القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

وأتى المغيرة بن شعبة عثمان فقال له : دعني آت القوم فأنظر ما ذا يريدون ، فمضى نحوهم ، فلمّا دنا منهم صاحوا به :

يا أعور وراءك! يا فاجر وراءك! يا فاسق وراءك!

فرجع ودعا عثمان عمرو بن العاص ، فقال له : ائت القوم فادعهم إلى كتاب الله والعتبى ممّا ساءهم ، فلمّا دنا منهم سلّم ، فقالوا : لا سلّم الله عليك! ارجع يا عدوّ الله! ارجع يا ابن النابغة! فلست عندنا بأمين ولا مأمون.

فقال له ابن عمر ، وغيره : ليس لهم إلّا عليّ بن أبي طالب ، فلمّا أتاه قال : يا أبا الحسن! ائت هؤلاء القوم فادعهم إلى كتاب الله وسنّة نبيه.

قال : نعم ، إن أعطيتني عهد الله وميثاقه على أنّك تفي لهم بكلّ ما أضمنه عنك.

قال : نعم ، فأخذ عليّ عهد الله وميثاقه على أوكد ما يكون وأغلظ وخرج إلى القوم.

فقالوا : وراءك!

قال : لا. بل أمامي ، تعطون كتاب الله وتعتبون من كل ما سخطتم.

فعرض عليهم ما بذل.

فقالوا : أتضمن ذلك عنه؟

قال : نعم.

قالوا : رضينا. وأقبل وجوههم وأشرافهم مع عليّ حتى دخلوا على عثمان وعاتبوه ، فأعتبهم من كلّ شيء.

فقالوا : اكتب بهذا كتابا ، فكتب :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين ، لمن نقم عليه من المؤمنين

٥٠١

والمسلمين ؛ أنّ لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه. يعطى المحروم. ويؤمن الخائف. ويردّ المنفيّ. ولا تجمّر في البعوث ، ويوفر الفيء ، وعليّ بن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين على عثمان بالوفاء بما في هذا الكتاب.

شهد الزّبير بن العوام

وطلحة بن عبيد الله

وسعد بن مالك أبي وقاص

وعبد الله بن عمر

وزيد بن ثابت

وسهل بن حنيف

وأبو أيّوب خالد بن زيد.

وكتب في ذي القعدة سنة ٣٥.

فأخذ كلّ قوم كتابا فانصرفوا.

ويظهر من رواية البلاذري وغيره ، أنّ الخليفة كان قد كتب للمصريين خاصّة كتابا آخر غير هذا عزل فيه ابن أبي سرح عنهم وولّى عليهم بدله محمّد ابن أبي بكر ، فقد جاء في رواية للبلاذري :

فقام طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة (رض) تسأله أن ينصفهم من عامله ، ودخل عليه عليّ بن أبي طالب وكان متكلّم القوم فقال له : إنّما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادّعوا قبله دما فاعزله عنهم واقض بينهم ، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه. فقال لهم : اختاروا رجلا اولّيه عليكم مكانه. فأشار الناس عليهم بمحمّد بن أبي بكر الصّدّيق (١) ، فقالوا : استعمل علينا محمّد بن أبي بكر. فكتب عهده وولّاه ووجّه معهم عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون في ما بينهم وبين ابن أبي سرح.

__________________

(١) يغلب على الظن أنّ امّ المؤمنين عائشة اخت محمّد ، وطلحة ابن عمّها وغيرهما من بني تيم لم يكونوا بعيدين عن هذه الإشارة.

٥٠٢

وقال عليّ بن أبي طالب (١) لعثمان : اخرج فتكلّم كلاما يسمعه الناس منك ويشهدون عليه ، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك ، فلا آمن ركبا آخرين يقدمون من الكوفة فتقول : يا عليّ! اركب إليهم. ولا أقدر أن أركب إليهم ، ولا أسمع عذرا ، ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول : يا عليّ! اركب إليهم ؛ فإن لم أفعل رأيتني قطعت رحمك ، واستخففت بحقك.

قال : فخرج عثمان فخطب الخطبة الّتي نزع فيها ، وأعطى من نفسه التوبة ، فقام فحمد الله ، وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال :

أمّا بعد ، أيّها الناس! فو الله ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله وما جئت شيئا إلّا وأنا أعرفه ، ولكنّي منّتني نفسي وكذبتني وضلّ عنّي رشدي ، ولقد سمعت رسول الله (ص) يقول : من زلّ فليتب ، ومن أخطأ فليتب ، ولا يتماد في الهلكة. إن تمادى في الجور كان أبعد من الطريق وأنا أوّل من اتّعظ. أستغفر الله ممّا فعلت وأتوب إليه فمثلي نزع وتاب ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم ، فو الله لئن ردّني الحقّ عبدا لأستنّ بسنّة العبد ، ولأذلّنّ ذلّ العبد ، ولأكوننّ كالمرقوق ؛ إن ملك صبر ، وإن عتق شكر ، وما عن الله مذهب إلّا إليه ، فلا يعجزنّ عنّي خياركم أن يدنوا إليّ ، فان أبت يميني لتتابعنّ شمالي.

