القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

فقال له رجل من أهل الشام : خدعك العراقي ، خدعك العراقي ، قال : لا ، ولكن نصح لي (١).

ولمّا ان عضت الحرب معاوية كرّر على عليّ طلب الشام ، فأبى عليه ، ثمّ بان الانكسار في جيش معاوية ، فأشار عليهم عمرو بن العاص برفع المصاحف على الرماح يطلبون الرجوع إلى كتاب الله.

وقد أورد أخبارها الطبري وابن الأثير وابن كثير في تواريخهم ، واخترنا لفظ ابن الأثير لإيجازه ، قال :

فلمّا رأى عمرو ان أمر أهل العراق قد اشتد ، وخاف الهلاك ، قال لمعاوية : هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلّا اجتماعا ، ولا يزيدهم إلّا فرقة؟

قال : نعم.

قال : نرفع المصاحف ، ثمّ نقول لما فيها هذا حكم بيننا وبينكم ، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبل فتكون فرقة بينهم وان قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل ، فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا حكم كتاب الله عزوجل بيننا وبينكم ، من لثغور الشام بعد أهله ، من لثغور العراق بعد أهله.

وروى نصر بن مزاحم بسنده عن تميم بن حذلم أنّه قال :

لمّا أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا ، فإذا أشباه الرايات أمام صفّ أهل الشام وسط الفيلق من حيال موقف معاوية ، فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت على أطراف الرّماح ، وهي عظام مصاحف العسكر ، وقد شدّوا ثلاثة أرماح جميعا وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة رهط. وقال أبو جعفر وأبو الطفيل : استقبلوا عليّا بمائة مصحف ، ووضعوا في كل مجنّبة مائتي مصحف ،

__________________

(١) الطبري ، ط. أوربا ١ / ٣٣٢٣ ، تاريخ الكامل لابن الأثير ٣ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

٥٤١

وكان جميعها خمسمائة مصحف (١).

قال الطبري :

فلمّا رآها الناس ، قالوا : نجيب إلى كتاب الله ، فقال لهم عليّ :

عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فان معاوية وعمرا وابن أبي معيط وحبيبا وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالا ثمّ رجالا فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، ويحكم والله ما رفعوها إلّا خديعة ووهنا ومكيدة.

فقالوا له : لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله.

فقال لهم عليّ : فإنّي اقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب ، فإنّهم قد عصوا الله في ما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه.

فقال له مسعر بن فدكي التيمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القرّاء الّذين صاروا خوارج بعد ذلك :

يا عليّ! أجب إلى كتاب الله عزوجل إذ دعيت إليه ، وإلّا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان.

قال : فاحفظوا عنّي نهيي إيّاكم ، واحفظوا مقالتكم لي ، فإن تطيعوني فقاتلوا ، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم.

قالوا : ابعث إلى الأشتر فليأتك.

__________________

(١) وقعة صفّين لنصر بن مزاحم ، ط. مصر سنة ١٣٨٢ ه‍ ، ص ٤٧٨. تميم بن حذلم بالحاء المهملة والدال المعجمة وزان جعفر ـ ويقال حذيم ـ الناجي الضبي. الكوفي ، أبو سلمة ، شهد مع عليّ وكان من خواصه. قال ابن حجر : «ثقة ، مات سنة مائة». (تهذيب التهذيب والتقريب). والمجنبة ، بكسر النون المشدّدة : ميمنة الجيش وميسرته ؛ وبفتحها : مقدمة الجيش.

٥٤٢

فبعث عليّ يزيد بن هانئ إلى الأشتر يستدعيه.

فقال الأشتر : ليست هذه الساعة الساعة الّتي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي ، إنّي قد رجوت أن يفتح الله لي ، فرجع يزيد فأخبره وارتفعت الأصوات وارتفع الرهج من ناحية الأشتر.

فقالوا : والله ما نراك إلّا أمرته أن يقاتل.

فقال عليّ : هل رأيتموني ساررته؟ أليس كلّمته على رءوسكم وأنتم تسمعون؟

قالوا : فابعث إليه فليأتك وإلّا والله اعتزلناك. فقال له :

ويلك يا يزيد! قل له أقبل إلي فإنّ الفتنة قد وقعت ، فأبلغه ذلك ، فقال الأشتر : ألرفع المصاحف؟

قال : نعم ، قال : والله لقد ظننت أنّها ستوقع اختلافا وفرقة ، إنّها مشورة ابن العاهر ، ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع الله لنا؟ لن ينبغي أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم.

فقال له يزيد : أتحبّ أن تظفر وأمير المؤمنين يسلّم إلى عدوّه أو يقتل؟

قال : لا والله ، سبحان الله ، فأعلمه بقولهم ، فأقبل إليهم الأشتر ، وقال : يا أهل العراق يا أهل الذل والوهن ؛ أحين علوتم القوم وظنّوا أنّكم لهم قاهرون ، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنّة من انزلت عليه؟ فأمهلوني فواقا ، فإنّي قد أحسست بالفتح.

قالوا : لا.

قال : أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر.

