القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

لمّا ارتدّت العرب ، مشى عثمان إلى عليّ فقال : يا ابن عمّ! انّه لا يخرج أحد إلى قتال هذا العدوّ ، وأنت لم تبايع.

فلم يزل به حتّى مشى إلى أبي بكر فبايعه. فسرّ المسلمون ، وجدّ الناس في القتال وقطعت البعوث (١).

ضرع عليّ إلى مصالحة أبي بكر بعد وفاة فاطمة وانصراف وجوه الناس عنه ، غير أنّه بقي يشكو ممّا جرى عليه بعد وفاة النبيّ حتّى في أيّام خلافته. وذكر شكواه في خطبته المشهورة بالشّقشقيّة (٢).

المنافرة بين القبيلين بعد بيعة أبي بكر :

ونتج ممّا وقع بين الأنصار والمهاجرين (٣) أن تهاجت الفئتان فقال ابن أبي عزة القرشي :

قل للأولى طلبوا الخلافة زلّة

لم يخط مثل خطاهم مخلوق

إن الخلافة في قريش ما لكم

فيها ورب محمّد معروق

(٤) ولمّا بلغ قوله الأنصار طلبوا إلى شاعرهم النعمان بن عجلان الزرقي أن يجيب ، فقال شعرا منه :

فقل لقريش نحن أصحاب مكة

ويوم حنين والفوارس في بدر

إلى قوله :

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ٥٨٧.

(٢) راجع الخطبة رقم ٣ من نهج البلاغة ؛ وابن أبي الحديد ١ / ٥٠.

(٣) تاريخ الطبري ط. أوربا (١ / ١٨٣٨ ـ ١٨٤٩) ؛ وابن أبي الحديد ٢ / ٧ ، ٨ ، ١٢ و ١٣.

(٤) المعروق : ذو العرق أي الأصل والنسب.

٣٨١

وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم

عتيق بن عثمان حلال أبا بكر(١)

الأبيات ثمّ اجتمع سفهاء قريش ، وخطبوا في ذلك وهاجوا ، فبلغ الخبر عليّا ، فأتى المسجد مغضبا ، وخطب فيه وقال :

(يا معشر قريش! ان حبّ الأنصار إيمان ، وبغضهم نفاق ، وقد قضوا ما عليهم وبقي ما عليكم ...) الخطبة.

ثمّ أمر ابن عمه الفضل أن ينصر الأنصار بشعره ، فأنشد أبياتا منها :

إنّما الأنصار سيف قاطع

من تصبه ظبّة السيف هلك(٢)

فطلب الأنصار من حسان أن يجيبه ، فقال :

جزى الله عنّا والجزاء بكفه

أبا حسن عنّا ومن كأبي حسن

الأبيات وخطب عليّ بعد ذلك في المسجد وقال في خطبته :

«فو الله لو زالت الأنصار لزلت معهم» لأنّ رسول الله قال : «لو زالت الأنصار لزلت معهم».

فقال المسلمون جميعا : رحمك الله يا أبا الحسن! قلت قولا صادقا ، وبذلك هدّأ الإمام عليّ الثائرة في الثانية كما هدّأها في الاولى ابن عمّه الرسول (٣).

وكانت هذه أوّل بادرة لانقسام الامّة إلى قسمين : مضري ، وفيهم الإمرة حتّى الخلافة العباسية ، ويماني ، وقد حرموا منها أبد الدهر ، والتحق بكل قبيلة

__________________

(١) عتيق : اسم أبي بكر واسم أبيه عثمان.

(٢) ظبة السيف : حده. راجع أخبار السقيفة في الموفقيات للزبير بن بكار ، ص ٥٧٩ ـ ٦٠١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٢٩.

٣٨٢

حلفاء نسبوا إليها ، ونسي نسبهم ممّن انتسلوا منهم ، وموال دعوا بنسب العشيرة والتحقوا بها ، وكان هذا الدخيل وذلك اللصيق يشاركان في سرّاء القبيلة وضرّائها ، ويدافعان عن القبيلة كالأصيل ، والقبيلة تحتضنهما كما تحتضن أبناءها.

وبقيت الحالة في المجتمع الإسلامي كذلك إلى عصر الخلافة العباسية.

