القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

أرادوا خداع المسيحيين. ممّا حدا بالبابا أنوسنتي الحادي عشر باختياره للعمل عنده وأسبغ ثقته الكاملة عليه. وكان يمكن أن يرفع لأعلى المناصب الكنيسية لو لا تواضع ماراكيوس ورفضه للمناصب. وبتوجيهات من البابا شرع في ترجمة لاتينية جديدة للقرآن الكريم ، وذلك للردّ على المسلمين وللجدل الديني. وعند ما انتهى من عمله بعد أربعين سنة كان قد سطر (عدّة مجلّدات) وفي هذه المجلدات كتب النصّ القرآني العربي علاوة على الترجمة اللّاتينية الحرفية ، وفي هذه المرّة رقم الآيات ثمّ أتبع ذلك برأي المسلمين في شرحها ، وأتبع ذلك بالنقد والرفض والهجوم الجدلي على القرآن الكريم.

وقد كانت لمراكيوس حرية الاستعانة بمكتبة الفاتيكان ومجموعات مكتبية اخرى كثيرة منها المجموعة المارونية ـ المجموعة الكارمالية ، مكتبة الكاردينال كاميللي ماكسيميس ، مكتبة إبراهيم الماروني وغيرها. وطبعت ترجمته أوّل مرّة في مدينة بدوا الإيطالية عام ١٦٩٨ ثمّ في ليبزج عام ١٧٢١ مع مقدّمة

__________________

ـ (طبعة ليبزج ١٧٢١ م).

٧٤١

لكرستيان رنيشي.

كما شارك في ترجمة الإنجيل إلى اللغة العربية بمبادرة من مطران حلب عام ١٦٢٤ ونشرت في روما عام ١٦٧١ م.

وإن كان للشر أن يقيّم فإنّه يمكن القول أن ترجمة ماراكيوس كانت أكثر رفضا وتجريحا من سابقتها ، فهي أشدّ جدلا وهجوما على القرآن الكريم وأدق ترجمة وأوسع مصادر وأكثر عمقا وخبثا ، فشتّان بين عمل يستمر أربعين سنة من عالم زاهد متمكّن من عدّة لغات شرقية ، وتحت يده مكتبات الكنائس ومجموعات اخرى غنية بالكتب ، وبين عمل روبرت من كيتون الفلكي الرياضي الّذي ترجم وسبّ وهاجم في سنة واحدة وليس عنده كل تلكم المراجع ولا المعرفة باللغات الشرقية. ولا شكّ أنّ تفنيدا استغرق أربعين سنة يكون أكثر شرّا من سابقه.

وإذا كان لترجمة ديركلوني اللّاتينية الاولى الأثر الأكبر على التراجم في اللّغات الأوربية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ، فإنّ ترجمة ماراكيوس كان لها الأثر الأكبر على التراجم في اللّغات الأوربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، وبقدر الفرق بين الترجمتين الاولى والثانية من الناحية الأكاديمية كان الفرق بين الترجمات الأوربية المتأثرة بالاولى والترجمات الأوربية المتأثرة بالثانية. فإذا قلنا بتفاهة ترجمة دي ريور ، فيمكن إرجاع ذلك للمنبع الّذي أخذت منه وهي ترجمة كلوني ، وإذا قيل انّ ترجمة جورج سال أكثر أكاديمية من ترجمات روس وتيلور فهذا بديهي فماراكيوس قدم له ترجمة أكثر دقة من سابقه. وهو نفس الفرق الّذي نجده في الألمانية بين ترجمة سلمون شفايجر (عن الكلوني) وترجمة دافيد نريتر (عن ماراكيوس) وان رجع الصدى يطابق مصدر الصوت.

٧٤٢

إنّ مقدمة ترجمة ماراكيوس تشبه مقدمة ترجمة بيتر الكلوني. فقد فصّل وجهة النظر المسيحية ونعى المسيحية إهمالها لمهاجمة الإسلام وجدّد الهجوم بطريقة أكثر إحكاما وتقدما من سابقه ، والترجمة من الناحية اللغوية أدقّ من ترجمة الكلوني وأصبحت مصدرا لترجمة جورج سال الإنجليزية.

وإنّ روح النقد والشبهات اللّذين أثارهما ماراكيوس ليسا جديدين على الترجمات اللّاتينية فبعضها يصب في بعض.

وما سمّاه prodromus في مقدّمة ترجمته ، محاولا أن يثبت أنّ الإسلام ونبيّ الإسلام لم يذكرا في الكتب السماوية وأنّ الإسلام لم يدعّم بالمعجزات مثل المسيحية ، ويدافع عن الفكرة المسيحية في التثليث ، وعن استحالة أن يفسد المسيحيون كتابهم بأيديهم ، كما يدافع عن تشر ذم المسيحية إلى مذاهب كثيرة متعدّدة بعكس الإسلام ، كما يهاجم الإسلام متهما إيّاه بالعنف والإغراق في الجنس.