قالوا : إذا ندخل معك في خطيئتك.

قال : فخبروني عنكم متى كنتم محقين ، أحين تقاتلون وخياركم يقتلون؟

٥٤٣

فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون ، أم أنتم الآن محقون ، فقتلاكم الّذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم في النار!

قالوا : دعنا منك يا أشتر قاتلناهم لله وندع قتالهم لله

قال : خدعتم وانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود ، كنّا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله فلا أرى مرادكم إلّا الدنيا ، ألا قبحا يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا فابعدوا كما بعد القوم الظالمون ، فسبّوه وسبّهم وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم بسوطه. فصاح به وبهم عليّ فكفوا.

وقال الناس : قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما ، فجاء الأشعث ابن قيس إلى عليّ ، فقال : أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد؟

قال : ائته. فأتاه فقال لمعاوية : لأيّ شيء رفعتم هذه المصاحف؟ قال : لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه ؛ تبعثون رجلا ترضون به ، ونبعث نحن رجلا نرضى به ، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثمّ نتبع ما اتّفقا عليه.

قال له الأشعث : هذا الحق ، فعاد إلى عليّ ، فأخبره.

فقال الناس : قد رضينا وقبلنا.

فقال أهل الشام : قد رضينا عمرا.

وقال الأشعث واولئك القوم الّذين صاروا خوارج : إنّا قد رضينا بأبي موسى الأشعري.

فقال عليّ : قد عصيتموني في أوّل الأمر فلا تعصوني الآن ، لا أرى أن اولي أبا موسى.

٥٤٤

فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي : لا نرضى إلّا به ، فإنّه قد حذّرنا ما وقعنا فيه.

قال عليّ : فانّه ليس بثقة ؛ قد فارقني ، وخذّل الناس عنّي ثمّ هرب منّي حتّى أمنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس اوليه ذلك.

قالوا : والله لا نبالي أنت كنت أم ابن عباس ، لا نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء.

قال : فإنّي أجعل الأشتر.

قالوا : وهل سعر الأرض غير الأشتر.

فقال : قد أبيتم إلّا موسى؟

قالوا : نعم.

قال : فاصنعوا ما أردتم.

فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو بعرض ، فأتاه مولى له.

فقال : إنّ الناس قد اصطلحوا ، فقال : الحمد لله ، قال : قد جعلوك حكما ، قال إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وجاء أبو موسى حتى دخل العسكر وجاء الأشتر عليّا.

فقال : ألزّني بعمرو بن العاص ، فو الله لئن ملأت عيني منه لأقتلنّه.

وجاء الأحنف بن قيس.

فقال : يا أمير المؤمنين! انّك قد رميت بحجر الأرض وإنّي قد عجنت أبا موسى وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القمر ، وانّه لا يصلح لهؤلاء القوم إلّا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم ، فإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا فإنّه لم يعقد عقدة إلّا حللتها ولا يحل عقدة أعقدها لك إلّا عقدت اخرى أحكم منها ، فأبى الناس إلّا أبا موسى والرضا بالكتاب.

٥٤٥

فقال الأحنف : إن أبيتم إلّا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرّجال ، وحضر عمرو بن العاص عند عليّ ليكتب القضية بحضوره فكتبوا :

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين.

فقال عمرو : هو أميركم وأما أميرنا فلا.

فقال الأحنف : لا تمح اسم أمير المؤمنين ، فإنّي أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا ، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا ، فأبى ذلك عليّ مليّا من النهار ، ثمّ أنّ الأشعث بن قيس قال : امح هذا الاسم فمحاه.

فقال عليّ : الله أكبر ، سنّة بسنّة ، والله إنّي لكاتب رسول الله (ص) يوم الحديبية فكتب : محمّد رسول الله (ص) ، وقالوا لست برسول الله ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فأمرني رسول الله (ص) بمحوه فقلت : لا أستطيع ، فقال : أرنيه فأريته فمحاه بيده وقال انّك ستدعى إلى مثلها فتجيب.

فقال عمرو : سبحان الله أنشبّه بالكفار ونحن مؤمنون.

فقال عليّ : يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليّا وللمؤمنين عدوا.

فقال عمرو : والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبدا.

فقال عليّ : إنّي لأرجو ان يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك ، وكتب الكتاب :

هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى عليّ على أهل الكوفة ومن معهم وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم انّنا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره وان كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيى ونميت ما أمات ، فما وجد الحكمان في كتاب الله وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عملا به وما لم يجداه في كتاب الله ، فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة ، وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن

٥٤٦

الجندين من العهود والمواثيق انّهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والامّة لهما أنصار على الّذي يتقاضيان عليه ، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الامّة لا يردّانها في حرب ولا فرقة حتّى يعصيا وأجل القضاء إلى رمضان ، وان أحبّا أن يؤخّرا ذلك أخّراه ، وانّ مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام.

وشهد الأشعث بن قيس وسعيد بن قيس الهمداني وورقاء بن سمي البجلي وعبد الله بن محل العجلي وحجر بن عدي الكندي وعبد الله بن الطفيل العامري وعقبة بن زياد الحضرمي ويزيد بن حجبة التميمي ومالك بن كعب الهمداني ، ومن أصحاب معاوية أبو الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وزمل بن عمرو العذري وحمرة بن مالك الهمداني وعبد الرّحمن بن خالد المخزومي وسبيع بن يزيد الأنصاري وعتبة بن أبي سفيان ويزيد بن الحر العبسي.

وقيل للأشتر ليكتب فيها فقال : لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن خط لي في هذه الصحيفة ولست على بينة من ربّي من ضلال عدوي ، أو لستم قد رأيتم الظفر؟

فقال له الأشعث : والله ما رأيت ظفرا ، هلمّ إلينا لا رغبة بك عنا ، فقال : بلى والله الرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة ، لقد سفك الله بسيفي دماء رجال ما أنت خير عندي منهم ولا أحرم دما.

قال : فكأنّما قصع الله على أنف الأشعث الحمم.

وخرج الأشعث بالكتاب يقرأه على الناس حتّى مر على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال فقرأه عليهم فقال عروة : تحكّمون في أمر الله الرّجال ، لا حكم إلّا لله ، ثمّ شدّ بسيفه فضرب به عجز دابة الأشعث ضربة خفيفة واندفعت الدابة وصاح به أصحاب الأشعث فرجع ، وغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن ، فمشى اليه الأحنف بن قيس ومسعر بن فدكي وناس

٥٤٧

من تميم فاعتذروا فقبل وشكر. وكتب الكتاب يوم الاربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين.

واتفقوا على ان يوافي أمير المؤمنين على موضع الحكمين بدومة الجندل أو باذرح في شهر رمضان ، وقيل لعليّ : انّ الأشتر لا يقرّ بما في الصحيفة ولا يرى إلّا قتال القوم.

فقال عليّ : وانا والله ما رضيت ولا احببت ان ترضوا فإذا أبيتم إلّا ان ترضوا فقد رضيت وإذ رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلّا ان يعصى الله ويتعدى كتابه فقاتلوا من ترك أمر الله ، وأمّا الّذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من اولئك فلست أخاف على ذلك ، يا ليت فيكم مثله اثنين ، يا ليت فيكم مثله واحدا يرى في عدوّي ما أرى ، إذا لخفّت عليّ مئونتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم وقد نهيتكم فعصيتموني ، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن :

وهل أنا إلّا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

والله لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة وأسقطت منة وأورثت وهنا وذلّة ، ولمّا كنتم الأعلين وخاف عدوّكم الاجتياح واستحرّ بهم القتل ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم ويقطعوا الحرب ويتربصوا بكم المنون خديعة ومكيدة ، فأعطيتموهم ما سألوا وأبيتم إلّا أن تدهنوا وتجيروا وأيم الله ما أظنكم بعدها توفقون الرشد ولا تصيبون باب الحزم.

ثمّ رجع الناس عن صفين ، فلمّا رجع عليّ خالفت الحرورية وخرجت ، وكان ذلك أوّل ما ظهرت وأنكرت تحكيم الرجال ، ورجعوا على غير الطريق الذي أقبلوا فيه أخذوا على طريق البرّ وعادوا وهم أعداء متباغضون وقد فشا فيهم التحكيم يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط ، يقول الخوارج يا

٥٤٨

أعداء الله ادهنتم في أمر الله ، ويقول الآخرون فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا (١).

وقال :

ولمّا رجع عليّ من صفين فارقه الخوارج ، وأتوا حروراء ، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا ونادى مناديهم انّ أمير القتال شبث بن ربعي التميمي ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء اليشكري ، والأمر شورى بعد الفتح والبيعة لله عزوجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٢).

كان ذلكم لفظ ابن الأثير ونورد باقي الخبر من ترجمة الإمام عليّ بتاريخ ابن عساكر ؛ روى بسنده وقال :

أنّ عليّا لما كاتب معاوية وحكّم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس حتى نزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة عتبوا عليه وقالوا : انسلخت من قميص ألبسك الله واسم سمّاك الله به ، ثمّ انطلقت فحكّمت في دين الله الرجال ، فلا حكم إلّا لله.

فلمّا أن بلغ عليّا ما عتبوا عليه وفارقوا أمره ، أذن مؤذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلّا رجل قد قرأ القرآن ، فلما امتلأت الدار من قراء الناس جاء بالمصحف إماما عظيما ، فوضعه عليّ بين يديه فطفق يحركه بيده ويقول : أيها المصحف حدّث الناس!!! فناداه الناس : ما تسأل عنه؟ إنّما هو مداد وورق ونحن نتكلّم بما روينا منه فما ذا تريد؟ فقال : أصحابكم الّذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله ، يقول الله في كتابه في امرأة ورجل :

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً). (النّساء / ٣٥)

__________________

(١) بايجاز الطّبري من تاريخه ، ط. أوربا ١ / ٣٣٢٩ ـ ٣٣٤٩.