قال : فرقّ الناس له يومئذ وبكى من بكى منهم ، وقام إليه سعيد بن زيد ، فقال : يا أمير المؤمنين! ليس بواصل لك من ليس معك ، الله الله في نفسك ، فأتمم على ما قلت ، فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيدا ونفرا من بني اميّة ، ولم يكونوا شهدوا الخطبة ، فلمّا جلس قال مروان : يا أمير المؤمنين! أتكلّم أم أصمت؟

__________________

(١) تتمّة الرّواية في أنساب الأشراف ٥ / ٦٤ ـ ٦٥ ، والطّبري ، ط. أوربا ١ / ٢٩٧٣ ـ ٢٩٧٥.

٥٠٣

فقالت نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان الكلبية : لا بل اصمت فإنّهم والله قاتلوه ومؤثّموه. إنّه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها. فأقبل عليها مروان وقال :

ما أنت وذاك فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ ، فقالت له : مهلا يا مروان عن ذكر الآباء ؛ تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه ، إنّ أباك لا يستطيع أن يدفع عنه ، أما والله لو لا أنّه عمّه وأنّه يناله غمّه لأخبرتك عنه ما لن أكذب عليه. قال : فأعرض عنها مروان ثمّ قال : يا أمير المؤمنين! أتكلّم أم أصمت؟ قال : بل تكلّم. فقال مروان : بأبي أنت وامّي والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع فكنت أوّل من رضي بها وأعان عليها ، ولكنّك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطبيّين (١) ، وخلّف السّيل الزّبى (٢) ، وحين أعطى الخطّة الذليلة الذليل ، والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوّف عليها وإنّك إن شئت تقرّبت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة ، وقد اجتمع عليك بالباب مثل الجبال من الناس ، فقال عثمان : فاخرج إليهم فكلّمهم فإنّي أستحيي أن اكلّمهم ، قال : فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا ، فقال : ما شأنكم قد اجتمعتم! كأنّكم قد جئتم للنّهب؟! شاهت الوجوه! كلّ إنسان آخذ بإذن صاحبه إلّا من اريد ، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا!؟ أخرجوا عنّا. أما والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم منّا أمر لا يسرّكم ولا تحمدوا غبّ رأيكم ، ارجعوا إلى منازلكم فإنّا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا. قال : فرجع الناس وخرج بعضهم حتى أتى عليّا فأخبره الخبر ، فجاء عليّ (ع) مغضبا حتّى دخل على عثمان ، فقال :

__________________

(١) أصل المثل : جاوز الحزام الطبيين. والطّبي : حلمة الضّرع ، وهو كناية عن المبالغة في تجاوز حدّ الشرّ والأذى.

(٢) أصل المثل : بلغ السيل الزّبى ، وهي جمع زبية وهي الرابية الّتي لا يعلوها الماء.

٥٠٤

أمّا رضيت من مروان ولا رضي منك إلّا بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به! والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثمّ لا يصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك وغلبت على أمرك.

فلمّا خرج عليّ دخلت عليه نائلة بنت الفرافصة امرأته ، فقالت : أتكلّم أم أسكت؟ فقال : تكلّمي. فقالت : قد سمعت قول عليّ لك ، وإنّه ليس يعاودك وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء. قال : فما أصنع؟ قالت : تتّقي الله وحده لا شريك له وتتبع سنّة صاحبيك من قبلك ؛ فانّك متى أطعت مروان قتلك ، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبّة ، وإنّما تركك الناس لمكان مروان ، فأرسل إلى عليّ فاستصلحه ، فإنّ له قرابة منك وهو لا يعصى. قال فأرسل عثمان إلى عليّ فأبى أن يأتيه ، وقال : قد أعلمته أنّي لست بعائد. فبلغ مروان مقالة نائلة فيه فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه فقال : أتكلّم أو أسكت؟ فقال : تكلّم. فقال : إن بنت الفرافصة. فقال عثمان : لا تذكرنّها بحرف فأسوئ لك وجهك ، فهي والله أنصح لي منك. فكفّ مروان.

وأخرج الطبري (١) بسنده إلى عبد الرّحمن بن الأسود بن عبد يغوث يذكر مروان بن الحكم قال :

قبّح الله مروان! خرج عثمان إلى الناس فأعطاهم الرضا وبكى على المنبر وبكى الناس حتى نظرت إلى لحية عثمان مخضلّة من الدموع وهو يقول :

اللهمّ إنّي أتوب إليك ، اللهمّ إنّي أتوب إليك ، اللهمّ إنّي أتوب إليك. والله لئن ردّني الحقّ إلى أن أكون عبدا قنّا لأرضين به ، إذا دخلت منزلي فادخلوا

__________________

(١) الطبري ٥ / ١١٢ ، وط. أوربا ١ / ٢٩٧٧ ـ ٢٩٧٩ ؛ وراجع ابن الأثير ٣ / ٥٨ ـ ٦٤ ، وقد أخرج البلاذري قسما منه في الأنساب ٥ / ٦٥.

٥٠٥

عليّ ، فو الله لا أحتجب منكم ، ولاعطينّكم ، ولأزيدنّكم على الرضا ، ولانحين مروان وذويه.

قال : فلمّا دخل أمر بالباب ففتح ودخل بيته ودخل عليه مروان ، فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتّى فتله عن رأيه ، وأزاله عمّا كان يريد. فلقد مكث عثمان ثلاثة أيّام ما خرج استحياء من الناس ، وخرج مروان إلى الناس فقال : شاهت الوجوه إلّا من اريد ، ارجعوا إلى منازلكم فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحد منكم يرسل إليه وإلّا قرّ في بيته ، قال عبد الرّحمن : فجئت إلى عليّ فأجده بين القبر والمنبر ، فأجد عنده عمار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر (١) وهما يقولان : صنع مروان بالناس وصنع ، قال : فأقبل عليّ عليّ.

فقال : أحضرت خطبة عثمان؟

قلت : نعم.

قال : أفحضرت مقالة مروان للناس؟

قلت : نعم.

قال عليّ : عياذ الله يا للمسلمين ، إنّي إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني وقرابتي وحقّي ، وإنّي إن تكلّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيّقة له يسوقه حيث شاء بعد كبر السنّ وصحبة رسول الله (ص).

قال عبد الرّحمن بن الأسود : فلم يزل حتى جاء رسول عثمان ائتني ، فقال عليّ بصوت مرتفع عال مغضب :

قل له : ما أنا بداخل عليك ولا عائد.

قال : فانصرف الرسول ، فلقيت عثمان بعد ذلك بليلتين جائيا ، فسألت «ناتلا» غلامه : من أين جاء أمير المؤمنين؟ فقال : كان عند عليّ ، فقال

__________________

(١) يظهر من هذه الرواية انّ هذه المحاورة في المسجد وقعت بعد رجوع المصريين.

٥٠٦

عبد الرّحمن بن الأسود : فغدوت فجلست مع عليّ (ع) فقال لي : جاءني عثمان بارحة فجعل يقول : إنّي غير عائد وإنّي فاعل ، قال : فقلت له : بعد ما تكلّمت به على منبر رسول الله (ص) وأعطيت من نفسك ، ثمّ دخلت بيتك ، وخرج مروان إلى الناس فشتمهم على بابك ويؤذيهم؟ قال : فرجع وهو يقول : قطعت رحمي وخذلتني وجرّأت الناس عليّ ، فقلت : والله إنّي لأذبّ الناس عنك ، ولكنّي كلّما جئتك بهنة أظنّها لك رضا جاء باخرى فسمعت قول مروان عليّ واستدخلت مروان. قال : ثمّ انصرف إلى بيته فلم أزل أرى عليّا منكّبا عنه لا يفعل ما كان يفعل ... الحديث.

أخرج الطبري (١) بسنده إلى عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : لمّا حصر عثمان الحصر الآخر ، قال عكرمة : فقلت لابن عبّاس : أو كانا حصرين؟ فقال ابن عباس : نعم ، الحصر الأوّل حصر اثنتي عشرة ، وقدم المصريون فلقيهم عليّ بذي خشب فردّهم عنه ، وقد كان والله عليّ له صاحب صدق حتى أوغر نفس عليّ عليه ، جعل مروان وسعيد وذووهما يحملونه على عليّ ، فيتحمّل ويقولون : لو شاء ما كلّمك أحد ، وذلك أنّ عليا كان يكلّمه وينصحه ، ويغلظ عليه في المنطق في مروان وذويه ، فيقولون لعثمان هكذا يستقبلك وأنت إمامه وسلفه وابن عمّه وابن عمّته ، فما ظنك بما غاب عنك منه ، فلم يزالوا بعليّ حتّى أجمع ألّا يقوم دونه ، فدخلت عليه اليوم الذي خرجت فيه إلى مكّة فذكرت له أنّ عثمان دعاني إلى الخروج ، فقال لي : ما يريد عثمان أن ينصحه أحد ؛ اتّخذ بطانة أهل غش ، ليس منهم أحد إلّا قد تسبّب بطائفة من الأرض ، يأكل خراجها ويستذلّ أهلها. فقلت له : إنّ له رحما وحقّا فإن رأيت أن تقوم دونه فعلت ، فإنّك لا تعذر إلّا بذلك ، قال : قال ابن عباس : فالله يعلم أنّي رأيت فيه الانكسار والرقّة لعثمان ، ثمّ إنّي لأراه يؤتى إليه عظيم ... الحديث.

__________________

(١) الطبري ٥ / ١٣٩ ، وط. أوربا ١ / ٣٠٣٨ ـ ٣٠٣٩.

٥٠٧

وأخرج (١) في حديث آخر له : أن عثمان صعد يوم الجمعة المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقام رجل فقال : أقم كتاب الله ، فقال عثمان : اجلس فجلس حتّى قام ثلاثا ، فأمر به عثمان فجلس ، فتحاثّوا بالحصباء حتى ما ترى السماء وسقط عن المنبر وحمل فادخل داره مغشيّا عليه ، فخرج رجل من حجّاب عثمان ومعه مصحف في يده وهو ينادي : «إنّ الّذين فارقوا (٢) دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنّما أمرهم إلى الله».

ودخل عليّ بن أبي طالب على عثمان رضى الله عنه وهو مغشيّ عليه وبنو اميّة حوله ، فقال : ما لك يا أمير المؤمنين؟ فأقبلت بنو اميّة بمنطق واحد فقالوا : يا عليّ! أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع بأمير المؤمنين ، أما والله لئن بلغت الّذي تريد لنمرّنّ عليك الدنيا. فقام عليّ مغضبا.

وأخرج في حديث آخر (٣) وقال : كتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة ، ويحتجّون ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبدا حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ الله ، فلمّا خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته فقال لهم : قد صنع القوم ما قد رأيتم فما المخرج؟ فأشاروا عليه أن يرسل إلى عليّ بن أبي طالب ، فيطلب إليه أن يردّهم عنه ، ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم ، حتى يأتيه إمداده.

فقال : إنّ القوم لن يقبلوا التعليل وهم محمّلي عهدا ، وقد كان منّي في قدمتهم الاولى ما كان ، فمتى اعطهم ذلك يسألوني الوفاء به.

__________________

(١) الطبري ٥ / ١١٣ ، وط. أوربا ١ / ٢٩٧٩ ـ ٢٩٩٠.

(٢) كذا وردت الكلمة في الطبري ٥ / ١١٣ ، أمّا في القرآن الكريم فقد جاءت : فَرَّقُوا.

(٣) الطبري ٥ / ١١٦ ـ ١١٧ ، وط. أوربا ١ / ٢٩٨٧ ـ ٢٩٨٩ ؛ وابن الأثير ٣ / ٧١ ـ ٧٢ ؛ وابن أبي الحديد ١ / ١٦٦.

٥٠٨

فقال مروان بن الحكم : يا أمير المؤمنين! مقاربتهم حتّى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب ، فأعطهم ما سألوك ، وطاولهم ما طاولوك فإنّما هم بغوا عليك فلا عهد لهم ، فأرسل إلى عليّ فدعاه ، فلمّا جاءه قال :

يا أبا حسن! إنّه قد كان من الناس ما قد رأيت وكان منّي ما قد علمت ، ولست آمنهم على قتلي ، فارددهم عنّي ، فإنّ لهم الله عزوجل أن أعتبهم من كل ما يكرهون ، وأن اعطيهم من نفسي ومن غيري وإن كان في ذلك سفك دمي. فقال له عليّ : الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ، وإنّي لأرى قوما لا يرضون إلّا بالرّضا ، وقد كنت أعطيتهم في قدمتهم الاولى عهدا من الله لترجعنّ عن جميع ما نقموا ، فرددتهم عنك ، ثمّ لم تف لهم بشيء من ذلك ، فلا تغرّني هذه المرّة من شيء ، فإنّي معطيهم عليك الحقّ.

قال : نعم ، فأعطهم فو الله لأفينّ لهم.

فخرج عليّ إلى الناس فقال : أيّها الناس! إنّكم إنّما طلبتم الحقّ فقد اعطيتموه ؛ إنّ عثمان زعم أنّه منصفكم من نفسه ومن غيره ، وراجع عن جميع ما تكرهون ، فاقبلوا منه ووكّدوا عليه.

قال الناس : قد قبلنا. فاستوثق منه لنا فإنّا والله لا نرضى بقول دون فعل.

فقال لهم عليّ : ذلك لكم ، ثمّ دخل عليه فأخبره الخبر.

فقال عثمان : اضرب بيني وبينهم أجلا يكون لي فيه مهلة فإنّي لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد.

قال عليّ : ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك.

قال : نعم ، ولكن أجّلني في ما بالمدينة ثلاثة أيّام.

قال عليّ : نعم. فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك ، وكتب بينهم وبين عثمان كتابا أجّله فيه ثلاثا على أن يردّ كلّ مظلمة ، ويعزل كل عامل كرهوه ، ثمّ أخذ

٥٠٩

عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق ، وأشهد عليه ناسا من وجوه المهاجرين والأنصار ، فكفّ المسلمون عنه ورجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه ، فجعل يتأهّب للقتال ويستعدّ بالسلاح ، وقد كان اتّخذ جندا عظيما من رقيق الخمس ، فلمّا مضت الأيّام الثلاثة وهو على حاله لم يغيّر شيئا ممّا كرهوا ، ولم يعزل عاملا ، ثار به الناس ، وخرج عمرو بن حزم الأنصاري حتّى أتى المصريين وهم بذي خشب ، فأخبرهم الخبر وسار معهم حتّى قدموا المدينة فأرسلوا إلى عثمان :

ألم نفارقك على أنّك تائب من أحداثك ، وراجع عمّا كرهنا منك وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه؟

قال : بلى أنا على ذلك.

قالوا : فما هذا الكتاب الّذي وجدنا مع رسولك وكتبت به إلى عاملك؟!

قال : ما فعلت ولا لي علم بما تقولون!

قالوا : بريدك على جملك ، وكتاب كاتبك عليه خاتمك!

قال : أمّا الجمل فمسروق ، وقد يشبه الخطّ الخطّ ، وأمّا الخاتم فقد انتقش عليه.

قالوا : فإنّا لا نعجل عليك وإن كنّا قد اتّهمناك ؛ اعزل عنّا عمّالك الفسّاق ، واستعمل علينا من لا يتهم على دمائنا وأموالنا ، واردد علينا مظالمنا.

قال عثمان : ما أراني إذا في شيء إن كنت أستعمل من هويتم وأعزل من كرهتم. الأمر إذا أمركم.

قالوا : والله لتفعلنّ ، أو لتعزلنّ ، أو لتقتلنّ. فانظر لنفسك أو دع ، فأبى عليهم وقال :

لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه الله.

٥١٠

وقصة عثور المصريين على الكتاب في ما أخرجه البلاذري وغيره (١) واللّفظ للبلاذري عن أبي مخنف قال : لمّا شخص المصريون بعد الكتاب الذي كتبه عثمان ، فصاروا بأيلة (٢) أو بمنزل قبلها رأوا راكبا خلفهم يريد مصر فقالوا له : من أنت؟ فقال : رسول أمير المؤمنين إلى عبد الله بن سعد ، وأنا غلام أمير المؤمنين وكان أسود. فقال بعضهم لبعض : لو أنزلناه وفتّشناه ألّا يكون صاحبه قد كتب فينا بشيء ، ففعلوا فلم يجدوا معه شيئا ، فقال بعضهم لبعض : خلّوا سبيله ، فقال كنانة بن بشر : أمّا والله دون أن أنظر في إداوته فلا. فقالوا : سبحان الله أيكون كتاب في ماء؟ فقال : إنّ للناس حيلا. ثمّ حلّ الإداوة فإذا فيها قارورة مختومة ـ أو قال مضمومة ـ في جوف القارورة كتاب في انبوب من رصاص فأخرجه فقرئ فإذا فيه :

أمّا بعد ، فإذا قدم عليك عمرو بن بديل فاضرب عنقه ، واقطع يدي ابن عديس ، وكنانة ، وعروة ، ثمّ دعهم يتشحّطون في دمائهم حتّى يموتوا. ثمّ أوثقهم على جذوع النخل.

فيقال : إنّ مروان كتب الكتاب بغير علم عثمان ، فلمّا عرفوا ما في الكتاب ، قالوا : عثمان محلّ ، ثمّ رجعوا عودهم على بدئهم حتّى دخلوا المدينة فلقوا عليا بالكتاب ، وكان خاتمه من رصاص ، فدخل به عليّ على عثمان فحلف بالله ما هو كتابه ولا يعرفه ، وقال : أما الخط فخط كاتبي وأمّا الخاتم فعلى خاتمي ، قال عليّ : فمن تتّهم؟ قال : أتّهمك وأتّهم كاتبي. فخرج عليّ مغضبا وهو يقول : بل هو أمرك.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٢٦ ـ ٦٩ و ٩٥ ؛ والطبري ٥ / ١١٩ ـ ١٢٠ ، وط. أوربا ١ / ٢٩٨٤ ـ ٢٩٩٧ ؛ والرياض النضرة ٢ / ١٢٣ ـ ١٢٥ ؛ وراجع المعارف لابن قتيبة ، ص ٨٤ ؛ والعقد الفريد ٢ / ٢٦٣ ؛ وابن الأثير ٣ / ٧٠ ـ ٧١ ؛ وابن أبي الحديد ١ / ١٦٥ ـ ١٦٦ ؛ وابن كثير ٧ / ١٧٣ ـ ١٨٩ ؛ وتاريخ الخميس ٢ / ٢٥٩.

(٢) آخر الحجاز وأوّل الشام.

٥١١

قال أبو مخنف : وكان خاتم عثمان بدءا عند حمران بن أبان ، ثمّ أخذه مروان حين شخص حمران إلى البصرة فكان معه.

وفي رواية اخرى : ثمّ وجدوا كتابا إلى عامله على مصر أن يضرب أعناق رؤساء المصريين ، فرجعوا ودفعوا الكتاب إلى عليّ ، فأتاه به ، فحلف له أنّه لم يكتبه ولم يعلم به.

فقال له عليّ : فمن تتّهم فيه؟

فقال : أتّهم كاتبي وأتّهمك يا عليّ! لأنّك مطاع عند القوم ولم تردّهم عنّي.

وجاء المصريون إلى دار عثمان فأحدقوا بها ، وقالوا لعثمان وقد أشرف عليهم :

يا عثمان! أهذا كتابك؟ فجحد وحلف.

فقالوا : هذا شرّ ، يكتب عنك بما لا تعلمه ، ما مثلك يلي امور المسلمين ، فاختلع من الخلافة.

فقال : ما كنت لأنزع قميصا قمّصنيه الله.

وقالت بنو اميّة : يا عليّ! أفسدت علينا أمرنا ودسست وألّبت.

فقال : يا سفهاء! إنّكم لتعلمون أنّه لا ناقة لي في هذا ولا جمل ، وإنّي رددت أهل مصر عن عثمان ثمّ أصلحت أمره مرّة بعد اخرى ، فما حيلتي؟ وانصرف وهو يقول : اللهمّ إنّي بريء ممّا يقولون ومن دمه إن حدث به حدث.

قال : وكتب عثمان حين حصروه كتابا قرأه ابن الزّبير على الناس ـ وقيل بل قرأه الزّبير والأوّل أصحّ ـ يقول فيه :

والله ما كتبت الكتاب ، ولا أمرت به ، ولا علمت بقصّته ، وأنتم معتبون من كلّ ما ساءكم ، فأمّروا على مصركم من أحببتم وهذه مفاتيح بيت مالكم ، فادفعوها إلى من شئتم.

٥١٢

فقالوا : قد اتّهمناك بالكتاب فاعتزلنا.

وفي رواية اخرى للطبري (١) : حتّى إذا كانوا بالبويب وجدوا غلاما لعثمان معه كتاب إلى عبد الله بن سعد فكرّوا وانتهوا إلى المدينة وقد تخلّف بها من الناس الأشتر وحكيم بن جبلة ، فأتوا بالكتاب فأنكر عثمان أن يكون كتبه وقال : هذا مفتعل.

قالوا : فالكتاب كتاب كاتبك.

قال : أجل ، ولكنّه كتبه بغير أمري.

قالوا : فإنّ الرسول الّذي وجدنا معه الكتاب غلامك.

قال : أجل ولكنّه خرج بغير إذني.

قالوا : فالجمل جملك.

قال : أجل ولكنّه اخذ بغير علمي.

قالوا : ما أنت إلّا صادق أو كاذب. فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقّها ، وإن كنت صادقا فقد استحققت أن تخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك ، لأنّه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته ، وقالوا له : إنّك ضربت رجالا من أصحاب النبيّ (ص) وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عند ما يستنكرون من أعمالك ، فأقد من نفسك من ضربته وأنت له ظالم.