أمّا ما سمّاه pefutationes والّذي ورد مع نصّ الترجمة آية بآية فإنّه لم يغادر شيئا إلّا ونقده ويمكن القول أنّه قد جمع فيه كل ما قالته المسيحية في الإسلام. وقال ماراكيوس أنّه عند ما سرد سيرة الرسول (ص) ، ورجع إلى المصادر العربية فإن ذلك ليس لثقتي بهذه المصادر ، ولكن عند ما نحارب أعداء الدّين ، فإنّنا نهاجمهم بسلاحهم هم وليس بسلاحنا ، لذا فإنّنا عند ما ننتصر عليهم تكون سعادتنا أكبر.

أثر الترجمة اللّاتينية الثانية لماراكيوس :

بعد ظهور ترجمة ماراكيوس ، قام دافيد نريتر بترجمته إلى الألمانية عام ١٧٠٣ م نقلا عن ماراكيوس. وكانت أوسع ترجمة انتشارا نقلت عن ماراكيوس

٧٤٣

هي الترجمة الإنجليزية لجورج سال (١) عام ١٧٣٤ م. وإذا كانت ترجمة دي ريور هي رجع الصدى لترجمة الكلوني اللّاتينية الاولى والّتي حملت ميكروب التهجم إلى اللّغات الأوربية ، فإنّ ترجمة جورج سال كانت رجع الصّدى لترجمة ماراكيوس ، وكانت الأداة الّتي نقلت أفكاره إلى اللّغات الأوربية أيضا.

ويمكن ملاحظة ذلك من الجدول التالي وفيه نرى أن لكل من الترجمتين اللّاتينيتين تابع رئيسي (٢) وزع تأثيرهما على باقي اللّغات الأوربية.

__________________

(١) جورج سال george sale (١٦٩٧ ـ ١٧٣٦ م).

ولد جورج سال في مقاطعة كنت حوالي عام ١٦٩٧ ، أبوه صاموئيل سال كان يعمل تاجرا في لندن ، وتلقى تعليمه في كنجز سكول في كانتر بري ، ثمّ التحق كطالب بمعبد (lnner temple) عام ١٧٢٠. وفي نفس العام أرسل بطريرك أنطاكية سلمون نجري إلى لندن ليحث جمعية تقدم المعرفة المسيحية الّتي أسّست (المعبد الأوسطmiddle temple) بالقيام بإصدار إنجيل باللّغة العربية لاستعمال السوريين المسيحيين ، ويظن أن سلمون نجري كان أوّل من علّمه العربية كما أن ترجمان الملك ويدعى داديشي dadichi وهو يوناني من حلب كان يعلمه اللّغات الشرقية. ومهما كان الكم الّذي تعلمه جورج من العربية فإنّه تقدّم للجمعية عارضا خدماته ليكون مصححا للإنجيل العربي المذكور ، وسرعان ما أصبح مشرفا على المشروع كله علاوة على أنّه أصبح محاميا للجمعية المذكورة.

زعم فوليتر في كتابه «القاموس الفلسفي» dictionaire phlosophique أن جورج أمضى خمسة وعشرين عاما في بلاد العرب. وهذا الخطأ الّذي وقع فيه فوليتر والّذي لا دليل عليه على الاطلاق تؤكده مدة حياته فقد مات محموما ولم يبلغ الأربعين من عمره. وظهرت ترجمته للقرآن الكريم عام ١٧٣٤ م مع مقدمة مسهبة عن الدين الإسلامي حشاها بالإفك واللّغو والتجريح ، وقد نقلها إلى العربية أمين الهاشم العربي وطبعت بالقاهرة عام ١٩١٣ م ، ومنذ ظهور ترجمته طبعت حتى الآن ١٠٥ طبعة في لندن وشيكاغو وفيلادلفيا ونيويورك وبوسطن وباريس.

(٢) كذا في الأصل.

٧٤٤

القرن

الترجمة اللّاتينية

التابع الرئيسي

اللغات الّتي نقلت عن التابع الرئيسي

١٦

ترجمة دير

دي ريور

الايطالية ـ الهولندية ـ الالمانية

و ١٧

كلوني

(فرنسية)

الفرنسية ـ الروسية

١٨

ترجمة

جورج سال

الانجليزية ـ الفرنسية ـ اللّاتينية

و

ماراكيوس

(إنجليزية)

الالمانية ـ الروسية ـ الهولندية

١٩

الايطالية ـ الالبانية ـ البلغارية

المجرية ـ التشيكية

وما أن انتشرت ترجمة جورج سال بالإنجليزية ، حتى تلتها ترجمة له بالفرنسية عام ١٧٥٠ م ، نقل عنها ك. سافاري عام ١٧٨٣ م بالفرنسية ، وكازيميرسكي عام ١٨٤٠ م بالفرنسية ، ثمّ أيضا تيودور أرنولد عن سال بالألمانية عام ١٧٤٦ م ، ثمّ جورج سال بالروسية عام ١٧٩٢ م ، ثمّ سافاري بالروسية لمجهول عام ١٨٤٤ م ، ونيكولاييف عن سال وكازيميرسكي بالروسية عام ١٨٦٤ م ، ثمّ كولييه في بتافيا بالهولندية عام ١٨٥٩ م وجيوفاني بانزيري (١) بالايطالية عام ١٨٨٢ م.