(٢) تاريخ الكامل لابن الأثير ٣ / ١٢٦ ـ ١٣٠.

٥٤٩

فأمّة محمّد (ص) أعظم حقا وحرمة من امرأة ورجل ، ونقموا (١) عليّ أنّي كاتبت معاوية وكتبت عليّ بن أبي طالب ، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله (ص) بالحديبية حين صالح قومه قريشا فكتب رسول الله (ص) : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، قال سهيل : لا أكتب كذا بسم الله الرّحمن الرّحيم. فقال : كيف تكتب؟ فقال : بسمك اللهمّ. فقال رسول الله (ص) : اكتب محمّد رسول الله. فقال : لو نعلم أنّك رسول الله ما خالفناك. فكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله قريشا. يقول الله في كتابه :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (الأحزاب / ٢١) (٢).

ولمّا كان الّذين أقاموا حرب الجمل وصفين على الإمام عليّ هم رجالات قريش وعادوا الإمام بسبب الغائه امتيازاتهم الّتي حصلوا عليها بعد رسول الله (ص) وتسويتهم مع غيرهم من المسلمين كما مرّ بنا بعض ذلك واستمر في مدّة حكمه في الكوفة على نفس النهج ، وقد ذكروا في سياسته في المال ما رواه الثقفي في كتاب الغارات وقال :

عن عليّ (ع) قال : كان خليلي رسول الله (ص) لا يحبس شيئا لغد ، وكان أبو بكر يفعل ذلك وقد رأى عمر بن الخطاب في ذلك رأيا أن دوّن الدّواوين وأخّر المال من سنة إلى سنة ، وأمّا أنا فأصنع كما صنع خليلي رسول الله (ص) (٣).

وقال : إنّ عليّا (ع) كان ينضح بيت المال ثمّ يتنفل فيه ويقول : اشهد لي

__________________

(١) ونقموا ـ في النص ـ : نقما والصواب كما أثبتناه من مصورة المجمع العلمي الإسلامي ١٢ / ٢ ورقة ١٨٢ / أ.

(٢) تاريخ ابن عساكر ، ترجمة الإمام عليّ (ع) ٣ / ١٥٣ ـ ١٥٤ ، الحديث ١١٩٤.

(٣) الغارات للثقفي ، ط. بيروت سنة ١٤٠٧ ه‍ ، ص ٣٢ ، وط. طهران ، ص ٤٨.

٥٥٠

يوم القيامة أنّي لم أحبس فيك المال على المسلمين (١).

وقال : أتى عليّا (ع) مال من اصفهان فقسمه فوجد فيه رغيفا ، فكسره سبع كسر ثمّ جعل على كلّ جزء منه كسرة ثمّ دعا امراء الاسباع فأقرع بينهم أيّهم يعطيه أوّلا وكانت الكوفة يومئذ أسباعا (٢).

وروى ان الشّعبي قال : دخلت الرّحبة وأنا غلام في غلمان ، فإذا أنا بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) قائما على صبرتين من ذهب وفضة ومعه مخفقة فجعل يطرد النّاس بمخفقته ثمّ يرجع إلى المال فيقسمه بين النّاس حتّى لم يبق منه شيء ورجع ولم يحمل إلى بيته منه شيئا ، فرجعت إلى أبي فقلت : لقد رأيت اليوم خير النّاس أو أحمق النّاس ، قال : ومن هو يا بنيّ؟

قلت : رأيت أمير المؤمنين عليّا (ع) ، فقصصت عليه الّذي رأيته يصنع ، فبكى وقال : يا بنيّ بل رأيت خير النّاس (٣).

وقال : كان عليّ (ع) يقسم فينا الأبزار ، يصرّه صررا والحرف والكمون وكذا وكذا (٤).

وفي الغارات للثقفي :

__________________

(١) الغارات ص ٣٣ ، وفي ط. طهران ، ص ٥٠.

(٢) الغارات ص ٣٤ ، وفي ط. طهران ، ص ٥٠.

(٣) الغارات ص ٣٦ ، وط. طهران ، ص ٥٥ ؛ وشرح نهج البلاغة ١ / ١٨٠. والشعبي هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد أو عامر بن عبد الله بن شراحيل الشعبي ـ من شعب همدان ـ الحميري الكوفي الفقيه المعروف (انظر تهذيب التهذيب ٥ / ٦٥ وجامع الرواة ١ / ٤٢٧).

(٤) الغارات ، ص ٣٨ ، وفي ط. طهران ، ص ٦٠. والأبزار جمع بزر وهو كل حب ينثر للنبات أو المراد به ما يطيب به الغذاء ، والحرف ـ بالضم ـ حبّ الرّشاد ، والكمون كتنور : حبّ معروف.

٥٥١

قدم عقيل على عليّ (ع) وهو جالس في صحن مسجد الكوفة ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.

قال : وعليك السلام يا أبا يزيد.

ثمّ التفت إلى الحسن بن عليّ فقال : قم وأنزل عمّك. فذهب به فأنزله وعاد إليه ، فقال له : اشتر له قميصا جديدا وإزارا جديدا ونعلا جديدة فغدا على عليّ (ع) في الثياب ، فقال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين.