فقال : الإمام يخطئ ويصيب ، فلا أقيد من نفسي لأنّي لو أقدت كلّ من أصبته بخطإ آتي على نفسي.

قالوا : إنّك قد أحدثت أحداثا عظاما فاستحققت بها الخلع ، فإذا كلّمت فيها أعطيت التوبة ، ثمّ عدت إليها وإلى مثلها ، ثمّ قدمنا عليك فأعطيتنا التوبة

__________________

(١) الطبري ٥ / ١٢٠ ـ ١٢١ ، وط. أوربا ١ / ٢٩٩٥ ـ ٢٩٩٧.

٥١٣

والرجوع إلى الحق ، ولامنا فيك محمّد بن مسلمة وضمن لنا ما حدث من أمر فأحضرته فتبرّأ منك وقال : لا أدخل في أمره ، فرجعنا أوّل مرّة لنقطع حجّتك ونبلغ أقصى الإعذار إليك نستظهر بالله عزوجل عليك ، فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب وزعمت أنّه كتب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتمك ، فقد وقعت عليك بذلك التّهمة القبيحة مع ما بلونا منك قبل ذلك من الجور في الحكم والأثرة في القسم ، والعقوبة للأمر بالتبسّط من الناس ، والإظهار للتوبة ثمّ الرجوع إلى الخطيئة ، ولقد رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتّى نخلعك ونستبدل بك من أصحاب رسول الله (ص) من لم يحدث مثل ما جرّبنا منك ، ولم يقع عليه من التّهمة ما وقع عليك فاردد خلافتنا واعتزل أمرنا ، فإنّ ذلك أسلم لنا منك ، وأسلم لك منّا.

فقال عثمان : فرغتم من جميع ما تريدون؟

قالوا : نعم.

قال ـ بعد الحمد والثناء ـ : أمّا بعد ، فانّكم لم تعدلوا في المنطق ولم تنصفوا في القضاء ، أمّا قولكم : تخلع نفسك ؛ فلا أنزع قميصا قمّصنيه الله عزوجل وأكرمني به وخصّني به على غيري ، ولكنّي أتوب وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون ، فإنّي والله الفقير إلى الله الخائف منه.

قالوا : إنّ هذا لو كان أوّل حدث أحدثته ثمّ تبت منه ولم تقم عليه لكان علينا أن نقبل منك ، وأن ننصرف عنك ، ولكنّه قد كان منك من الأحداث قبل هذا ما قد علمت ولقد انصرفنا عنك في المرّة الاولى وما نخشى أن تكتب فينا ولا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك ، وكيف نقبل توبتك ، وقد بلونا منك أنّك لا تعطي من نفسك التوبة من ذنب إلّا عدت إليه؟ فلسنا منصرفين حتّى نعزلك ونستبدل بك ، فإن حال من معك من قومك وذوي رحمك وأهل الانقطاع دونك بقتال قاتلناهم حتّى نخلص إليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بالله.

٥١٤

فقال عثمان : أمّا أن أتبرأ من الإمارة فإن تصلبوني أحبّ إليّ من أن أتبرّأ من أمر الله عزوجل وخلافته ، وأمّا قولكم : تقاتلون من قاتل دوني ؛ فإنّي لا آمر أحدا بقتالكم ، فمن قاتل دوني فإنّما يقاتل بغير أمري ، ولعمري لو كنت اريد قتالكم لقد كتبت إلى الأجناد ، فقادوا الجنود ، وبعثوا الرجال أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو العراق ، فالله الله في أنفسكم ؛ أبقوا عليها إن لم تبقوا عليّ ؛ فإنّكم مجتلبون بهذا الأمر إن قتلتموني دما. قال : ثمّ انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب وأرسل إلى محمّد بن مسلمة فكلّمه أن يردّهم فقال : والله لا أكذب الله في سنة مرّتين.

وفي رواية اخرى للبلاذري (١) :

إنّ المصريين لمّا قدموا فشكوا عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، سألوا عثمان أن يولي عليهم محمّد بن أبي بكر. فكتب عهده وولّاه ووجّه معهم عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون في ما بينهم وبين ابن أبي سرح ، فشخص محمّد بن أبي بكر وشخصوا جميعا ؛ فلمّا كانوا على مسيرة ثلاث من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير وهو يخبط البعير خبطا كأنّه رجل يطلب أو يطلب.

فقال له أصحاب محمّد بن أبي بكر : ما قصّتك وما شأنك؟ كأنّك هارب أو طالب.

فقال لهم مرّة : أنا غلام أمير المؤمنين ، وقال مرّة اخرى : أنا غلام مروان ، وجّهني إلى عامل مصر برسالة.

قالوا : فمعك كتاب؟

قال : لا. ففتّشوه ، فلم يجدوا معه شيئا ، وكانت معه إداوة قد يبست فيها شيء يتقلقل فحرّكوه ليخرج فلم يخرج ، فشقّوا الإداوة فإذا فيها كتاب من عثمان

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٦٧ ـ ٦٨.

٥١٥

إلى ابن أبي سرح.

فجمع محمّد من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم ثمّ فكّ الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه :

إذا أتاك محمّد بن أبي بكر وفلان وفلان ، فاحتل لقتلهم وأبطل كتاب محمّد وقرّ على عملك حتّى يأتيك رأيي ، واحبس من يجيء إليّ متظلّما منك إن شاء الله.