ثمّ فينسنت إدرتيز ديلابويبلا بالأسبانية عام ١٨٢٢ م ، ثمّ الوميتكو قافزيزي بالألبانية عام ١٩٢١ م ، فنيكولاس ليتزا عام ١٩٠٢ ، ١٩١٠ م بالبلغارية ، ثمّ تيموفوف بالبلغارية عام ١٩٣٠ م ، وهكذا نجد أن أفكار ماراكيوس قد حطّمت حاجز المكان والزمان وأخذت تزرق دما فاسدا في

__________________

(١) شوفان يعتقد أن هذه الترجمة عن ك. سافاري وليس عن سال ، وفي كلا الحالين فإنّ الأصل هو ماراكيوس.

ـ أوّل ترجمة مجريةszdmajer ,lmre عام ١٨٣١ م مأخوذة عن ماراكيوس.

ـ يقول آرثر جفري ان أوّل ترجمة إلى اللغة التشيكية كانت عن ماراكيوس أيضا وكانت ل فيسلي إجناز عام ١٩١٣ م vesly lgnac.

٧٤٥

رءوس الأوربيين بشتى اللّغات كالوباء الّذي يستشري حتى لا يجد ما يطحنه فينتقل إلى مكان آخر أو يظهر بعد عدة سنوات.

ويقول جورج سال عن ترجمة ماراكيوس : «إن ترجمة ماراكيوس بصفة عامة مضبوطة ولكنها حرفية سهلة الفهم إن لم أكن قد خدعت بمن ليسوا على علم بدين محمّد. والشروح الّتي أضافها كانت ذات فائدة كبيرة ولا شكّ ، ولكنّ ردّه ونقده للقرآن ضخّم عمله إلى مجلّد كبير لا طائل منه وغير شاف وأحيانا خارج عن الموضوع.

وعموما فالعمل بكل أخطائه كان مفيدا ، وأشعر بالذنب وعدم العرفان بالجميل إن لم أعترف بفضله عليّ ...».

أما ك. سافاري فيقول : «ماراكيوس هذا الراهب المثقف ، والّذي أمضى أربعين سنة في الترجمة والرد على القرآن ، سار في ترجمته المسار الصحيح في تقسيم عمله إلى ترجمة الآيات كما في النص الأصلي ، غير أنّه ترجمها ترجمة حرفية ، ونسي أنّ النص الّذي في يده عمل فريد غير عادي.

فهو لم يعبر عن معاني القرآن بل نقل الكلمات إلى لغة لاتينية بربرية ، وبعد أن فقد الأصل كل جماله فإن ترجمته ما زالت أفضل من ترجمة دي ريور».

هذه أقوال من استفادوا واعتمدوا على ماراكيوس في ترجماتهم ، وعلى الرغم من ادعاء جورج سال بأن ترجمته كانت عن العربية إلّا أنّه يشعر بالذنب إن لم يعترف بفضل ترجمة ماراكيوس ، كما أنّه يخشى أن يكون قد خدعه من لا يعرفون دين محمد. وكأنّه كان هناك من يمده بالمعلومات عن العربية وهو غير متأكّد من تمام معرفتهم بها وخشي أن يكونوا قد ضلّلوه.

إنّ قائمة طبعات جورج سال طويلة في اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات ، وأصبحت من العلامات الفارقة كما ذكرت.

٧٤٦

ولا شكّ إن أخطأ الدليل ، ضلّ التابع ، وهذا ما أحدثته الترجمتان اللّاتينيتان ، فقد اقتفت أوربا كلّها في شتى لغاتها أثريهما ، رغم ادعاء البعض بأنّه نقل عن العربية مباشرة غير أنّه يظهر رجوعه إلى الجذور اللّاتينية في ترجمته وكما يتضح من الجدول أنّ اللّغات الأوربية على إطلاقها اعتمدت على الترجمات اللّاتينية إمّا مباشرة أو عن طريق لغة أوربية اخرى مثل الترجمة باللغة البلغارية ١٩٣٠ م الّتي أخرجها المبشر الألماني أنرست ماكس هوبه ، الّتي أخذها عن الألمانية عن الإنجليزية ل (سال) عن الترجمة اللّاتينية ل (ماراكيوس) عن الترجمة العربية ، ولا شك أن مثل هذه الرحلة الطويلة للكلمة القرآنية بين أيدي الرهبان والمبشرين ستلتوي وتمزّق حتى إذا إذا وصلت إلى اللغة البلغارية تعتبرها الكنيسة في ذلك الوقت نصرا سيوقف المسلمين في بلغاريا عن قراءة النصّ القرآني العربي ، ويستعملون بدلا عن المولود القميء الجديد ، وتنوّه الصحف البلغارية بذلك الانجاز فتقول : «لقد فعلها ذلك الألماني هوبه ، وسنفصل المسلمين عن قرآنهم بترجمتنا البلغارية الجديدة».

إنّ أكثر ما يثير السخرية أن ترجمة جورج سال بعد أن انتشرت وذاعت قامت البعثات التبشيرية البروتستانتية بترجمتها إلى العربية في مصر تحت اسم «مقالات في الإسلام» (١).

وكيف تكون هذه الترجمة بعد هذه الرحلة الطويلة من العربية إلى اللّاتينية فالإنجليزية فالعربية.

__________________

(١) p. l ٢٦١ ـ ٢٤٤ (١٩١٦) s. m. xwemmer, translations of the koran, the moslem world, vol

ـ لقد ترجمت ترجمة جورج سال إلى العربية بواسطة البعثات البروتستانتية التبشيرية في مصر عن :

. (١٩٨١)the encyclopaedia of lslam. new edition vol. v leiden

٧٤٧

ولم يسمع أن مسلما قام بترجمة الإنجيل إلى العربية أو إلى أي لغة اخرى. فالعداء والكراهية والفهم الخاطئ المقصود أو النابع عن الجهل لم يكن من جانب المسلمين وإنّما كان من جانب النصارى.

فلما ذا يا ترى يحاول الأوربيون ترجمة القرآن الكريم مرّة بعد اخرى ودون توقّف منذ ٥٤٨ عاما؟ هل شعروا بتحدّي القرآن الكريم لهم؟

قد تكون أوّل ترجمة لاتينية كلونية كانت حبا للاستطلاع وفضولا أثاره الفزع من الفتح الإسلامي ، ولكن هذا الطوفان من التراجم الّذي ما زال يترى حتى الآن ، مع ملاحظة أنّ الترجمة ليست بالعمل الهيّن المسلّي ، ويزداد الأمر صعوبة واستحالة مع نص معجز كالقرآن الكريم.

فما سبب هذا الإصرار يا ترى؟ أترك هذا التساؤل أمانة في أعناق الدارسين ، ليكشفوا لنا ما ذا يراد بالمسلمين وبقرآنهم.

النتيجة :

يمكن القول بأن الترجمات الأوربية قد مرت بعدة مراحل متداخلة :

١ ـ من القرن الحادي عشر حتّى الثامن عشر :

أ ـ مرحلة الترجمة من العربية إلى اللّاتينية (بذرة الاستشراق).

ب ـ مرحلة الترجمة من اللّاتينية إلى اللّغات الأوربية (أكثر الترجمات سوءا).

٢ ـ في العصر الحديث :

(ج) مرحلة الترجمة من اللغة العربية مباشرة إلى اللّغات الأوربية بواسطة المستشرقين واضرابهم بعد أن اشتد ساعد الاستشراق وعرف العربية ودرس كتبها.

٧٤٨

(د) مرحلة دخول المسلمين مؤخّرا في ميدان الترجمة إلى اللّغات الأوربية مع ليبرالية العصر والنظرة العلمية المجرّدة لموضوع الترجمة بصرف النظر عن مشاعر المترجم الدينية إن لم يكن مسلما.

وفي المرحلة الأخيرة فقط يمكن القول بأن هناك بعض الترجمات القليلة تعد على أصابع اليد الواحدة في ترجمات اللّغات الأوربية مجتمعة ، والّتي زادت على ٤٥٠ ترجمة كاملة غير مئات من الترجمات الجزئية ، الّتي يمكن القول بأنها على شيء من الموضوعية.

والتقسيم السابق يبيّن المراحل الّتي مرّت بها الترجمات في البلدان الأوربية وذلك بدءا بالترجمة اللّاتينية الاولى الّتي أشعلت الفتيل.

ولكن هناك تقسيم آخر يمثل وجهة النظر المسيحية اللّاتينية.

فقد مرت الترجمات والكتابات المسيحية المختلفة عن القرآن الكريم بعدة مراحل :

(أ) من عام (١١٠٠ ـ ١٢٥٠ م) وفيها ترجم القرآن الكريم إلى اللّاتينية كما سبق ، وفي هذه الفترة زاد الاهتمام بدراسة الإسلام بين الرهبان والدارسين.

(ب) من عام (١٢٥٠ ـ ١٤٠٠ م) بدأ تراجع الحملات الصليبية واندحارها ، ممّا حدا بالكنيسة بأن تزيد من نغمة العداء للإسلام حفاظا على شعلة الصليبية متأجّجة ، وتعويضا عن التراجع ، ويمكن ملاحظة ذلك في كتاباتهم خلال هذه المدّة.

(ج) من عام (١٤٠٠ ـ ١٥٠٠ م) خمدت جذور التحريض إلى حين ثمّ استعرت وتأججت مرة اخرى عام ١٤٥٣ وهو عام فتح القسطنطينية الّذي نكأ الجروح وأيقظ الحقد الصليبي مرة اخرى بعد أن هدأ قليلا بعد انهزاماته في حروبه الصليبية.

٧٤٩

ومنذ الترجمة اللّاتينية الكلونية الاولى والمسيحية تعيش في وهم اكتشفوه بعد اطّلاعهم على القرآن الكريم. فقد وجدوا أنّ المسلمين يؤمنون بعيسى وموسى ومريم وإبراهيم وآدم وحواء ، وأنّ هناك كثيرا من التشابه بين الإسلام والمسيحية ، وأنّ الإسلام ما هو إلّا صورة مشوهة من المسيحية (كذا).

ومن هذا المنطلق ، فإنّه من الممكن بدراسة القرآن وتنقيته ممّا شابه من انحرافات عن المسيحية فإنّه يمكن العودة بالمسلمين إلى حظيرة المسيحية.

وقد ظهرت هذه الفكرة بصورة واضحة في كتابات نيقولاس الكوزي وخاصّة في كتابه «تنقية القرآن cribratio alcorani» وقد اعتمد في كتاباته هذه على الترجمة اللّاتينية المحفوظة في ديركلوني في ذلك الوقت والمحفوظة حاليا في مكتبة الأسينال في باريس وممهورة بتوقيع المترجم bibliotheque de l arsenal ـ paris.

كما اعتمد أيضا على كتابات اخرى كثيرة ظهرت عن القرآن الكريم أهمّها كتابه «ريكولدوس الفلورنسي الدومينيكاني» ricoldus of monte crusis بعنوان propunaculum fidei والمطبوع في فينيسيا عام ١٦٠٩ م.

وتحت تأثير هذا المفهوم ، وهو أنّ المسلم هو قاب قوسين أو أدنى من المسيحية ، تجرّأ البابا بيوس الثاني ، فأرسل رسالة للسلطان محمّد الثاني يدعوه إلى النصرانية ويصبح خليفة لأباطرة بيزنطة.

ولمّا لم يكلف السلطان خاطره بالرد على هذه الدعوة أخذ الخيال يداعب الداعي باقتراب نصر سهل في الشرق بعد الكارثة الّتي حاقت بحروبهم الصليبية.

وفي النهاية فإنّه يمكن القول بأن ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللّاتينية لغة الكنيسة وبأيدي رجالها لم تكن عملا أكاديميا أثاره حبّ الاستطلاع فقط بل كانت عن سابق تخطيط وترصد احتاج إلى تنفيذه إرسال البعثات لسنين

٧٥٠

عديدة لدراسة العربية ثمّ اعتكاف طويل للترجمة بتوجيهات أعلى سلطة دينية مسيحية وبمساعدة وإشراف رئيس رهبان أكبر رهبانية في ذلك الوقت وأقصد بها رهبانية كلوني ، والأخطر من هذا هو البحث عمّا ظنّوه اختلافا أو أخطاء أو ما شابه من الظنون ، فكان الردّ على القرآن والطّعن فيه أهم عندهم من الترجمة ، حتى أنّ ماراكيوس في طعنه للقرآن كان جادّا في استكمال مطاعنه وردوده الّتي فاقت ترجمة سابقيه وردودهم ، وأشار إليها جورج سال مشمئزا ممّا حوت مفضّلا عليها موضوعية مهذّبة ماكرة قد تكون أفضل في التعامل مع المسلمين.

قال هذا الماكر في مقدّمة ترجمته :

إنّي لم أسمح لنفسي عند التحدث عن محمّد أو قرآنه أن أستعمل السباب المشين والتعبيرات اللاأخلاقية والّتي ظنّها الكثيرون ممّن كتبوا ضدّه أنّها أقوى اسلوب للمجادلة.

ولكن العكس هو الصحيح ، فقد وجدت أنّه من الملائم معالجة الموضوع بالحكمة والأدب بل والموافقة على الأساسيات الّتي أعتقد أنها تستحق الموافقة ، كمدى الجريمة الأبدية الّتي ارتكبها بفرضه دينا مزيفا على البشرية ... جورج سال (١٨٧٤).

خاتمة :

لقد ترجم القوم كتاب الله العزيز وحرّفوا وهاجموا ونقدوا ورفضوا وأثاروا الشبهات وما زالوا. كل ذلك ليس في لغة واحدة بل في عشرين لغة ونيف.

فما هو موقفنا من كل ذلك ، وما ذا يجب علينا أن نفعله إزاء هذا الهجوم؟ هل نترك الحبل على غاربه لكل من أمسك قلما ليعتدي على كتاب ربّ العالمين ونحن بما يجري إمّا غافلون أو جاهلون؟

لقد أقامت الترجمات اللّاتينية وتوابعها سدا بين الأوربيين وبين المعاني

٧٥١

الصافية للقرآن الكريم وأورثتهم عداوة وكرها شديدا للإسلام والمسلمين.

وقد آن الأوان أن نأخذ بزمام المبادرة ونبلّغ ونبيّن للعالم ما عندنا من هداية ونور (١).

المراجع العربية :

١ ـ المجلّة المغربية للتوثيق والمعلومات ـ العدد الثالث ، تونس ، مارس ١٩٨٥ م.

٢ ـ لويس يونغ ، العرب وأوربا ، ترجمة ميشيل أزرق ، دار الطليعة ، بيروت ١٩٧٩ م.

٣ ـ جوزيف رينو ـ الفتوحات الإسلامية في فرنسا وإيطاليا وسويسرا في القرون الثامن والتاسع والعاشر الميلادية ـ تعريب وتعليق الحواشي وتقديم د. إسماعيل العربي ـ دار الحداثة بالتعاون مع ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر ـ ١٩٨٤ م.

٤ ـ بلاشير ، القرآن : نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره ، نقله إلى العربية : رضا سعادة ـ دار الكتاب اللبناني ـ بيروت.

__________________

(١) انتهى ما نقلناه بتصرّف من مقال للدكتور حسن المعايرجي في مجلة المسلم المعاصر ، العدد ٤٨ ، السنة ١٤٠٧ ه‍ ، لبنان ، بيروت ، ص ٥٣ ـ ٩٠ ، تحت عنوان «الترجمات اللّاتينية الاولى للقرآن الكريم وتأثيرها على الترجمات باللّغات الأوربية».