قال : وعليك السلام يا أبا يزيد.

قال : يا أمير المؤمنين! ما أراك أصبت من الدّنيا شيئا إلّا هذه الحصباء؟!

قال : يا أبا يزيد يخرج عطائي فأعطيكه ... الحديث (١).

وقال : قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعليّ (ع) : يا أمير المؤمنين! لو أمرت لي بمعونة أو نفقة فو الله ما عندي إلّا أن أبيع بعض علوفتي.

قال له : لا والله ما أجد لك شيئا إلّا أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك (٢).

كان عليّ (ع) يقول : يا أهل الكوفة! إذا أنا خرجت من عندكم بغير

__________________

(١) الغارات ، باب سيرة عليّ (ع) في المال ، وفي الأصل (فأعطيكاه) تحريف ، ص ٤١ ، وط. طهران ، ص ٦٤.

(٢) الغارات ص ٤٣ ، وط. طهران ، ص ٦٧. (علوفتي) والعلوفة : الناقة أو الشاة تعلفها ولا ترسلها يستوي بهذا الاسم الواحد والجميع. عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. يكنّى أبا جعفر ، امّه أسماء بنت عميس ولدته بالحبشة وهو أوّل مولود في الإسلام بأرض الحبشة ، وقدم مع أبيه المدينة وحفظ عن رسول الله (ص) وروى عنه وكان كريما جوادا حليما يسمّى بحر الجود وقطب السّخاء ، وأخباره في جوده وحلمه وكرمه كثيرة لا تحصى ، توفّي سنة ٨٠ عام الحجاف (وعام الحجاف سمّي بذلك لأنّه جاء سيل عظيم ببطن مكّة فحجف الحاج وذهب بالإبل عليها أحمالها) ، ودفن بالبقيع وقيل : توفّي سنة أربع أو خمس وثمانين وله تسعون سنة (الاستيعاب ٢ / ٢٥٧ ، أسد الغابة ٣ / ١٣٤ ، الإصابة ، حرف العين ، ق ١).

٥٥٢

رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن ، وكانت نفقته تأتيه من غلّته بالمدينة من ينبع. وكان يطعم الناس الخبز واللحم ويأكل هو الثريد بالزيت ويكللها بالتّمر من العجوة ، وكان ذلك طعامه ، وزعموا أنّه كان يقسم ما في بيت المال فلا يأتي الجمعة وفي بيت المال شيء ، ويأمر ببيت المال في كلّ عشيّة خميس فينضح بالماء ثمّ يصلّي فيه ركعتين (١).

وأنّه كان يضع يده على بطنه ويقول : والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لا تنطوي ثميلتي على قلّة من خيانة ، ولأخرجنّ منها خميصا (٢).

وروى عن أبي رجاء (٣) انّه قال : ان عليّا (ع) أخرج سيفا له إلى السّوق فقال : من يشتري منّي هذا؟ فلو كان معي ثمن إزار ما بعته.

قال أبو رجاء فقلت له : يا أمير المؤمنين! أنا أبيعك إزارا وانسئك ثمنه إلى عطائك فبعته إزارا إلى عطائه ، فلمّا قبض عطاءه أعطاني حقّي (٤).

تقسيم الإمام عليّ بالسويّة وغضب الأشراف من ذلك :

روى الثقفي بسنده وقال :

__________________

(١) الغارات ، ص ٤٥ ، وط. طهران ، ص ٦٩. وفي معجم البلدان : «ينبع حصن به نخيل وماء وزروع وبها وقوف لعلي بن أبي طالب (رض)». وفي مجمع البحرين : «قيل لمّا قسم رسول الله (ص) الفيء أصاب عليّ (ع) أرضا فاحتفر عينا فخرج ماء ينبع في الماء كهيئة عنق البعير فسماها ينبع». العجوة ـ بفتح العين وسكون الجيم ـ ضرب من أجود التمر بالمدينة ونخلتها تسمى لينة بكسر اللّام.

(٢) الغارات ، ص ٤٠ ، وط. طهران ، ص ٦٣. والثميلة ـ كسفينة ـ : ما يكون فيه الطعام والشراب من الجوف ، والخميص : الجائع ، يقال : خمص إذا جاع فهو خميص.

(٣) هو أبو رجاء التيمي من تيم الرباب الضبي.

(٤) نفس المصدر السابق.

٥٥٣

إنّ امرأتين أتتا عليّا (ع) عند القسمة إحداهما من العرب والاخرى من الموالي ، فأعطى كلّ واحدة خمسة وعشرين درهما وكرّا من الطّعام ، فقالت العربيّة : يا أمير المؤمنين! إنّي من العرب وهذه امرأة من العجم؟! فقال عليّ (ع) : إنّي لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلا على بني إسحاق (١).

