القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

السيد مرتضى العسكري

القرآن الكريم وروايات المدرستين - ج ٢

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المجمع العلمي الإسلامي
المطبعة: شفق
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5841-73-9
ISBN الدورة:
964-5841-09-7

الصفحات: ٨١٤

عن المنكر ، وألّا تأخذنا في الله لومة لائم ، فسكت أبو هريرة.

وكتب معاوية إلى عثمان : أنّ عبادة بن الصامت قد أفسد عليّ الشام وأهله ، فإمّا أن تكفّه إليك ، وإمّا أن اخلّي بينه وبين الشام.

فكتب إليه : أن رحّل عبادة حتى ترجعه إلى داره بالمدينة.

قال : فدخل على عثمان ، فلم يفجأه إلّا وهو معه في الدار ؛ فالتفت إليه فقال : ما لنا ولك؟

فقام عبادة بين ظهرانيّ الناس ؛ فقال : سمعت رسول الله (ص) يقول : سيلي أموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون ؛ وينكرون عليكم ما تعرفون ؛ فلا طاعة لمن عصى ولا تضارّوا بربكم.

وفي رواية ابن عساكر بعد هذا : فو الّذي نفس عبادة بيده إنّ فلانا ـ يعني معاوية ـ لمن اولئك فما راجعه عثمان بحرف ؛ انتهى.

وقصّة معاوية مع الصحابة في شربه الخمر ، لم تقتصر على ما كان بين معاوية وعبادة ؛ فقد رووا أنّ عبد الرحمن بن سهل بن زيد الأنصاري غزا في زمن عثمان ومعاوية أمير على الشام ، فمرّت به روايا خمر ، فقام إليها برمحه ، فبقر كلّ راوية منها ؛ فناوشه الغلمان ؛ حتى بلغ شأنه معاوية ؛ فقال : دعوه فإنّه قد ذهب عقله ، فبلغه فقال : كلّا والله ما ذهب عقلي ؛ ولكن رسول الله (ص) نهانا أن ندخل بيوتنا وأسقيتنا خمرا ، وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله (ص) لأبقرنّ بطنه أو لأموتنّ دونه (١).

__________________

(١) بترجمته في الإصابة ٢ / ٣٩٤ ، وفي أسد الغابة ٣ / ٢٩٩ إلى قوله و «أسقيتنا» ثمّ قال : وأخرجه الثلاثة ، وفي الاستيعاب ، ص ٤٠٠ ذكره مبتورا ، وأشار إليه في آخر ترجمته في تهذيب التهذيب ٦ / ١٩٢.

٤٦١

وأخرج ابن حنبل في مسنده ٥ / ٣٤٧ عن عبد الله بن بريدة ، قال : دخلت أنا وأبي على معاوية ، فأجلسنا على الفرش ، ثمّ اتينا بالطعام ، فأكلنا ، ثمّ اتينا بالشراب ، فشرب معاوية ، ثمّ ناول أبي ، ثمّ قال : ما شربته منذ حرّمه رسول الله (ص) ... الحديث.

وله قصص اخرى في الخمر أخرجها ابن عساكر في تاريخه (١).

وفي هذا العصر ـ عصر عثمان ـ كان لمعاوية مع أبي ذرّ قصص يطول شرحها ، ونحن نوردها هنا بإيجاز من ترجمة عثمان في أنساب الأشراف (٥ / ٥٤ ـ ٥٥) ، قال البلاذري :

لمّا ولي عثمان ، وأعطى مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم ثلاثمائة ألف درهم ، وزيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يتلو :

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). (التّوبة / ٣٤)

وجرى بينه وبين عثمان في ذلك محاورات فأمره أن يلتحق بالشام ، فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، وبعث إليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فقال : إن كان من عطائي الّذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها ، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.

وبنى معاوية قصره الخضراء بدمشق ، فقال : يا معاوية! إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف ، فسكت معاوية.

__________________

(١) منها قصّة اخرى له مع عبادة بن الصامت عند ما كان بانطرسوس ، أخرجها في تهذيب ابن عساكر ٧ / ٢١٣ ؛ ومنها قصّته مع عبد الله بن الحارث بن اميّة بن عبد شمس ٧ / ٣٤٦ ، وأشار إليه ابن حجر بترجمته في الإصابة ٢ / ٢٨٢.

٤٦٢

وكان أبو ذر يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه ، والله إنّي لأرى حقّا يطفأ وباطلا يحيى ، وصادقا يكذّب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه (١) ، وكان الناس يجتمعون عليه ، فنادى منادي معاوية ألّا يجالسه أحد (٢).

وفي رواية أنّ معاوية بعث إليه بألف دينار في جنح اللّيل فأنفقها ، فلمّا صلّى معاوية الصبح ، دعا رسوله فقال : اذهب إلى أبي ذر ، فقل انقذ جسدي من عذاب معاوية ، فإنّي أخطأت. قال : يا بني ، قل له : يقول لك أبو ذر : والله ما أصبح عندنا منه دينار ولكن أنظرنا ثلاثا حتى نجمع لك دنانيرك.

فلمّا رأى معاوية أن قوله صدق فعله ؛ كتب إلى عثمان : أما بعد ؛ فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله ؛ فابعث إلى أبي ذر ، فإنّه وغل صدور الناس ... الحديث (٣).