أمّا سياسة الخلافة ، فقد بقي الحكم قرشيا على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر ، فلم يولّيا على الأجناد : الكوفة والبصرة والشام ومصر (١) من الانصار أحدا ، وكذلك لم يؤمّروهم على الجيوش الغازية. وفي هذا الصدد قال اليعقوبي عن خبر تجهيز أبي بكر الجيوش وتأميره الأمراء في تاريخه :

(لمّا عقد لخالد بن الوليد قام ثابت بن قيس بن الشمّاس فقال : يا معشر قريش! أما كان فينا رجل يصلح لما تصلحون له؟

أمّا والله ما نحن عميا عما نرى ، ولا صما عما نسمع ، ولكن أمرنا رسول الله (ص) بالصبر فنحن نصبر.

وقام حسان بن ثابت فقال :

يا للرجال لخلفة الأطوار

ولما أراد القوم بالأنصار

لم يدخلوا منا رئيسا واحدا

يا صاح في نقض ولا إمرار) (٢)

فعظم على أبي بكر هذا القول ، فجعل على الأنصار ثابت بن قيس ، وانفذ خالدا على المهاجرين ، وولى ـ أيضا ـ لقتال من تخلف عن بيعته ومنع الزكاة من أهل اليمن زياد بن لبيد البياضي من ذوي ارومتهم ، وقد ذكرنا خبره في آخر الجزء الثاني من عبد الله بن سبأ.

* * *

__________________

(١) في فجر الإسلام كان يقال للبلد الّذي فيه معسكر المسلمين : الجند.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

٣٨٣

بناء على ما أوردناه اتّضح أنّ قريشا استولت على الحكم بعد الرسول (ص) على أساس قبلي وأصبح طابع الحكم قبليّا قرشيّا اسلاميّا ، وعلى أساس العرف القبلي أبعدت الأنصار من الحكم وتولية الجيوش المقاتلة والبلاد المفتوحة.

وكان هذا وذاك خصيصة الحكم وخصيصة المجتمع على عهد الخليفة أبي بكر ، وفي ما يأتي ندرس خصيصة المجتمع على عهد الخليفة عمر بإذنه تعالى.

٣٨٤

خصائص المجتمع الإسلامي على عهد الخليفة عمر

استخلاف عمر وبيعته :

عند ما حضر أبو بكر دعا عثمان خاليا (١) فقال :

اكتب : بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أمّا بعد.

قال : ثمّ اغمي عليه فذهب عنه ، فكتب عثمان :

أمّا بعد ، فإنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ولم آلكم نصحا.

ثمّ أفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ عليّ.

فقرأ عليه ، فكبّر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي؟

قال : نعم.

قال : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله.

وأقرّها أبو بكر (رض) من هذا الموضع.

وذكر قبل ذلك عن عمر أنّه كان جالسا والنّاس معه وبيده جريدة ومعه شديد مولى لأبي بكر معه الصحيفة الّتي فيها استخلاف عمر ، وعمر يقول : (أيّها

__________________

(١) دعاه خاليا : انفرد به خلوة.

٣٨٥

الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله إنّه يقول إنّي لم آلكم نصحا) (١).

كم من الفرق بين موقف أبي حفص هذا وموقفه من كتابة وصيّة الرسول (ص)!؟

سياسة الخلافة على عهد الخليفة عمر :

اتضحت سياسة الخلافة القرشية على عهد الخليفة عمر أكثر ممّا كانت عليه في عهد الخليفة أبي بكر ، فإنّه لم يولّ طول حكمه (١٢ سنة) من الأنصار أحدا على الجيوش الغازية ، ولا على البلاد المفتوحة ، بل كان ذلك حكرا لبطون قريش عدا بطن هاشم منهم.

وأفصح الخليفة عمر عن سبب ذلك في محاوراته الثلاث الآتية مع ابن عباس :

روى الطبري محاورتين جرتا بين الخليفة عمر وابن عباس وقال :

قال الخليفة في إحداهما لابن عباس :

ما منع قومكم منكم؟ ـ أي ما منع قومكم قريشا من ولايتكم ـ.

قال ابن عباس : لا أدري!

قال عمر : لكنّي أدري ، يكرهون ولايتكم لهم!

قال ابن عباس : لم ونحن لهم كالخير!؟

قال : غفرا ؛ يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة فيكون بجحا بجحا. لعلّكم تقولون : إن أبا بكر فعل ذلك ، لا والله ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره ... الحديث.

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ٢١٣٨.

٣٨٦

وفي الثانية قال :

يا ابن عباس! أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد (ص)؟

فكرهت أن اجيبه ، فقلت : إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.

فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة ، فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا ؛ فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.

فقلت : يا أمير المؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب تكلّمت.

فقال : تكلم يا ابن عباس.

فقلت : أمّا قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت ، فلو أنّ قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار الله عزوجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود.

وأمّا قولك : إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة ؛ فإن الله عزوجل وصف قوما بالكراهية فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

فقال عمر : هيهات والله يا ابن عباس ؛ قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك مني.

فقلت : وما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقّا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

فقال عمر : بلغني أنك تقول : إنّما صرفوها عنا حسدا وظلما.

فقلت : أما قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ ظلما فقد تبين للجاهل والحليم.

وأمّا قولك حسدا ؛ فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون.

فقال عمر : هيهات! أبت والله قلوبكم ـ يا بني هاشم ـ إلّا حسدا ما يحول ، وضغنا وغشا ما يزول.

فقلت : مهلا يا أمير المؤمنين! لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم

٣٨٧

الرجس وطهرهم تطهيرا بالحسد والغش ؛ فإن قلب رسول الله (ص) من قلوب بني هاشم.

فقال عمر : إليك عنّي يا ابن عباس.

فقلت : أفعل.

فلما ذهبت أقوم ، استحيا مني ، فقال :

يا ابن عباس مكانك! فو الله إنّي لراع لحقّك محبّ لما سرك.

فقلت : يا أمير المؤمنين! إن لي عليك حقا وعلى كل مسلم ؛ فمن حفظه فحظه أصاب ، ومن أضاعه فحظه أخطأ. ثمّ قام فمضى.

روى المسعودي محاورة ثالثة دارت بين الخليفة وابن عباس بعد موت عامل حمص حيث خاطب الخليفة ابن عباس بقوله :

يا ابن عباس! إنّ عامل حمص هلك ، وكان من أهل الخير ـ وأهل الخير قليل ـ وقد رجوت أن تكون منهم ، وفي نفسي منك شيء لم أره منك ، وأعياني ذلك ، فما رأيك في العمل؟

قال : لن أعمل حتّى تخبرني بالّذي في نفسك.

قال : وما تريد إلى ذلك؟

قال : اريده ، فإن كان شيئا أخاف منه على نفسي ، خشيت منه عليها الذي خشيت ، وإن كنت بريئا من مثله علمت أنّي لست من أهله ، فقبلت عملك هنالك ، فإنّي قلّما رأيتك طلبت شيئا إلّا عاجلته.

فقال : يا ابن عباس! إنّي خشيت أن يأتي عليّ الّذي هو آت وأنت في عملك فتقول : هلمّ إلينا ولا هلمّ إليكم دون غيركم ... الحديث (١).

__________________

(١) الاولى والثانية في ذكر سيرة عمر من حوادث سنة ٢١ ه‍ من تاريخ الطبري ، ط. مصر ـ

٣٨٨

دراسة المحاورات الثلاث :

تدل المحاورتان الاوليان أن أهل الحل والعقد من مهاجرة قريش ، كانوا قد اتفقوا على السّعي لتولّي الحكم بعد الرسول (ص) دون بني هاشم ، ومسار السياسة القرشية بعد الرسول (ص) يدلّ على أنّه كان منهم الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرّحمن بن عوف وأبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة أمّا الأربعة الأوائل فلاتفاقهم في تعيين الخلفاء الثلاثة واحدا بعد الآخر ، وأمّا الأخيران فلقول الخليفة عمر عند ما طعن :

لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته ... ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته.

وتدل المحاورة الثالثة أن الخليفة كان مهتما بأمر تعيين الخليفة من بعده وألّا يليها أحد من بني هاشم ، وقد نفّذ رغبته ورغبة القرشيين في تعيينه كيفية عمل الشورى من بعده عند ما قال :

(... وإذا اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتّبعوا رأي عبد الرّحمن بن عوف ، وإن صفّق عبد الرّحمن بإحدى يديه على الاخرى فاتّبعوه).

وعلى هذا فقد كان عند عبد الرّحمن بن عوف كلمة السرّ في تعيين الخليفة.

وكانت كلمة السرّ شرط عبد الرّحمن في البيعة أن يعمل الخليفة بكتاب الله وسنّة رسوله (ص) وسيرة الشيخين.

وكانوا يعلمون أنّ الهاشمي الوحيد بينهم الإمام عليّا لا يوافق على البيعة بالعمل بسيرة الشيخين إلى جنب العمل بكتاب الله وسنّة رسوله (ص) ، ووقع ذلك عند ما قال الإمام عليّ في جواب عبد الرّحمن :

__________________

ـ الاولى ، ١ / ٣٠ ـ ٣٢ ، وط. أوربا ١ / ٢٧٦٨ ـ ٢٧٧٢ ، والثانية منها أيضا في تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٤ ـ ٢٥ ، واللفظ للطبري ، والثالثة في مروج الذهب للمسعودي ٢ / ٣٢١ ـ ٣٢٣.