وقال : كان الإمام عليّ (ع) يخطب فجاء الأشعث ، فجعل يتخطى الناس فقال : يا أمير المؤمنين! غلبتنا هذه الحمراء على وجهك ، فغضب ، فقال ابن صوحان : ليبين اليوم من أمر العرب ما كان يخفى ، فقال عليّ (ع) :

من يعذرني من هؤلاء الضّياطرة ، يقبل أحدهم يتقلّب على حشاياه ويهجد قوم لذكر الله؟! فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين؟

والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لقد سمعت رسول الله محمّدا (ص) يقول : (ليضربنّكم والله على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا).

قال المغيرة : كان عليّ (ع) أميل إلى الموالي وألطف بهم ، وكان عمر أشدّ تباعدا منهم.

عن النعمان بن سعد قال : رأيت عليّا (ع) على المنبر يقول : أين الثمودي؟ فطلع الأشعث ؛ فأخذ كفّا من الحصى وضرب وجهه فأدماه وانجفل ، وانجفل الناس معه ويقول : ترحا لهذا الوجه ، ترحا لهذا الوجه (٢).

__________________

(١) الغارات ، ص ٣٤١ ، وط. طهران ، ص ٧٠.

(٢) شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده ٤ / ٥٤٤ ، ط. مصر ؛ والغارات ط. طهران ، ص ٥٠١. الحمراء : الموالي ، قال ابن الأثير في النهاية ، مادّة حمر في حديث عليّ : غلبتنا عليك هذه الحمراء يعنون العجم والروم ، والعرب تسمي الموالي : الحمراء. قال ابن الأثير في النهاية ، مادّة ضيطر ، بعد أن ذكر حديث الإمام : «الضياطرة : الضخام الّذين لا غناء عندهم ، الواحد ضيطار» ، والحشايا : الفراش واحدها حشيّة بالتشديد. والمراد المغيرة الضّبّي. وانجفل الناس : أسرعوا الهرب. والمراد بالترح هنا الهلاك والانقطاع.

٥٥٤

وقال : كان أشراف أهل الكوفة غاشّين لعليّ (ع) وكان هواهم مع معاوية ، وذلك أنّ عليّا كان لا يعطي أحدا من الفيء أكثر من حقّه ، وكان معاوية بن أبي سفيان جعل الشّرف في العطاء ألفي درهم (١).

وقال ما موجزه :

خاطب معاوية من عنده من أهل الشام وقال : يا أهل الشّام قد عرفتم حبي لكم ، وسيرتي فيكم ، وقد بلغكم صنيع عليّ بالعراق ، وتسويته بين الشّريف وبين من لا يعرف قدره.

فقال رجل منهم : لا يهدّ الله ركنك ، ولا يهيض جناحك ، ولا يعدمك ولدك ، ولا يرينا فقدك.

فقال : فما تقولون في أبي تراب؟ قال : فقال كلّ رجل منهم ما أراد ، ومعاوية ساكت وعنده عمرو بن العاص ومروان بن الحكم فتذاكرا عليّا (ع) بغير الحق ... الحديث (٢).

وقال :

حدّثنا محمّد قال : حدّثنا الحسن قال : حدّثنا إبراهيم قال : وحدّثني عبد الله ابن محمّد بن عثمان الثقفي قال : حدّثنا عليّ بن محمّد بن أبي سيف عن فضيل بن الجعد عن مولى الأشتر قال : شكا عليّ (ع) إلى الأشتر فرار النّاس إلى معاوية ، فقال الأشتر : يا أمير المؤمنين! إنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة والرأي واحد وقد اختلفوا بعد ، وتعادوا وضعفت النيّة وقلّ العدد ، وأنت تأخذهم بالعدل وتعمل فيهم بالحقّ وتنصف الوضيع من الشّريف ، وليس للشّريف عندك فضل منزلة على الوضيع ، فضجّت طائفة ممّن معك من الحق إذ عمّوا به ، واغتمّوا

__________________

(١) الغارات ، ص ٢٩ ، وط. طهران ، ص ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) الغارات ، ص ٣٧٧ ، وراجع تمام الخبر في الكتاب.

٥٥٥

من العدل إذ صاروا فيه ، وصارت صنائع معاوية عند أهل الغنى والشّرف ؛ فتاقت أنفس النّاس إلى الدّنيا وقلّ من النّاس من ليس للدنيا بصاحب ، وأكثرهم من يجتوي الحقّ ويستمرئ (١) الباطل ويؤثر الدّنيا ، فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين ، تمل إليك أعناق النّاس وتصف نصيحتهم وتستخلص ودّهم ، صنع الله لك (٢) يا أمير المؤمنين وكبت (٣) عدوّك وفضّ جمعهم وأوهن كيدهم وشتّت امورهم إنّه بما يعملون خبير.

فأجابه عليّ (ع) ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أمّا ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل ؛ فإنّ الله يقول : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(٤) وأنا من أن أكون مقصّرا في ما ذكرت أخوف.

