عاينه من هناءة عيشك ، وإني لمتخيل (١) مثل ذلك لسائر ملوك الأندلس ، وإن له من الولد والأقارب وغيرهم من يودّ له الحلول بما أنت فيه من خصب الجناب ، وقد أردى الأذفونش وجيشه ، واستأصل شأفتهم ، وأعدمك منه أقوى ناصر عليه لو احتجت إليه ، فقد كان لك منه أقوى عضد وأوقى مجنّ (٢) ، وبعد فإنه إن فات الأمر في الأذفونش فلا يفتك الحزم فيما هو ممكن اليوم ، فقال له المعتمد : وما هو الحزم اليوم؟ فقال : أن تجمع أمرك على قبض ضيفك هذا ، واعتقاله في قصرك ، وتجزم أنك لا تطلقه حتى يأمر كل من بجزيرة الأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء ، حتى لا يبقى منهم أحد بالجزيرة طفل فمن فوقه ، ثم تتفق أنت وملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر من سفينة تجري فيه له ، ثم بعد ذلك تستحلفه بأغلظ الأيمان ألّا يضمر في نفسه عودا إلى هذه الجزيرة إلا باتفاق منكم ومنه ، وتأخذ منه على ذلك رهائن فإنه يعطيك من ذلك ما تشاء ، فنفسه أعز عليه من جميع ما يلتمس منه ، فعند ذلك يقتنع هذا الرجل ببلاده التي لا تصلح إلا له ، وتكون قد استرحت منه بعد ما استرحت من الأذفونش ، وتقيم في موضعك على خير حال ، ويرتفع ذكرك عند ملوك الجزيرة ، ويتسع ملكك ، وينسب هذا الاتفاق لك إلى سعادة وحزم ، وتهابك الملوك ، ثم اعمل بعد هذا ما يقتضيه حزمك في مجاورة من عاملته هذه المعاملة ، واعلم أنه قد تهيأ لك من هذا أمر سماوي تتفانى الأمم وتجري بحار الدم دون حصول مثله ، فلما سمع المعتمد كلام الرجل استصوبه ، وجعل يفكر في انتهاز الفرصة.
وكان للمعتمد ندماء قد انهمكوا معه في اللذات ، فقال أحدهم لهذا الرجل الناصح : ما كان المعتمد على الله ـ وهو إمام أهل المكرمات ـ ممن يعامل بالحيف (٣) ، ويغدر بالضّيف ، فقال الرجل : إنما الغدر أخذ الحق من يد صاحبه ، لا دفع الرجل عن نفسه المحذور إذا ضاق به ، فقال ذلك النديم : ضيم مع وفاء ، خير من حزم مع جفاء.
ثم إن ذلك الناصح استدرك الأمر ، وتلافاه ، فشكر له المعتمد ، ووصله بصلة.
واتصل هذا الخبر بيوسف فأصبح غاديا ، فقدّم له المعتمد الهدايا السنية والتّحف الفاخرة ، فقبلها ثم رحل ، انتهى خبر وقعة الزلاقة وما يتبعه ملخصا من كتب التاريخ.
__________________
(١) في ب «لمتخيل في مثل حالك سائر ملوك الأندلس» وفي ه «لمتخيل في مثل ذلك لسائر ملوك الأندلس».
(٢) المجنّ : الدرع.
(٣) الحيف : الظلم.