وقال الفتح أيضا (١) : ولما نقل المعتمد من بلاده ، وأعرى من طارفه وتلاده ، وحمل في السفين ، وأحلّ في العدوة محلّ الدفين ، تندبه منابره وأعواده ، ولا يدنو منه زوّاره ولا عوّاده ، بقي أسفا تتصعد زفراته ، وتطرد اطراد المذانب (٢) عبراته ، لا يخلو بمؤانس ، ولا يرى إلا عرينا بدلا من تلك المكانس (٣) ، ولما لم يجد سلوا ، ولم يؤمّل دنوا ، ولم ير وجه مسرة مجلوّا ، تذكر منازله فشاقته ، وتصور بهجتها فراقته ، وتخيل استيحاش أوطانه ، وإجهاش قصره إلى قطّانه ، وإظلام جوه من أقماره ، وخلوه من حرّاسه وسمّاره ، فقال : [البسيط]
بكى المبارك في إثر ابن عباّد |
|
بكى على إثر غزلان وآساد |
بكت ثرياه لاغمّت كواكبها |
|
بمثل نوء الثريّا الرّائح الغادي |
بكى الوحيد ، بكى الزاهي وقبته |
|
والنهر والتاج ، كل ذله بادي |
ماء السماء على أفيائه درر |
|
يا لجّة البحر دومي ذات إزباد (٤) |
وفي ذلك يقول ابن اللبانة : [البسيط]
أستودع الله أرضا عندما وضحت |
|
بشائر الصّبح فيها بدّلت حلكا (٥) |
كان المؤيّد بستانا بساحتها |
|
يجني النعيم وفي عليائها فلكا |
في أمره لملوك الدّهر معتبر |
|
فليس يغترّ ذو ملك بما ملكا |
نبكيه من جبل خرّت قواعده |
|
فكلّ من كان في بطحائه هلكا |
وكان القصر (٦) الزاهي من أجمل المواضع لديه وأبهاها ، وأحبها إليه وأشهاها ، لإطلاله على النهر ، وإشرافه على القصر ، وجماله في العيون ، واشتماله بالزهر والزيتون (٧) ، وكان له به من الطرب ، والعيش المزري بحلاوة الضّرب (٨) ، ما لم يكن بحلب لبني حمدان ، ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان ، وكان كثيرا ما يدير به راحه ، ويجعل فيه انشراحه ، فلما
__________________
(١) القلائد ص ٣.
(٢) المذانب : الدلاء.
(٣) العرين : مأوى السباع. والمكانس : مأوى الظباء.
(٤) في ه «ماء السماء على أبنائه درر».
(٥) الحلك : الظلمة.
(٦) في ه «الحصن الزاهي» وفي القلائد «الحصن الزاهر».
(٧) في القلائد «بالشجر والزيتون».
(٨) الضّرب ـ بالتحريك : العسل الأبيض الغليظ.