فلمّا قرءوا الكتاب فزعوا وغضبوا ورجعوا إلى المدينة وختم محمّد بن أبي بكر الكتاب بخواتيم نفر ممّن كان معه ، ودفعه إلى رجل منهم وقدموا المدينة ، فجمعوا عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان من أصحاب النبي (ص) ثمّ فكّوا الكتاب بمحضر منهم ، وأخبروهم بقصة الغلام وأقرءوهم الكتاب ، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلّا حنق على عثمان ، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وعمّار ابن ياسر وأبي ذر حنقا وغيظا ، وقام أصحاب النبيّ (ص) بمنازلهم ما منهم أحد إلّا وهو مغتمّ لما في الكتاب.

وحاصر الناس عثمان ، وأجلب عليه محمّد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم ، وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله ، وكانت عائشة تقرصه كثيرا ... الحديث.

وفي البدء والتاريخ (١) : كان أشدّ الناس على عثمان طلحة والزبير ومحمّد بن أبي بكر وعائشة ، وخذله المهاجرون والأنصار ، وتكلّمت عائشة في أمره ، وأطلعت شعرة من شعرات رسول الله (ص) ونعله وثيابه وقالت : ما أسرع ما نسيتم سنّة نبيّكم ، فقال عثمان في آل أبي قحافة ما قال وغضب حتّى ما كان يدري ما يقول ، انتهى.

كان أشدّ الناس على عثمان رءوس آل تيم الثلاثة : امّ المؤمنين عائشة

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٢٠٥.

٥١٦

وأخوها محمّد بن أبي بكر وابن عمها طلحة بن عبيد الله ، وذكروا من مواقف امّ المؤمنين مع عثمان شيئا كثيرا. وقد مرّ بعضها في ذكر موقف امّ المؤمنين عائشة.

استمداد الخليفة من الإمام عليّ لفكّ الحصار عنه :

ولمّا رأى عثمان استيلاء طلحة على بيوت الأموال واشتداد الحصار عليه بعث عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بهذا البيت إلى عليّ :

فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي

وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق(١)

وكان عليّ عند حصر عثمان بخيبر فقدم المدينة والناس مجتمعون عند طلحة وكان ممن له فيه أثر ، فلمّا قدم عليّ أتاه عثمان وقال له :

أمّا بعد ، فإنّ لي حقّ الإسلام ، وحقّ الإخاء ، والقرابة ، والصّهر ، ولو لم يكن من ذلك شيء وكنّا في الجاهلية لكان عارا على بني عبد مناف أن ينتزع أخو بني تيم ـ يعني طلحة ـ أمرهم.

فقال له عليّ : سيأتيك الخبر ، ثمّ خرج إلى المسجد فرأى اسامة (٢) فتوكّأ

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٧٨ ، وقد أورد محاورة عثمان والإمام عليّ كل من الطبري ٥ / ١٥٤ ؛ وابن الأثير ٣ / ٦٤ ؛ وكنز العمال ٦ / ٣٨٩ ، الحديث ٥٩٦٥ ، وقد تخيّرنا لفظ ابن الأثير لأنّه أتمّ وأخصر ؛ وراجع الكامل للمبرد ، ص ١١ ، ط. ليدن ؛ وزهر الآداب ١ / ٧٥ ، ط. الرحمانية ؛ وابن أعثم ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٢) اسامة مولى رسول الله (ص) وابن مولاه زيد بن حارثة وابن مولاته وحاضنته امّ أيمن وكان يسمّى حبّ رسول الله (ص) ، أمّره رسول الله في مرض موته على جيش كان قد انتدبهم لغزو الشام واستوعب في الجيش المهاجرين الأوّلين. توفّي سنة ٥٤ ، أو ٥٨ ، أو ٥٩.

ترجمته في الاستيعاب رقم ١٢ ، وأسد الغابة ١ / ٦٥ ـ ٦٦ ، والإصابة.

٥١٧

على يده حتى دخل دار طلحة وهي رجّاس (١) من الناس فقال له : يا طلحة! ما هذا الأمر الّذي وقعت فيه (٢)؟!

فقال : يا أبا الحسن بعد ما مس الحزام الطّبيين ، فانصرف عليّ ولم يحر إليه شيئا حتّى أتى بيت المال ، فقال افتحوا هذا الباب ، فلم يقدر على المفاتيح فقال : اكسروه فكسر باب بيت المال ، فقال : أخرجوا المال ، فجعل يعطي الناس فبلغ الّذين في دار طلحة الّذي صنع عليّ ، فجعلوا يتسلّلون إليه حتّى ترك طلحة وحده ، وبلغ عثمان الخبر فسرّ بذلك ، ثمّ أقبل طلحة يمشي عائدا إلى دار عثمان ... فلمّا دخل عليه قال : يا أمير المؤمنين! أستغفر الله وأتوب إليه أردت أمرا فحال الله بيني وبينه ، فقال عثمان : إنّك والله ما جئت تائبا ولكنّك جئت مغلوبا. الله حسيبك يا طلحة ... انتهى.

وروى الطبري وقال : فحصروه أربعين ليلة وطلحة يصلّي بالناس (٣).

وروى البلاذري وقال : لم يكن أحد من أصحاب النبيّ (ص) أشدّ على عثمان من طلحة (٤).