وفي أنساب الأشراف : فكتب عثمان إلى معاوية : أمّا بعد ، فاحمل جندبا على أغلظ مركب وأوعره.

فوجّه معاوية من سار به اللّيل والنّهار (٤).

وفي تاريخ اليعقوبي (٥) : فكتب إليه أن احمله على قتب بغير وطاء ؛ فقدم به إلى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه.

وفي مروج الذهب (٦) : فحمله على بعير عليه قتب يابس. معه خمس من

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٥٤ ـ ٥٥ ، ط. بغداد.

(٢) طبقات ابن سعد ٤ / ٢٢٩.

(٣) سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٩ ـ ٧٠ ، ط. بيروت سنة ١٤٠١ ه‍.

(٤) ترجمة عثمان في الجزء الخامس من أنساب الأشراف ٥ / ٥٤ ـ ٥٥.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٧٢.

(٦) مروج الذهب ٢ / ٣٤٠ ، ط. بيروت سنة ١٣٨٥ ه‍ ، وقد ذكر هناك تفصيل قصّة أبي ذر. «والصقالبة» : قوم كانت بلادهم تتاخم بلاد الخزر.

٤٦٣

الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة وقد تسلّخت أفخاذه وكاد أن يتلف.

وفي الأنساب : فلمّا قدم أبو ذر المدينة ، جعل يقول : تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى ، وتقرب أولاد الطّلقاء! فسيّره إلى الربذة ، فلم يزل بها حتى مات.

وكان مكث أبي ذر في الشام سنة واحدة ، فقد ذكر المؤرخون أن تسفيره من المدينة إلى الشام كان سنة تسع وعشرين ؛ وفي سنة ثلاثين شكاه معاوية إلى عثمان ، فجلبه إلى المدينة ، ثمّ نفاه إلى الربذة ، فتوفي بها سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين (١).

ولمعاوية ـ أيضا ـ قصص طويلة مع قراء أهل الكوفة الّذين سيرهم عثمان إلى الشام أوردها البلاذري في أنساب الأشراف (٢) وقال في آخر خبرهم ما موجزه :

بلغ معاوية أن قوما من أهل دمشق يجالسونهم ، فكتب إلى عثمان انّك بعثت إلي قوما أفسدوا مصرهم وانغلوه ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قبلي ويعلموهم ما لا يجيدونه حتّى تعود سلامتهم غائلة واستقامتهم اعوجاجا.

فكتب ـ عثمان ـ إلى معاوية يأمره أن يسيرهم إلى حمص ، ففعل.

وإنما كان معاوية يشكو من بقاء صحابة النبي كأبي ذر ، وعبادة بن الصامت وغيرهما من التابعين وقرّاء المسلمين وأخيارهم في الشام خشية أن يعرّفوا أهل الشام ما خفي عنهم من الإسلام وأحكامه ، فلا يستطيع معاوية آنذاك أن يعيش فيهم عيشة كسرى وقيصر.

وكان الخليفة عثمان عند حسن ظنّ أبناء عمومته الّذين ولّاهم على المسلمين كما شرحنا ذلك في فصل (في عصر الصهرين) من كتاب أحاديث امّ المؤمنين عائشة ، وأطلق لهم العنان ، ففعلوا في ولاياتهم ما شاءوا ، وكان منهم معاوية ، الّذي استطاع أن يربّي أهل الشام مدّة اثنتي عشرة سنة (٢٤ ـ ٣٦ ه‍)

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٤٣.

(٢). ٥ / ٤٣.

٤٦٤

زمان خلافة عثمان كما شاء أن يكونوا.

وعند ما قتل عثمان كان أهل الشام أطوع له من بنانه واستطاع أن يقاتل بهم الإمام عليّا كما سندرسه في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ب ـ الكوفة :

عزل الخليفة عثمان في السنة الثانية من خلافته سعد بن أبي وقاص عن الكوفة وولّى عليها الوليد بن عقبة.

وكان سعد هو الّذي كوّف الكوفة بأمر عمر وأسكنها جيوش المسلمين ، وكان هو قائدهم في فتح إيران ، فكانوا يحبّونه ويحترمونه ، فلمّا قدم الوليد الكوفة واليا قال له سعد : والله ما أدري أكست بعدنا أم حمقنا بعدك؟

فقال : لا تجزعنّ أبا إسحاق ، فانّما هو الملك يتغدّاه قوم ، ويتعشّاه آخرون (١).

فقال سعد : أراكم والله ستجعلونها ملكا (٢).

قال له ابن مسعود : ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس بعدك!

ترجمة الوليد (٣) :

الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان جد أبيه ذكوان علجا من صفورية

__________________

(١) وروى البلاذري ٥ / ٢٩ ، قال له سعد : يا أبا وهب أأمير أم زائر؟ قال : بل أمير ، فقال سعد : ما أدري أحمقت بعدك؟ قال ما حمقت بعدي ولا كست بعدك ، ولكن القوم ملكوا فاستأثروا ، فقال سعد : ما أراك إلّا صادقا.

(٢) الاستيعاب ٢ / ٦٠٤.

(٣) أسد الغابة ٥ / ٩٠ ـ ٩١ ، الاستيعاب ٢ / ٦٠٣ ، تهذيب التهذيب ١١ / ١٤٢ ـ ١٤٣ ، وشرح نهج البلاغة ١ / ٣٦٤ ، والبلاذري ٥ / ٣٥ ، ومروج الذهب للمسعودي ٢ / ٣٣٦.