٧٥٢

٧٥٣

* * *

انتهت أيام تلكم الحروب العدوانية على القرآن الكريم بمراودة الشرقيين والغربيين ومعاشرة بعضهم مع بعضهم الآخر بالإضافة إلى كتابات مستشرقين أمثال المستشرق هاملتون جب والسير ادوارد دونون روز وغيرهما ، ويقول المثل العربي : حبل الكذب قصير ، أضف إليه أنّه لم يكن أي أثر لأكاذيبهم وافتراءاتهم على المسلم الشرقي. لهذا وذاك قاموا بدراسات واسعة وعميقة لأنواع مصادر الدراسات الإسلامية فوجدوا ضالّتهم المنشودة في بعض الكتب وبعض الروايات وبعض الاجتهادات الخاطئة من علماء المسلمين ، فاستفادوا منها وأشادوا بذكرها ونشروها في بلاد المسلمين ، كما ندرس بعضها في ما يأتي بإذنه تعالى :

٧٥٤

أوّلا ـ المستشرق الإنجليزي د. آرثر جفري

الّذي طبع كتاب المصاحف لابن أبي داود (ت : ٣١٦) في مصر سنة ١٣٥٥ ه‍ ، وكتب في مقدمة الكتاب ما يلي :

(نتقدّم بهذا الكتاب للقرّاء على أمل أن يكون أساسا لبحث جديد في تاريخ تطوّر قراءات القرآن. نشر في أيامنا هذه علماء الشرق كثيرا ممّا يتعلق بتفسير القرآن وإعجازه وأحكامه ولكنهم إلى الآن لم يبيّنوا لنا ما يستفاد منه التطوّر في قراءاته ، ولا ندري على التحقيق لما ذا كفّوا عن هذا البحث في عصر له نزعة خاصة في التنقيب عن تطور الكتب المقدّسة القديمة وعمّا حصل لها من التغيّر (١) والتحوير ونجاح بعض الكتاب فيها.

فمن منا يجهل مبلغ سرور علماء الغرب حين أن عثروا على بعض القطع القديمة من القرطاس والبردي الّتي حفظت لنا آيات وأسفارا من التوراة أو الإنجيل كانت بفضل رمال مصر محفوظة من البلاء والدثور مع طول الزمن. ولا يخفى على المطّلع أن علماء النصارى وعلماء اليهود قد جدّوا منذ جيلين في طلب تحقيق تاريخ الإنجيل والتوراة وأنّهم فازوا بنتائج باهرة كان لها أثر عظيم في تفسير لهذين الكتابين وتأويلهما ، وأمّا القرآن فلم نجد شيئا من هذه الأبحاث فيه سوى كتاب واحد بسيط وهو كتاب تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني الّذي طبع حديثا في مصر.

أدّى هذا الفحص في الغرب كما هو معلوم إلى التنازع والخصام بين المتمسّكين بالنقل وبين المتمشّين مع العقل ، أو بعبارة اخرى أوضح بين أهل

__________________

(١) كذا في النص.

٧٥٥

النقل وبين أصحاب هذه الأبحاث ، فقال أهل النقل من اليهود والنصارى إنّ هذا البحث التحليلي وكل فحص في تاريخ الكتاب المقدس ليس إلّا طعنا في الدين ، ونسبوا إلى هؤلاء الباحثين عدم الإيمان ، وزعموا أنّهم لا يريدون شيئا غير التشكيك والزندقة والإلحاد ، ولكن آراء المفكرين ـ أصحاب هذه المباحث ـ قد ذاعت الآن وانتشرت حتى طغت على آراء غيرهم ممن يتمسكون بالنقل ، فأنت ترى الآن أكثر علماء اليهود وعلماء النصارى يتبعون في أبحاثهم وتدريسهم طريقة هذا البحث التحليلي ولو خالف هؤلاء في بحثهم أهل النقل والطريقة القديمة.

وإذا تبيّنا أصل الاختلاف بينهما وجدناه في غير النص الموجود بين أيدينا الآن ، فأمّا أهل النقل فاعتمدوا على آراء القدماء وعلى هذه التخيّلات الّتي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم والّتي نقلها العلماء من دور إلى دور ، وإذا ما وجدوا بين هذه الآراء خلافا اختاروا واحدا منها ، وقالوا إنّه ثقة وغيره ضعيف أو كاذب. وأمّا أهل التنقيب فطريقتهم في البحث أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصوّرات بأجمعها ، ليستنتجوا بالفحص والاكتشاف ما كان منها مطابقا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الاسناد يجتهدون في إقامة نص التوراة والإنجيل كما أقيم نص قصائد هوميروس أو نص رسائل أرسطو الفيلسوف.