٣٨٩

(إنّ كتاب الله وسنّة نبيّه لا يحتاج معهما إلى اجّيري أحد).

والاجّيري : العادة والطريقة.

و (أيضا ـ يعرف التخطيط لتولي عثمان الخلافة بعد عمر من قوله لسعيد ابن العاص عند ما خطّ له من الأرض ليوسع سعيد داره وقال : يا أمير المؤمنين! زدني ، فقال : حسبك واختبئ عندك ، إنّه سيلي الأمر من بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك).

قال سعيد : فمكثت خلافة عمر بن الخطّاب حتّى استخلف عثمان وأخذها عن شورى ورضا فوصلني وأحسن وقضى حاجتي وأشركني في أمانته (١).

وفي ما يأتي تفصيل خبر الشورى وبيعة عثمان :

الشّورى وبيعة عثمان :

قال ابن عبد ربّه في العقد الفريد :

لمّا طعن الخليفة عمر قيل له : لو استخلفت. فقال :

لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيّا لاستخلفته ، فإن سألني ربّي قلت : نبيّك يقول : إنّه أمين هذه الامّة.

ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته ، فإن سألني ربّي قلت : سمعت نبيّك يقول : إنّ سالما ليحبّ الله حبّا لو لم يخف الله ما عصاه (٢).

وإنّهم قالوا له : يا أمير المؤمنين! لو عهدت.

فقال : لقد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن اولّي رجلا أمركم أرجو أن

__________________

(١) راجع تفصيل هذه الأخبار ومصادرها في بحث : (أخبار السقيفة إلى بيعة عثمان) من المجلد الأول من كتابنا معالم المدرستين.

(٢) العقد الفريد ٤ / ٢٧٤ ، أوردناه ملخصا.

٣٩٠

يحملكم على الحقّ ـ وأشار إلى عليّ ـ ثمّ رأيت أن لا أتحمّلها حيّا وميّتا ... الخ.

وفي تاريخ الطبري أنّهم عادوا اليه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين! لو عهدت عهدا!

فقال : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولّي رجلا أمركم ؛ هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ ـ وأشار إلى عليّ ـ ورهقتني غشية ، فرأيت رجلا دخل جنة قد غرسها ، فجعل يقطف كل غضّة ويانعة ، فيضمّه إليه ويصيّره تحته ؛ فعلمت أنّ الله غالب أمره ، ومتوفّ عمر ؛ فما اريد أن أتحمّلها حيّا وميتا ؛ عليكم هؤلاء الرّهط ... (١).

وروى البلاذري في أنساب الأشراف (٢) ، قال عمر : ادعوا لي عليّا وعثمان وطلحة والزّبير وعبد الرّحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص ، فلم يكلّم أحدا منهم غير عليّ وعثمان ، فقال : يا عليّ! لعلّ هؤلاء سيعرفون لك قرابتك من النّبيّ (ص) وصهرك وما أنالك الله من الفقه والعلم ، فإن وليت هذا الأمر فاتّق الله فيه.

ثمّ دعا عثمان وقال : يا عثمان ، لعلّ هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول الله وسنّك ، فإن وليت هذا الأمر فاتّق الله ولا تحمل آل أبي معيط على رقاب النّاس.

ثمّ قال : ادعوا لي صهيبا. فدعي ، فقال : صلّ بالناس ثلاثا ، وليخل هؤلاء النفر في بيت ، فإذا اجتمعوا على رجل منهم ، فمن خالفهم فاضربوا رأسه. فلمّا خرجوا من عند عمر قال : إن ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ٢٧٧٧.

(٢) أنساب الأشراف ٥ / ١٦.

(٣) وقريب منه ما في طبقات ابن سعد ، ج ٤ ، ق ١ ، ص ٢٤٧. وراجع ترجمة عمر من ـ

٣٩١

وفي الرّياض النّضرة : (لله درّهم إن ولّوها الأصيلع كيف يحملهم على الحقّ وإن كان السيف على عنقه) (١).

وروى البلاذري في أنساب الأشراف : أنّ عمر بن الخطّاب أمر صهيبا مولى عبد الله بن جدعان حين طعن أن يجمع إليه وجوه المهاجرين والأنصار. فلمّا دخلوا عليه ، قال : إنّي جعلت أمركم شورى إلى ستّة نفر من المهاجرين الأوّلين الّذين قبض رسول الله (ص) وهو عنهم راض ليختاروا أحدهم لإمامتكم ـ وسمّاهم ـ ، ثمّ قال لأبي طلحة زيد بن سهل الخزرجي : اختر خمسين رجلا من الأنصار يكونوا معك ، فإذا توفّيت فاستحثّ هؤلاء النّفر حتّى يختاروا لأنفسهم وللأمّة أحدهم ولا يتأخّروا عن أمرهم فوق ثلاث.

وأمر صهيبا أن يصلّي بالناس إلى أن يتّفقوا على إمام.

وكان طلحة بن عبيد الله غائبا في ماله بالسراة (٢) ، فقال عمر : إن قدم طلحة في الثلاثة الأيام ، وإلّا فلا تنتظروه بعدها وأبرموا الأمر وأصرموه ، وبايعوا من تتّفقون عليه ، فمن خالف عليكم فاضربوا عنقه.

قال : فبعثوا إلى طلحة رسولا يستحثّونه ويستعجلونه بالقدوم ، فلم يرد المدينة إلّا بعد وفاة عمر والبيعة لعثمان. فجلس في بيته وقال : أعلى مثلي يفتات! فأتاه عثمان ، فقال له طلحة : إن رددت أتردّه؟ قال : نعم. قال : فانّي أمضيته. فبايعه. وقريب منه ما في العقد الفريد ٢ / ٧٢. وط. دار التأليف ، القاهرة ، سنة ١٣٦٣ ه‍ ، ٤ / ٢٧٥ ـ ٢٨٠.

__________________

ـ الاستيعاب ومنتخب الكنز ٤ / ٤٢٩ ، وجلح فلان : سار سيرا شديدا ، وجلح في الأمر : أقدم ومضى وركب رأسه فيه ، ويقصد منه الإمام عليّا.

(١) الرياض النضرة ، ط. ٢ بمصر ١٣٧٣ ه‍ ، ٢ / ٩٥. والاصلع : المنحسر شعر رأسه ، وكان الإمام عليّ أصلع الرأس.

(٢) السّراة : الجبل الّذي فيه طرف الطائف ويقال لأماكن اخرى. معجم البلدان.

٣٩٢

وروى في ص ٢٠ منه ، قال :

فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح : ما زلت خائفا لأن ينتقض هذا الأمر حتّى كان من طلحة ما كان ، فوصلته رحم ، ولم يزل عثمان مكرما لطلحة حتّى حصر فكان أشدّ الناس عليه.

وروى البلاذري في ٥ / ١٨ من كتابه أنساب الأشراف بسند ابن سعد قال :

(قال عمر : ليتبع الأقل الأكثر ، فمن خالفكم فاضربوا عنقه).

وروى في ص ١٩ منه : عن أبي مخنف أنّه قال :

(أمر عمر أصحاب الشورى أن يتشاوروا في أمرهم ثلاثا ، فإن اجتمع اثنان على رجل واثنان على رجل ، رجعوا في الشورى ، فإن اجتمع أربعة على واحد وأباه واحد كانوا مع الأربعة ، وإن كانوا ثلاثة وثلاثة كانوا مع الثلاثة الّذين فيهم ابن عوف إذ كان الثقة في دينه ، ورأيه المأمون على الاختيار للمسلمين). وقريب منه ما في العقد الفريد ٣ / ٧٤ ، وط. دار التأليف ، القاهرة ، سنة ١٣٦٣ ه‍ ، ٤ / ٢٧٦.

وروى أيضا عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أنّ عمر قال : (إن اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة ، فاتّبعوا صفّ عبد الرّحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا) وأخرجه ابن سعد في الطبقات ٣ / ق ١ / ٤٣.

وفي تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٦٠ : وروى البلاذري في أنساب الأشراف ٥ / ١٥ أنّ عمر قال :

(إنّ رجالا يقولون إنّ بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها ، وإنّ بيعة عمر كانت عن غير مشورة ، والأمر بعدي شورى ، فإذا اجتمع رأي أربعة فليتّبع الاثنان الأربعة ، وإذا اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة ، فاتّبعوا رأي عبد الرّحمن بن عوف ،

٣٩٣

فاسمعوا وأطيعوا ، وإن صفّق عبد الرّحمن بإحدى يديه على الاخرى فاتّبعوه).