٤٦٥

وعبدا لاميّة ، فتبنّاه واستلحقه بنسبه ، وكان أبوه من أشدّ أعداء النبيّ بمكّة ، وقتله صبرا في غزوة بدر ، وأسلم الوليد بعد فتح مكة وبعثه النبيّ (ص) مصدقا إلى بني المصطلق ، فعاد وأخبر النبيّ إنّهم ارتدّوا ومنعوا الصّدقة ، فبعث إليهم الرسول (ص) من استعلم حالهم فأخبروه بأنّهم متمسّكون بالإسلام ونزلت فيه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). (الحجرات / ٦)

وقال البلاذري :

واستقرض من بيت المال مائة ألف ، وكان على بيت المال عبد الله بن مسعود ، ولما اقتضاه المال ، كتب الوليد إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى ابن مسعود (إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد في ما أخذ من المال) فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظن أني خازن للمسلمين فاما إذا كنت خازنا لكم ، فلا حاجة لي في ذلك (١).

قال صاحب الاغاني :

وقدم عليه أبو زبيد الشاعر النصراني فوهب له دارا كانت لعقيل بن أبي طالب على باب مسجد الكوفة ، فكان يخرج من منزله حتى يشق الجامع إلى الوليد ، فيسمر عنده ، ويشرب معه ، ويعود إلى بيته يشق المسجد وهو سكران.

وأجرى عليه وظيفة من خمر وخنازير في كل شهر فاستنكروا عليه ذلك فقوم ما كان وظف له دراهم وضمها إلى رزق كان يجري عليه.

وأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة جعله له حمى (٢).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٣٠ ـ ٣١.

(٢) الأغاني ٤ / ١٨٠ ـ ١٨١ ، والبلاذري ٥ / ٣١ ـ ٣٢.

٤٦٦

وقال المسعودي :

بلغه عن رجل يهودي في قرية من قرى الكوفة انّه يعمل أنواعا من السحر والشعبذة يعرف ببطروني ، فأحضره ، فأراه في المسجد الاعظم ضربا من التخييل : أظهر له في اللّيل فيلا (١) عظيما على فرس يركض في صحن المسجد ثمّ صار اليهودي ناقة يمشي على حبل ثمّ أراه صورة حمار دخل من فيه ثمّ خرج من دبره ثمّ ضرب عنق رجل ففرّق بين جسده ورأسه ، ثمّ أمرّ السيف عليه فقام الرجل ، وكان جماعة من أهل الكوفة حضورا منهم جندب بن كعب الأزدي ، فخرج إلى السوق ودنا من بعض الصياقلة ، وأخذ سيفا واشتمل عليه ، وجاء إلى الساحر ، فضربه ضربة فقتله ، ثمّ قال : أحي نفسك وقرأ (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

فأنكر عليه الوليد ذلك ، وأراد أن يقيّده به ـ أي يقتله به ـ فمنعه الأزد فحبسه وأراد قتله غيلة فسجنه ، ولمّا رأى السجّان قيامه بالعبادة في اللّيل قال له : انج بنفسك ، فقال له جندب : تقتل بي.

قال : ليس ذلك بكثير في مرضاة الله والدفع عن ولي من اولياء الله.

فلمّا أصبح الوليد دعا به وقد استعد لقتله ، فلم يجده ، فسأل السجان ، فأخبره بهربه ، فضرب عنق السجان وصلبه بالكناسة (٢).

وقال المؤرّخون (٣) :

كان الوليد يشرب مع ندمائه ومغنيه من اول اللّيل إلى الصبح ، فلما آذنه

__________________

(١) وفي الأصل قيلا ولعله تصحيف.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ٢ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩ ، وترجمة جندب من أسد الغابة ١ / ٣٠٥ ، والاغاني ٤ / ١٨٣ ، والبلاذري ٥ / ٣١.

(٣) الاغاني ٤ / ١٧٦ ـ ١٧٨ ، المسعودي ٢ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦ ، والبلاذري ٥ / ٣٢ ـ ٣٥.

٤٦٧

المؤذنون بالصلاة خرج في غلائله ـ شعار يلبس تحت الثوب ـ فتقدم إلى المحراب في صلاة الصبح وصلّى بهم أربعا وقال : أتريدون أن ازيدكم وقرأ بهم :

علق القلب الربابا

بعد أن شابت وشابا

وأطال سجوده وقال في سجوده : اشرب واسقني.

فقال له من كان بالصف الاوّل :

ما تريد لا زادك الله مزيد الخير ، والله لا أعجب إلّا ممن بعثك الينا واليا وعلينا أميرا ، فحصبه الناس بحصباء المسجد ، فدخل قصره يترنح ، ويتمثل :

ولست بعيدا عن مدام وقينة

ولا بصفا صلد عن الخير معزل

الأبيات وأخذوا خاتمه من يده وهو سكران ما يعقل وقاء خمرا وذهب خمسة من أهل الكوفة للشهادة عليه عند الخليفة ، فضرب بعضهم ، ودفع في صدر بعضهم وأوعدهم وتهددهم فذهبوا إلى الإمام عليّ وأخبروه بالقصّة فأتى عثمان وقال له : دفعت الشهود وأبطلت الحدود ...