بدأ نولدكه (noldede) الألماني باستعمال طريقة البحث هذه في نص القرآن الشريف في كتابه المشهور الجليل المسمّى : تاريخ القرآن. نشر هذا الكتاب سنة ١٨٦٠ م وهو الآن أساس كل بحث في علوم القرآن في أوربا ، ولم يكن في وسع نولدكه أن يقوم بالطبعة الثانية من كتابه ففوض ذلك إلى تلميذه شوالي (schwally) الّذي ضم إليه نتائج التدقيقات الحديثة ، وتوفّي شوالي في أثناء عمله فأخذ برجشتراسر (bergstrasser) في تكميله ، وبعد موت برجشتراسر أتمّ تلميذه برتزل (pretzl) طبع الكتاب. ولما ظهرت الطبعة الاولى من كتاب

٧٥٦

نولدكه تجنّى عليه بعض أصحاب النقل في الشرق ، واتهموه بالطعن في الدين ، وزعموا أن الذين يتتبّعون هذ الطريقة ليسوا خالين من المحاباة في أبحاثهم مع أن انصافهم وصدق نيّتهم وعدم محاباتهم ظاهر ويتبين من كتبهم أنّهم لا يرومون إلّا الكشف عن الحق ، وكان عيبهم الوحيد في أعين أهل النقل أنّهم يعتبرون المتن دون الاسناد ويختارون من آراء القدماء ما يطابق ظروف الأحوال من أسانيد متواترة كانت أم ضعيفة ، فكثيرا ما تناقض نتائج أبحاثهم بهذه الطريقة تعليم أهل النقل الّذي قد عرف بين العلماء من زمن بعيد.

ولمّا كان في إيضاح كل ما قالوه إطالة لمقدّمتنا هذه المراعى فيها الاختصار بقدر الامكان فنكتفي بعرض بعض نتائج أبحاثهم إفادة : للقراء ومثالا ينسج عليه الباحثون ، ونذكر أهمّ هذه النتائج في ما يأتي :

١ ـ لمّا قبض النبيّ (ص) لم يكن في أيدي قومه كتاب ـ قيل إنّ النبيّ (ص) كان كلّما نزلت عليه آيات أمر بكتابتها وكان يعرض على جبريل مرّة في كلّ سنة ما كتب من الوحي في تلك السنة وعرضه عليه مرّتين سنة موته ، وهكذا جمع القرآن كله في حياة النبي (ص) في صحف وأوراق ، وكان مرتبا كما هو الآن في سوره وآياته إلّا أنّه كان في صحف لا في مصحف ، وهذا الرأي لا يقبله المستشرقون لأنّه يخالف ما جاء في أحاديث اخرى أنّه قبض (ص) ولم يجمع القرآن في شيء ، وهذا يطابق ما روى من خوف عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق لما استحر القتل بالقرّاء يوم اليمامة وقالا إنّ القتل استحرّ بقرّاء القرآن ونخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن كلّها فيذهب قرآن كثير ، ويتبين من هذا أن سبب الخوف هو قتل القرّاء الذين كانوا قد حفظوا القرآن ، ولو كان القرآن قد جمع وكتب لما كانت هناك علة لخوفهما ، وفضلا عن ذلك فان علماء الغرب لا يوافقون على أن ترتيب نص القرآن كما هو اليوم في أيدينا من عمل النبيّ (ص).

٧٥٧

٢ ـ اختلاف مصاحف الصحابة ـ روى أنّ غير واحد من الصحابة جمع القرآن في مصحف ومنهم عليّ بن أبي طالب ، وأبيّ بن كعب ، وسالم مولى حذيفة ، وعبد الله بن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير ، وأبو زيد ، ومعاذ ابن جبل ، وغيرهم. وزعم بعض الكتبة ان المراد بالجمع في هذا الحديث الحفظ ، ولكنا لا نوافق على قولهم هذا لأنّ عليّا حمل ما جمعه على ظهر ناقته وجاء به إلى الصحابة ، وسمى الناس ما جمعه أبو موسى «لباب القلوب» ، وحرق عثمان ما جمعه ابيّ ، وأبى عبد الله بن مسعود أن يقدم ما جمع من القرآن إلى عامل عثمان بالعراق ، ويلزم على هذا أنّ ما جمعوه كان مخطوطا في مصاحف. وكان كل مصحف من هذه المصاحف مصحفا خاصا بصاحبه جمع فيه ما عثر عليه من السور والآيات ، أما المصحف الّذي كتبه زيد بن ثابت لأبي بكر الصديق فكان أيضا في رأي المستشرقين مصحفا خاصا لا رسميا كما زعم بعضهم. وكانت هذه المصاحف يختلف بعضها عن بعض ، لأنّ كل نسخة منها اشتملت على ما جمعه صاحبها وما جمعه واحد لم يتفق حرفيا مع ما جمعه الآخرون.

٣ ـ أخذ مصاحف بعض الصحابة مقاما يعتد به في الأمصار ـ لما نشأت الأمصار الإسلامية بعد فتح الشام والعراق كان كل فريق من الناس يحتاج إلى نسخة من القرآن الّذي هو أصل دينهم وحكمهم وعاداتهم الاجتماعية ، فاتفق أهل الكوفة على مصحف ابن مسعود ، وأهل البصرة على مصحف أبي موسى الأشعري ، وأهل دمشق على مصحف المقداد بن الأسود ، وأهل الشام على مصحف ابيّ بن كعب. وكانت هذه المصاحف يخالف بعضها بعضا ، ولما اجتمع أهل العراق وأهل الشام لغزو مرج أذربيجان كانوا يتنازعون في القراءات حتى أنكر بعضهم على بعض ما كان يقرأه من غير مصحفه زاعما أنّه ليس من القرآن ، فنشأ عن ذلك الجدل والنزاع ، وكان كل هذا من تمسّك كل منهم بالمصحف المقروء في مصره.