وأمّا ما ذكرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا لذلك ، فقد علم الله أنّهم لم يفارقونا من جور ، ولم يدعوا (٥) ـ إذ فارقونا ـ إلى عدل ، ولم يلتمسوا إلّا دنيا زائلة عنهم كأن قد فارقوها ، وليسألنّ يوم القيامة : أللدّنيا أرادوا ، أم لله عملوا؟! وأمّا ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرّجال (٦) ، فإنّا لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفيء أكثر من حقّه ، وقد قال الله وقوله الحقّ : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٧) وبعث الله محمّدا (ص) وحده فكثّره بعد القلّة ، وأعزّ فئته بعد الذلّة ، وإن يرد الله أن يولّينا هذا الأمر يذلّل لنا

__________________

(١) يجتوي : يكره ، ويستمرئ : يجد مريئا أي هنيئا سائغا.

(٢) صنع الله للعبد : ما يفعله سبحانه له من الخير.

(٣) كبت الله العدو كبتا : أذله وأهانه ، وبابه ضرب.

(٤) سورة فصلّت / ٤٦.

(٥) ظ «ولم يلجئوا» ، وفي شرح نهج البلاغة ، م ١ / ١٨٠ «ولا لجأوا إذ فارقونا».

(٦) الاصطناع ـ هنا ـ : الاستمالة بالمال.

(٧) سورة البقرة / ٢٤٩.

٥٥٦

صعبه ويسهّل لنا حزنه ، وأنا قابل من رأيك ما كان لله رضا ، وأنت من آمن أصحابي وأوثقهم في نفسي وأنصحهم وأرآهم (١) عندي.

وقال : إنّ طائفة من أصحاب عليّ (ع) مشوا إليه فقالوا : يا أمير المؤمنين! أعط هذه الأموال وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف خلافه من النّاس وفراره.

قال : وإنّما قالوا له ذلك ، للّذي كان معاوية يصنع بمن أتاه ، فقال لهم عليّ : (ع) أتأمرونّي أن أطلب النّصر بالجور؟! والله لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السّماء نجم ، والله لو كان ما لهم لي لواسيت (٢) بينهم ، فكيف وإنّما هي أموالهم ... الحديث (٣).

وقد كان النّاس كرهوا عليّا ، ودخلهم الشّك والفتنة ، وركنوا إلى الدّنيا ، وقلّ مناصحوه ، فكان أهل البصرة على خلافه والبغض له ، وجلّ أهل الكوفة وقرّاؤهم ، وأهل الحجاز واهل الشام وقريش كلّها (٤).

وبما أنّ قريشا هي الّتي بدأت في قتاله ، وحرضت الناس عليه وقادتهم في حرب الجمل وصفين ، ثمّ بعث معاوية من شنّ الغارة على اطراف البلاد الّتي كانت تحت حكم الإمام مثل عبد الله بن عامر الحضرمي الّذي بعثه إلى البصرة وسفيان بن قيس الغامدي إلى الأنبار والنعمان بن بشير إلى الأنبار والضحّاك بن قيس الفهري إلى الحيرة وبسر بن أبي أرطأة إلى مكّة والمدينة واليمن (٥) فتزعزع

__________________

(١) وأرآهم : أسدهم رأيا.

(٢) والمواساة بالشيء : الاشتراك فيه ، يقال : آساه بماله مواساة أي جعله اسوته فيه ، كما يقال : واساه أيضا.

(٣) الغارات ، ص ٤٧ ـ ٤٨ ، وط. طهران ، ص ٧١ ـ ٧٥.

(٤) الغارات ، ص ٤٨.

(٥) راجع الغارات للثقفي ، ص ٣٠٧ فما بعد.

٥٥٧

حكم الإمام عليّ ، وخرجت الخوارج عليه بنهروان ، وتجرّأ الناس عليه ، فكان الإمام يشكو قريشا بمثل قوله (ع) :

اللهمّ إنّي استعديك (*) على قريش ومن أعانهم! فإنّهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيك منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي (١).

وقال :

اللهم انّي استعديك على قريش ومن أعانهم، فأنّهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي (٢).

واستعديك : استعينك ، واكفاء الاناء أو قلبه مجاز عن تضييع حقه.

وكتب في جواب أخيه عقيل بن أبي طالب :

فدع عنك قريشا وتركاضهم في الضلال ، وتجوالهم في الشّقاق ، وجماحهم في التّيه ، فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله (ص) قبلي ، فجزت قريشا عنّي الجوازي! فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن امّي (٣).

موجز أخبار المجتمع الإسلامي على عهد الإمام عليّ (ع)

قتل الخليفة عثمان دون أن يعين خليفة من بعده فملك جماهير المسلمين

__________________

(١) في الأصل : أستعينك ، والصّواب ما أثبتناه ، كما قال ذلك محمّد عبده في هامش الخطبة في شرحه لنهج البلاغة.

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٠ و ٢١٥ ، والغارات ، ص ٢٠٤ و ٣٩٢.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٠ و ٢١٥ ، والغارات ، ص ٢٠٤ و ٣٩٢.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد طبعة دار إحياء الكتب العربية ١٦ / ١٤٨ ، والطبعة المصرية الاولى ٤ / ٥٥. ونهج البلاغة ، شرح محمّد عبده ٣ / ٦٧ ـ ٦٨ ، (الكتاب / ٣٦). وتركاضهم : مبالغة في الركض واستعارة لسرعة خواطرهم في الضّلال ، وكذلك التجوال من الجول والجولان ، والشّقاق : الخلاف ، وجماحهم : استعفاؤهم على سابق الحق ، والتيه : الضّلال والغواية ، والجوازي : جمع جازية بمعنى المكافأة ؛ دعاء عليهم بالجزاء على أعمالهم.