وأراد الخليفة أن ينكّل بهم ، فاستجاروا بعائشة ، فسمع عثمان من حجرتها صوتا وكلاما فقال : أما يجد مرّاق أهل العراق وفسّاقهم ملجأ إلّا بيت عائشة ، فسمعت فرفعت نعلا وقالت : تركت سنة رسول الله (ص) صاحب هذا النعل؟

فتسامع الناس فجاءوا حتّى ملئوا المسجد فمن قائل : ما للنّساء ولهذا؟ حتّى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ...

وفي رواية : إنّ عائشة أغلظت لعثمان ، وأغلظ لها.

وأتاه طلحة والزّبير وقالا له : قد نهيناك عن تولية الوليد شيئا من امور المسلمين فأبيت وقد شهد عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله.

٤٦٨

وقال له عليّ : اعزله وحدّه إذا شهد عليه الشهود في وجهه.

فولّى عثمان سعيد بن العاص بن اميّة الكوفة واستقدم الوليد ، ولمّا شهد الشهود في وجه الوليد انّه شرب الخمر ، وأراد عثمان أن يحده البسه جبّة خز ـ ضرب من برود اليمن ـ وقال : من يضربه؟ فأحجم الناس لقرابته من الخليفة ، فقام عليّ وضربه ، وبعد اجراء الحد عليه لم يحلقه الخليفة كما كان يفعل مع من يجري عليه الحد ، وولّاه بعد ذلك على جباية صدقات قبيلتي كلب وبلقين ، وغزا الوليد زمان ولايته على الكوفة اذربيجان إلى ارمينية ، ففتح ، وقتل ، وسبى ، وملأ يديه من الغنائم.

ولمّا قدم سعيد الكوفة ابى ان يصعد منبر المسجد الجامع حتى غسلوه ، وعزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة وجندها ، وعثمان بن أبي العاص الثقفي عن عمان والبحرين وجندهما ، وولى عليهما ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز ، وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر وسعيد بن العاص أيّكما سبق إلى خراسان فهو أمير عليها ، فسبق إليها ابن عامر وافتتح نيسابور وابرشهر وهراة ومرو الروذ ، وصالح اهل تلك البلاد على ثلاثة آلاف ألف درهم وخمسة وسبعين ألف درهم ومائتي ألف أوقية.

وبلغه أنّ أهل مرو يريدون الوثوب عليه ، فجرّد فيهم السيف حتّى أفناهم.

تولية سعيد بن العاص وتسيير قرّاء أهل الكوفة :

روى البلاذري بسنده وقال (١) :

عزل عثمان (رض) الوليد بن عقبة عن الكوفة وولّاها سعيد بن العاص وأمره بمداراة أهلها ، فكان يجالس قرّاءها ووجوه أهلها ويسامرهم فيجتمع عنده

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٣٩ ـ ٤٣.

٤٦٩

منهم : مالك بن الحارث الأشتر النخعي ، وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديّان ، وحرقوص بن زهير السعدي ، وجندب بن زهير الأزدي ، وشريح بن أوفى بن يزيد بن زاهر العبسي ، وكعب بن عبدة النهدي ، وكان يقال لعبدة بن سعد ذو الحبكة ـ وكان كعب ناسكا وهو الّذي قتله بسر بن أبي أرطأة بتثليث ـ وعدي ابن حاتم الجواد الطائي ويكنّى أبا طريف ، وكدام بن حضري بن عامر ، ومالك ابن حبيب بن خراش ، وقيس بن عطارد بن حاجب ، وزياد بن خصفة بن ثقف ، ويزيد بن قيس الأرحبي ، وغيرهم فانّهم لعنده وقد صلّوا العصر إذ تذاكروا السّواد والجبل ففضلوا السواد وقالوا : هو ينبت ما ينبت الجبل وله هذا النخل ، وكان حسّان بن محدوج الذهلي الّذي ابتدأ الكلام في ذلك ، فقال عبد الرّحمن بن خنيس الأسدي صاحب الشرطة : لوددت أنّه للأمير وانّ لكم أفضل منه. فقال له الأشتر : تمنّ للأمير أفضل منه ، ولا تمنّ له أموالنا.

فقال عبد الرحمن : ما يضرك من تمني حتى تزوي ما بين عينيك ، فو الله لو شاء كان له.

فقال الأشتر : والله لو رام ذلك ما قدر عليه.

فغضب سعيد وقال : إنّما السّواد بستان لقريش.

فقال الأشتر : أتجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه.

ووثب بابن خنيس فأخذته الأيدي.

فكتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان وقال : إنّي لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الّذين يدعون القرّاء وهم السفهاء شيئا. فكتب إليه أن سيّرهم إلى الشام. وكتب إلى الأشتر : إنّي لأراك تضمر شيئا لو أظهرته لحلّ دمك وما أظنك منتهيا حتى يصيبك قارعة لا بقيا بعدها ، فإذا أتاك كتابي هذا فسر إلى الشام لإفسادك من قبلك وإنّك لا تألوهم خبالا. فسيّر سعيد الأشتر ومن كان

٤٧٠

وثب مع الأشتر وهم : زيد وصعصعة ابنا صوحان ، وعائذ بن حملة الطهوي من بني تميم ، وكميل بن زياد النخعي ، وجندب بن زهير الأزدي ، والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، ويزيد بن المكفف النخعي ، وثابت بن قيس بن المنقع النخعي ، وأصعر (١) بن قيس بن الحارث الحارثي.

فخرج المسيّرون من قرّاء أهل الكوفة ، فاجتمعوا بدمشق نزلوا مع عمرو ابن زرارة فبرّهم معاوية وأكرمهم ، ثمّ إنّه جرى بينه وبين الأشتر قول حتى تغالظا فحبسه معاوية فقام عمرو بن زرارة فقال : لئن حبسته لتجدنّ من يمنعه. فأمر بحبس عمرو فتكلّم سائر القوم فقالوا : أحسن جوارنا يا معاوية! ثمّ سكتوا فقال معاوية : ما لكم لا تكلمون؟ فقال زيد بن صوحان : وما نصنع بالكلام؟ لئن كنّا ظالمين فنحن نتوب إلى الله ، وإن كنّا مظلومين فإنّا نسأل الله العافية. فقال معاوية : يا أبا عائشة! أنت رجل صدق. وأذن له في اللحاق بالكوفة ، وكتب إلى سعيد بن العاص : أمّا بعد : فإني قد أذنت لزيد بن صوحان في المسير إلى منزله بالكوفة لما رأيت من فضله وقصده وحسن هديه ، فأحسن جواره ، وكفّ الأذى عنه وأقبل إليه بوجهك وودّك ، فإنّه قد أعطاني موثقا أن لا ترى منه مكروها.

فشكر زيد معاوية وسأله عند وداعه إخراج من حبس ، ففعل.

وبلغ معاوية أنّ قوما من أهل دمشق يجالسون الأشتر وأصحابه ، فكتب إلى عثمان : إنّك بعثت إليّ قوما أفسدوا مصرهم وأنغلوه ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قبلي ويعلموهم ما لا يحسنونه ، حتّى تعود سلامتهم غائلة ، واستقامتهم اعوجاجا.

فكتب إلى معاوية يأمره أن يسيّرهم إلى حمص ، ففعل وكان واليها

__________________

(١) في أنساب الأشراف : أصعر ، وفي الإصابة : أصغر.

٤٧١

عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة ، ويقال : إنّ عثمان كتب في ردّهم إلى الكوفة فضجّ منهم سعيد ثانية ، فكتب في تسييرهم إلى حمص فنزلوا الساحل.

وذكر الواقدي والطبري (١) وغيرهما ما دار بينهم وبين معاوية من كلام حول قريش وسياستهم على الناس وان معاوية كتب اثر ذلك إلى عثمان :

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان ، أمّا بعد ، يا أمير المؤمنين! فانّك بعثت إليّ أقواما يتكلّمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم ويأتون الناس ـ زعموا ـ من قبل القرآن فيشبهون على الناس ، وليس كلّ النّاس يعلم ما يريدون وإنّما يريدون فرقة ، ويقربون فتنة ، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم ، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم ، فقد أفسدوا كثيرا من النّاس ممّن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ، ولست آمن إن قاموا وسط أهل الشام أن يغرّوهم بسحرهم وفجورهم فارددهم إلى مصرهم ، فلتكن دارهم في مصرهم الّذي نجم فيه نفاقهم ، والسلام.

فكتب إليه عثمان يأمره أن يردّهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة فردهم إليه فلم يكونوا إلّا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا.

وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم ، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيّرهم إلى عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد وكان أميرا على حمص وهم : الأشتر ، وثابت بن قيس الهمداني (٢) وكميل بن زياد النخعي ، وزيد بن صوحان وأخوه صعصعة ، وجندب بن زهير الغامدي ، وحبيب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد (٣)

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧ ـ ٣٢٦ ، ط. القاهرة ، دار المعارف.

(٢) في تاريخ الطبري : النخعي. بدل : الهمداني.

(٣) أسد الغابة ٣ / ٤٠٣ كان ممّن سيره عثمان إلى الشام من أهل الكوفة ، وتاريخ الطبري ٥ / ٨٨ ـ ٩٠ ، والكامل لابن الأثير ٣ / ٥٧ ـ ٦٠ ، طبعة بولاق ٢ / ٥٥ ، وشرح ابن أبي الحديد ١ / ١٥٨ ـ

٤٧٢

وعمرو بن الحمق الخزاعي.

وكتب عثمان إلى الأشتر وأصحابه : أمّا بعد ، فاني قد سيرتكم إلى حمص فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها ، فإنكم لستم تأتون الإسلام وأهله شرّا ، والسلام.

فلمّا قرأ الأشتر الكتاب قال : اللهمّ أسوأنا نظرا للرعيّة ، وأعلمنا فيهم بالمعصية ، فعجّل له النقمة.

فكتب بذلك سعيد إلى عثمان ، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص ، فأنزلهم عبد الرّحمن بن خالد الساحل ، وأجرى عليهم رزقا.

وروى الواقدي أنّ عبد الرّحمن بن خالد جمعهم بعد أن أنزلهم أيّاما وفرض لهم طعاما ثمّ قال لهم : يا بني الشيطان! لا مرحبا بكم ولا أهلا ، قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد في بساط ضلالكم وغيكم ، جزى الله عبد الرّحمن إن لم يؤذكم ، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم ، أتراكم تقولون لي ما قلتم لمعاوية؟ أنا ابن خالد بن الوليد ، أنا ابن من عجمته العاجمات ، أنا ابن فاقئ عين الردّة ، والله يا ابن صوحان! لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى إن بلغني أن أحدا ممّن معي دقّ أنفك فأقنعت (١) رأسك.

قال : فأقاموا عنده شهرا كلّما ركب أمشاهم معه ويقول لصعصعة : يا ابن الخطية! إنّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ، ما لك لا تقول كما كنت تقول لسعيد ومعاوية؟

فيقولون : نتوب إلى الله ، أقلنا أقالك الله ، فما زال ذاك دأبه ودأبهم حتى

__________________

ـ ١٦٠ ورأى هذه الصورة أصحّ ما ذكر في القضيّة ، وتاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٨٧ ـ ٣٨٩ ، وتاريخ أبي الفداء ١ / ١٦٨ في حوادث سنة ٣٣.

(١) قنع رأسه بالسيف : علاه به.

٤٧٣

قال : تاب الله عليكم ، فكتب إلى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله فيهم فردهم إلى الكوفة (١).

نرى أنّ معاوية اجتهد حتى أرضى الخليفة بإعادة القرّاء المذكورين إلى الكوفة ، ومن ذلك ما رواه ابن ابي شيبة بسنده وقال :

إنّ رجلا من حمص يقال له كريب بن سيف ـ أو سيف بن كريب ـ جاء إلى عثمان فقال : ما جاء بك؟ أبإذن جئت أم عاص؟

قال : بل نصيحة أمير المؤمنين ، قال : وما نصيحتك؟ قال : لا تكل المؤمن إلى إيمانه حتى تعطيه من المال ما يصلحه ـ أو قال : ما يعيشه ـ ولا تكل ذا الأمانة إلى أمانته حتى تطالعه في عملك ، ولا ترسل السقيم إلى البريء ليبرئه ، فإنّ الله يبرئ السقيم ، وقد يسقم السقيم البريء ، قال : ما أردت إلّا الخير ، قال : فردّهم ، وهم زيد بن صوحان وأصحابه (٢).

نرى أن معاوية هو الّذي أرسل الرجل الحمصي المذكور إلى الخليفة وعلّمه أن يقول للخليفة ما قاله.

تراجم المذكورين في الخبر :

أصغر بن قيس بن الحارث الحارثي له ادراك. كان صاحب راية قومه يوم القادسية ، الإصابة ١ / ١١٧.

ثابت بن قيس بن منقع النخعي أبو المنقع. من الطبقة الوسطى من التابعين روى له النّسائي حديثا واحدا. من الثقات ، تهذيب التهذيب ٢ / ١٣. وتقريب

__________________

(١) ابن أبي الحديد ١ / ١٦٠ ، وط. القاهرة تصحيح محمّد أبي الفضل إبراهيم (٢ / ١٣٤) ، وتاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ٢٩١٤.

(٢) مصنّف ابن أبي شيبة ١١ / ٣٣٤ ، رقم الحديث ٢٠٦٩٥.

٤٧٤

التهذيب ١ / ١١٧.

جندب بن زهير الازدي ثمّ الغامدي. كان فيمن سيّره عثمان عنه من الكوفة إلى الشام. وكان على رجالة عليّ في صفين وقتل فيها. الإصابة ١ / ٢٤٩ تهذيب التهذيب ٢ / ١١٨ ، أسد الغابة ١ / ٣٠٣.

الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني. ثقة. أفقه الناس ، أحسب الناس وأفرض الناس (ت : ٦٥ ه‍) ، تهذيب التهذيب ٢ / ١٤٥.

زيد بن صوحان بن حجر الربعي العبدي. كان فاضلا دينا سيدا في قومه وصحب النبي (ص) ، أسد الغابة ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

سعيد بن العاص بن اميّة. امّه امّ كلثوم بنت عمرو العامرية ، كتب المصحف لعثمان وكان عامله على الكوفة ، ولي المدينة لمعاوية (ت : ٥٩ ه‍) ، أسد الغابة ٢ / ٣٠٩ ـ ٣١٠.

صعصعة بن صوحان بن حجر العبدي. ثقة. كان سيدا فصيحا خطيبا دينا ، أسلم على عهد رسول الله (ص) ، وشهد صفين مع عليّ ، نفاه معاوية إلى البحرين فمات بها (ت : ٣٧ ه‍) ، الاستيعاب بهامش الإصابة ٢ / ١٨٩ ، وأسد الغابة ٣ / ٢٠ ، والإصابة ٢ / ١٩٢.

عدي بن حاتم الطائي : أسلم سنة سبع للهجرة ، نزل الكوفة ، أخرج حديثه أصحاب الصحاح. شهد مع عليّ الجمل وصفين ، توفّي بالكوفة زمن المختار سنة ٦٨ ه‍ ، طبقات ابن سعد ٦ / ٢٢ ، والاستيعاب بهامش الإصابة ٣ / ١٤٢ ، وأسد الغابة ٣ / ٣٩٢ ـ ٣٩٤ ، وتهذيب التهذيب ٧ / ١٦٦ ، والإصابة ٢ / ٤٦١.