وروى المتّقي في كنز العمال ٣ / ١٦٠ ، عن محمّد بن جبير عن أبيه ، أنّ عمر قال :

(إن ضرب عبد الرّحمن بن عوف إحدى يديه على الاخرى فبايعوه).

وعن أسلم أنّ عمر بن الخطاب قال :

(بايعوا لمن بايع له عبد الرّحمن بن عوف ، فمن أبى فاضربوا عنقه).

إذا فالخليفة عمر قد نبأ سعيد بن العاص أنّه سيلي بعده ذو رحم سعيد وهو عثمان وطلب منه أن يخبئ الأمر عنده ؛ ويتّضح من هذه المحاورة أنّ أمر تولية عثمان الخلافة كان قد بتّ فيه في حياة الخليفة عمر ، وتعيين الستّة في الشّورى كان من أجل تمرير هذا الأمر بصورة مرضية لدى الجميع.

الإمام عليّ (ع) يعلم بأنّ الخلافة قد زويت عنه :

كان الإمام عليّ يعلم بأنّ الخلافة زويت عنه وإنّما اشترك معهم في الشّورى كي لا يقال : هو الّذي زهد في الخلافة. ويدلّ على أنّه كان يعلم ما بيّت له ، الحديث الآتي :

روى البلاذري في ٥ / ١٩ من كتابه أنساب الأشراف :

إنّ عليّا شكا إلى عمّه العبّاس ما سمع من قول عمر : كونوا مع الّذين فيهم عبد الرّحمن بن عوف ، وقال : والله لقد ذهب الأمر منّا. فقال العبّاس : وكيف قلت ذلك يا ابن أخي؟ فقال : إن سعدا لا يخالف ابن عمّه عبد الرّحمن وعبد الرّحمن نظير عثمان وصهره فأحدهما لا يخالف صاحبه لا محالة. وإن كان الزبير وطلحة معي فلن انتفع بذلك إذ كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين.

وقال ابن الكلبي : عبد الرّحمن بن عوف زوج امّ كلثوم بنت عقبة بن أبي

٣٩٤

معيط وامّها أروى بنت كريز وأروى امّ عثمان فلذلك قال صهره. وقريب منه ما في العقد الفريد ٣ / ٧٤. وفي ط. لجنة التأليف ٤ / ٢٧٦.

وفي تاريخ الطبري أنّ عمّارا قال قبل بيعة عبد الرحمن لعثمان : إن أردت ألّا يختلف المسلمون فبايع عليا.

فقال المقداد بن الأسود : صدق عمّار ؛ إن بايعت عليّا قلنا : سمعنا وأطعنا.

قال ابن أبي سرح : إن أردت ألّا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد الله ابن أبي ربيعة : صدق ؛ إن بايعت عثمان قلنا : سمعنا وأطعنا. فشتم عمّار ابن أبي سرح ، وقال : متى كنت تنصح المسلمين!

فتكلم بنو هاشم وبنو اميّة ، فقال عمار : أيّها الناس! إنّ الله عزوجل أكرمنا بنبيّه ، وأعزّنا بدينه ، فأنّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم!

فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يا بن سميّة ؛ وما أنت وتأمير قريش لأنفسهم!

فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبد الرّحمن! افرغ قبل أن يفتتن الناس.

فقال عبد الرّحمن : إنّي قد نظرت وشاورت ، فلا تجعلنّ أيّها الرهط على أنفسكم سبيلا.

ودعا عليّا ، فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟

قال : أرجو أن افعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي.

ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعليّ ، قال : نعم ، فبايعه.

فقال عليّ : حبوته حبو دهر ؛ ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ؛ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ؛ والله ما ولّيت عثمان إلّا ليردّ الأمر

٣٩٥

إليك ؛ والله كلّ يوم هو في شأن.

فقال عبد الرّحمن : يا عليّ! لا تجعل على نفسك سبيلا ؛ فإنّي قد نظرت وشاورت الناس ؛ فإذا هم لا يعدلون بعثمان.

فخرج عليّ وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله.

فقال المقداد : يا عبد الرّحمن! أمّا والله لقد تركته من الّذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون.

فقال : يا مقداد ؛ والله لقد اجتهدت للمسلمين ؛ قال : إن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين. فقال المقداد : ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم. إني لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلا ما أقول إنّ أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل. أما والله لو أجد عليه أعوانا!

فقال عبد الرّحمن : يا مقداد! اتّق الله ؛ فإني خائف عليك الفتنة.

فقال رجل للمقداد : رحمك الله! من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل؟

قال : أهل البيت بنو عبد المطلب ، والرجل عليّ بن أبي طالب.