٥٥٨

أمرهم ، وهرعوا إلى عليّ يتقدمهم صحابة رسول الله (ص) يطلبون بيعته فأبى عليهم ، وألحّت الجماهير عليه ، حتى اضطرّ إلى تلبية طلبهم ، فسبق الصحابيان طلحة والزّبير إلى بيعته ، ليكون لهما الدالّة عليه في حكمه ، وبدأ الإمام حكمه بتقسيم بيت المال بالسويّة ، وأعطى كلّا من المهاجرين والأنصار ومواليهم ثلاثة دنانير ولم يفضّل أحدا على أحد في العطاء.

فقال الأنصاري اليماني : هذا غلامي بالأمس وقد اعتقته اليوم ، فقال له : نعطيه كما نعطيك.

وعاتبه القرشي المهاجري على مخالفته عمر بن الخطاب في تقسيم الاموال وقال له قائلهم : انّك جعلت حقّنا في القسم كحقّ غيرنا ، وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا في ما افاء الله علينا بأسيافنا.

فقال : ان ذلك أمر لم احكم به بادئ ذي بدء! قد وجدت أنا وأنتما رسول الله (ص) يحكم بذلك وكتاب الله ناطق به ...

وقد ربح الأنصاري اليماني في حكم الإمام ما خسره في السابق ، فقد ولّى على المدينة سهل بن حنيف (١) ، وعلى البصرة عثمان بن حنيف ، وعلى مصر قيس ابن سعد بن عبادة (٢) ، وفي مقابل ذلك خسر المهاجري القرشي الّذي كان يعيش على رأس الهرم في النظام الطبقي كلّ امتيازاته ، فاتفقت سادات قريش بعضها مع بعض واجتمعوا مع الموتورين من بني اميّة في مسجد الرسول (ص) وأسرّوا القول في ما بينهم ثمّ اجهروا القول ، وطلب بنو اميّة من الإمام أن يضع عنهم ما أصابوا من المال على عهد الخليفة عثمان ، فقال : ليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم.

__________________

(١) تاريخ الإسلام للذهبي ، سنة ست وثلاثين ٢ / ١٤٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي (٢ / ١٧٨).

٥٥٩

فسكتوا على مضض وبقي طلحة والزّبير في المدينة أربعة أشهر يراقبان حكم الإمام بعد أن لم يحقق رغبتهما في توليتهما البصرة والكوفة.

وبلغ أخبار المدينة امّ المؤمنين عائشة وهي في طريق عودتها من الحج إلى المدينة فرجعت إلى مكة وأظهرت الطلب بدم عثمان وانقلبت من مفتية بقتله إلى طالبة بدمه ، فالتحق بها الساخطون على الإمام لتسويته في العطاء من قريش يقدمهم طلحة والزّبير وبنو اميّة وذهبوا جميعا إلى البصرة وأقاموا على الإمام حرب الجمل باسم الطلب بدم عثمان ، فسار إليهم الإمام من المدينة في جيش جلّه من الأنصار ، ولمّا انتصر عليهم في القتال وملك البصرة قسّم ما في بيت المال في البصرة عليهم بالسويّة ولم يفضّل أحدا على أحد ، ثمّ اتجه إلى الكوفة واتخذها عاصمة لحكمه.

وقادت قريش بزعامة معاوية أهل الشام لحربه في صفين باسم الطلب بدم عثمان ، ولمّا بان الانكسار عليهم ، رفعوا القرآن حيلة ، يطلبون من الإمام تحكيمه في ما بينهم ، فانطلت الحيلة على جيش الإمام ، وأكرهوا الإمام على قبول التحكيم ، وأن يعيّن من قبله أبا موسى الأشعري ، وعين معاوية عمرو بن العاص فخدع عمرو أبا موسى فخلع الإمام ومعاوية ، وتقدّم بعده عمرو فنصب معاوية وخلع الإمام ، فأدرك المتنسكون في جيش الإمام خطأهم ، وقالوا : كفرنا بقبولنا التحكيم وتبنا ، وكفّروا عامّة المسلمين وأحلّوا دماءهم ، فحاربهم الإمام في نهروان وقتل منهم من حضر القتال ، وعاد إلى الكوفة.

وألحّ على تهديم النظام الطبقي الّذي شيّده الخلفاء قبله واعتاده المجتمع الإسلامي في ربع قرن ، وساوى في العطاء ذات مرّة بين امرأة من الموالي واخرى عربية فقالت : يا أمير المؤمنين! إنّي امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم! فقال : إنّي لا أجد لبني إسماعيل ـ أي العرب ـ فضلا على بني إسحاق ـ أي العجم ـ ، وغضب على الأشعث بن قيس ـ وكان من ملوك كندة في الجاهلية ـ لمّا تخطّى

٥٦٠