مقتل الخليفة :

روى البلاذري (٥) وقال : وكان الزبير وطلحة قد استوليا على الأمر ومنع طلحة عثمان أن يدخل عليه الماء العذب فأرسل عليّ إلى طلحة وهو في أرض له

__________________

(١) رجّاس ، الرجس : الصوت الشديد. سحاب ورعد رجّاس : شديد الصوت.

(٢) وفي رواية الطبري ، ط. أوربا ١ / ٣٠٧١ منه ، أنّ عليّا قال لطلحة : انشدك الله إلّا رددت الناس عن عثمان ، قال : لا والله حتى تعطي بنو اميّة الحق من أنفسها.

(٣) الطبري ٥ / ١١٧ ، وط. أوربا ١ / ٢٩٨٩.

(٤) أنساب الأشراف ٥ / ٨١.

(٥) أنساب الأشراف ٥ / ٩٠.

٥١٨

على ميل من المدينة أن دع هذا الرجل فليشرب من مائه ومن بئره ، يعني من رومة ولا تقتلوه من العطش فأبى ... الحديث.

وقال الطبري (١) : (ولمّا اشتدّ الحصار بعثمان ومنع عنه الماء أرسل عثمان إلى عليّ يستسقيه ، فجاء فكلّم طلحة في أن يدخل عليه الروايا ، وغضب غضبا شديدا حتّى دخلت الروايا على عثمان).

وقال البلاذري (٢) : (فحاصر الناس عثمان ومنعوه ، فأشرف على الناس فقال : أفيكم عليّ؟ فقالوا : لا ، فقال : أفيكم سعد؟ فقالوا : لا ، فسكت ، ثمّ قال : ألا أحد يبلّغ عليّا فيسقينا ، فبلغ ذلك عليّا فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة فما كادت تصل إليه ، وجرح بسببها عدّة من موالي بني هاشم وبني اميّة ، حتّى وصلت إليه) ومرّ مجمّع بن جارية الأنصاري (٣) بطلحة بن عبيد الله فقال : يا مجمّع ما فعل صاحبك؟

قال : أظنكم والله قاتليه!

فقال طلحة : فان قتل فلا ملك مقرب ولا نبيّ مرسل (٤).

وروى الطبري (٥) عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة أنّه قال : دخلت على عثمان فتحدّثت عنده ساعة. فقال : يا ابن عياش! تعال. فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على باب عثمان فسمعنا كلاما ؛ منهم من يقول : من تنظرون به؟

__________________

(١) الطبري ٥ / ١١٣.

(٢) أنساب الأشراف ٥ / ٦٨ ـ ٦٩.

(٣) مجمع بن جارية بن عامر الأنصاري الأوسي ، وكان أبوه ممّن اتّخذ مسجد الضرار وكان هو غلاما حدثا قد جمع القرآن على عهد رسول الله (ص) إلّا سورة أو سورتين. ترجمته في أسد الغابة ٥ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٤) أنساب الأشراف ٥ / ٧٤.

(٥) الطبري ٥ / ١٢٢ ، وط. أوربا ١ / ٣٠٠٠ ؛ وابن الأثير ٣ / ٧٣.

٥١٩

ومنهم من يقول : أنظروا عسى أن يراجع. فبينا أنا وهو واقفان إذ مرّ طلحة بن عبيد الله فوقف فقال : اين ابن عديس (١).

فقيل : ها هو ذا.

قال : فجاءه ابن عديس فناجاه بشيء ، ثمّ رجع ابن عديس فقال لأصحابه : لا تتركوا أحدا يدخل على هذا الرجل ولا يخرج من عنده. فقال عثمان : اللهمّ اكفني طلحة بن عبيد الله فإنّه حمل عليّ هؤلاء وألّبهم. والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا وأن يسفك دمه ، إنّه انتهك منّي ما لا يحلّ له ... قال ابن عياش : فأردت أن أخرج فمنعوني حتّى مرّ بي محمّد بن أبي بكر ، فقال : خلّوا سبيله فخلّوني ...

وبلغ عليّا أنّ القوم يريدون قتل عثمان ... فقال للحسن والحسين : اذهبا بسيفيكما حتّى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه ...

فخضب الحسن بالدماء على بابه وشجّ قنبر مولى عليّ ، فلمّا رأى ذلك محمّد بن أبي بكر خشي أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيروها فتنة ، فأخذ بيد رجلين فقال لهما : إن جاءت بنو هاشم فرأت الدماء على وجه الحسن كشفوا الناس عن عثمان وبطل ما تريدون ولكن مروا بنا حتى نتسوّر عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم ، فتسوّر محمّد وصاحباه من دار رجل من الأنصار حتّى دخلوا على عثمان وما يعلم أحد ممّن كان معه لأنّهم كانوا فوق البيوت ولم يكن معه إلّا امرأته ، فقال محمّد بن أبي بكر : أنا أبدأكما بالدخول فإذا أنا ضبطته فادخلا فتوجّئاه حتى تقتلاه ، فدخل محمّد فأخذ بلحيته ، فقال عثمان : لو رآك

__________________

(١) هو عبد الرّحمن بن عديس البلوي.

وكان ممّن بايع النبيّ تحت الشجرة وشهد الشجرة وشهد فتح مصر واختط بها. وكان ممّن سار إلى عثمان من مصر. وسجنه معاوية بعد بفلسطين وقتل سنة ٣٦ ه‍ بعد أن هرب من السجن. الإصابة ، حرف العين ، القسم الأوّل ٢ / ٤٠٣ ، رقم الترجمة ٥١٦٥.

٥٢٠