عروة بن عياض بن أبي الجعد البارقي. استعمله عمر قاضيا على الكوفة. أخرج حديثه أصحاب الصحاح الستّة. كان فيمن سيره عثمان من الكوفة إلى الشام ، الاستيعاب ، ص ٤٩١ ، وأسد الغابة ٣ / ٤٠٤ ، والإصابة ٢ / ٤٦٨.

٤٧٥

كميل بن زياد بن نهيك. كان شريفا مطاعا في قومه. شهد مع عليّ صفين ولما قدم الحجّاج الكوفة قتله سنة ٨٢ ه‍ ، ابن سعد ٦ / ١٧٩ ، وتهذيب التهذيب ٨ / ٤٤٧ ـ ٤٤٨.

عمرو بن الحمق الخزاعي. صحب الرسول (ص) بعد الحديبية. شهد مع عليّ الجمل وصفين والنهروان ، رحل إلى الموصل هربا وخوفا من زياد ، فقطع عامل الموصل رأسه وحمله إلى زياد ، وزياد إلى معاوية ، وكان أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد ، وكان ذلك سنة ٥٠ هجرية. الاستيعاب ٢ / ٤٠٤ ، وأسد الغابة ٤ / ١٠٠ ـ ١٠١ ، والإصابة ٢ / ٥٢٦.

مالك بن الحارث النخعي. أدرك الرسول (ص). كان رئيس قومه ، شهد اليرموك فشتر عينه بها ولقب بالأشتر ، شهد الجمل وصفين مع عليّ وولاه عليّ مصر فدس إليه معاوية السم بالعسل. وتوفّي متأثرا منه سنة ٣٨ ه‍ ، أسد الغابة والإصابة ٣ / ٤٥٩.

يزيد بن قيس الأرجي ، أدرك حياة الرسول (ص) ، كان رئيسا كبيرا عند الناس شهد مع عليّ صفين. الإصابة ٣ / ٦٧٥.

ج ـ البصرة :

عزل عن البصرة وما تبعها من بلاد إيران الصحابي أبا موسى الأشعري مقرئ أهل البصرة وفاتح جنوب ايران ، وعثمان بن أبي العاص عن فارس وولى عليهما ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز العبشمي وكان عمره أربعا وعشرين أو خمسا وعشرين سنة ، روى الطّبري وابن عساكر واللّفظ لابن عساكر قال : وفد يزيد بن خرشة الضبي إلى عثمان فقال : ما فيكم وضيع فترفعونه أو فقير فتجبرونه عمدتم إلى نصف سلطانكم فأطعمتموه هذا الأشعري. فاستعمل

٤٧٦

عثمان عبد الله بن عامر بن كريز وكان ابن خاله ... (١).

دراسة الخبر :

لعلّ التعصّب القبلي العدناني كان دافع يزيد إلى ما قال ، فإنّ ضبّة من تميم وتميما من العدنانيين والأشعريين من اليمانيّين القحطانيين ، وإنّما قال (نصف سلطانكم) لأنّ أبا موسى كان قد فتح من بلاد إيران كوري الأهواز : سوق الأهواز ونهر تيري وغيرهما ، ثمّ فتح مناذر والسوس ورامهرمز وتستر وجنديسابور وقم وكاشان ودينور وماسبذان وكور مهرجانقذف (٢).

إكرام آخر من الخليفة لابن خاله :

مرّ بنا في بحث جمع القرآن أنّ الرسول (ص) ولّى عثمان بن أبي العاص على قومه بالطائف لأنّه كان أقرأهم للقرآن فكان يصلّي بهم ويقرئهم القرآن إلى عهد الخليفة عمر حين كتب إليه أن يستخلف على الطائف ويقبل إليه ، فاستخلف أخاه فولّاه على البحرين وعمان والبلاد الخليجية الاخرى ، ثمّ أمره أن يغزو فارس ، فاستخلف أخاه ، وغزا بجيشه فارس ، وفتح في طريقه بعض الجزر في البحر ثمّ استولى على سواحل البلاد وفتح البلاد بلدة بعد اخرى حتّى انتهى إلى توج (بلدة قريبة من كازرون شديدة الحرّ بينها وبين شيراز ثلاثون فرسخا) فجعلها دارا للمسلمين وبنى بها المساجد يشتى فيها ، وفي غير الشتاء يغزو البلاد

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ٢٨٢٨ في أوّل ذكره أخبار سنة سبع وعشرين ، وترجمة عبد الله بن عامر من تاريخ ابن عساكر ، مصوّرة مخطوطة المكتبة الظاهرية بدمشق ٩ / ٢ / ٢٣٢ / ب ، وقد حذف الخبر ابن منظور في ترجمة عبد الله بن عامر من مختصر تاريخ دمشق.

(٢) راجع أخبار فتوح هذه البلاد بفتوح البلدان للبلاذري ، ص ١٧٧. وط. بيروت سنة ١٣٧٧ ه‍ ، القسم الخامس ، ص ٥٣١ ـ ٥٣٨.

٤٧٧

ويفتتحها. وأمر الخليفة عمر أبا موسى أن يعينه فتعاونا على فتح البلاد حتى اتّصلت في ما بينهما ، وعلى عهد الخليفة عثمان أراد أن يكرم ابن خاله عبد الله بن سعد بن أبي سرح فعزل عثمان بن سعيد وجمع لابن خاله الولاية على ما افتتحها عثمان بن سعيد وأبو موسى الأشعري ، وكان عبد الله بن عامر من فتيان قريش جوادا من بيت مال المسلمين ، ومن أخباره في ذلك ما رواه ابن عساكر بترجمته من تاريخه وقال :

ارتجّ على عبد الله بن عامر بالبصرة يوم أضحى فمكث ساعة ثمّ قال : والله لا أجمع عليكم عيّا ولؤما. من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها عليّ ، (ولم تحتمله البصرة فكتب إلى عثمان يستأذنه الغزو فأذن له) (١).

لعلّ المراد : لم يحتمل بيت مال البصرة نفقاته في العطاء لمن أمر فانّه بعد ما فتح بلادا كثيرة حج فأفشى في قريش والأنصار الصلات والكساء فأثنوا عليه.

وبسبب ذلك لمّا استعتب عثمان من عماله كان في ما شرطوا عليه أن يقرّ ابن عامر على البصرة ، لتحبّبه إليهم وصلته هذا الحي من قريش ، وبعد قتل الخليفة عثمان حمل بيت مال البصرة وذهب إلى مكة ثمّ إلى الشام ومات قبل معاوية بسنة.

* * *

كان ذلكم أمثلة من أخبار بعض الولاة على عهد الخليفة عثمان ، وكان لسروات قريش والصحابة مواقف في تلك الأحداث ، نذكر بعضها في ما يأتي :

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ، مخطوطة الظاهرية ، مصورة المجمع العلمي ٩ / ق ٢ / ٢٣١ ب و ٢٣٣ ب.

٤٧٨

موقف الصحابي المقرئ ابن مسعود ومآل أمره :

أمّا ابن مسعود فهو أبو عبد الرّحمن عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي وامّه امّ عبد ودّ الهذلي. وكان أبوه حليف بني زهرة ، أسلم قديما وجهر بالقرآن في مكة ولم يكن قد جهر به أحد من المسلمين قبله فضربته قريش حتى أدمته ، ولمّا أسلم أخذه رسول الله (ص) إليه وكان يخدمه ، وقال له : «اذنك عليّ أن تسمع سوادي (١) ويرفع الحجاب حتّى أنهاك» ، فكان يلج عليه ويلبسه نعليه ويمشي معه وأمامه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام ، وكان يعرف في الصحابة بصاحب السواد والسواك.

هاجر الهجرتين جميعا إلى الحبشة وإلى المدينة وشهد بدرا وما بعدها.

وقالوا فيه : كان أشبه الناس هديا ودلا وسمتا برسول الله (٢).

سيّره عمر في عهده إلى الكوفة ، وكتب إلى أهل الكوفة : وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي (٣) ، فكان ابن مسعود يعلّمهم القرآن ويفقّههم في الدّين.

وكان ابن مسعود في بادئ أمره من عصبة الخلافة وانتقل بعد ذلك إلى جماعة المعارضين ، ووقع بينه وبين أمير الكوفة الأموي ما ذكرنا تفصيله في كتابنا أحاديث امّ المؤمنين عائشة ، باب (مع الصّهرين) ، وكان يتكلّم بكلام لا يدعه وهو :

(إنّ أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمّد (ص) ، وشرّ الامور محدثاتها ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار).

__________________

(١) ساوده سوادا أي : ساوره مساورة ، ولذلك كان يقال له : صاحب سرّ رسول الله.

(٢) راجع مسند أحمد ٥ / ٣٨٩ ؛ ومناقبه في البخاري والمستدرك ٣ / ٣١٥ و ٣٢٠ ؛ وحلية أبي نعيم ١ / ١٢٦ و ١٢٧ ؛ وكنز العمال ٧ / ٥٥.

(٣) راجع ترجمته في أسد الغابة ، الترجمة ٣١٧٧ ، ٣ / ٢٥٨.

٤٧٩

فكتب الأمير الأموي الوليد إلى عثمان بذلك وقال : إنّه يعيبك ويطعن عليك ، فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه ، فاجتمع الناس فقالوا : أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه ، فقال : (إنّها ستكون امور وفتن لا احبّ أن أكون أوّل من فتحها). فردّ الناس وخرج إليه (١).

وشيّعه أهل الكوفة فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن (٢).

فقالوا له : جزيت خيرا فلقد علّمت جاهلنا ، وثبّت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدّين ، فنعم أخو الإسلام أنت ونعم الخليل ، ثمّ ودّعوه وانصرفوا ، وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله (ص) فلمّا رآه قال :

ألا انّه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح.

فقال ابن مسعود : لست كذلك ولكني صاحب رسول الله (ص) يوم بدر ويوم بيعة الرضوان (٣).

ونادت عائشة : «أي عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟!».

ـ وفي رواية بعده : «فقال عثمان : اسكتي» ـ ثمّ أمر عثمان به فاخرج من المسجد اخراجا عنيفا ، وضرب به عبد الله بن زمعة الأرض ، ويقال : بل احتمله «يحموم» غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدقّ ضلعه.

وقام عليّ بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله ، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها إلى ناحية من النواحي ، وأراد ـ حين برئ ـ

__________________

(١) الاستيعاب ، ترجمة ابن مسعود.

(٢) رجعنا إلى رواية البلاذري.

(٣) في كلامه هذا تعريض بعثمان حيث غاب عن بدر وبيعة الرضوان.

٤٨٠