فقال عليّ : إنّ الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول : إن ولّي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا ، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم (١).

وروى البلاذري ـ أيضا ـ وقال :

(لمّا دفن عمر ، أمسك أصحاب الشورى وأبو طلحة يؤمّهم ، فلم يحدثوا شيئا ، فلمّا أصبحوا جعل أبو طلحة يحوشهم للمناظرة في دار المال.

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ٢٧٨٦ ـ ٢٧٨٧.

٣٩٦

وكان دفن عمر يوم الأحد وهو الرابع من يوم طعن ، وصلّى عليه صهيب ابن سنان.

قال : فلمّا رأى عبد الرّحمن تناجي القوم وتناظرهم ، وأنّ كلّ واحد منهم يدفع صاحبه عنها ، قال لهم : يا هؤلاء أنا اخرج نفسي وسعدا على أن أختار يا معشر الأربعة أحدكم ، فقد طال التناجي وتطلّع الناس إلى معرفة خليفتهم وإمامهم ، واحتاج من أقام الانتظار ذلك من أهل البلدان الرجوع إلى أوطانهم.

فأجابوا إلى ما عرض عليهم إلّا عليّا ، فإنّه قال : أنظر.

وأتاهم أبو طلحة ، فأخبره عبد الرّحمن بما عرض ، وبإجابة القوم إيّاه ، إلّا عليّا ، فأقبل أبو طلحة على عليّ فقال : يا أبا الحسن إنّ أبا محمّد ثقة لك وللمسلمين ، فما بالك تخالف وقد عدل الأمر عن نفسه ، فلن يتحمّل المأثم لغيره؟

فأحلف عليّ عبد الرّحمن بن عوف أن لا يميل إلى هوى ، وأن يؤثر الحقّ وأن يجتهد للامّة ، وأن لا يحابي ذا قرابة ، فحلف له ، فقال : اختر مسدّدا.

وكان ذلك في دار المال ويقال في دار المسور بن مخرمة.

ثمّ إنّ عبد الرّحمن أحلف رجلا رجلا منهم بالأيمان المغلظة ، وأخذ عليهم المواثيق والعهود أنّهم لا يخالفونه إن بايع منهم رجلا ، وأن يكونوا معه على من يناوئه ، فحلفوا على ذلك ، ثمّ أخذ بيد عليّ ، فقال له : عليك عهد الله وميثاقه إن بايعتك أن لا تحمل بني عبد المطّلب على رقاب الناس ، ولتسيرنّ بسيرة رسول الله (ص) لا تحول عنها ولا تقصر في شيء منها.

فقال عليّ : لا أحمل عهد الله وميثاقه على ما لا ادركه ولا يدركه أحد. من ذا يطيق سيرة رسول الله (ص) ، ولكنّي أسير من سيرته بما يبلغه الاجتهاد منّي ، وبما يمكنني وبقدر علمي.

فأرسل عبد الرّحمن يده.

٣٩٧

ثمّ أحلف عثمان وأخذ عليه العهود والمواثيق أن لا يحمل بني اميّة على رقاب الناس وعلى أن يسير بسيرة رسول الله (ص) وأبي بكر وعمر ولا يخالف شيئا من ذلك ، فحلف له.

فقال عليّ : قد أعطاك أبو عبد الله الرّضا فشأنك فبايعه ، ثمّ إنّ عبد الرّحمن عاد إلى عليّ فأخذ بيده وعرض عليه أن يحلف بمثل تلك اليمين أن لا يخالف سيرة رسول الله وأبي بكر وعمر.

فقال عليّ : عليّ الاجتهاد ، وعثمان يقول نعم ، عليّ عهد الله وميثاقه وأشدّ ما أخذ على أنبيائه أن لا اخالف سيرة رسول الله (ص) وأبي بكر وعمر في شيء ولا أقصر عنها.

فبايعه عبد الرّحمن وصافقه وبايعه أصحاب الشورى ، وكان عليّ قائما ، فقعد ، فقال له عبد الرحمن : بايع وإلّا ضربت عنقك.

ولم يكن مع أحد يومئذ سيف غيره ، فيقال : إنّ عليّا خرج مغضبا فلحقه أصحاب الشورى ، فقالوا : بايع وإلّا جاهدناك ، فأقبل معهم يمشي حتّى بايع عثمان) (١).

