فقلت ليست لي حاجة إلى هذه ، وإنما أردت أن أشرف بولائها ، فالحمد لله الذي منّ علي بحضوركم ، وجلست ، فجعلوا يعلمونني الحمد! وصليت معهم العصر ، وأنا في ذاك بين يديها أنظر إليها لا تقدر لي على حيلة ، فلما انصرفت لقيت خالصة فشكت إليها فقالت : ليس يخلو هذان من أن يكونا عاشقين ، أو مستأكلين ، فصح عزمهما على امتحاننا بمال على أن ندع التعرض لهما ، فإن قبلنا المال فنحن مستأكلان ، وإن لم نقبله فنحن عاشقان.
فلما كان الغد مرت خالصة ، فعرض لها صاحبها ، فقال له الخدم : اتبعنا فاتبعهم ، ثم لم نلبث أن مرت عتبة ، فقال لي الخدم : اتبعنا فاتبعتهم ، فمضت بي إلى منزل خليط لها بزاز ، فلما جلست دعت بي فقالت لي : يا هذا إنك شاب وأرى لك أدبا وأنا حرمة خليفة ، وقد تأنيتك ، فإن أنت كففت وإلّا أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين ، ثم لم آمن عليك. قلت : فافعلي بأبي أنت وأمي فإنك إن سفكت دمي أرحتني ، فأسألك بالله إلّا فعلت ذلك ، إذ لم يكن لي فيك نصيب ، فأما الحبس والحياة ولا أراك فأنت في حرج من ذاك ، فقالت : لا تفعل يا هذا وأبق على نفسك ، وخذ هذه الخمسمائة الدّينار واخرج عن هذه البلد ، فلما سمعت ذكر المال وليت هاربا فقالت : ردوه ، فلم تزل تردني ، فقلت : جعلت فداك ، ما أصنع بعرض من الدنيا وأنا لا أراك ، وإنك لتبطئين يوما واحدا عن الركوب فتضيق بي الأرض بما رحبت ، وهي تأبى إلّا ذكر المال حتى جعلت لي ألف دينار ، فأبيت وجاذبتها مجاذبة شديدة ، وقلت لو أعطيتني جميع ما يحويه الخليفة ما كانت لي فيه حاجة وأنا لا أراك بعد أن أجد السبيل إلى رؤيتك ، وخرجت فجئت الغرفة التي كنا ننزلها ، فإذا صاحبي مورم الأذنين ، وقد امتحن بمثل محنتي ، فلما مد يده إلى المال صفعوه ، وحلفت خالصة لئن رأته بعد ذلك لتودعنه الحبس ، فاستشارني في المقام فقلت : اخرج وإياك أن تقدر عليك ، ثم التقتا فأخبرت كل واحدة صاحبتها الخبر ، وأحمدتني عتبة وصح عندها أني محب محق ، فلما كان بعد أيام دعتني عتبة فقالت : بحياتي عليك ـ إن كنت تعزها ـ إلّا أخذت ما يعطيك الخادم فأصلحت به من شأنك ، فقد غمني سوء حالك ، فامتنعت فقالت : ليس هذا مما تظن ، ولكني لا أحب أن أراك في هذا الزي ، فقلت : لو أمكنني أن تريني في زي المهديّ لفعلت ذلك ، فأقسمت علي فأخذت الصرة فإذا فيها ثلاثمائة دينار ، فاكتسيت كسوة حسنة ، واشتريت حمارا.
أخبرنا أبو حنيفة عبد الوهّاب بن علي بن الحسن المؤدّب ، حدّثنا المعافى بن زكريّا الجريري ، حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي ، حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة ،