٦) ده : أمر من : واده يديه ، مثل : وقاه يقيه إذا غرم ديته.