٧٥٨

٤ ـ جمع عثمان الناس على حرف واحد ـ روى أن حذيفة بن اليمان كان مع الجنود في فتح أذربيجان وسمع ما كان بين الناس من الجدل والنزاع في قراءاتهم فركب إلى عثمان بن عفان وقال له : يا أمير المؤمنين! أدرك هذا القوم قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى ، فوقف عثمان بين الناس وقال : من بيده شيء من كتاب الله فليأت به ، فأتوا بما عندهم على عسب وأكتاف وأوراق وصحف وما عدا ذلك ، وأرسل إلى زيد بن ثابت وأعد له رهطا من أهل قريش وأمرهم بأن يجمعوا القرآن في مصحف ، فجمعوا القرآن من الصحف ومن شقف مخطوطة ومن صدور الناس ، وكانوا لا يتقبلون شيئا إلّا إذا شهد له شاهدان ، وقيل إن عثمان أرسل إلى حفصة أن ترسل إليه الصحف الّتي نسخها زيد بن ثابت بأمر أبي بكر الصديق فكانت هذه الصحف مصدر نص مصحف عثمان الجديد ، ولمّا فرغوا من جمع هذا المصحف وكتابته جعلوه مصحفا رسميا. وبعث عثمان بنسخ منه إلى الأمصار وأمر باحراق ما عداها من صحف أو مصاحف.

وزعم بعض العلماء أنّ عثمان إنّما أخذ من حفصة النص الرسمي الّذي كتبه زيد بن ثابت لأبي بكر ونسخ هذا النص الرسمي بلغة قريش لأن العرب كانوا يقرءون القرآن بلغات مختلفة ، وقال آخرون ان عثمان إنما أتم ما ابتدأ به عمر بن الخطاب من جمع القرآن ، ونحن نرتاب ونشك في هذين الرأيين لأن ما أدى إليه بحثنا في أحاديث جمع القرآن هو أن اختلاف مصاحف الأمصار كان سببا في أن عثمان أمر زيد بن ثابت بتأليف ما في أيدي أهل المدينة من القرآن لا على أن يكون هذا الجمع والتأليف مصحفا لأهل المدينة فقط كما كانت نسخة ابن مسعود مصحفا لأهل الكوفة ونسخة أبي موسى مصحفا لأهل البصرة ، بل جمعه ليكون المصحف الرسمي لجميع أمصار الإسلام.

٥ ـ خلو مصحف عثمان من النقط والشكل ـ وجد القرّاء في المصاحف

٧٥٩

الّتي بعثها عثمان للأمصار اختلافا في بعض الحروف ، فكان في مصحف الكوفة «عملت» وفي غيره «عملته» وكذلك في مصحف الشام «وبالزبر» وفي غيره «والزبر» ، وفي مصحف المدينة ومصحف الشام «فلا» وفي غيرها «ولا» ومثل ذلك. وكانت هذه المصاحف كلها خالية من النقط والشكل ، فكان على القارئ نفسه أن ينقط ويشكل هذا النص على مقتضى معاني الآيات ، ومثال ذلك «ـ علمه» كان يقرأها الواحد «يعلّمه» والآخر «نعلّمه» أو «تعلمه» أو «بعلمه» الخ على حسب تأويله للآية ، فكان حينئذ لكل قارئ اختيار في الحروف وكذلك اختيار في الشكل أيضا ، وفضلا عن ذلك فقد وقع اختيار بعض القرّاء ، كما يتبين ذلك من كتب القراءات ، على كثير ممّا كان في المصاحف الّتي منع عثمان استعمالها. ثمّ بعد ذلك ظهرت بالتدريج في كل مصر من الأمصار قراءة كانت مشهورة معهودة في ذلك البلد وتبعها الناس دون غيرها. فظهرت قراءة أهل الكوفة وقراءة أهل البصرة وقراءة أهل الشام وقراءة أهل حمص وقراءة أهل مكة وقراءة أهل المدينة ، وهي اختيار القرّاء المشهورين من هذه الأمصار.

٦ ـ قوّة اختيار بعض القرّاء ـ واتفق بعد حين أن قد قوي اختيار بعض القرّاء دون البعض في هذه الأمصار المذكورة ، فصار اختيار هؤلاء القرّاء في ما بعد قاعدة قراءة أهل مدنهم ، وأسّس القرّاء اختيارهم على مبادئ ثلاثة : الأوّل أن تكون القراءة موافقة لنصّ المصحف العثماني ، الثاني أن تكون روايتها من الصحابة ، الثالث أن تكون مطابقة للعربية. أخيرا في سنة ٣٢٢ اقترع بينها العلّامة أبو بكر بن مجاهد ، أعلم أهل عصره في علم القراءات ، ورجح اختيار القرّاء السبعة ، وهم نافع من أهل المدينة ، وابن كثير من أهل مكة ، وابن عامر من أهل الشام ، وأبو عمرو من أهل البصرة ، وعاصم وحمزة والكسائي من أهل الكوفة ، بناء على الحديث المشهور أن النبي (ص) قال : انزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه. ولم يقبل جميع العلماء اختيار ابن مجاهد ، فاستحسن

٧٦٠