وفي هذا الخبر حذف من أوّله قول عبد الرّحمن (وسيرة الشيخين) ونقل أوّل كلام الإمام عليّ بتصرّف وحذف آخره ؛ وتمام الخبر في الرواية الآتية :

في تاريخ اليعقوبي ، ط. بيروت ٢ / ١٦٢ : أنّ عبد الرحمن خلا بعليّ بن أبي طالب ، فقال : لنا الله عليك ، إن وليت هذا الأمر ، أن تسير فينا بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة أبي بكر وعمر.

فقال : أسير فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ما استطعت.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٢١ ـ ٢٢.

٣٩٨

فخلا بعثمان فقال له : لنا الله عليك ، إن وليت هذا الأمر ، أن تسير فينا بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة أبي بكر وعمر.

فقال : لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة أبي بكر وعمر.

ثمّ خلا بعليّ فقال له مثل مقالته الاولى ، فأجابه مثل الجواب الأول.

ثمّ خلا بعثمان ، فقال له مثل المقالة الاولى ، فأجابه مثل ما كان أجابه ، ثمّ خلا بعلي فقال له مثل المقالة الاولى ، فقال : إنّ كتاب الله وسنّة نبيّه لا يحتاج معهما إلى إجّيري (١) أحد ، أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عنّي.

فخلا بعثمان فأعاد عليه القول ، فأجابه بذلك الجواب ، وصفق على يده.

دراسة الأخبار السابقة :

في خبر عبد الله بن ابيّ وأبي عامر الفاسق اللّذين جاءا في المجلّد الأوّل وإن كان الدافع ممّا فعلاه الحسد على الرسول (ص) بسبب انّ الأوّل منهما كان الأوس والخزرج اتفقوا على تتويجه ملكا عليهم وبعد هجرة الرسول (ص) إلى المدينة أهمل أمره.

والثاني منهما كان ينتظر أن يكون هو النبي الّذي بشرت اليهود ببعثته ، فلما رأى أن المبعوث بالرسالة غيره ـ أيضا ـ قام بما قام به. غير أن أفراد قبائلهما الّذين التفوا حولهما كان ذلك منهم تعصبا لرئيس قبيلتهم ولم يكن له سبب آخر.

والأمر بالنسبة إلى المهاجرين من قريش أوضح فإن تعصّب الصحابي أبي بكر لرئيس من قبيلته قريش وهو كافر ، واضح لا غموض فيه.

وخبر عبد الله بن عمرو بن العاص في نهي قريش إياه أن يكتب حديث

__________________

(١) الإجّيري ـ بالكسر والتشديد ـ : العادة والطريقة.

٣٩٩

الرسول (ص) معللين نهيهم إياه بأنّ الرسول (ص) بشر يتكلّم في الرّضا والغضب يدلّ إضافة إلى الدلالة على تعصّبهم القبلي ، أنّ عبد الله كان قد كتب من حديث الرسول (ص) ما فيه إيضاح لمواقف بعض قريش من الرسول (ص) والرسالة ومواقف آخرين في تأييد الرسول والرسالة ، وكان ذلك وصمة على قبيلة قريش في مقابل إثبات فضائل الآخرين ، وأنّهم لدفع ذلك اجترءوا على الرسول (ص) ، وقالوا : إنّه بشر يتكلّم في الرّضا والغضب ، ليمنعوا عبد الله عن كتابة حديث الرسول (ص) أوّلا ، ويسقطوا ما ينتشر من حديث الرسول في هذا الباب عن الاعتبار ثانيا ، وإنّ جميع الأطراف الّذين ذكرناهم اتّخذوا تلك المواقف بسبب التعصّب القبلي.

وفي ضوء ما ذكرناه ندرس ما وقع بعد حياة الرسول (ص) في السقيفة :

توفّي الرسول (ص) ، وانصرف عليّ والعباس ومن معهما بتجهيزه ودفنه ، فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وتركوا جنازة الرسول (ص) بين أهله ، وخطب فيهم سعد بن عبادة الخزرجي وهو مريض ، وقال : استبدّوا بهذا الأمر دون الناس ، فأجابوه بأجمعهم أن وفّقت في الرأي وأصبت في القول ، نولّيك هذا الأمر!!

من الواضح أنّ الأنصار لم يستندوا في ما فعلوا إلى كتاب الله ولا سنّة رسوله بل كان باعثهم إلى ذلك التعصّب القبلي الجاهلي ، وصدق الله حيث يقول :

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (آل عمران / ١٤٤)

وكذلك كان شأن المهاجرين من قريش ، كما يتّضح ذلك ـ أيضا ـ من أقوالهم.

٤٠٠